عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 11-09-2013, 07:47 PM
أبو زيد العتيبي أبو زيد العتيبي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2009
المشاركات: 1,602
افتراضي سلسلة مقال الخطيب (12) : { وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ }.


{ وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ }.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وولي المتقين ، والصلاة والسلام على نبينا الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :

فقال – تعالى - : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [النمل: 89-90].

اعلم عبد الله أن العباد يوم القيامة أحوج ما يكونون إلى الأمن ؛ لأن الفزع في الآخرة تشيب له مفارق الولدان لهول ما يشاهدونه {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً }[المزمل : 17]. قال القرطبي : " فإنما شابوا من الفزع " (الجامع لأحكام القرآن : 9/1).

يوم من شدة فزعه { تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ }[النور:37] . قال الشنقيطي – رحمه الله – في أضوائه - : " أن تقلب القلوب هو حركتها من أماكنها من شدة الخوف ، كما قال – تعالى -:{ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ } وأن تقلب الأبصار هو زيغوغتها ودورانها بالنظر في جميع الجهات من شدة الخوف " .

يوم من شدة فزعه تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ، كما قال – تعالى - : {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم : 42] . وقال – تعالى - : {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } " ومعنى شخوص الأبصار أنها تبقى منفتحة لا تغمض من الهول وشدة الخوف " ( أضواء البيان ) .

يوم من شدة فزعه تكون فيه القلوب واجفة ، والأبصار خاشعة ، كما قال – تعالى - :{ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ. أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } [النازعات:8-9] . واجفة : " قال ابن عباس: يعني خائفة " ، أبصارها خاشعة : " أي: ذليلة حقيرة؛ مما عاينت من الأهوال " ( تفسير ابن كثير : 8/313 ) .

يوم من شدة فزعه يكون {شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}، و{ عَبُوساً قَمْطَرِيراً } [الانسان:9-10] . " { عَبُوسًا } أي: شديد الجهمة والشر { قَمْطَرِيرًا } أي: ضنكاً ضيقاً " ( تفسير السعدي :ص/901 ) .

كيف لا تفزع القلوب في ذلك اليوم الذي يغضب الله – تعالى – فيه أشد الغضب ، كما قال كل واحد من الأنبياء : آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى – عليهم السلام - : " إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ " ( متفق عليه ) .

ففي مثل هذا اليوم يكون الأمن من الفزع من أعظم المنن ، وأجل المكرمات ، فلا يستوي الآمنون والخائفون ، كما قال – تعالى - : { أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[فصلت : 40] . آمنا بفعله الحسنات ، كما قال – تعالى - : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } .

إن أهل الحسنات والأعمال الصالحات في مأمن من المفزعات ، ومنأى عن المحزنات قد سارعوا إلى الخيرات وتجنبوا المخزيات والمنكرات فصاروا من المتقين الآمنين ، والله يقول : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ }[الدخان : 51] .

لم ينشغلوا بالبنين والبنات ، ولا بجمع الأموال والممتلكات فزالت عنهم المخاوف والأحزان لتعلق قلوبهم بالطاعات والقربات ، لأن الأمن في الغرفات فرع الإيمان والأعمال الصالحات {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}[سبأ : 37] .

فأهل الأمان الكامل هم المؤمنون المتقون { إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُون * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِين } [الحجر : 45 - 46] . فمع كمال إيمانهم وتقواهم يتبدد خوفهم ، وتنجلي أحزانهم { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [يونس:62-63].

وأهل الإيمان والتقوى في أتم أمن ، وأكمل أمان { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }[الأنبياء : 101 - 103] .

فالأصل المنجي من فزع الآخرة هو الحسنات , وأعظمها حسنة التوحيد ، كما قال – تعالى - : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ }[الأنعام : 82] .

فعن عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -، قَالَ : لَمّا نَزَلَتْ { الَّذينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ } شَقَّ ذَلِكَ عَلى الْمُسْلِمينَ ؛ فَقالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّنا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ قَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ ، إِنَّما هُوَ الشِّرْكُ ؛ أَلَمْ تَسْمَعُوا ما قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهوَ يَعِظهُ { يا بُنَيَّ لا تُشْرِكُ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } " ( متفق عليه ) .

ومما ينجي من فزع الآخرة ويوجب الأمن لصاحبه الموت رباطاً في سبيل الله ، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : " من مات مرابطاً في سبيل الله أجرى الله عليه عمله الصالح الذي كان يعمل عليه ، وأجرى عليه رزقه ، وأمن من الفتان ، وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع " ( صحيح الجامع رقم : 6544 ) .

ومما يوجب الأمن من الفزع : الهجرة في سبيل الله ، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : " للمهاجرين منابرُ من ذهبٍ يجلسون عليها يوم القيامة ، قد أمنوا من الفزع " ( السلسلة الصحيحة برقم : 3584 ) .

ومما يوجب الأمن من المخاوف بعد الموت اجتماع الرجاء لله والخوف من الذنوب في قلب العبد عند احتضاره فعن أنس – رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على شاب وهو في الموت ، فقال : كيف تجدك ؟ قال : والله يا رسول الله أني أرجو الله ، وإني أخاف ذنوبي . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو ، وآمنه مما يخاف " (صحيح رواه الترمذي برقم : 983 ) .

والأصل في النجاة من فزع الآخرة هو دوام خوف العبد من الله في الدنيا ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ - جَلَّ وَعَلَا - ، قَالَ : " وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يوم القيامة " ( حسن صحيح ـ السلسلة الصحيحة برقم : 742 ) .

وحقيقة الخوف من الله أن تترك معصية الله ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " الخوف المحمود : ما حجزك عن محارم الله " ( مدارج السالكين : 1/514 ) .

فإذا قام العبد بالواجبات وترك المحرمات فقد وفى مقام الخوف من الله في الدنيا حقه واستوجب الأمان التام في الآخرة بخلاف العصاة الظالمين ، ومصداق ذلك قول الله – تبارك وتعالى - : { تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}[الشورى : 22] .


رد مع اقتباس