عرض مشاركة واحدة
  #11  
قديم 08-07-2010, 12:44 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي


[الحادية عشرة]


إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالنَّا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إِلَه إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أما بعدُ:

فإنَّ أصدقَ الحَديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ --صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم--، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ، أما بعدُ:

فاللِّقاءُ مُتجدِّدٌ بالخيرِ والبركةِ -إن شاءَ اللهُ- في هذه الأيَّامِ الجليلةِ المُباركةِ، في هذه الأيَّام الخيِّرة والتي نتذاكَرُ فيها أحكامَ الكِتابِ والسُّنَّة الواردةَ في هذا الشهر العظيمِ؛ شهر رمضان، وما يتَّصلُ به مِن فِقهٍ للصِّيامِ والقِيامِ.
هنالك أشياءُ يُباحُ للصَّائمِ فِعلُها في نهارِ رَمضان؛ فقد يتصوَّرُها بعضُ النَّاس مَمنوعاتٍ، أو مُحرَّماتٍ؛ ولكنَّها -في الحقيقةِ- تجوزُ ويَصلحُ أن تُفعل.

وقبل أن نَذكرَ المُباحاتِ؛ لا بُدَّ أن نَذكرَ المحرَّماتِ، والمُحرَّمات نَقسِمُها قِسمَيْن:

القِسم الأوَّل: أفعالٌ لا تَجوزُ، ولكنَّها ليستْ مُفسدةً للصَّوم.

- وأفعال مُفسدةٌ للصَّوم؛ سنذكرُها فيما بعدُ -إن شاءَ اللهُ-تَعالى-.

أمَّا أوَّلُ شيءٍ نذكُرهُ في بابِ ما يجبُ على الصَّائمِ تَركُه ومُجانبتُه -وإنْ كان غيرَ مُفسِدٍ للصَّوم، ولا مُبطِلٍ له-؛ لكنَّه -لا شكَّ، ولا ريبَ- مُوقِعٌ لِلإثم، ومُوقعٌ للمَعصية -والعِياذُ باللهِ -تَباركَ وتَعالَى-.

فاللهُ -سُبحانَه وتَعالى- خاطبَ عبادَه قائلًا: {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

إذًا: مِن أعظمِ ثَمراتِ الصِّيام: التَّقْوى -تَقوَى اللهِ-تَباركَ وتَعالَى-، والتَّقوى -كما فسَّرها بعضُ أئمَّة العِلم-: (عملٌ بِطاعةِ الله، ابتِغاءَ مَرضاةِ الله، وطمَعًا بما عندَ الله، وهي -أيضًا- انتهاءٌ عمَّا نهى اللهُ ورسولُه عنه، ابتِغاءَ مَرضاةِ اللهِ -تَباركَ وتَعالَى-).

لذلك: قال النَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «الصِّيامُ جُنَّةٌ»؛ أي: وِقاية وسترٌ.

كيف يكون الصِّيامُ جُنَّةً ووقايةً و[سَترًا] ولِسانُكَ -أيُّها المسلمُ- تَقومُ فيه بِما يُخالفُ شَرعَ اللهِ -مِن سبٍّ، أو لَغْوٍ، أو رَفثٍ، أو قَولٍ بالباطلٍ، أو كذِبٍ، وغير ذلك-؛ لذلك قال النَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «رُبَّ صائمٍ ليس لهُ مِن صيامِه -أو حظُّه مِن صِيامِه- الجوعُ والعَطشُ»! أسهلُ شيءٍ أن تجوعَ وأن تَعطشَ؛ لكنَّ الصَّعبَ والعَسيرَ -مما ليس بالسَّهل ولا باليسير-: أن تُمسِك لسانَك.

وقد رأى عُمرُ بنُ الخطَّاب -رضيَ اللهُ عنه- يومًا- أبا بكر الصِّدِّيق مُمسِكًا بلسانِ نفسِه، وقال له عُمرُ: يا أبا بكرٍ! ماذا تَفعلُ؟ قال: (لقد أَوردَني -هذَا- الموارِدَ)؛ أي: أوقعني في المصائب! وهذا مَن القائل؟! أبو بكر الصِّدِّيق -رضِيَ اللهُ عنهُ- الذي لو عُدَّت رواياتُه في الأحاديث عن النَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-؛ لَعُدَّت وأُحصِيتْ، ولو عُدَّتْ كلماتُه وجُمَلُه التي نُقلتْ في الكُتب؛ لَعُدَّت وأُحصِيَتْ، ومع ذلك يقول: (لقد أَوردَني -هذَا- الموارِدَ)؟!!

فكيف الشَّأن -حفظكُم الله-جميعًا- فيمَن يَكثر كلامُه، ويكثر سقَطُه -نسأل الله العافية-.

لذلك: كان توجيه النَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- واضحًا جدًّا: «مَنْ كانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليومِ الآخرِ؛ فلْيَقُلْ خَيرًا، أو لِيَصمِتْ»؛ ليس أمامَك إلا طرِيقان: إمَّا أن تَقولَ بِالخيرِ -مِن علمٍ، أو تعليمٍ، أو نصيحةٍ، أو تواصٍ بالحقِّ وتَواصٍ بالصَّبرِ، مِن أمرٍ بمعروفِ ونهيٍ عن مُنكَر، أو الصَّمت، وليس بين هذَيْن إلا المباحُ مِن الكلام الذي ليس فيه عليكَ وِزرٌ، وقد لا يكونُ لكَ فيه أجرٌ.

فالنَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقولُ: «مَن لَم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بهِ؛ فلَيْس للهِ عزَّ وجلَّ حاجةٌ أنْ يَدَعَ طعامَهُ وشَرابَه».

الإمامُ ابنُ حزمٍ خالف جماهيرَ أهلِ العلم؛ فقال: (الذي يقولُ الزُّورَ، أو يعملُ به؛ فإنه فاسِدُ الصَّوم، وصِيامُه باطلٌ)؛ هذا -الحقيقة- فيه غُلُو، وإن كان -لا شكَّ، ولا ريبَ- أنَّ فاعِلَ ذلك قد انتقَصَ مِن صَومِه، وقد أثَّر فِعلُه ولَغْوُه وخَطلُ كلامِه وفسادُ قولِه على أجرِه؛ بحيثُ قد لا يكادُ يَبقى له منهُ شيءٌ -نسألُ الله العافيةَ-.

وفي «صحيحِ ابن خُزيمة»: عن أبي هريرةَ -رضيَ اللهُ-تَعالى-عنهُ- قال: قال رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «لَيسَ الصِّيامُ مِنَ الأكلِ والشُّربِ»؛ أي: ليس الصِّيامُ مِن الأكلِ والشُّرب -فقط-؛ «وإنَّما الصِّيامُ مِنَ اللَّغوِ والرَّفثِ»؛ اللَّغوُ: هو الكلامُ الذي لا فائدةَ منه، والرَّفَثُ: هو الكلامُ القَبيحُ! وللأسف: ما أكثر النَّاس الذين يقولون القَول القبيحَ!! بل في بعض البلادِ -وللأسف!-نعوذُ باللهِ مِن الخذلان! نعوذُ بالله من شرِّ الشيطان! نعوذُ بالله من فَساد الإيمان!-؛ في بعض البلادِ مَن يسُبُّ الدِّينَ والرَّبَّ والنَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في نهارِ رمضان!! وقد يكون بعضُهم -لِسَفهِه، وطَيْشِهِ، وسُوءِ نفسِه، وخُبثِ طويَّتهِ- قد يكونُ صائمًا!! أيُّ صيامٍ هذا -وقد تلبَّس بهذا القَولِ الشَّنيعِ، وبهذا اللَّفظ الفظيعِ-والعياذ بالله -تَباركَ وتَعالَى-؟!

لذلك: جاء هذا الحديث عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصحبه أجمعين-.

إذًا: الصِّيام جُنَّة، وهذه الجُنَّة هي الوقايةُ والصِّيانةُ، وهذه الوقاية والصِّيانةُ هي المُوصِلةُ لك إلى التَّقوى، وإلى أن تكونَ مِن المتَّقين، وهي مِن أعظمِ وأجلِّ مَراتبِ الصَّائمين.

أما ما يُباح فِعلهُ: فأمورٌ:

أمَّا الأمرُ الأوَّل: أن يُصبحَ جُنُبًا -مِن احتلام، أو مِن مُقارفةِ أهلٍ-، وهذا شيءٌ حصل مع النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.

فعن عائشةَ وأمِّ سلمة -رضِيَ اللهُ عنهُما-: «أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- كان يُدركهُ الفجرُ وهو جُنُبٌ مِن أهلِه، ثم يَغتسلُ ويَصومُ» -والحديثُ في «الصَّحيحَين»-.

لكنْ هنا نُنبِّه إلى شيءٍ: بعضُ النَّاسِ قد يسمَعُ هذا الكلامَ، ويتوهَّم أنه يجوزُ أن يطلعَ عليه الفجرُ، ثم أن لا يستقيظَ إلا -مثلًا- في الضُّحى، أو بعد طُلوعِ الشَّمس، أو في الظُّهر، وبعضُهم يزيد إلى العَصر! هذا لا يجوز؛ لماذا؟ الصِّيامُ قد يكونُ صحيحًا؛ لكنْ انتَبِه: لقد فوَّت فريضةَ صلاةِ الفجر، وتَفويتُ صلاةِ الفجرِ مِن أعظم الكبائر؛ كما قال النَّبيُّ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «لا تَترُكَنَّ صَلاةً مُتعمِّدًا وإن حُرِّقْتَ وإنْ صُلِّبْتَ؛ فإنَّه مَن تَركَ صَلاةً مُتعمِّدًا؛ فقد بَرِئتْ مِنهُ ذِمَّةُ الله»؛ فأيُّ خللٍ أعظمُ، وأيُّ فسادٍ أشدُّ، وأيُّ إثمٍ أكبرُ وأكثرُ في هذا التَّساهل؟!

قد يقول قائل: أنا فاتني النَّوم غَلَبني النُّعاس، مع أنَّني اتَّخذتُ الأسبابَ، ووضعتُ السَّاعة، لكنِّي لم أستيقظ؛ لأني مُرهق، لأني مُتعب؛ فلم أتعمَّد هذا النَّوم؛ فالنَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقول: «ليسَ التَّفريطُ في النَّوم إنَّما التَّفريطُ في اليَقظةِ».

أيضًا السِّواكُ بالنِّسبةِ للصَّائمِ: بعضُ الفقهاء يقولُ: السِّواك بعد الزَّوال -يعني: من الظُّهر فما فوق- مكروهٌ؛ لأن النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول: «لخلوفُ فَمِ الصَّائم أطيبُ عندَ اللهِ مِن رِيحِ المسكِ»، فيقولون: إذا تَسوَّك تذهبُ هذه الرَّائحةُ.

وهذا غلطٌ مِن جِهتَين:

الجِهةُ الأولى: أنَّ النَّبيَّ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «لولا أنْ أشُقَّ على أمَّتي لأمرتُهمْ بِالسِّواكِ عِند كلِّ وضوءٍ»؛ فلم يخصِّص -لا صائمًا ولا غيرَه-، ولم يُخصِّص -لا زوالًا ولا قبله-؛ إذًا: النَّص عامٌّ.

وأمَّا أن يُقال: بأن رائحةَ الصِّيام تذهب؛ فلْنقلْ: إذا ذهبتْ؛ فكانَ ماذا؟! فضلًا عن أنَّها -في الحقيقةِ- لن تذهَبَ؛ لأنَّ هذه الرَّائحةَ تَنبعثُ مِن المعدةِ ولا تنبعثُ مِن الفَم؛ وإلا: لو أردنا أن نأخذَ هذا الكلامَ على ظاهِرِه؛ نمنعُ النَّاسَ مِن أن يتمضمَضُوا في رمضان -حتى لا يذهبَ الخلوفُ-! هذا غيرُ صحيح.

وبلغني: أنَّ بعضَ النَّاسِ إذا أرادوا أن يتمَضْمَضُوا في رمضانَ بَلُّوا شيئًا من الماء في أيديهم ومَسحُوا على أفواههم!! هذا يُخشَى أن يكونَ وُضوؤُهُ باطلًا!

تتمضْمضُ وتَستَنشِقُ؛ لكنْ: كما قال النَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «بالِغْ في الاستِنشاق إلا أنْ تكونَ صائِمًا»؛ إذًا: أنتَ مأمورٌ بالاستِنشاق كما أنتَ مأمورٌ بالمضمضةِ لكنْ مِن غير مُبالغةٍ، المبالغة تكون في غيرِ الصِّيام.
.... [انقطاع!!] .... *

من هنا لسماع الحلقة الحادية عشرة
(جزى الله خيرًا من وفرها على الشبكة)




_________________
* ينظر تتمَّة الكلام حول (ما يُباح للصائم فعله): صفة صوم النبي في رمضان، (ص54-56)، من هنـا لتحميل الكتاب.

رد مع اقتباس