عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 09-27-2013, 05:14 PM
أبو زيد العتيبي أبو زيد العتيبي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Aug 2009
المشاركات: 1,603
Lightbulb سلسلة مقال الخطيب (6) : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى }.



{ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى }[طه :84].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين .

أما بعد :

فإن من خصائص المحبة أنها تدعو إلى المبادرة لاسترضاء المحبوب . فإن سلطان المحبة يمنع من مخالفة المحبوب أو معصيته . ويبعث على المسارعة إلى طاعته .

ولهذا لما قال الله – تعالى – لموسى - : {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} ، " كنى عن ذكر الشوق وصدقه إلى ابتغاء الرضا " (الجامع لأحكام القرآن :11/233) . فقال : {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} " قال بعضهم أراد شوقا إليك فستره بلفظ الرضا " ( روضة المحبين ص/437) . أي : " والذي عجلني إليك يا رب طلبا لقربك ومسارعة في رضاك، وشوقا إليك " (تيسير الكريم الرحمن للسعدي ص/511) ؛ لأن العجلة في استرضاء المحبوب علامة على صدق محبته .

وقد دلت هذه الآية على أن طلب رضى الله – تعالى – يكون في المسارعة إلى طاعته . ولذلك كانت أحكام الشرعية مطلوبة بألفاظ : المسابقة ، والمسارعة ، والعجلة ، والسعي . كقوله : {فاسْعَوا إِلى ذكر الله} [الجمعة: 9]، وقوله : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران : 133]، وقوله {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد : 21]، وقوله – في موضعين - : {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة : 148] ، [المائدة : 48] .

ومن ذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : " التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة " (صحيح الجامع برقم : 3009 ) .

والمسارعة ، والمسابقة ، والعجلة تعني المبادرة بفعل الأوامر في أول وقتها دون توان ولا فتور ، ولا تراخي .

واعلم – عبد الله – أن من تمكنت المحبة من قلبه وامتلأ بهجة وسروراً بعبادة ربه ، وسكينة وطمأنينة بذكره فهو الموفق إلى منازل الأبرار والسعداء ؛ فإنه لا سعادة له ، ولا سرور ، ولا قرة عين ، ولا راحت بال إلا بالمبادرة إلى طاعته ، وامتثال أمره .

فقد قال – تعالى - : {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، وكانت قرة عين النبي – صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، لقوله : " جُعلَت قُرُّة عَيني في الصَّلاةِ " ( السلسلة الصحيحة برقم : 3291 ).

وكان يقول – لبلال – رضي الله عنه - : " يا بلال ! أقم الصلاة أرحنا بها " ( صحيح الجامع برقم : 7892 ) .

وفاز بالسبق من قد جد وانقشعت *** عن أفقه ظلمات الليل والسحب
إلى كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت *** ورسل ربك قد وافتك بالطلب

وليس في الأحكام الشرعية ما يدعو إلى التباطؤ ، أو التثاقل ، أو ما فيه المشقة . قال – تعالى - : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:286]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقر:185] .

قال ابن القيم – رحمه الله - : " فالشريعة هي حياة القلوب وبهجة النفوس ولذة الأرواح والمشقة الحاصلة فيها والتكليف وقع بالقصد الثاني كوقوعه في الأسباب المفضية إلى الغايات المطلوبة لا أنه مقصود لذاته فضلا عن أن يكون هو المقصود لا سواه " (بدائع الفوائد : 2/405).

فالذي يتثاقل من العبادة ويتأخر في أدائها ، ويكسل عند القيام بها كاذب في محبته ، غافل عن ذكر مولاه ، منشغل بملاذه وشهواته وهواه ، سادر في جهله ، ومرتكس في غيه .

ولهذا ذم النبي – صلى الله عليه وسلم – المتأخرين عن الطاعة ، والمتباطئين فيها . ففي يوم " رأى في أصْحَابِهِ تَأَخُّراً ، فَقَالَ لَهُمْ : " تَقَدَّمُوا فَأتَمُّوا بِي ، وَلْيَأتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ ، لاَ يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ الله " ( رواه مُسلِم ) .

وذم الله – تعالى – المتثاقلين عن المبادرة إلى الأوامر الشرعية ، فقال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ } [التوبة : 38] .

فالتثاقل عن الطاعة ، والكسل في أدائها من أوصاف أهل النفاق ، كما قال – تعالى – عنهم - : {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} . وقال - فيهم - أيضاً -: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} .

قال السعدي – رحمه الله - : " ومن صفاتهم أنهم { إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ } التي هي أكبر الطاعات العملية { قَامُوا كُسَالَى } متثاقلين لها متبرمين من فعلها، والكسل لا يكون إلا من فقد الرغبة من قلوبهم، فلولا أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى الله وإلى ما عنده، عادمة للإيمان، لم يصدر منهم الكسل " (تيسير الكريم ص/210).

فالمتخلف عن طاعة ربه ، والمتثاقل في أدائها مع ما في قلبه من ضعف الإيمان ، وقلة اليقين فإنه يفوته الخير العظيم ، والثواب الجسيم ، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : " لَيْسَ صَلاَةٌ أثْقَلَ عَلَى المُنَافِقِينَ مِنْ صَلاَةِ الفَجْرِ وَالعِشَاءِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً " ( متفقٌ عَلَيهِ ) .

ومن فوائد المبادرة بالأعمال الصالحة أنها تقي العبد الفتن ، وتنجيه منها ، وتزيد ثبات قلبه عن تزلزل القلوب بأعاصير شهواتها ، ويُهدى بها عند تلبد الأفق بظلام شبهاتها .

فقد ثبت عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : " بَادِرُوا بِالأعْمَال فتناً كقطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ ، يُصْبحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً ، وَيُمْسِي مُؤمِناً ويُصبحُ كَافِراً ، يَبيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا " ( رواه مسلم ) .

فوجب على المحبين الجد والتشمير في طاعة الله ، وإزالة غبار الكسل والتواني في سعيهم إليه ، والنهوض إلى طلب رضاه والجنة .

ومن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحفر



رد مع اقتباس