عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 08-06-2010, 03:19 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

[الحلقة العاشرة]

إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالنَّا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إِلَه إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أما بعدُ:

فإنَّ أصدقَ الحَديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ، أمَّا بعدُ:

فهذا -أيُّها الإخوة المُشاهِدون! وأيتُها الأخَوات المُشاهِدات!- لقاء يتجدَّد بالخير نتذاكر فيه شيئا من أحكام شهر رَمضان، وما يتصل به من فقه الصِّيام والقِيام، وغير ذلِك من أحكام.

السُّحور:

السُّحور سُنَّة نبويَّة منقولة عن رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-، ومنقول عنهُ الحث عَليهِا والتوكيد عَليهِا، وقبل أن نذكر ما ورد في ذلِك؛ نذكر أنه تُضبطُ كلمة (السَّحور)؛ بضبطَين، يُقال: (السَّحور)، ويُقال: (السُّحور).

(السَّحور): هو المواد الَّتِي يتسحَّر بها الصَّائم؛ كأن يأكُل تمرًا، أو خبزًا، أو جُبنًا، أو غير ذلِك، أو ماءً . . المواد الَّتِي يَتسحَّر بها؛ هي (السَّحور)، و(السُّحور): هي عملية التسحُّر، يُقال لها السُّحور، و(الطُّهور): عملية التَّطهُّر، و(الطَّهور): ما يُتطهَّر به . . وهكذا.

وكنا قد ذكرنا في مجلسٍ سابق أنه: كان الفِطر والصِّيام في أول الإسلام مرتبطًا بأن لا يأكُل ولا يشرَب إذا نام وقت الإفطار، وذكرنا الحَديثَ الواردَ في ذلِك؛ بحيث إذا نام الواحِد ولم يَطعَم في وقت إفطاره؛ فإنه يظل ممنوعًا من الطَّعام، ومُتلبسًا بالصِّيام إلى اليَوم التَّالي، حتى نُسخ ذلِك، وجاءَتْ أوامر الله -عزَّ وجلَّ- بالتَّيسِير على المُسلِمين.

لذلِك -يعني- بعض أهلِ العِلمِ فَهِم من ذلِك أن هذا كان مما يُشبه صِيام أهل الكِتابِ، كما قَالَ -تَعالَى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183]، فهذا الصِّيام كان قريبًا من ذاك الصِّيام؛ لكن: لما جاءَتْ الأوامر الإلهيةُ مِن الله -عزَّ وجلَّ- بالنَّسخ؛ جاء -هنالك- ما يُميِّز صِيامَ المُسلِمين عن صِيام غيرِهم ممن قبلهم ممن أوتي الكتاب.

فالنَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقول كما في «صَحِيح مُسلِم»: عن عمرو بن العاص -ُ- قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-: «فَصْلة ما بَين صِيامِنا وصِيامِ أهلِ الكِتابِ: أكلة السَّحَر»؛ أي: السُّحور. فالسُّحور: هو نوعٌ؛ بل هو النَّوع الأكبر مما يُفرَّق به وفيه بين صِيامنا -نحن أهلَ الإسلام- وبين صِيام غيرنا مِن الأمم السَّابقة.

وقبل أن نذكُر بقية فَضائِل السُّحور وأحكامِه: نذكر شيئًا مهمًّا:

وهو أن كَثِيرًا من النَّاس يتساهلون في السُّحور، ويتهاونون فيه؛ بل بعضهم يقضي أكثرَ ليلِه في السَّهر ويَنسى أكلة السَّحر! وهذا -لا شكَّ، ولا رَيْب- داخلٌ في عُمومِ قوله -تَعالَى-: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] هذا لا يَجوز؛ وبخاصَّة إذا كان هذا السَّهر سهرًا على الملاهي، وسهرًا في الاختِلاط، وسهرًا على البرامج التلفزيونيَّة المخالفة للشَّريعَةِ الَّتِي فيها ما يُخالِف أمر الله، وما يُخالِف أمرَ رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-.

وأيضًا: ثبت أن السُّحور بركة -كما قَالَ النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- في الحَديثِ الذي رواه الإِمام الطبراني وغيرُه: عن سلمان -رضيَ اللهُ-تَعالَى-عنهُ- قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-: «البَركةُ في ثلاثة: في الجماعةِ، وفي الثَّريدِ، وفي السُّحُورِ» والثَّريد: هو الطَّعام الذي يكون فيه خبز أو أرز أو ما أشبه، ويوضع فيه اللَّبن ونحوه، هذا هو الثَّريد، وهو طعام بركة -كما أخبر النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-.

وأيضًا: ثبت عن بعض أصحاب رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-، ويَرويه عنهُ عبد الله بن الحارث عن هذا الصَّحابي، وهو مُبهم -أي: لم يُذكر اسمُه- قَالَ: دخلتُ على النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- وهو يتسحَّر، فقَالَ: «إنَّها بركةٌ أعطاكُمُ اللهُ إيَّاها؛ فلا تَدَعُوهُ» أي: لا تتركوه.

والسُّحور هو بَركة؛ لأنه فيه اتِّباع للسُّنَّة، ولا شكَّ ولا رَيْب أن اتِّباع السُّنة فيه أعظم بركة، وفيه أعظم خَير، وفيه أعظم تزكية للنفوس.

وفي حديث العرباض بن سارية وأبي الدرداء -رضيَ اللهُ عنهُما- أن النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- قَالَ: «هَلُمَّ إلى الغداءِ المبارَك» قَالَ الرَّاوي: (يعني السُّحور)، والحَديثِ مرويٌّ في «مُسنَد الإِمام أحمد» من حديث العرباض، ومَرويٌّ في «صحيح ابن حبان» من حديث أبي الدَّرداء -رضيَ اللهُ-تَعالَى-عنهُ-.

والنَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- يقول -كما روى أبو سعيدٍ الخُدرِي عنهُ-صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- قَالَ: «السَّحورُ أَكلةُ بَركة؛ فَلا تَدَعُوه ولَو أن يَجرَعَ أحدُكُمْ جَرعةً مِن ماء؛ فإن اللهَ وملائكتَه يُصلُّون على المُتسحِّرين».

أي أجرٍ أعظم! وأي فضلٍ أكبر وأكثر مِن أن تكون مِن الله -عزَّ وجلَّ- صلاة على المتسحِّرين؟!

الله -عزَّ وجلَّ- يُصلي على المتسحِّرين، والصَّلاة من الله -عزَّ وجلَّ- ثَناءٌ، كما ذكر الإِمام البخاري في «صحيحه» عن أبي العالية -رحمهُ الله-أحد أئمة التَّفسير الكِبار- قَالَ: (صلاةُ اللهِ على رسوله: ثناؤه عَليهِ عند المَلائِكة)؛ فالصَّلاة: هي الثناء، وأما صلاة المَلائِكة: فهي الدُّعَاء. مِن الله الصَّلاة: هي الثناء، ومن المَلائِكة: هي الدُّعَاء، في الوقت المبارَك، وقت الرَّحمَة، ووقت النُّزول الإلهي، ووقت الثَّناء الربَّاني على أناس يتسحَّرون. وفي الوقت -نفسِه- أناس يَعصون الله، أو تراهم نائمين غافلين! فلينظر العاقل فَرْق ما بين الصُّورتين، وفرق ما بين الأمرَين.

أما على ماذا يتسحَّر المؤمن:

له أن يتسحَّر على ما يريد مما أباح الله -عزَّ وجلَّ- له؛ لكن جاء عن النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- قولُه -كما في «سُنَن أبي داود» وغيره-: «نِعْمَ سَحورِ المؤمِنِ التَّمرُ»، ومن لم يجد تمرًا؛ فليتسحَّر على الماء، كما قَالَ النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-: «تَسحَّرُوا وَلو بِجَرعةِ ماءٍ».

في هذه الأحاديثِ فائدتان:

- الفائدة الأولى: بيانُ الأفضل فيما يُتسحَّر به.

- والفائدة الثَّانية: أنك لو لم تُرِدْ التسحُّر والطَّعام والشَّراب -كما يَفعلُ أكثر النَّاس-اليَوم-؛ فلا تُفوِّت السَّحور ولو بِجرعة ماء؛ أن تستيقظ بِنِيَّة طيبة مبارَكة، وأن تشربَ جَرعة ماء، أو أن تأكلَ ثلاثَ حبَّات من التَّمر حتى تُوافِق سُنَّة النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، والرَّسُول -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقول: «إنَّ اللهَ وِترٌ يُحبُّ الوِترَ» ؛ فهذا -لا شكَّ ولا رَيْب- فيه خير كَثِير وعظيم.
وكما ذكَرنا -في دَرسٍ مَضى- استحبابَ تَعجيل الفِطر؛ فها هُنا أوانُ ذِكر استحبابِ تَأخير السُّحور.

قَالَ أنس -رضيَ اللهُ-تَعالَى-عنهُ-: عن زيد بن ثابت أنه قَالَ: (تسحَّرنا مع النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- ثم قام إلى الصَّلاة، قلتُ: كم كان بين الأذان والسحور؟ قَالَ: قَدر خمسين آيةٍ) يعني: لا يتجاوز ربع ساعة، أو ثلث ساعة، وما أشبه ذلِك. وهذا الحَديثِ في «الصَّحيحَيْن» -في «البخاري» و«مسلم»-.

وعن ابن عبَّاس: أن النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- قَالَ: «إنَّا مَعشـر الأنبياءِ أُمِرنا بتَعجيلِ فِطرِنا، وتأخيرِ سُحورِنا، وأن نَضَعَ أيمانَنا على شمائِلِنا في الصَّلاة» رواهُ الإِمام ابنُ حِبَّان في «صحيحِه»، وصحَّحه الحافِظ ضياء الدِّين المقدِسي -رَحِمهُ اللهُ-.

بل قَالَ الحافِظ ابنُ حجر العَسقلاني في «فتحِ البارِي» ناقلًا عن الإِمام ابن عبدِ البَرِّ النَّمِري الأندلسي -رحمهُ اللهُ- قولَه، قَالَ: (أحاديثُ تعجيلِ الإفطارِ، وتأخير السُّحور؛ صِحاح مُتواتِرة) يعني: جاءَتْ مِن نصوص، ومِن روايات، ومِن طُرُق عدة متعدِّدة عن الصَّحابَة -رضيَ اللهُ-تَعالَى-عنهُم-أجمعيَّن-.
وروى الإِمام عبد الرزاق الصَّنعاني في «مُصنَّفه»: عن عمرو بن ميمون الأودي-وهو تابعي-بالسَّند الصَّحيح-قَالَ: (كان أصحاب النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- أسرعَ النَّاس إفطارًا، وأبطأهم سُحورًا)؛ يُعجِّلون بالفِطر، ويُؤخِّرون في السُّحور.

لكن هنا نقطة وهي مُهمَّة:

وهي أن لا يتهاون النَّاس في التَّعجيل؛ فإذا بهم يُفطِرون قبل الغُروب، وأن لا يَتهاونوا ويَتساهلوا في تأخير السُّحور؛ فإذا بهم قد يأكُلون، أو يَشرَبون والفَجر قد بَزَغ! كما أن هذا لا يَجوز؛ ذاك لا يَجوز، كما أن الفَضل في الاستعجال وفي التَّأخير؛ فإن هذا الفَضل مَنوطٌ ومُرتبِط بالوقت الشَّرعي.
وفي «معجم الطَّبراني الكَبير»: عن أم حَكيم: عن النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- قال: «عجِّلُوا بالإفطارِ»، وفي رواية: «بكِّرُوا بالإفطار، وأخِّرُوا السُّحورَ»؛ كل ذلِك في فَضائِل تأخير السُّحور.

هُنا نُنبِّه إلى أمر؛ وهو ما يتعلَّق بمسألة أذان الإِمسَاك:

كَثِير من النَّاس يظن أذان الإِمسَاك هو الأذان الشَّرعي؛ وبالتَّالي: يُمسكون قبل أذان الفَجر، وهذا غير صحيح! ينبغي أن يُقال: هذا هو الأذان الأول، ثم الأذان الثَّاني يكون موافقًا لطلوع الفَجر، كما قَالَ النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-: «إنَّ بلالًا يُؤذِّن بِلَيلٍ» وهو الأذان الأول -وهو الذي يُسمُّونه بغير حق (أذان إِمسَاك)- «فكُلُوا واشرَبُوا حتى يؤذِّنَ ابنُ أمِّ مَكتومٍ».

أما حُكمُه:

فالحقيقة أنه جاءَتْ نُصوص -كما ذكرنا-: «. . بَركة؛ فَلا تَدَعُوهُ»، «فصل ما بَين صِيامنا وصيام أهل الكِتابِ»، «مَن أرادَ أن يَتَسحَّر؛ فَلْيتسَحَّر بِشيءٍ». . أحاديث أخرى: «تَسحَّرُوا» فعل أمر «فإنَّ في السُّحورِ بَركة»؛ كل هذه النُّصوص تُشعِر أنَّ الأمر أكثر مِن أن يَكونَ سُنَّة، وأن الأمر قد يَصلُ إلى درجةِ الوُجوب، وهو ما أشار إليه التُّركماني في «الجوهر النَّقي»، وهو ما صرَّح به العلامةُ صدِّيق حسَن خان في «السِّراج الوهَّاج بمَطالب صَحِيح مُسلِم بن الحجَّاج».

ومع ذلِك: فقد نقل الحافِظُ ابنُ حجر إجماعَ الأمَّة على استحبابِه دون وُجوبه، وكلام هَذيْن العالميْن -اللَّذَين أشرتُ إليهما- صريحٌ، أو قريب -جدًّا- من القول بالوجوب، وهذا لا يُستبعَد -مع وُجود هذه الأدلة القويَّة الظاهرة المتينة-.

وعلى أقل الأحوال: المُسلِم يَحتاطُ بأن لا يَدعَ هذا الطَّعام في هذا الوقت المبارَك -كما أمر النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «تَسحَّرُوا»، وكما نهى: «فَلا تَدَعُوهُ».

وآخِرُ دَعوانا أنِ الحَمدُ للهِ ربِّ العالَمِين.

والسَّلامُ عَليكم ورَحمةُ اللهِ وبَركاتُه.

من هنا لسماع الحلقة العاشرة
رد مع اقتباس