عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 05-30-2012, 01:10 PM
حامد بن حسين بدر حامد بن حسين بدر غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,115
افتراضي تفريغ الدرس الخامس......

تفريغ الدرس الخامس/الجزء الأول......:


[الـدَّرس الخـامـِس]
(الجزء الأول)


إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
فيقول الناظم:
11. فَنِيَّـةٌ شَــرْطٌ لِـسَـائِــر الْعَـمَـــلْ ... بِهَــا الصَّـلاحُ وَالفَسَــادُ لِلْعَـمَـلْ

هذا البيت عبر به النَّاظمُ على قاعدةٍ كُليَّةٍ مُتَّفقٍ عليها، تدخل في جميع أبواب الفقه، وهذه القاعدة لها أدلة عديدة من كتاب ربنا وحديث نبينا صلى الله عليه وسلم، هذه القاعدة تقول: (الأمور بمقاصدِها)؛ فالعبرة بالنية، وفرَّقنا بين الإخلاص والنية، فقلنا: إن النية الصادقة المقبولة عند الله هي الإخلاص، فالقلب -ابتداء- إن لم يتجه قبل العمل ومن باعثه إلى العمل إلا إلى الله، ولم يُرِد شيئًا آخر؛ فهذا هو الإخلاص، وهذا النوع هو المُراد في كلام الناظم:
فَنِيَّةٌ شَــرْطٌ لِـسَـائِــر الْعَـمَـــلْ
فحتى يُقبل العمل لا بد له شرطين اثنين: الأول: النية الخالصة، والشرط الثاني: المتابعة، لا بد أن يكون العمل على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالنية هي الباعث الذي تحركت العزيمةُ والنية من أجله، فإن ابتغى الإنسان شيئا غير الله عز وجل والدار الآخرة والثواب؛ فهو له {مَن كان يُريد حرثَ الآخرةِ نَزِد لهُ في حَرْثِه}، ويقول الله عز وجل: {إن يعلمِ اللهُ في قُلوبِكُم خيرًا يؤتِكُم خيرًا ممَّا أخذَ مِنكم}، ويقول الله عز وجل: {من يفعل ذلك ابتغاءَ مرضاة الله فسوف نُؤتيه أجرًا عظيمًا}؛ فالفعل لا بد أن يكون من أجل مرضاة الله سبحانه وتعالى.
وهناك أحاديث كثيرة دلت على هذه القاعدة: منها ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غزا يريد عقالا؛ فله ما نوى" من غزا ولا يريد من الغزو إلا العقال، إلا الغنيمة؛ فله من هذا الأجر في الجهاد ليس له إلا الذي طلبه.
وكذلك في "المسند": يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "رب قتيلٍ بين الصفَّين الله أعلم بنيَّته"، فليس كل ما يقتل في المعركة مُقبِل غير مُدبر يريد رفع كلمة الله؛ ولذلك لا يجوز أن يقال عن فلان -على وجهِ التعيين-: هو شهيد؛ هذا أمرٌ لا يجوز شرعًا، وقد بوَّب الإمام البخاري في "صحيحه" في كتاب الجهاد؛ فقال: (باب: لا يقال فلان شهيد)؛ لأنك لا تعلم نيته، تقول: أرجو أن يكون شهيدًا، أحسبه عند الله أن يكون شهيدًا.
ونحن لا نجزم لأحد بالشهادة، وإن قُتل بين الصفَّين، وأنتَ عبد، ولا يجوزُ لك أن تتألَّى على الله، وأن تُدخل من شئتَ الجنة ومن شئتَ النار، ونحن لا نشهد بالجنة إلا بمَن شهد له ربُّنا أو نبيُّنا، ولا نشهد لأحدٍ على التعيين بالنار؛ إلا لمن شهد له ربُّنا، أو شهد له نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، لكن من عدا ذلك إن كان من أهل الصلاح؛ قلنا: نرجو.. نحسب.. نظن..؛ فالعبرة بالنية.
فالنية في الآخرة مثل جواز السفر في الدنيا، تخيل معي إنسان في الطائرة، ولا يوجد معه جواز سفر، ونزل في كل مطارات الدنيا هل يمكن أن ينزل ويدخل أي بلد من البلاد دون جواز سفر؟ مش ممكن!
فالنية في الآخرة أشبه ما تكون بجوازِ السفر في هذه الدنيا بالنسبة إلى القوانين والشخصية الاعتبارية -كما يقولون-.
وفي الحديث المتفق عليه: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّك لن تُنفقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ الله؛ إلا أُجِرتَ عليها، حتى تضع اللقمةَ في في زوجتِك؛ فهي صدقة"؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّك لن تُنفقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ الله" فليس كل صدقة مقبولة إلا الصدقة التي يبتغي بها صاحبُها وجه الله؛ فالأمور بمقاصدها.
وكذلك في الحديث المتفق عليه: عن عائشة رضي الله تعالى عنها لما أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أقوامًا يَغزون الكعبةَ ويُخسفُ بآخرِهم، وفيهم أسواقُهم -أي: عوامُّهم ممَّن ليس منهم-، فتقول عائشة -كما في بعض ألفاظ الحديث في "صحيح البخاري"-، تقول: "يُخسف بأولهم وآخرِهم ثم يُبعَثون على نيَّاتهم".
هؤلاء جميعًا يُبعثون على نياتهم؛ فالعبرة عند الله عز وجل بالنيَّة.
ولذا: كلنا يحفظ حديث: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى"، وقُلنا: النية لها فائدتان:
الفائدة الأولى: أن بها تتمايزُ مراتب الأعمال: هذا فرض، وهذا سُنة، وهذا تطوُّع، النبي لم يقل: "إنما الأعمال بالنيات" وسكت، إنما قال: "وإنما لكل امرئٍ ما نوى".
لو صليت أربع ركعات فرض الظهر وأنت تنوي النافلة، ثم ضاق بك الوقت، هجم عليك شيء أشغلك، قلت: خلاص أنا صليت أربع ركعات وأمشي! هل هذا مقبول منك؟ لا؛ لماذا؟ لقول النبي: "وإنما لكل امرئٍ ما نوى"، أنت إيش نويت؟ سُنة، فلا يجوز لك أن تقلبَها إلى فريضة، فتبقى سُنة.
وهنا مسألة، وهي في تغيير النيات: هل يجوز للعبد أن يغير نيته؟
العلماء اختلفوا إلى قسمين: قسم يمنع بإطلاق، يمنع أن تُغيَّر النية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئٍ ما نوى"، فلكَ ما نويت، وليس لك أن تُغير نيَّتك، نويتَ سُنة تبقى سُنة، نويت فريضة تبقى فريضة، نويتَ وترًا تبقى وترًا.
وبعض أهل العلم جوَّز تغيير النية بقيد، وهذ القيد قالوا: يجوز أن تُغيَّر النية من الفرض إلى السُّنة، من الأقوى إلى الأضعف، ولا يجوز تغيير النية من العكس -من الأضعف إلى الأقوى-(*).
ودليل ذلك ما ثبت في "مسند الإمام أحمد": أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله إني نويتُ أن أعتكف في المسجد الأقصى، -وسُمي بالأقصى لبُعده- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اعتكف في مسجدي هذا"، هذا رجل نوى في المسجد الأقصى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اعتكف في مسجدي هذا".
أيهما أفضل: الصلاة والعبادة في المسجد الأقصى، أم في المسجد النبوي؟ في المسجد النبوي، ففي الحديث الصحيح: "الركعة في مسجدي هذا بألف ركعة مما سواه".
وعند إبراهيم بن طهمان وأحمد وغيرهما: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أربع ركعات في المسجد الأقصى كركعةٍ في مسجدي هذا" يعني الصلاة في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين وليس بخمسمئة، والرواية التي فيها الركعة بخمسمئة في المسجد الأقصى لم تثبت ولم تصح عند علماء الحديث.
الشاهد من هذا: أن الصلاة والاعتكاف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل، فالنبي صلى الله عليه وسلم جوَّز له أن ينتقل من الأدنى إلى الأعلى، فلو اعتكف في مسجده فقد أدى الذي عليه وزيادة.
ولكن: لو أن رجلًا نذر أن يعتكف في المسجد النبوي، أو لو أن رجلًا نذر أن يعتكف في بيت الله الحرام فأراد أن يؤدي نذره بأن يعتكف نذره بأن يعتكف في المسجد النبوي؛ فنقول له هذا لا يجزئك؛ لأنك تحوَّلتَ من الأعلى إلى الأدنى.
لكن لو رجلًا نذر أن يعتكف في المسجد النبوي، فذهب إلى المسجد الحرام، واعتكف فيه؛ هل هذا يجزئ؟ نعم، هذا يجزئ.
وعليه: قال جماهير الفقهاء: لو أن رجلًا نوى الفريضة، ثم تبين له ظانًّا أن الجماعة فرغت من المسجد، وهو يصلي في متجره أو في بيته، ثم انتبه إلى أن الفريضة بعد لم تُصلَّ في المسجد، فقَلَب نيَّته من الفريضة إلى السُّنة كي يتحول إلى المسجد ويصلي السنة؛ فجماهير أهل الفقه يقولون: يجوزُ أن تتحوَّل النية من الأقوى للأدنى، من الفريضة للسُّنة، ومن الوتر إلى السُّنة.
أما لا يجوز أن تتحول من السُّنة إلى الوتر، ولا من السُّنة إلى الفريضة.
فلكَ أن تتحوَّل من الأعلى للأدنى، وليس لك أن تتحوَّل من الأدنى إلى الأعلى.
فالنيَّة يقول الناظم:
فَنِيَّـةٌ شَــرْطٌ لِـسَـائِــر الْعَـمَـــلْ
ما هو تعريف الشرط؟ ...
الفرق بين الشرط والركن: الشرط خارج عن ماهية الشيء، والركن داخل في ماهية الشيء.
يعني: السجود والركوع في داخل الصلاة أم في خارج الصلاة؟ داخل الصلاة يسمى ركنًا، واستقبال القبلة والوضوء وستر العورة داخل الصلاة ولا خارج الصلاة؟ خارج الصلاة، إيش تسمى هذه؟ شرطًا.
فالشيء الذي في داخل العباة: يسمى ركنًا، والشيء الذي هو خارج العبادة: يسمى شرطًا.
لكن هذا ليس بتعريف الشرط، أنتَ ذكرتَ لنا الفرق بين الشرط والركن.
تعريف الشرط عند الع لماء: ما لا يلزم من وجوده وجود، ويلزم من عدمه العدم.
إيش يعني؟
يعني: الوضوء شرط للصلاة، رجل توضأ، هل يلزم من وضوئه الصلاة؟ يعني هل كل متوضئ مصلٍّ؟
ما لا يلزم من وجوده الوُجود، ويلزم من عدمه العدم.
لو عُدم الوضوء؛ عدمت الصلاة، لو وجد الوضوء؛ لم توجد الصلاة.
ما لا يَلزم من وجوده الوُجود، ويَلزم من عدمه العدم.
هذا معنى الشرط عند العلماء.
والشرط -كما ذكرنا- خارج العبادة، والركن داخل العبادة.
ذكرنا في الدرس الماضي أن العبادة ينبغي أن تسبقها النية، ولكن النية هي شرط كما قال الناظم:
فَنِيَّـةٌ شَــرْطٌ لِـسَـائِــر الْعَـمَـــلْ
هي شرط وليس بركن.
ولذا هنالك بعض العبادات تجوز في أثناء العبادة، وتجوز بعد الفراغ من العبادة.
مثلا: الصيام، صيام النافلة، في "صحيح مسلم" عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل بيوت أزواجه فيسأل عن الطعام فلا يجد؛ فينوي الصيام.
ولذا: ذهب جماهير أهل العلم إلى أنه لا يَلزم في صوم التطوع تبييت النية من الليل وقالوا: يجزئ النية في صيام التطوع إلى ما قبل الزوال، إيش يعني: إلى ما قبل الزوال؟ يعني: قبل الظهر.
يعني: رجل أراد أن يصوم صيام نافلة؛ معه أن ينوي إلى الظهر.
فهذه نية متى حصلت قبل العمل أم في أثنائه؟ حصلت في أثناء العمل، وكذلك يقول العلماء: هنالك نية تجزئ بعد العمل، في أي العبادات؟ من يأتيني بمثال على إجزاء النية بعد العمل [.. مداخلات ..].
النفقة على العيال.
طيب: النفقة على العيال من الأشياء المباحة تُقلب إلى عبادة بنِية صالحة، أنت يا من تعمل، يا من تتعب في عملك، إذا نويت من عملك أن تكف أهلك عن المسألة، وأن تعيش الزوجة والأولاد يأكلون طعامًا حلالًا ولا تسأل الناس؛ فأنت في عبادة، وهذه الفائدة الثانية للنية.
قلنا للنية فائدتان: الفائدة الأولى: تبين مراتب العبادات.
والفائدة الثانية من فوائد النية: تَقلِب النية العادات والمُباحات إلى عبادات، بالنِّية الصالحة تنقلب العادات، إيش العادات يعني؟ يعني تقعد تسولف مع جيرانك مع أصحابك مع صديقك، أنا في قلبي هذا تارك صلاة خليني أسولف معه شوي، وأنا قصدي أن أبدأ معه من حيث يُحب؛ لأنتهي به من حيث أحب!
الناس لما يشوفوا شيخ ولحية ودشداش يقول لك: هذا معقد، هذا كله كلامه دين، ما نطيقه!
فرجل موفق في أول مجلس مع جار مع واحد معزوم مع أي إنسان لا بأس أن تنوي الكلام العادي، قل له أنا إنسان عادي مثلي مثلك، لي حاجة مثل ما لك حاجة، لي هوى جاعل مثل لك هوى، أنا كابت هواي وإذا كنتُ درجة أعلى جاعل هواي فيما يحب الله، وأنت مفلِّت الهوى على الإطلاق هذاالفرق بيني وبينك.
فأنا لا بأس أبدأ معه ومقصدي والله يعلم في نيتي أن أستدرجه من حيث أنتهي به إلى حيث ما أحب أنا فيما يحب الله، هذا الاستدراج كل هذه العملية -مسولفة معه والكلام معه-؛ هذا كله عبادة ليش؟ للنِّية الصالحة، أنت أدخلتَ على كلامك نية صالحة.
فالنية الصالحة تقلب العادات والمباحات إيبش المباحات: أنا آكل لأتقوَّى، أنام بكير حتى أستيقظ قبل الفجر فأصلي ركعتين في جوف الليل، أقوم آكل أكلًا زائدًا قبل أن أنام لعلي إن لم أستيقظ غدا إن شاء الله أصوم، كل هذه النوايا تجعل أكلي عبادة.
ولذا كان بعض السلف يقول: أحب أن تكون لي نية صالحة عند قومتي وجلستي وأكلتي ونومتي.
حتى الأكل والجلسة والقومة والنومة؛ كلها بـ[النيات] الصالحات تنقلب إلى عبادات.
نرجع: النية الصالحة تكون بعد العمل في الاستثناء في اليمين، النية تُعتبر - لا أقول تكون عبادة- (تُعتبر) النية في الاستثناء من اليمين: إذا حلفت بالله وعقَّدت قلبك على اليمين؛ فاليمين منعقدة، إن أدخلت قلت (إن شاء الله) بعد أن فرغت؛ فهذا يكون بعد الفراغ من اليمين، فالاستثناء من اليمين يكون بعد الفراغ من اليمين، وتكون النية -حينئذ- صحيحة وتكون بعد العمل، وإلا فالنية تكون قبل العمل، والأحسن أن تكون مرافقة للعمل.
والإنسان يشعر بحلاوة الإيمان، ويشعر بالخشوع، ويشعر برقة القلب لما يستحضر النية في كل عمل؛ بل الموفَّق يستحضر النية في أثناء العمل؛ بل المقبول عند الله عز وجل من الناس من يستحضر النية بعد العمل، حتى لا يُصاب بالعُجب.
فالمطلوب من الإنسان أن ينوي قبل العمل وأن يستصحب النيةَ في أثناء العمل، وحتى ما بعد العمل؛ لأن الإخلاصَ نادر وعزيز، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص.
والرياء الخفي، الشرك الأصغر: الرياء؛ خفي جدا، وكما ورد: "هو أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء"، الرياء خفي، وخفي جدا؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الرياء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئًا أعلمه، وأستغفرك لما لا [أعلمه]".
فالمطلوب من الإنسان أن يخاف من الرياء، وأن يتعوذ بالله من الرياء.
إيش الرياء؟ مقابل الإخلاص، الرياء نية فاسدة، تريد بالطاعات غير الله عز وجل، تريد من الطاعات غرضًا من أغراض الدنيا، كما في حديث أبي موسى في "الصحيحين" قال: "المجاهد من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا"، فمن جاهد لسُمعة أو لأي شيء آخر؛ فهذا هو -والعياذ بالله تعالى- الرياء.
الله عز وجل يطَّلع على قلوب العباد كما في الحديث: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم؛ وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" المراد بأعمالكم: الأعمال الصالحة التي تسبقها النوايا.
لكن: هنالك خلط عند بعض الناس في فهم بعض المفاهيم الشرعية في مثل هذه الأمور، ولعلي -إن شاء الله- في آخر الكلام على النية أتكلم بشيء فيه تفصيل حتى نفهم هذه المسائل فهمًا شرعيًّا صحيحًا.
أقول: الإنسان عند الله عز وجل بنِيَّته، وأنت يوم القيامة الله يُحاسبك على نيتك، الله عادل، والله كريم.
عابد عبَدَ الله تسعين سنة.. سبعين سنة.. ستين سنة، الله عز وجل يجازيه في الجنة ستين سنة؟! الجنة خالدا مخلدا فيها.
قل هذا من كرمه.
طيب: رجل كفر ستين سبعين سنة، إيش ماله؟ النار، لماذا لا يعذبه في النار ستين سنة؟ الكافر الذي كفر وأشرك بالله ستين سنة، والله عادل جل في علاه، ذاك المؤمن جازاه وتفضل عليه وكرمه بالجنةخالدا مخلدا فيها، طيب وذاك الكافر الذي كفر ستين سنة، لماذا يعاقب في النار خالدا مخلدا فيها؟ لأنه نوى لو خُلد في الأرض يبقى كافرًا، فهو يعذَّب على إيش؟ على نيته، بخلاف الفاجر من المسلمين، الفاسق الذي يُسوِّف، ويقول: إن شاء الله العام القادم أتوب، العام القادم أتوب، ومات قبل التوبة، هذا نهايته الجنة، مجرد ما حصلت هذه النية، يعذَّب في النار ما شاء الله، ثم يُفحَّم، أهل النار هؤلاء العصاة من الموحِّدين كما في حديث أبي سعيد الخدري في "الصحيحين": يفحَّمون ثم يُرمون على نهر في الجنة يُسمى نهر الحياة، ثم ينبتون، ويكتب على جباههم (الجهنميون)، لا يبقون مخلدين في النار.
فالإنسان عند الله عز وجل بِنيته.
لو رجل أتى بعملٍ وما أصاب ما يريد، وبِنية صالحة، ورجل آخر أتى بصورةِ العمل الذي يحبُّه الله لكن بِنية فاسدة، من الأفضل؟ الأول أو الثاني؟ الأول؛ لأن نية المؤمن أبلغُ من عمله.
(نِية المؤمن أبلغُ من عمله) حديث رُفع للنبي صلى الله عليه وسلم مِن طُرق عديدة، وكلُّ طرقه مدارُها على مجاهيل أو متروكين، فالحديثُ مع تعدُّد طُرقه من حيث الصَّنعة الحديثيَّة لا يثبت ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن نقول: قال صلى الله عليه وسلم: (نِية المؤمن أبلغُ من عمله).
لكن هذه الكلمة: (نِية المؤمن أبلغُ من عمله) وإن لم تصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إلا إن معناها صحيح، فمعنى (نِية المؤمن أبلغُ من عمله) صحيح.
ففي "الصحيحين": أخبرنا النبي عن ثلاثة رجال، أتوا بأفضل الأعمال: عالِم، أو قال: قارئ للقرآن، ومجاهد، ومُنفقٌ في سبيل الله، رجل كريم، يُؤتى بهم يوم القيامة -كما في حديث أبي هريرة في "الصحيحين"- فيُعرِّفهم اللهُ تعالى بنِعمه فيَعرفونها، فيقول الله للعالِم أو لقارئ القرآن: ماذا عملتَ بعِلمك؟ فيقول: يا رب تعلمتُه وعلَّمتُه فيك. فيقول الله له: كذبتَ؛ بل قرأت القرآن، أو قال: تعلمتَ ليقال عالِم، وقد قيل، فخذوه في النار، فيسحب على وجهه في النار، ويؤتى كذلك بالشهيد، بمن مات في المعركة، ممن قال الناس عنه أنه شهيد، ويؤتى -أيضًا- بالكريم الذي يُنفق أمواله، فيُعرِّفهم الله تعالى بنِعمه فيَعرفونها: ماذا فعلت؟ يقول : يا رب، فعلنا -قاتلتُ، أنفقتُ- من أجلك، يقول: كذبتَ؛ وإنما أنفقتَ ليقال: كريم، وإنما قاتلت ليقال شجاع؛ وقد قيل، فيؤمر فيُسحبون.
هؤلاء أحسن ثلاثة، أتوا بأحسن صُور الأعمال، لكن روح العمل النية تخلفتْ عن العمل؛ فالعمل لم يُرفع إلى الله، ولم يقبله الله.
الآن نتحوَّل إلى رجل أراد أن يتصدق -والقصة في "البخاري"- ففي اليوم الأول تصدق على لص، فعَلِمَ الناسُ فأصبحوا يتضاحكون منه: فلان قام تصدّق على لص! فقال: والله لأتصدقنّ! فتصدَّق في الليلة الثانية على غني، فشاع خبره في الناس فأصبحوا يضحكون منه! فقال: والله لأتصدقنّ! فتصدَّق في الليلة الثالثة على مومِس! رأى امرأة في نص الليل ظنها محتاجة فوضع الصدقة في يدها، فعلم الناسُ فأصبحوا يضحكون منه، فضحك الله له! مع أنه أتى في ثلاث محاولات لم يُصِب ولا في محاولة، ولم يضع الصدقة في يد فقير أبدا في المحاولات الثلاثة، الله قبِل منه بِنية صالحة.
والثلاث -الحديث الأول- أتوا بأفضل الأعمال، لكن لم يستحضروا النية الصالحة؛ فإيش كان مآلهم؟ كان مآلهم أنهم يسحبون على النار، فكان أبو هريرة رضي الله عنه كلما روى هذا الحديث قبل أن يقول: قال صلى الله عليه وسلم؛ يغمى عليه، حتى يوضع الماء على وجهه، ثم يفيق، ثم يقول: قال صلى الله عليه وسلم.
وعالم بعِلمه لم يعملَنْ .. معذبٌ [من] قبل عُباد الوثن!
فالذي لا يعمل بعلمه معذب قبل عُباد الوثن.
نسأل الله العافية، نسأل الله أن يجعل طلبنا للعلم، وتعليمنا للعلم أن يكون هذا طاعة ينفعنا الله بها في الدنيا والآخرة، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم سبحانه وتعالى.
فالشرع يريد منا نية صالحة.
طيب: هذه النية الصالحة؛ لكل عمل نية؟ أم يجوز أن تجمع في العمل الصالح أكثر من نية؟
أنت الآن وأنت جالس في المسجد، لو نويت تجلس في حلقة ذِكر، ونويت المرابطة -انتظار الصلاة للصلاة "فذلكم الرباط، فذلكم الرباط"-، فنويت أن ترابط، أنت جالس من صلاة المغرب إلى العشاء -ودرسنا اليوم إلى ما بعد العشاء أيضا-، نويت الرباط وأنت جالس، فهل أن تنوي النيتين أمر مشروع ولا ممنوع؟
طيب: يجوز أن تنوي نيتين في كل عبادة؟
أنت دخلت والإمام يصلي فرض الفجر، ولم تصل سُنة الفجر، فتقول -في قلبك طبعا، النطق بالنية بدعة، ولا يُشرع-، فأنت في قلبك قلت: ركعتين سُنة الفجر، وركعتين فرض الفجر! الله أكبر!
هذا يجزئ؟ [لا يجزئ] طيب ليش ما يجوز؟ قبل قليل كان جمع النية جائز، أصبحنا الآن جمع النية ممنوع!
طيب أعطيكم مثالا آخر: رجل ولدت امرأته في أيام التشريق، إيش أيام التشريق؟... في الوقت الذي تجوز فيه الأضحية، فكان سابع ولدِه يوم من أيام التشريق، يوم العيد يوم من أيام التشريق، أراد أن يذبح، قال: أذبح ذبيحة بنِية العقيقة مع الأضحية، وإذا كان حاجًّا وأخبروه: زوجتك وضعت، فقال: أذبح بنية نسك الحج الهدي مع العقيقة -بسم الله والله أكبر-، هل هذا يُشرع أم يمنع؟
طيب: خلينا أخفف وأرتب الأمور ترتيبا أحسن، نحاول نلم بالمسألة إلمامة فيها شيء من تفصيل أكثر.
رَجُل على رِجله -أجلكم الله- نجاسة، أراد يتوضأ، فغسل رِجله، فمنها أزال النجاسة وغسل رجله، هذا يجزئ ولا ما يجزئ؟
[بعض الطلبة: يجزئ].
طيب: عندنا أمران: عندنا شيء يسميه الفقهاء (وسائل) وشيء يسميه الفقهاء (مقاصد).
الوسيلة: تفعل من أجل مقصد، يعني واحد توضأ، الوضوء عبادة ولا غير عبادة؟ لكن الوضوء عبادة تراد لذاتها؟ ولا هي وسيلة لمقصد؟
يعني: لو واحد الآن ذهب للوضوء، وقف شوي ورد رجع، رد توضأ رد رجع، رد توضأ رد رجع.. يا بو فلان شو بتعمل؟ قال: الوضوء عبادة، وأنا أكثر من العبادة! نقول له: أنت مبتدع! هذا أمر ما عبد اللهَ عز وجل به أحدٌ، كما يقول الإمام النووي في شرحه على "سنن أبي داود" المسمى "الإيجاز"، وقد فصل الإمام النووي رحمه الله في هذه المسائل تفصيلا بديعًا ويسر الله لي ولله الحمد والمنة أن حققت الكتاب، وعلقتُ على كلامه بتعليقات فيها استطرادات وفيها أشياء حسنة مليحة إن شاء الله.
لكن الشاهد: لو رجل توضأ فاستخدم وضوءه فصلى ركعتين، ثم ذهب فأعاد الوضوء؟ لا مانع من ذلك، لو استخدم وضوءه في عبادة ثم أراد أن يتوضأ مرة أخرى؛ لا حرج في ذلك؛ لأن أصبح الوضوء بالنسبة إليه وسيلة، إذا استخدمه في طاعة جعله وسيلة، فإذا أراد أن يعيد؛ لا حرج، فالنبي صلى الله عليه وسلم توضأ لكل صلاة، والنبي صلى في فتح مكة الصلوات الخمس بوضوء واحد.
لو إنسان انتقض وضوؤه بأكثر من سبب؛ يعني -أعزكم الله-: أخرج ريحا وتغوط وبال -في أوقات متفرقات- وأكل لحم إبل، كم مرة يتوضأ؟ لكل ناقض وضوء؟ ولا كل النواقض وضوء واحد؟ باتفاق مما لا خلاف فيه بين العلماء: كل النواقض فيها وضوء واحد.
وكذلك المرأة لو كانت جنبا وكانت حائضا يجوز للرجل أن يأتي أهله من غير إيلاج إذا كانت حائض أو نفساء، فطهرت من حيض وهي جنب، كم غُسل عليها؟ تغتسل أكثر من مرة ولا مرة واحدة؟ مرة واحدة.
فإذا تعددت أسباب الوضوء، وتعددت أسباب الغسل؛ فيكفي غُسل واحد، ويكفي وضوء واحد.
لكن: رجل اغتسل يوم الجمعة وهو جُنب، فهل يجزئه غُسل واحد عن الجنابة والجمعة؟ أم أنه يحتاج لكل واحد منهما إلى غسل؟
طيب نأتيكم بالدليل العقلي، ثم بعد الدليل النقلي يأتي الدليل العقلي، يأتي الفهم والاستنباط، ونحن لا نستغني أبدا كما ذكر الناظم فيما ذكر من مقدمات، نحن نقتفي من قبلنا من علمائنا رحمهم الله.
ثبت عند الحاكم في "المستدرك" ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" بإسناد صحيح عن أبي قتادة الأنصاري أنه رأى ولده قد خرج من الحمام يوم الجمعة فقال لولده الصحابي الجليل أبو قتادة الأنصاري يقول لولده: غسلك للجنابة أم للجمعة؟ فقال ولده: إنما اغتسلتُ للجنابة، فقال له والده وهو صحابي جليل: أعِد غُسلك، فعاد الولد واغتسل للجمعة.
نعيد السؤال الآن بعد هذا الأثر؛ فنقول: رجل اغتسل للجمعة وللجنابة، وهو ينوي الجمعة والجنابة، ينوي في الغسل رفع الجنابة الحدث الأكبر مع الجمعة، يجزئه ذلك أم لا يجزئه؟ فقها واستنباطا يجزئه؛ لأن ولد أبي قتادة إنما اغتسل ولا ينوي الجمعة، كما بوَّب على هذا البيهقي في "السنن الكبرى" وكما نصص على ذلك ابن رجب في "قواعده"، قالوا: لو أن رجلًا اغتسل للجنابة ولم ينو الجمعة فلا يُكتب له غسل الجمعة، واجب عليه -عند من يرى وجوب غُسل الجمعة-، أو يندب -عند من يرى الندب- أن يعيدغُسل الجمعة؛ لحادثة أبي قتادة؛ لأن ولد أبي قتادة لم ينوِ الجمعة، لكن لو نوى الجمعة وجمع بين الغُسلَين؟ لأجزأه ولا حرج عليه.
هذا الأمثلة كلها التي ذكرناها في الوسائل.
نأتي الآن للمقاصد: لا يجوز الجمعُ بين عبادتَين بِنية واحدة في درجتَين مختلفتَين.
لا يجوز أن تجمع بين الفريضة والنافلة، فتصلي ركعتَين بِنِيتَين، لا يجوز.
طيب: إن ضاق بكَ الوقت، ومن عادتك أنك تصلي تحية المسجد، وأنك تصلي سُنة الوضوء، ومن عادتك أن تصلي وتحافظ السنة القبلية للظهر، وضاق بك الوقت ولم يمكنك أن تصلي إلا ركعتَين؛ فهل يجوز لك أن تصلي ركعتَين بِنية تحية المسجد، وسُنة الظهر القبلية؟ يجوز أو لا يجوز؟
هذا يُسمَّى عند الفقهاء: التداخل، والتداخل وارد في أبواب كثيرة من أبواب الفقه، ومدارُه على النيَّة، والذي جعلنا نتحدَّث به كلامُنا على النية، التداخل في النوايا كأصلٍ؛ مشروع.
والدليل على جواز التداخل في النوايا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا همَّ أحدُكم بأمرٍ؛ فليركعْ ركعتَين دون الفريضة" فهذا الحديث فيه دلالة على أنه يجوزُ للرجل أن يصلي ركعتَين دون الفريضة -سواء كانت راتبةً أم غير راتبة-، وينوي في الركعتَين -إن لم تكن فريضةً- ينوي فيها الصلاة التي يريد أن يصليها -تحية المسجد، سنة الوضوء، صلاة الضحى، سنة الظهر القبلية، سنة الظهر البعدية، سنة المغرب البعدية، سنة الفجر القبلية-، وينوي بهما: الاستخارة والصلاة.
"إذا همَّ أحدُكم بأمرٍ؛ فليركعْ ركعتَين دون الفريضة": هذا حديث أصلٌ في جواز أكثر من نِية في ركعتَين.
تحية المسجد: ما المراد من تحية المسجد في الشرع؟ تعظيم بيت الله عز وجل؛ ولذا الناس في آخر الزمان -نسأل الله العفو والعافية- لا يعظِّمون بيوت الله -أو بعض الناس-، ولذا: من علامات أشراط الساعة -كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح-: أن يُجلس في بيوت الله ولا يُصلى فيها ركعتان!
حتى والإمام على المنبر، وأنت يجب عليك أن تستمع الخطبة، إذا دخلت والإمام على المنبر؛ الواجب عليك أن تصلي ركعتَي تحية المسجد؛ لأن ركعتا تحية المسجد تجب تعظيمًا للمحلِّ، تعظيمًا للمكان.
ففي "صحيح مسلم": دخل سُليك الغطفاني المسجد فجلس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قُم فصلِّ ركعتَين وتجوَّز بهما" وفي هذا إبطال لتلك الخرافة عند الناس أن الذي يجلس في المسجد بمجرد جلوسه؛ فتسقط تحية المسجد! هذا غلط؛ لأن سُليكًا جلس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قم فصلِّ ركعتَين وتجوَّز بهما" لا تزدحم المصالح، تزدحم الطاعات، لا تطوِّل التحية، صلِّ ركعتي التحية وتعجَّل، وتجوَّز، ولا تبسط هاتين الركعتين، ولا تطِل هاتين الركعتين.
إذن: صلاة الركعتَين بأكثر من نِيّة -ولا سيما إذا كانت تحية المسجد-؛ فلا حرج في ذلك.
لو إنسان صلى سُنة الفجر القبلية في بيته، ثم دخل فوجدهم يُصلون الفريضة، فصلى معهم الفريضة؛ هل يقوم ويقضي تحية المسجد؟ لا يقضي تحية المسجد.
لو رجل صلى سُنة الظهر القبلية في بيته، ثم دخل فوجدهم يصلون أربع ركعات فرض الظهر؛ هل يصلي تحية المسجد؟ لا.
الشرعُ لا يريد تحية المسجد لذاتها، يريد منهما تعظيم المسجد، وقد حصل تعظيم المسجد بأداء صلاة الفريضة، فتحصيل حاصل نويتَ أم لم تنوِ؛ دخلتْ تحية المسجد في الفريضة، تحصيل حاصل.
ولذا: قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في مقدمات "المجموع"، يجوز للرجل أن يصلي ركعتين بِنية تحية المسجد، سنة الوضوء، سنة الظهر القبلية، لما قال: تأملتُ هذه المسألة نيِّفًا وعشرين سَنة، وقلت: أرجو أن لا بأس.
النووي مات في أوائل الأربعينيات من عمره، مات شابًّا رحمه الله، مكث يتأمل المسألة نيِّفًا وعشرين سنة، فقال: قلتُ أرجو أن لا بأس.
فالمقاصد يُنظر فيها: إذا الشرعُ أراد العبادةَ لذاتِها؛ فلا تَقبل الشِّركة.
مثل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كُل مولودٍ مُرتهِنٌ بعقيقتِه" فالشرعُ يريد العقيقةَ لذاتِها، كل ولد مُرتهِن بعقيقتِه، حتى قال بعضُ الشُّرَّاح: "العمل الصالح ثوابُه لا يُكتب في صحيفة أبيه إلا إن عقَّ عنه" وهذا معنى الرهن "كل ولد مُرتهِن بعقيقتِه"، فهل يجوز حتى تفك الرهن أن تنوي مع العقيقةِ شيئًا آخر؟ الجواب: لا.
بل ينقدح في نفسي -والمسألة فيها خلاف- أن من عقَّ بعِجل أو بِجمل عنه وعن آخر؛ فهذا لا يجزئ؛ لأن النبي قال: "كُل مولودٍ مُرتهِنٌ.." يعني لكل واحد عقيقة، ما تقبل الشِّركة، لا في نِية ولا مع غيرك، كل واحد له عقيقة، فالأمر لا يَقبل الشركة.
طيب؛ في العقوبات: أتي للقاضي برجلٍ قد سرقَ، ثم قَتلَ، ولم يُتمكَّن منه إلا بعد إثباتِ جريمة القتلِ عليه؛ إيش نعمل فيه؟ نقطع يدَه ثم نقتلُه؟ أم نقتلُه دون قطع اليد؟ نقتلُه دون قطع اليد، وقد جوَّز هذا بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
يُقال في هذا: التداخل.
إذن: التداخل وفِعل أكثر من عبادة بنِية واحدة مسألة في الحقيقة لاحبة ومتسعة، لها فروع، لكن: كيفما كان هنالك أصل يأذن لنا في الشرع أن ننوي أكثر من نية في عمل واحد.
الناظم يقول:
فنيَّةٌ شرطٌ لسائرِ العمل
إيش العمل؟ وإيش الفرق بين العمل والفِعل؟
هل النيَّة تجب في القول والفعل؟ أم تجبُ في الفعل دون القول؟
النية تجبُ في القول والفعل، والعمل يشمل الفعل والقول.
إيش الفرق الآن بين النية والفعل والقول؟
القول: يقابله الفِعل.
والعمل: يشمل القولَ والفِعل.
لذا كان عمر بن عبد العزيز يقول: "مَن عدَّ قولَه من عملِه؛ حاسب نفسَه".
بل في القرآن الكريم: {شياطينَ الجنِّ والإنس يوحي بعضُهم إلى بعضٍ زخرفَ القولِ غُرورًا} بعدين إيش قال ربنا عز وجل؟ قال: {ولو شاء ربُّك ما فعلوه}؛ فجعل القولَ فِعلًا.
لكن في العربية المجردة: أن القولَ والفِعل أمران متقابِلان، والعمل يشمل والقَول.
ولذا أحسن الناظمُ لما قال:
فَنِيَّـةٌ شَــرْطٌ لِـسَـائِــر الْعَـمَـــلْ
يعني جميع العمل يحتاج لنِية.
وتأملوا معي -وهذا-الحقيقة-من دقته في ذِكره العمل-، ومن دقته في قوله: (سائر)-: إيش الفرق بين السائر والجميع؟ الجميع: استغراق، والسائر: الأغلب، ويُستثنى منه بعضُ الأشياء.
فهنالك أشياء تُحسب من العبادات، ولا تحتاج إلى نوايا؛ منها: التُّروك، أنا إن أسقطتُ دَينًا عن نفسي؛ يسقط الدَّين ولو ما نويت. ولا يحتاج إلى نية؟!
يعني: أنا علي دين، أخونا أبو أحمد عرف أن علي دَينًا، سده دون نيةٍ مني، يسقط الدَّين من ذمَّتي أو لا يسقط؟ يسقط.
الدَّين فِعل أم ترك؟ ترك، إبراء ذِمة، يسقط شيء من الذمة.
لكن: أنا أردت أن أؤدي زكاة، فأدَّاها عني أبو أحمد دون نيَّة مني؛ هل تقبل الزكاة؟ إيش الفرق بين النيَّة والدين؟ النية فِعل إيش؟ عمل، الترك إبراء.[كذا]
لو أنت على ثوبك فيه نجاسة -أجلكم الله-، فغسلتَ النجاسة وأزلتَها دون نيّة، وصليت في الثوب وغسلت النجاسة دون نية، فصلاتك في الثوب اللي ما عليه نجاسة، وأسقطت النجاسة دون نية؛ هل هذا يجزئ أو لا يجزئ؟ يجزئ؛ لأن التروك لا تحتاج إلى نوايا.
ولذا: أحسن الناظمُ أيما إحسان لما قال:
فَنِيَّـةٌ شَــرْطٌ لِـسَـائِــر الْعَـمَـــلْ
ولم يقل: (لجميع العمل).
حتى بعض أهل العلم ألحقَ الزكوات بالتُّروك، قال: هي دَين للهِ في الذِّمة.
لذا بعضُهم يقول: لو أخذنا بالغصبِ، والي بيت المال لو أخذ غصبًا الزكاة؛ تجزئ أو لا تجزئ؟ بعضهم قال: تجزئ، والأمرُ فيه خلاف على ضابط مهم بينَّاه لإخواننا الطلبة في الدورة الأخيرة من دورات مركز الإمام الألباني، وهذا الضابط قائم على: هل الزكاة واجبة في الذمَّة؟ أم واجبة في المال؟ إذا كانت واجبة في المال؛ أجزأ، وإذا كانت واجبة في الذمة؛ لا يجزئ إلا بنِية.
أما المؤاخذة في الدنيا: فلا يؤاخذ صاحبُها في الدنيا.
وذكرنا لكم بعض الأشياء، هنالك فرق بين الحُكم الأخروي والحكم الدنيوي.
يعني: المرأة النصرانية التي يتزوجها المسلم إن حاضتْ فيحرُم على الرجل أن يأتيَها إلا بعد أن تتطهر؛ لأن الله يقول: {فإذا تطهَّرنَ فأتوهنَّ من حيثُ أمركُم الله} ولم يقل الله (فإذا طهُرنَ)، فيا أيها المسلم: إذا زوجتك طهرتْ من الحيض؛ حرام عليك تأتيها حتى تغتسلَ؛ لأن الله ما قال (فإذا طَهُرنَ فأتوهنَّ)؛ وإنما قال: {فإذا تطهَّرنَ} هذه التاء توجبُ عليها أن تغتسل، لو قال (فإذا طهُرنَ)؛ فمجرد ما تنتهي الحيض لك أن تأتي أهلك، لكن الله ما قال (فإذا طهُرنَ)؛ قال: {فإذا تطهَّرنَ} إذا أحدَثنَ طُهرًا.
طيب: رجل تحته زوجة كتابيَّة وحاضت، متى يجوز له أن يأتيها؟ حتى تغتسل، طيب: هذا الغُسل ينفعها؟ نعم ينفعها، ما عندها نية؟ ينفعها في الدنيا.
المسلم لما يغتسل في ماء بارد أو في وقت برد ويريد يدرك الجماعة، هذه عبادة، أما الكتابيَّة.. ليس بعبادة؛ الله لا يقبل منها حتى تؤمن، لكن هذه النية لها أثر على الأحكام في الدنيا.
مثل المجنونة: رجل عنده زوجة مجنونة، حاضت.. طهرت، أراد أن يأتيها فغسَّلها هو، يأتيها بعد ما يغسِّلها؛ لذا كان الناظم دقيقًا لما قال:
فنيَّة شرطٌ لإيش؟ ما قال: لجميع العمل، ولا قال: لكل العمل؛ وإنما قال: (لسائر العمل).
فالنيَّة: شرط.
والنية ليست رُكنًا، فمتى ينبغي للعبد أن ينوي؟ قبل العمل، هي خارج عن العمل، لكن هنالك -كما ذكرتُ- بعض العبادات يجزئ أن تتأخر النية فتصبح في أثناء العمل -كصيام النافلة-؛ بل بعضُها يُجزئ أن تكون بعد العمل؛ مثل الاستثناء على اليمين: بعد أن تفرغ من اليمين تقول: إن شاء الله، وتنوي الاستثناء، ويجزئك ذلك إن شاء الله.
نأتي إلى تتمة البيت، يقول:
بِهَــا الصَّـلاحُ وَالفَسَــادُ لِلْعَـمَـلْ
العمل صلاحًا وفسادًا يترتب على النية، وصلاح العمل: ما تبرأ به الذمَّة، وفسادُه: ما لا تبرأ به الذمة.
من أتى بعملٍ صالح تبرأ ذمته في الدنيا، وتبرأ ذمته في الآخرة، ومن لم ينوِ نيَّة صالحةً حيث أوجبَ الشرعُ النية؛ فيكون عملُه فاسدًا.
ووقع خلافٌ بين العلماء: هل من فرقٍ بين الباطل والفاسد أم لا؟
فمنهم من جعل الباطلَ والفاسدَ سيان، ومنهم من فرَّق بين الباطل والفاسد، فقال: الباطل ما لا يُشرع بأصلِه ولا بوصفِه -كأكل الميتة والزنا-، ولكن الفاسد.. [توقف للأذان!]
قلنا: إن النيةَ شرط لصحَّة سائر العمل، ويترتَّب عليها وجودًا: صلاح العمل، وبراءة ذمَّة صاحبِه في الدنيا والآخرة، ويترتب عليها عدمًا: فساد العمل أو بُطلانُه.
وإن جماهير الفقهاء والعلماء -باستثناء الإمام أبي حنيفة --رحم الله الجميع- لا يُفرِّقون بين الفساد والبُطلان، وأبو حنيفة رحمه الله يُفرِّق بين الباطل
والفاسد، ويقول: إن الباطل ما لا يُشرع بأصلِه ولا وصفِه، وإن الفاسد ما شُرع بأصلِه دون وصفِه.
فشُرب الخمر وأكل الميتةِ: فهذا من الباطل الذي لم يُشرع لا بأصله ولا بوصفِه.
وأما الرِّبا: فهو من الفاسد؛ لأن الربا نوعٌ من أنواع البُيوع، فيها زيادةٌ لتأخُّر الزَّمن، فالشيء الباطل الشيء الحرام من هذا العقد: هو الزيادة فقط، ويترتَّب على هذا فُروع كثيرة تأتينا في حينها إن شاء الله، وأذكر الآن لكم فرعًا من الفروع:
رجل أعطى آخرَ مالًا برِبا فرفع أمرَه إلى القضاء، فلو كان القاضي غير حنفي -كأن يكون شافعيًّا أو مالكيًّا أو حنبليًّا- فيُلغي أصل القرض، ويُلغيه من الوجود، ويعتبره غير قائم، وينفض المجلس بين الطرفَين بإلغاء ما اتَّفقوا عليه.
لكن: لو كان القاضي حنفيًّا؛ فيصحح القرض، فيقضي بالقرض دون الزيادة، فيقضي بالقرض دون الربا؛ لأن الله عز وجل يقول: {وأحل اللهُ البيعَ وحرَّم الرِّبا} وجميع المفسرين يقولون قوله: {وحرَّم الرِّبا} عطفُ خاص على عام، فالرِّبا خاص معطوف على عام، البيع مُفرد، محلى بالألف واللام، ويأتينا في هذه القواعد في بعض أبياتها أن المفرد المُحلى بالألف واللام من العموم، فالربا هو الممنوع، الزيادة بسبب الزمن هو الممنوع، وأما أصلُ البيع، أصل القرض؛ حلال.
فأبو حنيفة يقول: هذا فاسد وليس بباطل، ومعنى الفاسد: ما شُرع بأصله دون وصفِه، فالممنوع في الوصف دون الأصل.
هذا يفيدنا في قاعدة مذكورة عند العلماء تأتينا أيضا بالتفصيل وليكن هذا الكلام تمهيدًا لها، وتأتينا لها فروع كثيرة جدا، ولست الآن بصدد ذِكر الفروع حتى يقع تكرار في الشرح، وهي قاعدة: متى يقتضي النهي الفساد، ليس كل نهيٍ يقتضي الفساد، فهنالك نهي يقتضي الفساد في الشرع، وهنالك نهيٌ لا يقتضي الفساد.
ليس كل من سرق مالًا فتوضأ فصلى فصلاته باطلة، مع أن سرقة الماء حرام، وليس كل من سرق سكينًا فذكَّى بها شاة فالشاةُ حرام، وليس كل مَن غصب أرضًا فصلى عليها فصلاتُه باطلة، وليس كل من سخن ماء بحطب مسروق فالغُسل.. إلى آخر الفروع التي تأتينا في حينها إن شاء الله تعالى.
فهذه أشياء مشروعة بأصلها ممنوعة بوصفها.
وهذا الذي يسمَّى عند أبي حنيفة رحمه الله: الفاسد، والشيء الذي لم يُشرع لا بأصله ولا بوصفه يسمَّى إيش؟ باطل، وهذا التفريق يكون عند أبي حنيفة فقط، الجماهير لا يرَون التفريق، وبعضُهم اضطر لأن يقول بالتفريق في الفُروج في الأنكحة دون غيرها في تفصيل يأتينا لاحقًا إن شاء الله تعالى.
أكتفي بهذا القدر في شرح البيت الحادي عشر....

انتهى (الجزء الأول) ويتبع (الجزء الثاني).

تفريغ : أم زيد

من هنـا تجميع روابط الدروس المفرغة
__________________
قال العلامة صالح آل الشيخ: " لو كان الفقه مراجعة الكتب لسهل الأمر من قديم، لكن الفقه ملكة تكون بطول ملازمة العلم، بطول ملازمة الفقه"
وقال: "ممكن أن تورد ما شئت من الأقوال، الموجودة في بطون الكتب، لكن الكلام في فقهها، وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ"
"واعلم أن التبديع والتفسيق والتكفير حكم شرعي يقوم به الراسخون من أهل العلم والفتوى ، وتنزيله على الأعيان ليس لآحاد من عرف السنة ، إذ لا بد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، حتى لا يصبح الأمر خبط عشواء ،والله المستعان"
رد مع اقتباس