عرض مشاركة واحدة
  #18  
قديم 09-11-2017, 04:00 AM
أم عبدالله نجلاء الصالح أم عبدالله نجلاء الصالح غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: عمّـــان الأردن
المشاركات: 2,647
افتراضي 5. "أخلاقنا في الحروب" لفضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله -

معاشر الإخوة، معاشر الحَجيج:

ليس بِدعًا أن يكون الحديثُ عن الرَّحمة يمُرُّ بالحديثِ عن الحربِ؛ لأن من الرَّحمة ما يقتَضِي إيصالَ منافِع والمصالِح إلى الخلق وإن كرِهَتها نفوسُهم، وشقَّت عليها طباعُهم، فهذه من أعظم صُور الرَّحمة؛ كرحمةِ الأب بابنِه حين يحمِلُه على محامِل العلم والأدب ولو لحِقَ الابنَ المشقَّة.

وكالرَّحمة بالمريضِ حين يُسقَى مُرَّ الدواء، وكذلك الحالُ حين تدعُو الأسبابُ إلى حربٍ غير محبوبةٍ، فهي تستبطِنُ الرَّحمةَ من خلالِ أحكامِها وآدابِها وأخلاقيَّتها.

نعم، لقد تجلَّت الرَّحمةُ في دينِنا في ظروف الحربِ والمعارِك، فويلاتُ الحروب لا تخفَى، ونتائِجُها هلكَى وجرحَى، ودينُنا ليس حفِيًّا بالحروب، ولا مُرحِّبًا بالصراع المُسلَّح؛ بل إنه يدفعُ ذلك ويدرؤُه ما استطاع، فهو لا يدعُو إلى الحربِ، وليس حريصًا على المُبادَرَة بها؛ بل قال: «لا تتمنَّوا لقاءَ العدوِّ، وسَلُوا اللهَ العافية».

وإذا كان لفظُ الحرب جاء في كتاب الله ستَّ مراتٍ؛ فإن لفظَ السِّلمِ والسلامِ جاءَ مائةً وأربعين مرَّة، وعلى المُتفكِّر تأمُّل النسبَةِ بين الرَّقمين، ولا يُقاتَلُ في الإسلام إلا المُقاتِلة، ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ۞ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [سورة الأنفال: 61 - 62].

ويعلمُ الله والمؤمنون والمُنصِفون أن غزوات المُسلمين وحروبَهم وجهادَهم غزواتٍ وسرايا لم تكُن طلبًا لدنيا، ولا جمعًا لمالٍ، ولا رغبةً في زعامةٍ، ولا توسِعَةً في ممالِك؛ بل ذلك كلُّه لهداية الناس وتحريرِ العبادِ من عبادةِ العبادِ واستِعبادِهم إلى عبادةِ الله ربِّ العباد وحدَه، ورفعِ الظُّلم، والانتِصار للمظلومين، مقرونًا ذلك بأعلى أساليب الرَّحمة والعِفَّة والنُّبل والشَّرف، والتأريخُ خيرُ شاهِدٍ، والمُقارَناتُ مع الآخرين أعظمُ بُرهانٍ.

معاشر الأحِبَّة، حُجَّاج بيت الله:

وإذا كان قد شاعَ في هذه الأزمِنة مُصطلحُ "القوة الناعِمة"، فإننا نقولُ بكل ثقةٍ وقوةٍ وإعجابٍ: إن الحربَ في الإسلام وآدابَها وأحكامَها هي القوةُ الناعِمة.

وفي إحصاءٍ سريعٍ في عهد النبُوَّة يتبيَّنُ أن المُدَّة الإجماليَّة للحروب هي خمسُ سنواتٍ فقط من ثلاثٍ وعشرين سنة، ومجموعُ القتلَى في كل هذه السنوات والغَزَوات لم يتجاوَز ألفًا وثمانيةً وأربعين قتيلاً ليس فيهم مدنيٌّ واحدٌ؛ بل إن بعضَ الباحِثين يقول: إنهم لم يتجاوَزُوا المِئات.

قارِنوا ذلك بإحصائيَّات الحربين العالميَّتين الأخيرتين؛ ففي الأولى: كان عددُ القتلَى سبعة عشر مليونًا ما بين عسكريٍّ ومدنيٍّ، وفي الثانِية: ستين مليونًا، والمجموع سبعةٌ وسبعون مليونًا في حربين فقط، أما ما بعد ذلك فقد لا يُحصِيه العادُّون.

لماذا هذا الفرق؟! لأن دينَنا لا يُحبُّ الحربَ؛ بل يتجنَّبُها قدرَ الإمكان، ولا يدخلُها إلا مُضطرًّا، ولأن له فيها آدابًا وشروطًا وأخلاقًا، ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج: 39].

﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة: 190]. ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [سورة الأنفال: 7]. لا يُقاتِلون إلا المُقاتِلة، ولا يُجهِزون على مُدبِرٍ.

جهادُ المسلمين فيه قوةٌ، ولكن فيه رحمةٌ وعفوٌ وعِفَّةٌ وصفحٌ، وعند قيام المعرَكة وحَمْيِ الوَطيس يحرِصُ الإسلام على عدم إطالَة مدَى المعركة وإنهاء الصِّراع المُسلَّح سريعًا، ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد: 4].

لقد قاتلَ المُسلمون بالرَّحمة، وانتصَروا بالعفو، وفازُوا بعدم المُعاملَة بالمِثْلِ، تعليماتُنا: لا تغدِروا، ولا تغُلُّوا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتُلُوا الشيوخَ والوِلدان وأصحابَ الصوامِع، ولا تقطَعوا شجرةً.

معاشر الحُجَّاج، معاشر المسلمين:

وليزدادَ منكم العجَب فانظُروا رحمةَ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - وعفوَه وتسامُحَه، وهم قدوتُنا وأُسوتُنا، عفوُه وتسامُحه فيمن آذاه واعتدَى عليه وظلمَه.

انظُروها فيما جاء في خبر "الصحيحين": قام أعرابيٌّ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسَّيف وهم نائمٌ تحت الشجَرة، فقال: من يمنَعُك مني يا محمد؟ قال: «الله - عز وجل -». فسقَطَ السَّيفُ من يدِه. فأخذَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «من يمنَعُك منِّي؟». فقال الأعرابيُّ: كُن خيرَ آخِذٍ. فقال: «أتشْهَدُ أن لا إله إلا الله؟»، قال: لا، ولكنِّي أُعاهِدُك ألا أقاتِلَك ولا أكونَ مع قومٍ يُقاتِلُونَك. فخلَّى سبيلَه، فذهبَ إلى أصحابِه فقال: جِئتُكم من عند خيرِ الناس.

ولما قِيل له - عليه الصلاة والسلام -: ادعُ على المُشركين. قال: «إني لم أُبعَثْ لعَّانًا، وإنما بُعِثتُ رحمةً».

وقيل له: ادعُ على ثَقيفٍ، فقال: «اللهم اهدِ ثَقيفًا»، فدعا لهم ولم يدعُ لهم. رواه الترمذي.
العدلُ درجةٌ عظيمةٌ، ولكنَّ الرحمةَ والعفوَ درجةٌ أعظم.

وبعد، عباد الله:

فإن من أعظم مظاهر الرَّحمة والعفوِ والأدبِ الرَّاقِي: أن نبيَّنا محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يفضَح أسماءَ المُنافِقين، فضلاً عن أن يقتُلَهم أو يُعاقِبَهم، ومنهجُه: «ما بالُ أقوامٍ»، وأُسِّست دولةُ الإسلام على المحبَّة والرَّحمة والمُؤاخاة والنُّصرة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 218].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



يُتبع إن شاء الله - تعالى -.
__________________
يقول الله - تعالى - : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [سورة الأعراف :96].

قال العلامة السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية الكريمة : [... {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا} بقلوبهم إيمانًاً صادقاً صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى الله - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات من السماء والارض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيشٍ وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نصب ... ] اهـ.
رد مع اقتباس