عرض مشاركة واحدة
  #18  
قديم 06-19-2012, 10:37 AM
حامد بن حسين بدر حامد بن حسين بدر غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,115
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم زيد مشاهدة المشاركة
بسم الله الرحمن الرحيم

شـرح
«منظومة القواعد الفِقهيَّة»
-للإمام السَّعدي-
-رحمهُ الله-

[الدَّرس الرَّابع عشر -والأخير-]
(الجزء الأول)

لفضيلة الشَّيخ
مشهور بن حسن آل سلمان
-حفظه الله-
إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
إلهي لا تعذب لسانا يدل عليك، ولا يدًا تكتب حديث رسولك -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، ولا عينا تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدما تمشي إلى خدمتك.
أما بعد:
فبلغ بنا المقام في شرح منظومة العلامة الشيخ السعدي رحمه الله إلى البيت السابع والثلاثين، يقول الناظم رحمه الله تعالى:
37. وَمَـنْ أَتَى بِمَـا عَـلَيْـهِ مِـنْ عَمَــلْ ... قَـدِ اسْتَحَـقَّ مَـالَـهُ عَـلَى الْعَـمَــلْ
هذه قاعدة جرى عليها العُرف في الإجارات والمعاوضات، وهذه القاعدة تقول: من لزِمه عملٌُ وأتى به؛ فلزمَ له الوفاءُ بأجرِه.
وهذه القاعدة مأخوذة من نصوص شرعية، منها ما أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح إلى ابن عمر -رضيَ اللهُ تعالى عنهُم-ا قال: قال رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «أعطوا الأجيرَ أجرَه قبل أن يجف عرقُه» فالذي يعمل ما وجب عليه؛ فله ما لزِم له.
ومن أدلة القاعدة أيضا: ما أخرجه البخاري في «صحيحه» إلى أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بيَّ ثم غدر، ورجل باع حُرًّا وأكل ثمنَه، ورجلٌ استأجر أجيرًا فاستوفى منهُ ولم يُعطِه أجرَه» استوفى منه عملَه، وأدى العاملُ الذي عليه، ولم يأخذ هذا العاملُ الذي له.
ولذا: القاعدة عند العلماء في عقود الإجارات، وفي عقود المعاوضات، وفي العقود غير اللازِمات: أن من بُذل له شيء مقابِل عمل فأدى هذا الإنسان الشيءَ الذي طُلب منه؛ فلزِم من بذل أن يُعطي.
ربنا يقول عز وجل في الجُعالات على لسان يوسف، قال عز وجل: {ولِمَن جاءَ به حِملُ بعير} والجُعالة: يقول صاحبُها من يعمل كذا أجعل له كذا وكذا، وهذا يدخل فيه المسابقات والجوائز التشجيعية، فصاحب السوبر ماركت وصاحب السلعة يقول: من يشتري بمبلغ كذا أجعل له كذا، من يشتري بمبلغ كذا أعطيه بطاقة، نعمل سحبا وتكون جائزة على سيارة، فهذه الأمور إن أدى الإنسانُ الذي له؛ وجب له الذي بُذل.
طيب إيش حكم الجوائز التشجيعية؟ الجوائز التشجيعية مشروعة بثلاثة شروط: الشرط الأول: يعود للسلعة، والشرط الثاني يعود للمشتري، والشرط الثالث: يعود للبائع.
أما الشرط الذي يجب أن يتوفر للسلعة: أن لا يُزادَ في سعرها بعد الجائزة.
فإذا كانت السلعة سعرها دينار قبل بذل الجائزة فأصبح سعرها دينارا وعشرين قرشا بعد الجائزة؛ فأصبح الناس يتقامرون بالعشرين قرشا!
إذا كان سعر السلعة دينار قبل الجائزة ودينار وعشرون قرشا بعد الجائزة فأصبح من يشتري يلعب قمارًا بعشرين قرشًا!
كل المسلمين أو جُلهم يُدعَون إلى القمار بصُوَر كثيرة، ولعلِّي دُعيت عشرات المرات أنا وإياكم للقِمار عبر الجوال ونحن بين يدي الله: أرسِل رسالة بسبعين قرشًا بأربعين قرشًا -الآن جاءت رسالتان لعل واحدة منها تكون قمارًا!!-، أرسِل رسالة بسبعين قرشًا بأربعين قرشًا، بسبعين قرشا، بستين قرشًا، بنصف دينار، ويوجد سحب على جائزة سيارة ما أدري إيش! هذا قمار! الكل يلعب قمارا بنصف دينار!
كيف تدفع النصف دينار؛ برسالة، بإشارة، بشيك، بسحب من حساب، ببطاقة، بأي طريقة، المهم أنك دفعتَ النصف دينار!
لعبة القمار التقليدي كان بمجرد الضامه أو الشدة أو الكوتشينه، أو الدواليب، أو أوراق اليانصيب، اليوم نفس أوراق اليانصيب ونفس الدواليب التي هي إيش؟ رسالة الجوال، تدفع رسالة الجوال إشارة: احسبوا علي نصف دينار، تعطيهم إشارة رقم: احسبوا علي أربعين قرشا سبعين قرشًا.
فالجوائز التشجيعية جائزة بثلاثة شروط: الشرط الأول: يعود للسلعة، السلعة ينبغي أن يكون سعرها قبل الجائزة وبعد الجائزة هو هو، فإن زِيد على سعرها أصبح القِمار بمقدار الزياة.
والشرط الثاني يعود للمشتري، يجب على المشتري أن يشتري السلعة لأنه يريدها، أما إن اشتراها لأنه يريد الجائزة.. يعني مثلا: أول ما بدأت الجوائز التشجيعية بدأت على البيبسي كولا، فكان بعض الناس حاجته مثلا لبيته 4، 5 زجاجات، يشتري 4، 5 صناديق، شراؤه لهذه الصناديق هذا قمار، إذا اشترى السلعة وهو لا يريدها، وإنما هو يريد الجائزة، والله يعلم من قلبِه أنه لا يريد هذه السلعة، ولا يحتاج هذه السلعة؛ هو يقامِر.
والشرط الثالث: يعود على البائع، ويُشترط في البائع لما ينظِّم الجوائز أن لا تكون نيَّتُه الإضرار بغيرِه؛ وإنما نيَّتُه ترويج سِلعتِه، همُّه من الجائزة أن يُروِّج سلعتَه، لا أن يضرر بغيره.
فإذن: القاعدة عند العلماء أن من لزمه عملٌ وأتى به لزمهُ الوفاءُ أو لزمَ الوفاءُ له بأجرِه.
وهذه كما قلتُ تشمل عقود المعاوضات وعقود الجُعالة والإجارة والوَكالة، يمكن أن تكون الوكالة بأجرة: أنا أقول لك: بِع لي كذا ولك كذا، فإذا بعتَ فأتيتَ بالذي التزمتَه؛ فوجبَ لكَ الذي جُعل لك.
الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه «الأم»: «الإجارة بيع»، إيش حقيقة الإجارة؟ تمليك منفعة.
طيب؛ الرقبة من يملكها؟ رقاب الأشياء من يملكها؟ الله عز وجل، لأن المآل إلى الله عز وجل.
فالإجارات تمليك منافع.
ولذا كما أنك لو اشتريتَ مثمَّنًا سلعةً فوجب عليك أن تدفع ثمن السلعة حتى تَقبضها، وكذلك سائر الأشياء.
فهذه القاعدة ظاهرة بينة، عليها الأدلة ولا خلاف فيها بين العلماء.
نأتي للقاعدة الثامنة والثلاثين.
القاعدة الثامنة والثلاثون يقول الناظم:
38. وَيُفْعَــلُ الْبَعْــضُ مِــنْ المَـأْمُـورِ ... إِنْ شَــقَّ فِعْــلُ سَــائِـرِ المَـأْمُــورِ
هذا البيت عبَّر فيه الناظم عن قاعدة مهمة تقول: (الميسور لا يسقط بالمعسور)، وفي الحقيقة هذه القاعدة لا يعمل بها إلا في المحل الذي جوَّز الشرعُ فيه تجزئة العمل.
فالشرع بالنسبة إلى سائر العبادات جعل بعضها يَقبل التبعض وبعضها لا يَقبل التبعض، بعضها يقبل أن تجعله أجزاء أبعاضا، والبعض أراد الشرع منه وحدة واحدة، لا يريد الشرع منه التبعض.
مثل الصوم: الصوم يَقبل التبعض أو لا يقبل التبعض؟ إيش الصوم؟ الإمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لو إنسان استطاع أن يصوم ست ساعات، أو سبع ساعات، أو ثمان ساعات، فهل له أن يُبعِّض الصيام؟ قال: الصيام 12 ساعة، أصوم اليوم 6 وأصوم غدا 6، وأحسب يومًا، فأصوم 15 يومًا ويبقى علي 15 يومًا، هذا صحيح ولا غير صحيح؟ لماذا غير صحيح؟ لأن الصيام عبادةٌ لا تَقبل التبعُّض، الصيامُ أرادهُ الشرعُ عبادة تامة.
طيب؛ الصلاة تَقبل التبعض أو لا تَقبل التبعض؟ الصلاة تَقبل التبعض، ودليل ذلك ما أخرجه البخاري في «صحيحه» عن عمران بن حُصين رضي الله تعالى عنه قال: قال لي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-وكان بي الناسور-، والناسور -أسأل الله لي ولكم العفو والعافية- هو أشد من الباسور، ومرض الباسور: داء كان علماء الشافعية مبتَلَون به، حتى قيل في داء الباسور أنه داء الشافعية، أُصيبَ به جمعٌ من علماء الشافعية-، فكان عمران به داء شديد.. فكان النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول لعمران، فقال لي النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «صلِّ قائما، فإن لم تستطع؛ فصلِّ جالسًا، فإن لم تستطع؛ فعلى جَنب» زاد النسائي بإسنادٍ صحيح: «فإن لم تستطع؛ فمُستلقيًا» إن لم تستطع أن تصلي على جَنب؛ فصلِّ مستلقيًا.
إيش حكم القيام في الصلاة؟ الرُّكنية في الفريضة؛ لقول الله تعالى: {وقوموا للهِ قانِتين} ومن صلى جالسًا في غير الفريضة صحت صلاتُه وله النصف من صلاة القائم -كما عند ابن حبان-.
لو أن رجلا ما استطاع أن يصلي قائما فأصبح قراءة الفاتحة والركوع والسجود ميسورا في حقه، والقيام معسور في حقه، فماذا يجب عليه؟ الميسور لا يسقط بالمعسور، إيش يعني الميسور؟ يعني: الركوع أو الإيماء، أو السجود، لا يقدر أن يقوم يقدر يقرأ الفاتحة فيجب عليه قراءة الفاتحة، وتكبيرة الإحرام، فالميسور الذي يقدر عليه يجب فِعله، والميسور الذي يقدر عليه لا يجوز إسقاطه بالمعسور الذي لا يقدر عليه.
ولذا -ذكرتُ لكم وأعيد، وأرى أن هذه الجزئية من المهمات، وأحب أن تُحفظ وتُنشر-:
من يصلي على الكرسي، ويستطيع السجود، ولا يستطيع القيام، ويستطيع أن يمكِّن جبهته وأن يسجد وصلى على الكرسي ولم يسجد؛ فصلاتُه باطلة بإجماع أهل العلم.
أعيد وأزِيد:
من استطاع السجود فصلى على الكرسي فأومأ إيماء في السجود وباستطاعته أن يسجد ولكن أخذته الأنفة أو الكِبر، كيف يصلي جالسا، لأنه لو صلى جالسا لسجد، هو لا يستطيع القيام، لكن يستطيع السجود، فصلى على الكرسي ولم يسجد؛ فهذا فاتته ثلاثة أركان: السجدة الأولى، وجلسة الاستراحة بين السجدتين، والسجدة الثانية الركن الثالث.
فهذا صلى صلاة ليست فيها ثلاثة أركان وهذا صلاته باطلة.
ولهذا النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-كما في «البخاري»- لما سقط عن فرسِه فجُحِش جنبُه، فصلى متربِّعًا.
من الذي يصلي على الكرسي؟ الذي يصلي على الكرسي واحد من اثنين:
الأول: رجل لا يتمالك قواه، يغلب عليه الهزل والتعب، ولا يستطيع أن يتمالك قواه، يبقى جالسا ولا يستطيع إلا أن يومئ إيماء، فهذا يصلي على الكرسي.
والنوع الثاني: الذي يعجز عن القيام ويعجز عن السجود، لا يقدر على القيام ولا يقدر أن يسجد؛ فهذا يصلي على الكرسي.
أما رجل يستطيع أن يسجد ويصلي على الكرسي؛ لماذا تفوتك هذه الأركان؟ (الميسور لا يسقط بالمعسور)، السجود في حقك ميسور، والقيام في حقك معسور، فالميسور وهو السجود لا يسقط بالمعسور وهو القيام.
فإذن: الشرع ينظر إلى ما لا يتبعَّض على أنه كلٌّ واحد، وينظر إلى ما يتبعَّض على أنه أجزاء.
يعني: إنسان أصابته شجَّة في رأسه، فالاغتسال يتبعَّض أو لا يتبعَّض؟ وقع فيه خلاف، فمن قال: يتبعَّض؛ قال: يَغسل سائر جسده ولا يتيمم، ومن قال: لا يتبعَّض، قال: يجزئه التيمم.
وفي الحديث الذي عند أبي داود: لما كان رجل مع أصحاب النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- فأصابته جنابة وكان شجة في رأسه، فاستفتاهم فلم يُفتوه بالتيمم، أفتوه بالاغتسال، فاغتسل فمات، فقال النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «إنما شِفاء العِي السُّؤال، قتلوه قاتلهم الله، إنَّما كان يُجزئه..» وذَكَر التيمم.
ماذا يُستفاد من الحديث؟ الحديث فيه فائدة مهمة أحب أن تُنشر أيضا:
النبي يقول: «إنما شِفاء العِي السُّؤال» إيش عكس الشفاء؟ المرض، الشفاء لا يكون إلا من مرض، فالجاهل مريض، ودواء الجاهل السؤال «إنما شِفاء العِي السُّؤال»، فالجاهل مريض، وأقل واجب على المريض: السؤال، والأرفع: أن يجالس العلماء، وحضور مجالس العلماء، وأن يلازمهم، وأن يأخذ منهم.
لكن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: «قتلوه قاتلهم الله» فظاهر هذا الحديث أن الاغتسال لا يقبل التبعُّض، فالذي لا يستطيع أن يوصل الماء إلى رأسه، ويستطيع أن يوصل الماء إلى سائر بدنه إيش الواجب عليه؟ التيمم.
لكن وقع خلاف بين العلماء: هل التيمم أصيل أم بديل؟ الظاهر أنه أصيل في محله، فمتى استطعنا أن نستخدم الماء فلا يجوز التيمم، واستخدام الماء تظهر المسألة في بعض الصُّوَر وهي التي تُسمَّى (التداخل) عند العلماء.
رجل أصبح جنُبًا، ولا يستطيع أن يغتسل، ولكنه يستطيع الوضوء، فماذا عليه؟ التيمم لرفعِ الحدث الأكبر، والوضوء لرفع الحدث الأصغر، فيجب عليه يتيمم بنِية رفع الحدث الأكبر، هو يستطيع أن يتوضأ، يستخدم الماء على أعضاء الوضوء، ولكنه لا يستطيع أن يستخدم الماء على أعضاء الغُسل، فما الواجب عليه؟ الواجب عليه: أن يتيمم لرفع الحدث الأكبر، ثم بعد تيمُّمه ماذا يفعل؟ يتوضأ بالماء لأن الماء الآن بإمكانه أن يستخدمه.
وقع خلاف في هذه المسألة فيما يسمى عند الفقهاء بالتلفيق، قد يستطيع الإنسان أن يُلفِّق أشياء.
مثلا: الواجب في كفارة اليمين تحرير رقبة، فإن لم يستطع فإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، هو لا يَقدر على الإطعام، ولا يقدر على الكسوة، أسألكم: أيهما أفضل الإطعام أم الكسوة؟ أيهما الأحب إلى الله عز وجل أن نُطعم العشرة أم أن نكسوهم؟ [الإطعام] أنا ذكرتُ لكم الجواب في أكثر من مرة، لكن أنتم تنسون!
الجواب: دائما في التفضيل إيش؟ التفصيل، الأفضل ما يسد الحاجة، فإذا يسد حاجة الفقير الكسوة الكسوة أحب، وإذا يسد حاجة الفقير الإطعام فالإطعام أحب، فلو سُئلت أيهما أفضل: الكسوة أو الإطعام؟ الجواب: الأحب إلى الله ما يسد حاجة الفقير، فالأمر يتفاوت من فقير لفقير.
لكن لو عندنا رجل لا يقدر على إطعام العشرة، ولا يقدر على كسوة العشرة، ولكنه يقدر إطعام خمسة وكسوة خمسة.
هذه التي تسمَّى عند الفقهاء: التلفيق، تلفيق الكفارة: يطعم خمسة أشخاص، ويكسو خمسة أشخاص، فغير واحد من الفقهاء -وهم فقهاء الشافعية- جوَّزوا التلفيق لأن الأمر على التخيير، فكأن الأمر بالتخيير خصلة واحدة, وهذا يدخل تحت (ما يُلحق بالطبع).
ولذا: من فروع أو من ضوابط قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) قاعدة بيناها لكن الفقهاء يعبرون عنها بقولهم: (ما لا يتبعَّض فاختيار كله كاختيار بعضه، وسقوط بعضِه كسقوط كله)، هذا من ضوابط قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور).
نأتي إلى البيت التاسع والثلاثين، والبيت التاسع والثلاثون أيضا سبقت الدندنة والشنشنة حوله، ونعيد الكلام بالتفصيل، ونذكر أمثلة عليه.
يقول الناظم:
39. وَكُــلمَــا نَشَــا عَــنِ المـَـأْذُونِ ... فَــذَاكَ أَمْــرٌ لَيْــسَ بِـالمَضْـمُــونِ
القاعدة تقول: (الجواز الشرعي ينافي الضمان).
إن كنتم تذكرون: تكلمنا عن الصائل، لو صال عليك حيوان -أجلكم الله- فأراد أن يقتلك، وكانت له قيمة، ولا تستطيع أن تدفع أذاه إلا بِقتله، فأنت لا تضمنه، فالذي يجوِّز لكَ الشرعُ فِعلَه؛ فأنت لا تضمنه.
الشرع يقول بقطع يدِ السارق، الشرع يقول بالقصاص، فأقيم حد على من سرق، فقُطعت يدُه، فسرت الجناية إلى سائر بدنه فهلك فمات مِن أثر قطع اليد، القاطع لم يتعدَّ، القاطع فقط قطع اليد ولم يتعدَّ، لكن ترتَّب شيء زائد عن شيء مأذونٍ فيه في الشرع، فهذا الذي قُطعت يده سرت على إثر القطع سرى ضرر فهلك بسببه، فهل القاطع يضمن ويدفع ديته؟ الجواب إيش؟ لا، لماذا؟ لأن (الجواز الشرعي ينافي الضمان).
أنت تصلي، مر رجل من بين يديك، فدفعتَه، فسقط فكُسرت رجله، فسقط فمات، قدّر الله أن يسقط فيموت، فهل الآن عليك القصاص أو عليك الأرض؟ ليس عليك ذلك.
أنت يُؤذن لك أن تعمل في بيتك في أرضك، أن تحفر حفرة، بئرًا، حفرةً عميقة، ما أحد يمنعك، فأنت تعمل حفرة في بيتك، وهذا أمر يجوز لك شرعا أن تفعله، فسقط فيها رجل غريب، فهل أنت تضمن؟ لا تضمن.
لكن: أنت قصدتَ أن تحفر حفرة خلف باب رجل في ملكه هو، هل يؤذَن لك هذا؟ لا يؤذَن لك، فالرجل خرج من بيته أو دخل على بيته فسقط في الحفرة فمات، هل أنت تقتل أم لست بقاتِل؟ أنت قاتل، ونوع القتل هذا القتل بالتسبُّب، والقتل بالتسبُّب لا يقول به إلا علماء الحنفية.
لكن المهم: أنك إن حفرتَ حفرة أو فعلتَ شيئا في أرضك في ملكك ويؤذن لك فيه، ولا تمنع منه؛ فـ(الجواز الشرعي يمنع الضمان) مع الجواز الشرعي لا يوجد ضمان.
لكن أنت تتقصد أن تحفر في أرض خفية، وليست الأرض أرضك، تتقصد الإضرار، تتقصد إيقاع إنسان فيها، فوقع فمات؛ فهذا أنت قاتل، وأنت عليك الدية، وأنت تضمن، على تفصيل طويل في أنواع القتل عند الفقهاء.
وهذه أشياء في الحقيقة أشياء كثيرة يذكرها الفقهاء في هذا الباب.
فيه شيء يسمى عند الفقهاء (الأُروش)، كل عضو من الأعضاء له (أرش) له قيمة:
الأصبع: بعشرة من الإبل.
العين: ديتُها نصف دِية الرَّجُل، حتى قال بعض أهل العلم كابن القيم قال: «من قلع عين أعوَر؛ فيجب عليه أن يدفع دِيتَه بالكلية».
طيب؛ حتى من تدقيقات الفقهاء رحمهم الله تعالى يقولون للبِكر في بكارتها أَرش، الرجل لما يأتي أهله وهي بِكر ليس عليه هذا الأَرش إن فض بكارتها، بخلاف ما لو أن رجلا دفع امرأةً فوقعتْ فسقطت على شيء ففض بكارتها؛ فهذه عليها إيش هذه الصورة الثانية؟ يضمن أو لا يضمن؟ يضمن. في الصورة الأولى؟ لا يضمن، لماذا لا يضمن؟ الجواز الشرعي لا يجتمع مع الضمان، ما دام أن الشرعَ أذِن للرجل أن يطأ أهله؛ فحينئذ لا يوجد ضمان للبكارة.
لكن لو أن امرأة دفعتْ أخرى، لو أن رجلا دفع امرأة فسقطت على شيء ففض بكارتها؛ فهذا يضمن.
فالمقصود أن الجواز الشرعي ينافي الضمان.
تبقى مسألة دقيقة ووقع فيها خلاف، والخلاف فيها عند العلماء خلاف زمان وأوانٍ وليس بخلاف دليل وبُرهان، وهذا النوع من الخلاف يحتاج لتأصيل وتمثيل، ويحتاج في الحقيقة لدراسة مستقصاة عميقة مهمة.
أنتَ لما تُعطي ثوبَك لمن يخيطه، أو تسلِّم نفسك للطبيب، أو تعطي نعلَك لمن يُصلحه، أو ثوبك لمن يكويه -دراي كلين هذه الأيام!- أو للكوي، فأفسده، الخياط أعطاك ثوبا ما يأتي على قياسك، أراد يصلِّح ثوبَك أفسده، أراد يكوي ثوبَك حرقه، هل العُمال يضمنون أو لا يضمنون؟ الأصل في يد العامل يد أمان؟ أم يد ضمان؟ الأصل في يد العامل أنها يد أمان وليست يد ضمان.
أنا عندي أجير يشتغل في محل، هلك مَحلِّي بآفة، بنارٍ، بماء، بغرق، فأتلف البضاعة، إيش نعمل للأجير؟ إن قصَّر الأجير يضمن، وإن لم يُقصِّر الأجيرُ لا يَضمن، ولأن الأجيرَ لا يغرَم فهو لا يَغنَم؛ لأن القاعدة عند العلماء: (الغُرمُ بالغُنم).
يعني: أنا عندي مصلحة، عندي أجير، أرسلت الأجير للمطار، يتابع لي مصلحتي، يخلِّص على البضاعة في المطار.. إلى آخره، قدر الله في الوقت الذي يذهب فيه للمطار له قريب يريد أن يسافر، أراد واحد يوصله فخرج معه، ما دفع مالا، فهل له شرعًا أن يحاسبني على وصوله المطار وهو لم يدفع شيئا؟ طيب؛ هو يَغرَم أو لا يغرَم؟ وبالتالي هو إيش؟ هو لا يَغنم، الغُرم بالغُنم.
يعني: امرأة قالت لجارتها: اشترِ لي 2 كيلو بندورة، أنت رايحة على السوق اشترِ لي كذا، صار حادث في السيارة تلفت البضاعة التي اشترتها، تغرمها؟ ما تغرمها، ما قصَّرت.
طيب؛ هل يجوز لها أن تَربح من جارتها؟ ليس لها أن تَربح من جارتها، لأن يدها يد أمانة، لكن: لو وكَّلتها في أعراف الناس أن هذه الوكالة ببيعٍ، وهذه المرأة تبيع و تشتري، فلو تلفت في حادث سيارة في الطريق، صاحب السلعة [...] أنت ما شاء الله تاجرة تبيعين وتشترين وتربحين، أنا ما أتحمل أنتِ خسرت، الأمر عليك، أنا ما لي خص، أنا ما أعطيك الثمن حتى تعطيني السلعة لو كانت لها أو وكيلة لامرأة أخرى في البيت، لكن ما دامت أن يدها يد أمانة؛ فهي لا تَغرم وبالتالي هي لا [تغنم].
فالأجير الأصل فيه أن يده يد أمانة.
إلا أن عليًّا ومَن بعده من أصحاب النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- رأوا أن هذا مع انتشار فساد الذِّمم يجعل بعض الأُجراء يأكلون حقوق الناس، فضمَّنوا -فقط- الصُّنَّاع الذين يصنعون، جعلوا يدَهم يدَ ضمان لا يدَ أمان، الصُّنَّاع فقط: الذي يكوي الثوب، الذي يخيط الثوب، هذا مع فساد الذِّمم كل ما واحد أعطاه قال له: سرقت! ضاعت..! فهذا يفتح باب فساد، ويفتح باب أكل أموال الناس بالباطل.
ولذا الصحابة -رضيَ اللهُ تعالى عنهُم- من عهد علي بدؤوا يضمِّنون الصُّناع لما رأوا فساد الذِّمم، وهذا الخلاف الذي يذكره الفقهاء ويقولون عنه أنه زمان وأوان لا خلاف دليل وبُرهان.
البيت الأربعون يقول فيه الناظم:
40. وَكُــلُّ حُكْـمٍ دَائِــرٍ مَــعْ عِلَّتِــهِ ... وَهْـيَ الَّتِي قَـدْ أَوْجَبَـتْ لِشِـرْعَتِـهِ
هذه القاعدة مهمة، وهذه القاعدة تقول: (الحكم الشرعي يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فحيث وُجدت العلة وجد الحُكم، وحيث انتفت العلة انتفى الحُكم).
من المعلوم عند العلماء أن العِلة معناها: وصفٌ ظاهر منضبط، بخلاف الحِكمة؛ فالحكمة: هي وصف غير منضبط وغير ظاهر.
فالأحكام الشرعية تدور مع عِللها، ولا تدور مع حِكَمها؛ لأن الحُكم الشرعي ينبغي أن يكون ظاهرا منضبطا.
إيش يعني؟
يعني: المسافر لما يفطر في رمضان، ولما يقصر، ولما يجمع، ما هي عِلة الفِطر والجمع والقصر؟ السفر، السفر وصف ظاهر منضبط، واضح مش باطن، ومنضبط بمعنى أن الناس يضبطونه ولا يختلفون فيه، بخلاف المشقة.
لا تقل، إياك أن تقول: أن السبب في القصر والفطر والجمع هو المشقة.

انتهى (الجزء الأول) ويتبع (الجزء الثاني).

تفريغ : أم زيد

من هنـا تجميع روابط الدروس المفرَّغة
الرابع عشر ج1
__________________
قال العلامة صالح آل الشيخ: " لو كان الفقه مراجعة الكتب لسهل الأمر من قديم، لكن الفقه ملكة تكون بطول ملازمة العلم، بطول ملازمة الفقه"
وقال: "ممكن أن تورد ما شئت من الأقوال، الموجودة في بطون الكتب، لكن الكلام في فقهها، وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ"
"واعلم أن التبديع والتفسيق والتكفير حكم شرعي يقوم به الراسخون من أهل العلم والفتوى ، وتنزيله على الأعيان ليس لآحاد من عرف السنة ، إذ لا بد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، حتى لا يصبح الأمر خبط عشواء ،والله المستعان"
رد مع اقتباس