أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
86299 89305

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > المنبر الإسلامي العام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #31  
قديم 07-04-2017, 11:12 PM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي ما يجب على الناقد قبل النقد

ما يجب على الناقد قبل النقد
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية والعقدية)
الحلقة (28)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني
ليس كل من خالفك من إخوانك فيما ترجح لديك يكون قد أخطأ؛ بل ربما أصاب، وأنت من أخطأ؛ لأن الترجيح من الأمور النسبية، وربما أتي بشيء يحتمل الخطأ والصواب، أو بشيء يسع فيه الخلاف، وربما أنك اعتمدت على تخطئته بمجرد السماع دون التثبت، ونحوها من الأمور المحتملة.
ولذا يلزم الناقد معرفة توجيهين مهمين:
التوجيه الأول :
ما يجب قبل النقد، وهو معرفة أمرين:
الأول: معرفة وقوع الخطأ المراد إزالته من المتشبث به.
فإن الشخص إذا مَرِضَ مرضاً عضوياً اعتاد أن يذهب إلى الطبيب ليشخص له الداء، فإن عُرف الداء نظر أحسن الأدوية النافعة وأعطاها المريض، فعاد بإذن الله صحيحاً معافى، فكذلك من وقع في الخطأ أو المعصية في نظر الناصح فإنه يلزمه التيقن من وقع الخطأ قبل البدء في النصيحة، على أن يلتمس للمخطئ العلل والأسباب والمعاذير في وقوع ذلك منه، إذ لا يسلم أحد من الوقوع في الخطأ أو المعصية، وفي الحديث: «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» [أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة.].
فوجود العيوب والأخطاء أمر مفروغ من وجوده في بني آدم، ولكن يبقى معرفة صحة وقوعها من المتهم بالخطأ وكيفية علاجه.
الثاني: قيام الحجة في كونه خطأ أو معصية.
فإن بعض الوعَّاظ والنصحين يتعجلون في نقد غيرهم بمجرد صدور ما ظاهره الخطأ دون التأمل في صحة كونه خطأ، أو دون النظر في قيام الحجة الشرعية في ذلك، فتجد نقد بعضهم في غير موضعه؛ إما لكونه ليس خطأً شرعا، أو أن له مسوغاً شرعيًّا، أو كون ما تكلم به أو عمل به من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف، فينقد غيره أو يناصحه في أمر فيه سعة، ولا يعني هذا ترك النصيحة في الأمور المترجحة عند الناقد البصير؛ بل يجب النصح في ما يعتقد الناصح أنه يقربه إلى الله، ولكن بعلم وإلا سكت بحلم، ليترك المجال لغيره من أهل العلم.
ولذلك يجب على الناقد: أن يعلم الحجة الشرعية في أن ما صدر - ممن يحتاج إلى نصح - خطأ ينافي الشرع المطهر؛ بدليل أنه خالف أدلة الشرع، ثم إذا كان التعلق بمسألة علمية لم يحوِ أصلها وفرعها لزمه تحرير المسألة قبل النقد والنصيحة، مع النظر فيما يعاب فيه المخالف وما لا يعاب فيه مما لا يسع المقام بسطه.
وحاصل ذلك: أنه يلزم الناصح عرض ما ظاهره الخطأ على الكتاب والسنة؛ ففيهما الدواء لكل داء، وبهما يُعرف الحق من الباطل والصواب من الخطأ، فإن لم يجد نصاً واضحا في المسألة فليفتش في آثار الصحابة أو ليسأل أهل العلم؛ فإن الله عز وجل قال: " فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" [النحل:43]، وقد ثبت في الحديث: «فإنما شفاء العِي السؤال» [أخرجه أبو داود في سننه من حديث جابر]، ومعنى العِي: بكسر العين الجهل.
وللكلام بقية نستأنفه في حلقة قادمة حول : " ما يجب حال النقد والنصيحة" بإذن الله.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #32  
قديم 07-06-2017, 01:56 AM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي ما يجب عند النقد والنصيحة

ما يجب عند النقد والنصيحة
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية والعقدية)
الحلقة (29)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني
تكلمت في اللقاء السابق من هذه الدراسة عن التوجيه الأول، وهو " ما يجب على الناقد قبل النقد"، وفي هذا القاء سنتكلم عن التوجيه الثاني، وهو : " ما يجب عند النقد والنصيحة" فأقول، وبالله التوفيق :
إذا عرف الناصح الداء المراد إزالته من المتشبث به وقامت الحجة العلمية الشرعية في كونه داءً يخالف الشريعة، لزم البدء بالنصيحة، لكن يجب «على الداعية عند النصح أن يحسن إلى المنصوح، فيتلطف في بذلها غاية التلطف، ويحتمل أذى المنصوح ولئامته، ويعامله معاملة الطبيب المشفق على المريض المشبع مرضاً، وهو يحتمل سوء خلقه وشراسته ونفرته، ويتلطف في وصول الدواء إليه بكل ممكن، فذا شأن الناصح»([1] ).
وهذا يعني أن الناصح حال نصحه يحتاج إلى أمور :
الأول : حسن الطرح مع حسن الظن.
بحيث يختلي المسلم بأخيه ويحسن أسلوب الطرح وينبهه على العيب أو يرشده بما هو أولى وأجدر به شرعاً، بأسلوب مقبول سائغ التداول، حتى يتم المقصود الذي لأجله قام دافع النصح، فيحتال «على صرفه عما يهواه من القبيح بألطف حيلة وأجمل وسيلة"([2]) بالحجة والبرهان، ولا يباشره بخطئه بقوله: لقد أخطأت أو زلَّت قدمك في كذا وكذا، أو وقعت في باطل أو معصية أو يا عاصي، أو يا فاسق، أ, يا ضال ونحوها من الألفاظ الخشنة، ولكن يطرح ذلك ولو بذكر ما في المنصوح من وجوه الخير إذا رجحت له المصلحة، بحيث يجعل مقدمة للنصح حتى لا يفاجئ المنصوح بعيبه وزلته، فيقع فيما لا يحمد عقباه من ردة الفعل، فإن كان خطيباً أو واعظاً فله أن ينصح دون أن يعين فيقول مثلا: «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، أو يقولون كذا وكذا »كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ([3])، ويطرح المسألة طرحاً علمياً على ضوء أدلة الكتاب والسنة، فإذا كان الناصح من أصحاب الولاية أو القدْر العلي، فله أن يُعيِّن الشخص بعينه في المواضع التي يغلب فيها الظن المصلحة الراجحة فيذكر الأسماء بجرح مباشر ليردع المخطئ ويعيده إلى صوابه، بحسب معرفته بحال المنصوح ونفسيته ومشاعره وأحاسيسه ممن هم تحت يده كالأبناء والرعية، وكذا ممن يغلب عليه تقبل النصح القاسي كالأتباع..
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: «يا معاذ، أفتان أنت»([4]).
وقوله لأبي ذر : «إنك امرؤ فيك جاهلية»([5] ).
لذا ينبغي للناصح أن ينوع في الطرح العلمي مع النقد حسب المصلحة والمفسدة بحيث لا يُغلِّبُ جانباً على جانب، فإذا أظهر المنصوح التجاوب فاحمد الله واحمله على الظاهر وأحسن الظن به، ولا تقل: لعله خجل مني أو استحى، أو تظاهر لي بخلاف باطنه، فهذه ظنون لا يجوز للناصح أن يُغلِّبها؛ فقد تكون وساوس شيطانية، وعليه أن يحمل المنصوح على الظاهر وعلى أحسن المحامل.
وأخرج البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب أنه قال: «فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ ، وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ».
الثاني: التلطف في النصح.
وهو المقصود من قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل:125].
وفي الحديث: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه»([6])، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله»([7] )، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه»([8] )، وقد قيل: «العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل دليله، والعمل قيّمه، والرفق والده، واللين أخوه، والصبر أمير جنوده»([9]).
فعلى الناصح أن يتفطن لمثل هذا المقام، ففي مثل هذا المقام أدَّبَ الله نبيه موسى وهارون عليهما السالم لما أرسلهما إلى فرعون، فقال لهما: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) [طه:44]، رغم علم الله الأزلي أن فرعون لن يفيده نصح الناصحين ولا وعظ الواعظين، ولكن لمَّا كان المقام تربوياً أوجب الله على نفسه إرشاد عباده إلى مقوِّمات النصح، ومن ذلك التلطف حال النصيحة.
قال معلى بن أيوب: «بينما الرشيد هارون يطوف بالبيت إذ عرض له رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أكلمك بكلام فيه غلظة فاحتمله لي، فقال: لا ولا كرامة؛ قد بعث الله من هو خيرٌ منك إلى من هو شر مني فأمره أن يقول قوْلاً لَيِّنا»([10]).
قال ابن القيم رحمه الله: «فليس للقلب أنفع من معاملة الناس باللطف، فإن معاملة الناس بذلك: إما أجنبي فتكسب مودته ومحبته، وإما صاحب وحبيب فتستديم صحبته ومودته، وإما عدو ومبغض فتطفئ بلطفك جمرته وتستكفي شره»([11]).
ولنا في رسول الله عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة؛ فقد دخل أعرابي المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه ([12])، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزرموه ([13])، دعوه»، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن»، ثم أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنَّه ([14]) ([15]).
وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أهريقوا عليه سجلا من ماء أو دلوا من ماء»، ثم قال: «إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين»([16]).
وهذا الصنيع من رسول الله عليه الصلاة والسلام يرشدنا إلى أنه يجب علينا أن نتعامل مع الآخرين كل حسب طينته وبيئته وطبعه ومشاعره وميوله ورغباته في حدود الشرع، وهذا ما يؤكده بقوله: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تنكر منها اختلف»([17] ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب»([18]).
وقد روى البخاري تعليقاً عن علي بن أبي طالب أنه قال: «حَدِّثُوا النَّاسَ بما يَعْرفونَ؛ أتُحِبُّونَ أنْ يُكذَّب الله ورَسولَه»([19]).
وتأملوا معي قول رسول الله عليه الصلاة والسلام يوم الفتح وهو يقول: «من دخل دارَ أبي سفيانَ فهو آمِنٌ، ومن ألقى السلاح فهو آمِن، من أغلق بابه فهو آمين»([20]).
والسؤال: ما هي الميزة التي تميز بها أبو سفيان على غيره من الصحابة حتى يخصصه رسول الله عليه الصلاة والسلام بهذا التخصيص وهو من مسلمة الفتح رضي الله عنه، وهناك من هو أولى بهذا الفضل والميزة؟
فالجواب: أن العباس قال: «يا رسول الله؛ إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فجعل له شيئا»([21]) فقال مقالته السابقة.
فأنزلوا الناس منازلهم، ونوِّعوا في أسلوب النصح والنقد حسب طبائع وميول وبيئات المجتمع.
ومن كان ذا مال ليبذل منه ما استطاع لتأليف الناس؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يتألف الناس من مال الغنائم والفيء، ويعطي أناسا دون ناس، ويدفع بالتي هي أحسن، ويصبر على أذى المنافقين ومن في قلبه مرض ويقول: «يسروا ولا تعسِّروا وبشروا ولا تنفروا»([22] )، ويقول: «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه»([23])، يعني الصحبة الظاهرة بين المؤمن والمنافق بسبب الجوار ونحوه.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: «إن علينا أن نستعمل في دعوتنا إلى الله عزو جل الرفق واللين ما أمكن ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»[أخرجه مسلم]([24])، وقد امتن الله سبحانه وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم حيث جعله لينا لعباد الله، فقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].
وقس أنت الناس بنفسك، لو أن رجلاً خاطبك في أمر من الأمور بعنف، لرأيت من نفسك ما يدعوك إلى أن تعامله بمثل ما تصرف به معك، ولألقى الشيطان في قلبك أن هذا الرجل لا يريد النصح وإنما يريد الانتقاد، والإنسان إذا شعر بأن من خاطبه يريد الانتقاد فإنه لن ينصاع إلى توجيهه، ولا دعوته، لكن إذا جاء وتكلم مع الشخص بالرفق واللين وقال له: إن هذا أمر لا يصلح، ثم إذا سدَّ عليه الباب الحرام، فتح بابا آخر حلالاً، حتى ييسر عليه، لحصل بذلك على خير كثير»([25]).
الثالث: الصبر على الأذى.
وهو أرفع المقامات التي يجيب على الدعاة فعله، وبه يتبين قوة إيمان الداعية من ضعفه؛ لأنه صبر على أذى غيره، وعفا عن لئامته وأذاه وظلمه بقصد هدايته، إذ هو مقام الأنبياء والمرسلين الذين ظُلِموا و «ابتلوا به من دعوة الناس ومعالجتهم وتغيير ما كانوا عليه من العادات»([26])، ولا شك أن «العفو عن الظلم أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة، يبلغ الرجل بها ما لا يبلغه بالصيام والقيام، قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران:134].
وقال تعال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّـهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[الشورى:40].
وقال تعالى : (إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا)[النساء:149].
وقال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ) [النحل126]»([27]).
قال الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد: «الصبر من معالم العظمة المحمودة، وشارات الكمال العالي، ودلائل التحكم في النفس وهواها، وهو عنصر من عناصر الرجولة الناضجة.
فأثقال الحياة وأعباؤها لا يطيقها الضعاف المهازيل، والحياة لا ينهض بأعبائها ورسالتها إلا الأكفاء الصبَّارون، وقد استحقت فئة من بني إسرائيل الإمامة والريادة بصبرهم وحسن بلائهم: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)[السجدة24]»([28]).
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الصبر على الأذى، ومن ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد من أحد؟، قال: «لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد علي ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ([29]) فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلَّم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت إن شئت أن طبق عليهم الأخشبين ([30])؟» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا»([31]).
الرابع: أن نصيحة السر أزين وأوقع، ونصيحة الجهر أهتك وأعير.
وقد «كان السلف يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه ويحبون أن يكون سراً فيما بين الآمر والمأمور، فإن هذا من علامات النصح، فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها»([32]).
قال الشافعي رحمه الله: «من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظ أخاه علانية فقد فضحه وشانه»([33]).
تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي وجنِّبني النصيحة َ في الجماعهْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ من التوبيخِ لا أرضى استماعه
فإنْ خَالَفْتنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي ([34]) فَلاَ تَجْزَعْ إذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَه
قال بعضهم: «من وعظا أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبَّخه»([35] ).
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: «المؤمن يستر ويعظ وينصح، والفاجر يهتك ويعيِّر ويفشي»([36]).
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر فقال: «إن كنت فاعلاً ولا بد ففيما بينك وبينه»([37]).
لماذا؟
الجواب: لأن النفوس مجبولة على حب الصفاء، ولا ترغب في العيب والنقائص، وخصوصاً أن يُشْهرها الناس على الملأ بقصد النصيحة؛ لأنها صارت في حق المنصوح حينئذ فضيحة مشهورة يتناقلها القاصي والداني، وقد «قيل لمسعر: أتحب من يخبرك بعيوبك؟ فقال: «إن نصحني فيما بيني وبينه فنعم، وإن قَرَعني بين الملأ فلا»([38])، «وقد صدق؛ فإن النصح على الملأ فضيحة، والله تعالى يعاتب المؤمن يوم القيامة تحت كنفه في ظل ستره، فيوقفه على ذنوبه سراً، وقد يدفع كتاب عمله مختوماً إلى الملائكة الذين يحفون به إلى الجنة، فإذا قاربوا باب الجنة أعطوه الكتاب مختوما ليقرأه، وأما أهل المقت فينادون على رؤوس الأشهاد، وتستنطق جوارحهم بفضائحهم، فيزدادون بذلك خزياً وافتضاحاً ([39])، وقد أحسن من قال:
لَا تَلْتَمِسْ مِنْ مَسَاوِي النَّاسِ مَا سَتَرُوا فَيَكْشِفَ اللَّهُ سِتْرًا مِنْ مَسَاوِيكَا
وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إذَا ذُكِرُوا وَلَا تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَا
أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن أبي بكر الصديق أنه قال: «لو أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلا ثوبي لأحببت أن أستره عليه»([40]).
الخامس: أن يحذر الناقد عالماً كان أو طالب علم من تشجيع الناشئة على التشهير بمثالب وزلات العلماء والدعاة.
وذلك أن هؤلاء الناشئة يغلب عليهم الجهل أو التكثر أو حب الظهور، أو أنهم أداة مسيَّرة بأياد خفية، أو أنهم لم يرتضوا طريقة علماء أهل السنة والأثر – لضعف إيمانهم، وقلة بصائرهم، أو لكونهم ارتضوا فكرة استأنست بها نفوسهم، وشغفت بها قلوبهم، فاعتقدوا صحتها؛ لكونها صادفت ذهنا خاليا، وقلبا صافيا فعَلِقَتْ به حتى حملهم واقعهم على رد ما خالف هواهم كما قال القديم:
عرفتُ هواها قبلَ أن أعرفَ الهوى فصادف قلبًا خاليًا فتمكَّنا
قال الشيخ صالح بن محمد السحيمي: « وأحب من طلاب العلم أن ينتبهوا إلى من قد يندس بينهم من أدعياء العلم، وأدعياء الحق، وهم مندسون في صفوف طلاب العلم، ولا أدل على ذلك من نقلهم الأخبار على عواهنها، دون تمييز، ودون تحقيق، ودون رجوع إلى طلاب العلم أو إلى العلماء في فهم النصوص الشرعية؛ بل هو نفسه يبني ويحكم ما يريد؛ لأنه يزعم أنه وصل إلى ما لم يصل إليه غيره، وأنه هو عالم دهره، ووحيد عصره»([41]).
ومتى استحكم صغار القوم بألفاظهم القبيحة على كبارهم من أهل العلم والفضل وسعوا في تضليلهم وتحذير الناس منهم ونقل الأخبار الكاذبة، وجعلوا أنفسهم في مراتب العلماء في فهم النصوص وقضايا الأمة، ظهرت المفاسد وعمَّت البلوى التي يجمهر شررها في أوساط أبناء الأمة الإسلامية، وحينها يُطعن في الشهود أئمة الدين، ليكون سُبْلَة للطعن في الدين، وهذه طريقة المبتدعة وأهل الأهواء؛ لتتأخر الأمة الإسلامية ردحاً من الزمن عن تحقيق وحدة صفها، ونصرة دينها الإسلامي الحنيف، ولإبعاد المسلمين عن علمائهم حفظة الشريعة.

والأصل: متى تبين للأمة الإسلامية الرجل العالم العامل الذي ينصر مذهب السلف ويَذُبُّ عنه ويحارب أهل البدع والأهواء لزم عامة الناس ألا ينتقصوه لزلةٍ زلها أو غلط وقع فيه أو قوله تأوَّله، طالما ظاهره الحق والمدافعة عنه.
قال ابن القيم رحمه الله : «من قواعد الشرع والحكمة أيضا أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيرها؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه لا يحمل أدنى خبث»([42]).
وقد أحسن من قال:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
ويستثنى من ذلك أننا لا نوافق من وقع في زلة أو خطأ أو بدعة مهما بلغ علمه، حتى وإن كان من أجل علمائنا، إلا أننا نناصحه بالحسنى على علم وبحلم، ملتزمين الأدب، معترفين بالتقصير أمام من علا فضله وشرف قدره.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.

مصادر وحواشي المقال :
([1]) ابن القيم، كتاب الروح (ص257).
([2]) السيد أحمد الهاشمي، جواهر الأدب (ص13).
([3]) كما صح في السنة.
([4] ) أخرجه البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه.
([5] ) أي خصلة جاهلية، والحديث أخرجه البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه.
([6] ) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عائشة.
([7] ) أخرجه البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه..
([8] ) أخرجه مسلم في صحيحه [ كتاب البر والصلة والآداب ، باب فضل الرفق (4/2003 رقم 2593)] من حديث عائشة.
([9] ) بنحوه في: نوادر الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لمحمد بن علي بن الحسن أبو عبد الله الحكيم الترمذي (3/186).
([10] ) الدينوري، المجالسة وجواهر العلم (3/364).
([11] ) ابن القيم، مدارج السالكين( 2/511).
([12] ) بمعنى اكفف عن هذا الفعل.
([13] ) لا تقطعوا عليه بوله.
([14] ) أي صبه.
([15] ) أخرجه البخاري في صحيحه [ كتاب الأدب ، باب الرفق في الأمر كله (5/2242 رقم 5679)، ومسلم في صحيحه، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها (1/236 رقم 285)].
([16] ) أخرجه الترمذي في سننه [ أبواب الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض (1/275 رقم 147)]، وسكت عنه، وأصله في الصحيح.
([17] ) أخرجه أحمد في مسنده (16/560 حديث رقم 10956). وأصله في الصحيحين، ولفظ مسلم بنحو حديث الباب.
([18] ) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة [ باب في القدر(2/634 حديث رقم 4693)، وفي سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة (5/204 حديث رقم 2955)].
([19] ) صحيح البخاري [كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا (1/132 حديث رقم 127)]. وهذا أثر ضعيف، لكن ثبت ما أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه(1/11) عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا، قال: « ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».
([20] )أخرجه أحمد في مسنده (13/299 حديث رقم 7922)، وأصله في مسلم.
([21] ) أخرجه أبو داود في سننه [ كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب ما جاء في خبر مكة(3/162 حديث رقم 3021)].
([22] ) متفق عليه.
([23] )النووي، شرح صحيح مسلم (15/108). وحديث: «لا يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه» متفق عليه من حديث جابر.
([24] ) أخرجه مسلم في صحيحه [كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الرفق (4/2003 رقم 2593)].
([25] ) ابن عثيمين، الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات (ص 53،54).
([26] ) ابن تيمية، الصارم المسلول على شاتم الرسول (2/436).
([27] ) المصدر السابق (2/435).
([28] ) صالح بن عبد الله بن حميد، القدوة مبادئ ونماذج (ص 12-13).
([29] )قرن الثعالب: هو قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد، وهو على مرحلتين من مكة، وأصل القرن كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير. [ انظر المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي (12/155)].
([30] ) هما بفتح الهمزة وبالخاء والشين المعجمتين، وهما جبلا مكة أبو قبيس والجبل الذي يقابله. [ انظر المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي (12/155)].
([31] ) أخرجه البخاري في صحيحه [ كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه (3/1180 رقم 3059)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين (3/1420 رقم 1795)].
([32] ) ابن رجب، الفرق بين النصيحة والتعيير (ص28).
([33] ) الغزالي، إحياء علوم الدين (2/182).
([34] ) وفي لفظ: " فعصيت أمري".
([35] ) ابن الجوزي، صفة الصفوة، (4/273)، وأبو نعيم، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (9/140)، وروي بنحوه عن أم الدرداء كما رواه البيهقي في شعب الإيمان (6/112)، وعن عمر بن عبد العزيز كما في كتاب القناعة والتعفف لابن أبي الدنيا (ص64).
([36] ) أبو نعيم، حيلة الأولياء (8/95).
([37] ) ابن رجب، العلوم والحكم (ص83).
([38] ) الغزالي، إحياء علوم الدين (2/182).
([39] ) المصدر السابق (2/182).
([40] ) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (10/227 رقم 18931).
([41] ) صالح السحيمي، محاضرة مسجلة بعنوان: «تفسير قوله تعالى: (ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بهِ علم)[الإسراء:36]».
([42] ) ابن القيم، مفتاح دار السعادة (1/176).
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #33  
قديم 07-08-2017, 08:41 AM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي صفات العالم الرباني المؤثر

صفات العالم الرباني المؤثر
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية والعقدية)
الحلقة (30)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني
يجب على العاملين في الحقل الدعوي أن يدركوا صفات معلم الناس الخير لكي يتصفوا بها؛ وهي كثيرة، ويتلخص أهمها في الآتي :
الصفة الأولى: الإخلاص.
وهو المقصود من قوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) [البينة:5].
فـ «ما كان لله بقي واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل» كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله.
الصفة الثانية: العلم والعمل به.
قال الله تعالى: (قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ ۚ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف:108].
قال ابن سيرين: «إن قوما تركوا العلم واتخذوا محاريب، فصلّوا وصاموا بغير علم، والله ما عمل أحد بغير علم إلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح»([1]).
ويُحكى عن لقمان أنه قال: جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بماء السماء ([2]).
فلا يحل لداعية أو عالم أن يحمل الناس على مذهبه وقوله ورأيه، وإنما يحملهم على العلم القائم على الكتاب والسنة، فإن حمَلَهم على مذهبه ورأيه فإنه لم يعمل بالعلم، وهذا باب غفل عنه كثير من المتعلمين.
الصفة الثالثة: الخوف والورع.
الخوف والورع صفتان متلازمتان، يجب وجودهما معا في كل داعية، وهما من شروط علم الجرح والتعديل في العالم المجرح؛ حيث يلزمه قبل أن ينقد غيره أو يجرحه أن يكون ورعاً حال نقده، فقد تورع علماء عن تجريح آخرين ممن يستحق الجرح، وتركوه لمن يرونه أعلم وأورع منهم، خوفاً من الظلم، وتورعاً من الزلة، لأن الحكم على الآخرين باب عظيم من أبواب الفتيا والقضاء اللذين كان السلف يتورعون عنهما.
ولذلك فالجرح: يحتاج إلى ورع تام وبراءة من الهوى وحب الظهور والانتقام والتشفي.
وقد اشترط العلماء في الرجل العالم الذي له حق التجريح أربعة شروط:
الأول: أن يكون الرجل ثقة في نفسه غير مجروح العدالة، فإن كان مجروحاً فلا يعتدُّ بقوله.
والثاني: أن يكون عالماً تقياً ورعاً، فلا يجرح لهوى أو حسد أو غرض دنيوي.
والثالث: أن يكون عارفاً بأسباب ودواعي التجريح.
والرابع : ألا يُعرف بالتعصب المذهبي.
فإذا اتفقت هذه الشروط كلها في الشخص حُقَّ له أن يكون مجرحا إن تصدر هذا الفن وشهد له العلماء بذلك، لأن مثله سوف يتصف بالعدالة والأمانة، وأما غيره فلا يحل له أن يخوض في مسالك كهذه؛ بل يترك ذلك لأهل الشأن والبصيرة؛ فهم أعرف بحال ومصلحة الأمة، وأن ينكبَّ على طلب العلم على أيدي علماء موثوقين، فإن أوقاتا عديدة تضيع على شباب الإسلام في الخوض فيما لا يعنيهم وفيما لم يُكلفوا به شرعا.
الصفة الرابعة: الحلم والأناة.
وهاتان صفتان مطلوبتان في العلماء والدعاة وطلاب العلم، فإن المتعجِّل في الأمور لا يحسن توجيه غيره.
قال الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد: «ومن يرزق الحلم ترقى في درجاته، فيصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه. ويخطئ من يظن أن الحلم عجز، وأن العفو ضعف، وأن الإعراض عن الجهل خوف وخور، ولا يقول ذلك إلا من تأخذه العزة بالإثم، وهو خلق ذميم، يتنافى مع الحلم كما ترى»([3]).
وفي صحيح مسلم يقول النبي – عليه الصلاة والسلام – لأشج عبد القيس «إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة»([4]).
فالحلم والأناة صفتا العقلاء الذين يمعنون في الأمور قبل الخوض فيها.
قال الشافعي: «استخرت الله في الرد على مالك سنة »([5]).
تأنَّ ولا تعجل بلومك صاحباً لعل له عذرًا وأنت تلومُ
الصفة الخامسة : الإنصاف.
الإنصاف في زماننا عزيز؛ لأن الأنفس أحضرت الشح عند النقد والخصام، وقلَّ من ينصف في الأمور.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّـهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [ النساء: 135].
فعلى الداعية أن ينصف غيره إذا نقده، فلا يبالغ في النقد وتحجيم القضايا؛ بل بلزمه التوسط والاعتدال في الأمور كلها مع مراقبة الله عز وجل في كل شئ يقوله، لأنه غداً موقوف بين يدي الله وسائله عن كل شئ قاله.
وقد ضرب النبي عليه الصلاة والسلام أروع الأمثلة في الإنصاف :
ومن ذلك إنصافه صلى الله عليه وسلم واعتذاره لحاطب بن أبي بلتعة الذي «كتب إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها جعلا على أن تُبلِّغه قريشا»([6]).
فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فرد عليه بقوله: «إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»([7])، وقد جاء أن النبي صلى الله علي وسلم سأل حاطباً ليتبين هل له من عذر أو دافع يخرجه من مأزق ما ظاهره الموالاة للأعداء التي قد يظنها البعض، وهذا من إنصافه عليه الصلاة والسلام، فقال له: «يا حاطب، ما هذا؟ » قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله، إني كنت امرأً ملصقاً في قريش، وكان ممن معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد صدقكم»([8]).
الصفة السادسة: حسن الخلق. وهي «صفة سيد المرسلين وأفضل أعمال الصدّيقين وهو على التحقيق شطر الدين وثمرة مجاهدة المتقين ورياضة المتعبدين»([9]).
وبها تميز أهل السنة حتى سطروها في كتب العقائد كما فعل ابن تيمية في «العقيدة الواسطية».
وقد أحسن من قال:
أحب مكارم الأخلاق جهدي وأكره أنْ أَعيبَ وأنْ أُعابا
وأصفحُ عن سبابِ الناسِ حلماً وشرُّ الناسِ مَن يهوى السبابا
ومن هاب الرجال تهيبوه ومن حقر الرجال فلن يهابا
فلن ينجح الداعية في نقده ودعوته إلا بإقامة الأخلاق الفاضلة ونشرها بين المجتمعات الإسلامية، لأنها من متممات الدين ومحاسنه التي شرعها الله وحثَّ عليها في كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
لذا يقول صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثثُ لأتمم مكارم الأخلاق»([10] ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسطُ الوجه وحسن الخلق»([11] ).
وقد أحسن من قال:
كل الأمور تزول عنك وتنقضي إلا الثـــــناء فإنــــــــه لك باقِ
لو أنني خيرت كل فضـــــيلــــةٍ ما اخترت غير مكارم الأخلاقِ
الصفة السابعة: الحكمة.
وهي الإصابة في القول والفعل، أو هي وضع الشيء في موضعه، (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [ البقرة: 269].
وقد اتصف بها العلماء الربانيون، وغابت عن بعض الدعاة اليوم ممن لا يعرف إلا لغة العنف والقسوة على المخالف.
لذا يجب على العلماء والدعاة إلى الله أن يَعُوا حقيقة الحكمة ومفهومها وكيفية مخاطبة المجتمعات على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم، وأن يزنوا كلماتهم بميزان الحاجة الشرعية، وأن تكون التوجيهات والنصائح حسب مقتضى الحكمة.
فإن من أهم مقتضاها في هذا الباب: أن يعوا أن الكلمة التي تصدر منهم قد تبلغ مشارق الأرض ومغاربها في دقائق معدودة نظرا لتنوع وكثرة وسائل الاتصال في العصر الحديث، مما يقتضي التروي والتثبت قبل النقد حتى لا تصد بعض كلماتهم الناس عن الخير، وقد ثبت في الحديث: «إياك وما يُعتذر منه»([12] ).
فقد يكون الداعية المجروح – ظلما - : قائماً بدعوة الاسلام في غالب أمره في بلاد الكفر أو البلدان التي انتشرت فيها البدع والضلالات والكفر وأهل السنة فيها قليل فيؤدي هذا النقد غير العدل إلى صرف الناس عن الانتفاع منه، وربما أدى ذلك لإقبالهم على أهل البدع والضلال، وقد حصل مثل ذلك كثير، وهذا إفساد عريض وصد عن سبيل الله، وحنانيك بعض الشر أهون من بعض.
وقد قيل: من عُرف بالحكمة لاحظته العيون بالوقار.
الصفة الثامنة : الحذر من التزلف للسلطان أو الانتماء الحزبي.
وهذان مرضان يخلان في كون الداعية ربانياً مؤثراً لأن المتزلف للسلطان سيبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ولأن الحزبي في الجماعة الحركية سيبرر أخطاء الجماعة على حساب الدين، وهذا ما نئن منه اليوم.
وقد كان سلفنا الصالح يحذرون من إتيان أبواب السلاطين إلا في مواطن لا بد منها: كالإنكار عليه بالحكمة، أو توجيهه، أو مشاورته في قضايا مصيرية، ونحوها من الأمور التي تهم البلاد والعباد، يقوم بذلك العلماء الورعون «أهل الحل والعقد».
قال الفضيل: «شر العلماء من يجالس الأمراء، وخير الأمراء من يجالس العلماء»([13] ).
فعليكم بمجالسة العلماء بعيداً عن أبواب السلاطين ومقرات القيادات الحزبية الحركية حفاظاً على دينكم واجتماع كلمتكم على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
هذه أهم الصفات التي لا بد من توفرها في الداعية الرباني المؤثر.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم، وللكلام بقية أستأنفه في لقاء قادم بإذن الله.

([1]) ابن رجب، لطائف المعارف (ص117).
([2]) الأبشيهي، كتاب المستطرف في كل فن مستطرف (1/50).
([3]) صالح بن عبد الله بن حميد، مفهوم الحكمة في الدعوة (ص11).
([4]) أخرجه مسلم في صحيحه.
([5]) ابن حجر، توالي التأسيس لمعالي محمد بن إدريس (ص147)، قال البيهقي. كما في توالي التأسيس ص 147 -: «إن الشافعي إنما وضع الكتب على مالك (أي الرد على مالك) لأنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يُستسقى بها. وكان يقال لهم : «قال رسول الله». فيقولون: «قال مالك». فقال الشافعي : «إن مالك بَشرٌ يخطئ»، فدعاه ذلك إلى تصنيف الكتاب في اختلافه معه».
([6]) ابن القيم، زاد المعاد في هدي خير العباد (3/398).
([7]) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث علي.
([8]) هو جزء من الحديث السابق.
([9]) الغزالي، إحياء علوم الدين (3/49).
([10] ) أخرجه أحمد في مسنده [ مسند أبي هريرة (2/381 رقم 8939)]، والحديث صحيح.
([11] ) أخرجه أبو يعلى في مسنده [ مسند أبي هريرة، حديث شهر بن حوشب عن أبي هريرة (11/428 رقم 6550]، والحديث حسن لغيره إن شاء الله.
([12] ) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، جد إسماعيل الأنصاري ( 4/94 حديث رقم 2249 )، كما أخرجه غيره، وقد حسَّنه ان حجر والألباني وغيرهما.
([13] ) الأبشيهي، كتاب المستطرف في كل فن مستطرف (1/50).
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #34  
قديم 07-11-2017, 07:23 AM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي مسألتان مهمتان تتعلقان بالعلماء وواجب الأمة نحوهم

مسألتان مهمتان تتعلقان بالعلماء وواجب الأمة نحوهم
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية والعقدية)
الحلقة (31)
بقى لنا هنالك مسألتان مهمتان تجاوزهما البعض بسبب خلافات وفتن العصر، ومردُّها سوء الظن والأفهام الرديئة والبعد عن تطبيق منهج الشرع في المخالفين، ويجدر بنا أن نشير إليهما :
الأولى : ظن بعضهم أن كبار العلماء لا يفقهون الواقع، ولا يدركون ما يدور حولهم، وأنهم علماء سلطة رجماً بالغيب بسبب الأحداث المتكررة أو مجرد علماء أحكام فقهية فرعية لا يدركون السياسات ومصالح العباد، وأن علمهم لا يؤهلهم لمعالجة قضايا الأمة.
وهذه تهمة الضعفاء ممن غابت بصيرتهم وتاهت سريرتهم، حتى اتهموا علماءهم أولي المناقب المأثورة والفضائل المذكورة بتهم سبقهم إلى مثلها الأعاجم أبناء فارس والروم في أحبارهم ورُهبانهم، حتى أهملوا شأنهم وقدرهم، من ثَمَّ لم يعبأوا بتدينهم وما هم عليه، فطعنوا في الشهود ليتوصلوا به إلى الطعن في الدين، فإنها بذرة متهور ليوقع الأمة في التيه والانحراف.
وبعضهم يشغل نفسه بخلاف العلماء وردود بعضهم على بعض ليتخذ من ذلك سبيلاً للوقيعة فيهم، أو في من يخالف من مالت نفسه إليه تعصباً، وقد يسعى لنشر مثل هذه الردود في أوساط صغار الطلاب أو العوام بقصدٍ أو بغير قصد، وهذا من الإفساد في الأرض وإن شجعه بعض من ينتسب للعلم؛ إذ لا يسلم حتى المعلم من الهوى وحب الذات والظهور إلا من سلمه الله.
قال التاج السبكي: «ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض إلا إذا أُتي ببرهان واضح، ثم إنْ قدرت على التأويل وحسن الظن فدونك وإلا فاضرب صفحاً عما جرى بينهم»([1]).
ثم هؤلاء أصناف؛ فمنهم المتعمد الجاهل، ومنهم صاحب النية الحسنة ممن خانته بصيرته، ومنهم المنحرف، ومنهم المتحزب، ومنهم الضال المبتدع، ومنهم المتعصب والعنصري، ومنهم المغفل، ومنهم غير ذلك طرائق قدداً، إلا أن هذا النوع وإن تعددت أصنافه واقع في سوء الظن أو الظلم لا محالة، وأفعالهم هذه مذمومة لا تبلغ بهم شرفاً ولا تأويهم منزلاً، فكم ضلالات اندثرت ومعالم انطمست، قام أصحابها على فُحش من القول وسوءٍ من الظن، وما هي إلا أيام حتى تبدَّدت تلكم الغشاوة وذلكم السراب.
وهكذا ينتهي غبار المتهورين، ولن يبقى إلا نور المتنورين أعلام الهدى ومصابيح الدجى ومن سار سيرهم وحذا حذوهم.
الناس شتى إذا ما أنت ذقتُهمُ لا يستوون كما لا يستوي الشجرُ
هذا له ثمرٌ حـــلوٌ مـــذاقتُـــهُ وذاك ليس لــــه طعــــمٌ ولا ثمــــرُ
الثانية : ظن بعض الأقوام أن المخالف له حلال العرض؛ فوقع من لا خلاق له في أعراض العلماء وطلبة العلم وعامة الناس، دون تعقل أو روية؛ بل دون مراقبة الحي القيوم العليم بكل شيء: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء:218،219].
والأصل في الأعراض التحريم اتفاقاً، إلا أن ضعفاء الإيمان ممن لم يدركوا حقوق الأخوة الإيمانية وقعوا فيما ما هو محرم شرعاً، ظنا منهم أن ذاك يقربهم إلى الله. ولكن هيهات هيهات، فما ظنوه سوءٌ محض لا يقربهم إلى الله زُلفى، إلا أن الشيطان يزين للخلائق وضعفاء البصائر المنكرات بأجمل الحلل وأزين البهارج، ولكن أنَّى لأمثال هذا الصنف من زلفى؟!
سارت مشرِّقة وسِرتُ مُغرِّبا شتَّان بين مشرِّقٍ ومُغرِّبِ
إنما الجائز – بل الواجب – ما كان تحديراً من البدعة والمبتدع المعاند البيِّن بدعته والضال البين ضلاله مما هو مخالف ما عليه أصول أهل السنة والجماعة؛ حتى لا يضر المجتمعات الإسلامية ببدعته وضلاله مع حفظ حرمته الشرعية.
قال الفضيل بن عياض: «والله ما يحل لك أن تؤذي كلباً ولا خنزيراً بغير حق، فكيف تؤذي مسلما؟!»([2])، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه»([3] ).
وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»([4] ).
ويُروى عن أبي هريرة أنه قال: «يُبصِرُ أحدُكم القَذَاةَ في عين أخيه، وينسى الجِذْعَ، أو الجِذْلَ، في عينه»([5] ).
قال ابن القيم: «وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم – ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول!!»([6] ).
فلا فلاح للمجتمعات بمختلف طبقاتها ما انتشرت في أوساطها الظنون السيئة والاختلافات المبنية على الهوى؛ بل لن تبلغ ذرة الإخاء والإيمان حتى تحقق فرائض الأعمال وفضائلها، وتحذر من سفسافها بمحض إرادتها وعقد عزيمتها تقربا لله وحده دونما سواه ([7] ).
فحنانيك أخي الكريم بالأمة وأفراد المجتمع؛ فصلاحُهم بالكلمة الطيبة وطلاقة الوجه والرحمة والتسامح وخفض الجناح ولين الخطاب، لا بالقسوة وعباسة الوجه والترفع وقسوة الخطاب.
فليس هناك معصوم من الأخطاء غير الأنبياء:
من ذا الذي ما ساء قطْ ومن له الحسنى فقطْ
فلينُوا مع الصغير والكبير، ولا تكونوا جبابرةً يَغلبُ جهلُكم حلمَكم.
وصلوا من قطعكم، وأعطوا من حرمكم، واحلموا عمَّن جهل عليكم، وابتغوا الشرف والسؤدد والرفعة من الله وحده، واحفظوا حق علمائكم، ولتكن صدوركم دولة واسعة لقبول النقد، وتقديمه لمجتمعكم في أحسن لباس.
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
وللكلام بقية أستأنفه في لقاء قادم بإذن الله.

([1] ) السبكي، قاعدة في الجرح والتعديل (ص93).
([2] ) الخرائطي، المنتقى من مكارم الأخلاق ومعاليها (1/92)، ونقله الزمخشري في الكشاف (3/569).
([3] ) أخرجه البخاري في صحيحه [ كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (4/1987 رقم 2564)] من حديث أبي هريرة.
([4] ) أخرجه البخاري في صحيحه [ كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (1/13 حديث رقم 10)].
([5] ) أبو الشيخ، أمثال الحديث (ص77). ويرى الألباني ثبوت رفعه ووقفه معا كما في صحيح الأدب المفرد وصحيح الترغيب والترهيب.
([6] ) ابن القيم، الجواب الكافي(1/111).
([7] ) انظر كتابنا روابط الأخوة الإسلامية على ضوء الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة (ص127-132)، طبعة دار الفضيلة بالرياض.م د. صادق بن محمد البيضاني
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #35  
قديم 07-14-2017, 03:03 AM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي رسالتي إلى المشايخ والعلماء.. رفقاً ببعضكم

رسالتي إلى المشايخ والعلماء.. رفقاً ببعضكم
آداب ينبغي على المشايخ مراعاتها
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية والعقدية)
الحلقة (32)
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني
الأدب الأول: عذر من أخطأ من المشايخ إذا كان خطؤه في مسألة يجهل حكمها.
من المعلوم أن بعض الفضلاء يخوض في المسائل قبل الإلمام بها والوقوف على أدلتها الشرعية، ودراستها وفهمها فهما شرعياً صحيحاً فيقع في الخطأ، وهذا مما يعاب على بعضهم ، لكنه ابتداء يعذر لجهله في هذا الباب حتى يتبين له خطؤه باعتبار أنها زلة من زلاته، لأن استعجاله في الخوض فيها سبب للوقوع في الخطأ، حيث لم يقصد المخالفة المحضة للحق، وحينها يلزمه الاعتراف بالخطأ والرجوع للصواب.
الثاني: إنصاف المخالف والحذر من تحجيم الخطأ.
نقد الأخطاء من الأمور الشرعية التي لا بد منها – بشرط صحة وقوع الخطأ، وأن يكون النقد وفق ضوابط ومعايير الشريعة بعيداً عن التجني والمبالغة، فمن بالغ في النقد فقد حاد عن ميزان العدل والإنصاف، وقد حرصت الشريعة الاسلامية على الإنصاف عن الاختلاف.
قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّـهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [النساء: 135].
الثالث: البعد عن الدخول في النيات.
دبَّ في صفوف الكثير من الفضلاء تفسير وتعيين مقصد المتكلم في الأمور المجملة مما لا يعلمه إلا الله، وبسبب هذا المرض ظلم بعض المشايخ بعض إخوانهم من الدعاة، وفي الحديث: قال النبي عليه الصلاة والسلام لخالد: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم»([1] ).
قال النووي: «فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر»([2] ).
وقال رحمه الله: «إنما كلفنا بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لنا طريق إلى معرفة ما فيه»([3]).
الرابع: معرفة مقصد المتكلم قبل نقد مجمل كلامه.
قال ابن تيمية: «وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم، وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم»([4]).
وقال السبكي: «ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح أيضاً حال الجارح في الخبرة بمدلولات الألفاظ، فكثيراً ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها»([5] ).
الخامس: مراعاة المصالح والمفاسد عند النقد.
ينبغي للناقد أن يرعى فقه المصلحة والمفسدة قبل نقد المخالف، فلا ينقد في شيء حتى يترجح لديه أن نقده لن يؤدي إلى منكر أعظم، مما يراه منكراً.
قال ابن تيمية: «لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه»([6] ).
«والقاعدة الشرعية المجمع عليها: أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه؛ بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه، أما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين»([7] ).
قال ابن القيم: «إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله»([8] ).
السادس: التثبت مما يشاع ويذاع.
التثبت من الأخبار المنقولة واجب شرعاً، حيث يلزم: التثبت من صحة الكلام ولفظه مع استيعاب مدلوله قبل إذاعته ونشره وعزوه.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6].
قال الشيخ صالح بن سعد السحيمي: «فإن البعض من الناس، وقد يكونون من المنتمين إلى طلب العلم؛ بمجرد أن يتلقى شائعة أو خبراً عن أحد إخوانه؛ حكم عليه من خلال هذه الشائعة؛ فربما كفره، أو فسَّقه، أو بدَّعه، أو أخرجه من السلفية، أو قوَّله ما لم يقل، أو ألزمه بما لا يلزم.
ونحن الآن أمام سيل من المؤلفات الكثيرة التي بُنِيَ كثير منها على الشائعات والإلزامات، وعلى بتر الكلام، ولا سيما لدى بعض أوساط أنصاف المتعلمين، ومن لا فقه عنده في الدين؛ فعليهم أن يتقوا الله – تبارك وتعالى-.
ثم قال حفظه الله: فعليك أن تراقب الله عز وجل في هذه الأمور الخطيرة المصيرية، وأن يكون خوف الله وخشيته هي رائدك قبل كل شيء، قبل أن تكتب كلمة، أو تنطق بكلمة أو تسجل كلمة، أو تودع كلمة في زبالات الإنترنيت ([9])، عليك أن تخشى الله، وعليك أن تتقي الله، وعليك أن تخاف الله – جلا وعلا -، وعليك أن تراقب الله سبحانه وتعالى في السر والعلن»([10] ).
قال ابن تيمية: «من أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسمّ القائل والناقل، وإلا فكل أحد يقدر على الكذب»([11]).
السابع: التخلص من تجميع الأتباع وتكثيرهم لمناصرة رأي الشيخ ومذهبه.
انتشر في صفوف بعض الفضلاء مرض تجميع الأتباع وتكثيرهم لمناصرة ما يرونه من الآراء، في الوقت نفسه يسكت هؤلاء عن بعض الأتباع الذين يبالغون في الثناء عليهم ويرفعونهم مراتب فوق مراتبهم، والواجب على الدعاة توجيه محبيهم وأتباعهم نحو التمسك بالدين، وتحذيرهم من إطراء المشايخ؛ فقد رفض نبينا عليه الصلاة والسلام إطراء نفسه، وحذر أمته من ذلك، ولو كان جائزاً لجوَّزه لهم وما حذرهم منه.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ فإنما أنا عبد – فقولوا: عبد الله ورسوله»([12]).
فالسكوت عن الإطراء سبب في تعصب الأتباع للفضلاء وقبول آرائهم وإن كانت خطأ.
ومما يؤسف له أن بعض الفضلاء يجعل بعض العامة وصغار الطلاب ممن يتعصب له مستشارين، وهذا غلط آخر؛ فمستشار الفاضل لا يكون إلا فاضلاً، وإلا اختلت الموازين بمساواة الأسافل بالأعالي:
إذا استوت الأسافل والأعالي فقد طابت منادمة المنايا
الثامن: تغليب الحق على الانتصار للنفس.
مما يؤسف له أن بعض المختلفين يدافع باسم الدين عن نفسه بطرق ملتوية، فأنت إذا سمعت دفاع أغلبهم أو قرأته وجدته يدافع وينافح ويتهم ويجرح انتقاماً لنفسه، يعرف ذلك الأذكياء من خلال تتبُّعهم لأصل ومنشأ الخلاف بين المتكلم والمتهم، وهذا مما ينقص مكانة مَنْ هذه حاله.
وقد أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت : «ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً؛ فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تُنتهَك حرمة الله عز وجل»([13] ).
و ما أحسن قول الشافعي عندما قال: «ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ»، وقال: «ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدَّد ويعان ويكون عليه رعاية من الله تعالى وحفظ، وما كلمت أحداً قط وأنا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه»، وقال: «ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها مني إلا هبته واعتقدت محبته، ولا كابرني أحد على الحق ودافع الحجة إلا سقط من عيني ورفضته»([14] ).
التاسع: قبول الحق من المخالف.
قال شيخنا المحدث مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله: «يجب عليك أن تقبل الحق ممن اتى به، وهو حق، يجب أن تقبل الحق ممن أتى به، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال في شأن الشيطان: «صدقك وهو كذوب»([15] )، وقال أيضاً كما في سنن النسائي بإسناد صحيح عن قتيلة رضي الله عنها قالت: جاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إنكم تنددون وتقولون: ما شاء الله وشاء محمـد، وتقولون: والكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا حلفتم فقولوا: ورب الكعبة، وقولوا: ما شاء الله ثم شاء محمـد»([16] ) وهكذا من حديث الطفيل بن عمرو في مسند أحمد وفي سنن ابن ماجة نحو هذا، فالنصيحة والحق يقبل ممن جاء به، وما فرَّق بين المسلمين إلا الجهل والسياسات»([17] ).
قال ابن تيمية: «وأُمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله»([18] ).
وقال ابن القيم: «ولهذا قيل: من عُرِضَ عليه حق فردَّه، فلم يقبله عوقب بفساد قلبِه وعقلِه ورأيه.
ومن هنا قيل: لا رأي لصاحب هوى، فإن هواهُ يحمله على رد الحق فيفسدُ الله عليه رأيه وعقله»([19] ).
العاشر: عدم مناصرة الأقران المختلفين بعضهم على بعض.
من الأمور التي غفل عنها بعض الفضلاء مناصرة بعض الأقران على بعض دون التثبت من أصل الخلاف بينهما؛ إذ أغلبه يرجع إلى الحسد والانتصار للنفس وحب الظهور على قرينه إلا ما شاء الله.
يقول الإمام الذهبي في ترجمة الحافظ أبي نعيم الأصفهاني: « كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسدٍ لا ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين»([20] ).
الحادي عشر: العذر بالاجتهاد فيما يسع فيه الخلاف.
هناك مسائل لا دليل عليها من كتاب أو سنة أو إجماع، الأمر الذي أدى إلى اختلاف العلماء في آحاد مثل هذا النوع، وفي هذا الباب يلزم العالم الأخذ بما يترجح لديه، وقد يترجح لدى عالم غير ما يترجح لدى الآخر، وحينها لا ينبغي لأحد أن يعنف آخر في مسائل كهذه.
يقول ابن القيم: «إذا لم يكن في المسألة سنَّة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل فيها مجتهداً أو مقلداً»([21] ).
وقد توسع شيخ الإسلام في هذا الباب حتى قال رحمه الله: « إن المجتهد في مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق، فإن الله يغفر له خطأه، وإن حصل منه نوع تقصير فهو ذنب، فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل ( الذي طلب من أهله إحراقه إذا مات) فيغفر خطأه، أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه»([22] ).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: «يجب على كل واحد منا أن يعذر أخاه فيما طريقه الاجتهاد، فإن اجتهاد كل واحد ليس حجة على الآخر، والحجة ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الخلاف سائغاً لم يظهر فيه العصيان والتعصب للنفس، فإن الواجب أن تتسع صدورنا له، ولا مانع حينئذ من المناقشة الهادئة التي يراد بها التوصل إلى الحق، فإن هذا هو طريق الصحابة، وأما أن نتخذ من الخلاف السائغ مثاراً للكراهية والبغضاء والتحزب، فإن ذلك خلاف طريق السلف الصالح»([23] ).
الثاني عشر: العذر بالتأويل.
بعض الفضلاء يخوض في مسألة من المسائل فيخطئ فيها بسبب تأويل غير صحيح، فهذا يعذر حتى يُبين له، ومثل ذلك لا يكاد يسلم منه أحد.
وقد تقدم معنا في مقال سابق قول ابن القيم رحمه الله حيث قال: وذو النون أحد الشيوخ الذين حضروا السماع تأويلاً، وليس ذو النون بأجل من سفيان الثوري وشريك بن عبد الله ومسعر بن كدام ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وغيرهم من أئمة الكوفة، الذين استحلوا النبيذ المسكر تأويلاً، ولا بأجل من عطاء بن أبي رباح وابن جريج وغيرهما ممن استحل المتعة والصرف، ولا بأجل من الأعمش والطائفة ممن استحل الأكل في رمضان بعد طلوع الفجر، ولا بأجل ممن استحلَّ أكل ذي الناب من السباع والمخلب من الطير، ولا بأجل من ممن استحل إتيان النساء في أدبارهم، ولا بأجل ممن جوز للصائم أكل البرد، ولا بأجل ممن جوز نكاح الزانية مع استمرارها على البغاء، وجوز نكاح البنت المخلوقة من مائة سفاحاً، وغير ذلك من التأويل، وكذلك الذين استحلوا قتال علي بن أبي طالب من أهل الشام، وكذلك الذين قاتلوا معه أهل العراق والحجاز، إلى أمثال ذلك مما تنازعت فيه الأمة، فليس لأحد أن يحتج لأحد القولين لمجرد قول أصحابه وفعلهم وإن كانوا من أهل العلم والدين، وليس لعالم أن يترك الإنكار عليهم وبيان ما بعث الله به رسوله لأجل محلهم من العلم والدين، فلا يحتج بقولهم ولا يؤثمهم ولا يترك الإنكار عليهم، فهذا ميزان أهل العلم والاعتدال»([24] ).
وقد فسر الترمذي صاحب الجامع حديثاً في جامعه متأولاً، فوصف ابن تيمية تفسيره بأنه من جنس تأويلات الجهميةـ ولم يحكم عليه ابن تيمية ولا علماء السنة بأنه جهمي مبتدع ([25] ).
الثالث عشر: الحذر من التزلف للسلطان على حساب المخالف.
افتتن بعض الفضلاء اليوم بالتقرب من السلاطين للظفر بشيء من حطام الدنيا، وربما غلب عليه الشيطان فاستعمل وجاهته عند السلطان للنيل من بعض إخوانه الذين يختلفون معه في الرأي المستساغ أو الخطأ غير المقصود، وقد رأينا بعض هؤلاء لدى بعض السلاطين وهم يقولون له : فلان وفلان – تحريضاً للسلطان على المخالف-، وبعضهم ربما حرض السلطان من خلال مذياع أو صحافة أو قناة، أو تقرير جائر يرسله لبعض الجهات الأمنية أو الاستخباراتية، وهذه من طوام بعض فضلاء العصر التي غفل عنها بعضهم، وقد كان سلفنا يحذرون من إتيان أبواب السلاطين إلا في مواطن لا بد منها: كالإنكار عليه بالحكمة، أو توجيهه، أو مشاورته في قضايا مصيرية، ونحوها من الأمور التي تهم البلاد والعباد، يقوم بذلك العلماء والدعاة الورعون وغيرهم من الأعيان ونحوهم من أهل الحل والعقد.
قال حذيفة رضي الله عنه: «إياكم ومواقف الفتن، قيل: وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول له ما ليس فيه»([26] ).
وجاء عن كعب أنه قال: «يكون في آخر الزمان علماء يزهِّدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، ويخوِّفون الناس ولا يخافون، وينهون عن غشيان الولاة ويأتونهم، ويؤثرون الدنيا على الآخرة يأكلون بألسنتهم»([27] ).
وقال الفضيل: «شر العلماء من يجالس الأمراء، وخير الأمراء من يجالس العلماء»([28] ).
ولما ولِّي إسماعيل بن عُليَّة العشور، أو على الصدقات كتب إلى عبد الله بن المبارك يستمده برجال من القراء يعينونه على ذلك، فكتب إليه عبد الله بن المبارك:
يـا جـاعل الـعلم لـه بازياً يصطاد أموال المساكينِ
احـتـلـت لـلـدنيا ولـذاتـها بـحـيلة تـذهـب بـالـدينِ
فـصـرت مـجـنوناً بـهـا بـعدما كـنت دواء لـلمجانينِ
أين رواياتك فيما مضى عن ابنِ عونٍ وابنِ سيرينِ
ودرســك الـعـلم بـآثارهُ فـي تـرك أبـواب الـسلاطينِ
تقول أُكرهت فماذا كذا زلَّ حمار العلم في الطينِ
لا تـبـعْ الـدين بـالدنيا كـما يـفعل ضـلالُ الـرهابينِ ([29] )
قال الجمال اللغوي: أخبرني بعض الفضلاء: أن الأمير «عز الدين حرسك » بعث إلى الشيخ الشاطبي يدعوه للحضور عنده، فأمر الشيخ بعض أصحابه أن يكتب إليه هذه الأبيات وهي قوله :

قل للأمير مقالةً من ناصحٍ فطنٍ نبيهْ
إن الفقيهَ إذا أتى أبوابكم لا خير فيهْ ([30] )

وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
وبقيت حلقة أخيرة من هذه الدراسة، نستكملها يوم غد بإذن الله.
......حواشي ومصادر المقال......
([1] ) أخرجه البخاري في صحيحه [ كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: ( تَعْرُجُ المُلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيه ) [ المعارج:4] إلى آخره (6/2702 رقم 6995)، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم ( 2/741 رقم 1064)] كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري.
([2] ) النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (2/107).
([3] ) المصدر السابق.
([4] ) ابن تيمية، منهاج السنة (6/193).
([5] ) السبكي، طبقات الشافعية الكبرى (2/18).
([6] ) ابن تيمية، مجموع الفتاوى (14/472).
([7] ) ابن باز، مجموع مقالات وفتاوى متنوعة (8/204).
([8] ) ابن القيم، إعلام الموقعين (3/4).
([9] ) قصد الشيخ صالح بزبالات الإنترنيت تلك المواضع التي يكتب فيها أصحابها بقصد الإفساد بين الدعاة وزرع الفوضى والفرقة، ولم يقصد بأن الإنترنيت خال من الخير.
([10] )صالح السحيمي، محاضرة مسجلة بعنوان: «وصايا لطلاب العلم».
([11] ) ابن تيمية، منهاج السنة (2/309).
([12] ) أخرجه البخاري في صحيحه [كتاب الجمعة (4/171 حديث رقم 3445)]، من حديث عمر.
([13] ) متفق عليه.
([14] ) انظر أقوال الشافعي في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي (1/53-54).
([15] ) أخرجه البخاري في صحيحه [ كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (3/1194 رقم 3101)].
([16] ) أخرجه النسائي في سننه [ كتاب الأيمان والنذور، باب الحلف بالكعبة ( 7/6 رقم 3773)].
([17] ) الوادعي، إجابة السائل عن أهم المسائل (ص168).
([18] ) ابن تيمية، منهاج السنة (2/199).
([19] ) ابن القيم، مفتاح دار السعادة (1/99).
([20] ) الذهبي، ميزان الاعتدال (1/111).
([21] ) ابن القيم، إعلام الموقعين (3/365).
([22] ) ابن تيمية، الاستقامة (1/163).
([23] ) ابن عثيمين، مجموع رسائل وفتاوى ابن عثيمين (26/445).
([24] ) ابن القيم، الكلام على مسألة السماع ( ص265 ما بعدها).
([25] ) ابن القيم – اختصار محمد بن محمد المشهور بابن الموصلي، مختصر الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة ( ص400).
([26] ) ابن عبد البر، جامع بيان العلم ( الأثر رقم 1103).
([27] ) الغزالي، إحياء علوم الدين(1/64).
([28] ) الأبشيهي، كتاب المستطرف في كل فن مستطرف (1/50).
([29] ) الذهبي، سير أعلام النبلاء (9/110).
([30] ) السيوطي، ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين، (ص69)
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #36  
قديم 07-17-2017, 07:15 PM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي الرسالة الختامية الموجهة إلى كل عالم وداعية

الرسالة الختامية الموجهة إلى كل عالم وداعية
الحل الأمثل في حل النزاعات التي مزقت الصف وكيفية التعامل مع الخلاف
(ضمن موضوع دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية)
الحلقة (33) والأخيرة
بقلم د. صادق بن محمد البيضاني.
في ختام هذه الدراسة أقول : إن المتأمل اليوم في واقع الخلافات بين المسلمين على مستوى الجماعات الإسلامية بشكل عام، وعلى مستوى أصحاب المنهج السلفي بشكل خاص يجد أن هناك قواسم مشتركة يمكن للجميع أن يتفق عليها ويتعاون في إطارها، ولنفرض أن هناك ثمانين بالمائة متفق عليه من حيث العقيدة والمنهج والسلوك وأن هناك ما يعادل عشرين بالمائة مختلف فيه، وهذا يعني أنه يمكن لهؤلاء المختلفين أن يتعاونوا فيما اتفقوا عليه وفق الكتاب والسنة، وأما ما اختلفوا فيه فيلزمهم التناصح وفتح باب الحوار والمناظرة بين مشايخ كل طرف، ثم لنفرض أنهم بعد الحوار والمناظرة لم يتفقوا على شيء مما اختلفوا فيه من هذه النسبة القليلة، فيبقى التعاون بينهم في إطار المتفق عليه، فمثلا:
أولاً: إن غزا العدو بلداً من بلاد المسلمين اتفق جميع المختلفين – على اختلاف جماعاتهم – على دحر العدو، ولا يقول شخص قد يتعذر ذلك بسبب وجود هذه الاختلافات بين المشايخ والجماعات في عصرنا الحاضر، لأني الآن بصدد بيان أصول متفق عليها بين العلماء المتقدمين والمتأخرين وفقاً لأدلة الشرع، إلا أنها صارت لا تطبق اليوم بسبب بُعْد الناس عن دينهم وكثرة اختلافاتهم غير المنضبطة بالشرع، وضعف ولاياتهم في أراضيهم، فأنا أضع بين أيديكم أصولاً شرعية، ولا أصدر أوامر لجميع المسلمين لتنفيذ هذه المهمة ونحوها، لأن تنفيذها مطلوب شرعاً وعقلاً، فعوا ما أقول.
ثانياً: إن رأى أحدهم المنكر اتفقوا جميعاً على إنكاره، وإن لزم الأمر لاجتماعهم كعلماء ودعاة مختلفين فلهم أن يجتمعوا على كلمة سواء، وليكونوا لجنة علماء – من الأطراف المختلفة في المنهج والمتفقة في إنكار المنكر – لتذهب للسلطان وتناصحه في إزالة هذا المنكر بالعلم واللين والحكمة، ومتى كان العلماء والدعاة عقلاء حكماء هابهم الملوك والرؤساء، فإذا تفرقوا وتنافروا وتدابروا فلن يهابهم أحد، بل ستسقط هيبتهم وثقتهم لدى عوام المجتمع فضلاً عن طبقة المتعلمين، وهذه عادة قديمة، يعرفها كل من قرأ تاريخ الأوائل وأدرك أحوالهم، ولكن بعض الفضلاء لا يعقلون.
ثالثاً: إن حصلت نكبة للمسلمين في أي بلد فلهم أن يتفقوا جميعاً في مساعدة إخوانهم المنكوبين من خلال أي جمعية موثوقة أو لجنة مشتركة من الأطراف المختلفة في المنهج والمتفقة لنصرة إخوانهم المسلمين.
رابعاً: لنفرض مَرِضَ داعية أو شخص من أي جماعة أو فئة كانت ، فمن حقه على إخوانه المسلمين زيارته للتخفيف عنه مع استغلال الحدث للنصيحة الملائمة؛ كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام مع ابن اليهودي،فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: «أسلم». فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال: أطع أبا القاسم: فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:« الحمد الذي أنقذه من النار».
خامساً : على من يقول بجواز الانتخابات لمصلحة ما، في بلد ما، بناء على فتوى اللجنة الدائمة والألباني وابن باز والعباد وغيرهم من العلماء - كما أسلفناه في مقال الحلقة رقم 11 من هذه الدراسة والتي بعنوان (تنازع العلماء في مسألة : " الخوض في الانتخابات البرلمانية " - وفقا لقاعدة المصالح والمفاسد ووفقاً للضوابط الشرعية حسب الزمان والمكان، أرى أن ينتخب الناس الأصلح والأنفع اعتباراً بفقه الأولويات الشرعية.
ولا تعني هذه التفريعة التعاون المطلق بين الصالحين والأحزاب، وإنما التعاون مقيد ضد عدو مشترك في حدود الشرع لدفع مفسدة تضر بالأمة أو المجتمع المحيط، كما لا تعني أن ينشئ المتعاونون حزباً وتكتلاً واحداً للتعاون المطلق والسكوت على الأخطاء، فهذا لا نقصده لأنه خلاف قواعد الشرع الحكيم.
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : " ومن المعلوم أنه لا يتم أمر العباد فيما بينهم، ولا تنتظم مصالحهم، ولا تجتمع كلمتهم، ولا يهابهم عدوهم، إلا بالتضامن الإسلامي، الذي حقيقته التعاون على البر والتقوى، والتكافل، والتعاطف، والتناصح، والتواصي بالحق، والصبر عليه، ولا شك أن هذا من أهم الواجبات الإسلامية، والفرائض اللازمةـ وقد نصت الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، على أن التضامن الإسلامي بين المسلمين – أفراداً وجماعات، حكومات وشعوباً- من أهم المهمات، ومن الواجبات التي لا بد منها لصلاح الجميع، وإقامة دينهم وحل مشاكلهم، وتوحيد صفوفهم، وجمع كلمتهم ضد عدوهم المشترك، والنصوص الواردة في هذا الباب من الآيات والأحاديث كثيرة جداً، وهي وإن لم ترد بلفظ التضامن: فقد وردت بمعناه، وما يدل عليه عند أهل العلم، والأشياء بحقائقها ومعانيها، لا بألفاظها المجردة، فالتضامن معناه: التعاون والتكاثف، والتكافل، والتناصر، والتواصي، وما أدى هذا المعنى من الألفاظ، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله سبحانه، وإرشاد الناس إلى أسباب السعادة والنجاة، وما فيه إصلاح أمر الدنيا والآخرة، ويدخل في ذلك تعليم الجاهل، وإغاثة الملهوف، ونصر المظلوم، ورد الظالم عن ظلمه، وإقامة الحدود، وحفظ الأمن، والأخذ على أيدي المفسدين المخربين، وحماية الطرق بين المسلمين داخلا وخارجا، وتوفير المواصلات البرية والبحرية والجوية، والاتصالات السلكية واللاسلكية بينهم، لتحقيق المصالح المشتركة الدينية والدنيوية، وتسهيل التعاون بين المسلمين في كل ما يحفظ الحقن ويقيم العدل، وينشر الأمن والسلام في كل مكان.
ويدخل في التضامن أيضاً : الإصلاح بين المسلمين، وحل النزاع المسلح بينهم، وقتال الطائفة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله([1]) "اهـ
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : "علينا أن نجتمع على الحق ونتعاون عليه، وأن نخلص في جميع أعمالنا، وأن نسعى لهدف واحد هو إصلاح هذه الأمة إصلاحاً دينياً ودنيوياً بقدر ما يمكن، ولن يمكن ذلك حتى تتفق كلمتنا، ونترك المنازعات بيننا، والمعارضات التي لا تحقق هدفاً، بل ربما تفوت مقصودا وتعدم موجوداً([2])"اهـ.
سادساً : لو ظهر ظلم على أي مسلم من آخر حاكماً كان أو محكوماً لزم جميع المختلفين أن يقفوا يداً واحدة ضد الظالم بحيث يعالجون الظلم بالحكمة والروية بعيداً عن مفاسد أعظم من رفع الظلم.
هذه مجرد أمثلة للتعاون المشروع بين الجماعات الإسلامية المختلفة ، وعليها فقس غيرها من الأمور الممكنة شرعاً، ولا تعني هذه الأمثلة وما أشبهها أنها خلاف المنهج الشرعي في التعامل مع المخالف لمنهج السلف، فإن هجر المبتدع وعدم الجلوس معه والأخذ عنه كما تقدم شيء آخر لا ينافي التعاون مع المسلمين المخالفين ومناصحتهم ومحاورتهم ومناظرتهم عند الحاجة، وخصوصاً في حقل الدعاة المختلفين، أما صغار الطلاب والعوام فهم تبع لمشايخهم وليس لمثلهم أن يناظر أو يحاور حتى يطلبوا العلم ويتأهلوا فيه.
فهجر العلماء وعامة الأمة للمبتدعة أمر مطلوب، والتعاون معهم فيما هو مشروع عند الحاجة – وخاصة أمام العدو المشترك – شيء آخر في حدود الحاجة – وهو مطلوب شرعاً أيضاً كما تقدمت أمثلته، والمسألة في هذا الباب بعينه اجتهادية حسب الزمان والمكان، فليست أحوال البلدان وأهلها واحدة، وإنما نُحكِّم قاعدة المصلحة والمفسدة، والظهور حسب غلبة أهل السنة من ضعفهم وقلتهم، فلا ينبغي تحميل كلامي المتقدم ما لا يحتمل، فلا نقصد بذلك أن يجتمع أهل السنة والطوائف الأخرى ومن خالفهم من الجماعات على مائدة واحدة ، معرضين عن التناصح وبيان الحق، فإن هذا اجتماع لا بركة ولا خير فيه، وبهذا الذي ذكرناه قامت قواعد الشرع وأدلته.
وقد عُرض على اللجنة الدائمة وعلى رأسها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله السؤال الآتي: «الجماعات والفرق الموجودة الآن أقصد بها جماعة الإخوان المسلمين، وجماعة التبليغ، وجماعة أنصار السنة المحمدية، والجمعية الشرعية، والسلفيين، ومن يسمونهم التكفير والهجرة، وهذه كلها وغيرها قائمة بمصر؛ أسأل ما موقف المسلم منها؟ وهل ينطبق عليها حديث حذيفة رضي الله عنه: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك » رواه الإمام مسلم في الصحيح؟
فأجابت اللجنة : كل من هذه الفرق فيها حق وباطل وخطأ وصواب، وبعضها أقرب إلى الحق وأكثر خيراً وأعم نفعاً من بعض؛ فعليك أن تتعاون مع كل منها على ما معها من الحق وتنصح لها فيما تراه خطأ، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك»([3])اهـ.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: « وعلينا أن نجتمع وأن نتناقش فيما اختلفنا فيه، حتى إذا تبين الحق مع أحد الجانبين وجب على الآخر اتباعه، لأن الله قال في كتابه العظيم: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59]» ([4])اهـ.
سمعت أحد المشايخ يقول: سمعت الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله ينصح الشيخ حامد الفقي ويقول له: ناصح الشيخ حسن البنا بحكمة ولين ولا تغلظ عليه، فإنه يدخل الجامعات ويعظ الطلاب فيغير أفكارهم المنافية للدين ويقبلون منه، بل يصل إلى أماكن لا نستطيع أن نصلها فلا تثبطه في هذا، وكان البنا يومها على علاقة مع بعض المشايخ السلفيين الذين يختلفون معه في قضايا منهجية؛ كالشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ محب الدين الخطيب الدمشقي، إلا أنهم كانوا يرون أن الغلبة في زمانهم لأعداء الدين من علمانيين وناصريين وشيوعيين ونحوهم، فكانوا يناصحون البنا بحكمة ويوجهونه لبعض المسائل التي يرون أن جماعة الإخوان خالفوا فيها منهج السوي، ويتعاونون معه في بعض القضايا التي يرون فيها المصلحة راجحة، وكان الألباني رحمه الله يتعاون مع إخوان سوريا حسب مصلحة الأمة في الخمسينيات والستينيات الميلادية، وقد سمعت الشيخ محمد زهير الشاويش رحمه الله، والعهدة عليه يقول: "في الأربعينيات الميلادية كان الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ممن يشارك بصوته في انتخابات سوريا"، وهذا إن صح فإن الشيخ الألباني ينظر للقضايا العارضة من منظور المصالح والمفاسد حسب الزمان والمكان، فتارة يحذر منها كما في عامة فتاواه، وتارة يقول بها حسب المصلحة والمفسدة كما تقدم في مقالي من الحلقة رقم11، وأيضاً كما حكاه عنه الشاويش، ومما يؤكد ذلك أيضاً أنه أفتى أهل الجزائر والكويت بخوض الانتخابات، ثم لما تفاقم الأمر وتغير بعض النواب عن الجادة، أنكر عليهم بعض تصرفاتهم وما آل إليه بعض أحوال المرشحين.
قال الشيخ محمد أمان الجامي رحمه الله: « ومما تشكوه الدعوة الإسلامية هذا اليوم النفرة وعدم الانسجام وقلة التعاون بين الجماعات التي تتصدى كل واحدة منها للدعوة إلى الله، وفي الواقع أن أكثر تلكم الجماعات بحاجة ماسة إلى من يدعوهم إلى الله ويُبصرهم في دينهم حتى يكونوا مؤهلين أولاً في أنفسهم للدعوة بالقضاء على التنافر فيما بينهم وتنافر مناهجهم وبرامجهم في العمل» ([5]).
وهنا مسألة مهمة وهي، هل يجب على أصحاب المنهج السوي التعاون مع بقية الجماعات الإسلامية الأخرى للرد على العلمانيين واللبراليين والبعثيين وغيرهم من أعداء الدين؟
فالجواب: إن كان المقصود أن يتكتل الجميع ويكونوا جبهة واحدة تصدر قراراً ورداً واحداً من خلال جبهة واحدة أو حزب واحد يجمعهم فلا، وهو متعذر واقعاً وشرعاً؛ لأن هذا فيه مخاطرة، حيث قد يفهم منه العدو أن السني السوي وغيره جماعة واحدة، فينتفي التميز الذي هو من خصائص المنهج الصحيح، فليس هناك مصلحة شرعية لعمل تكتل كهذا، لكنه يلزم على كل مسلم مهما اختلفت جماعته أن يرد الباطل الذي يروج له العلمانيون واللبراليون والبعثيون وغيرهم من أعداء الدين، بحيث يلزم صاحب المنهج السليم أن يرد رداً صحيحاً بأدلة الكتاب والسنة لا بالخطاب الحركي السياسي الانتمائي الذي يغلب عليه إهمال أدلة الشرع في كثير من المواقف.
والحاصل أن الحل الأمثل لهذه النزاعات بين أهل السنة مع بعضهم البعض ومع غيرهم من الجماعات الأخرى يتمثل في عودة الجميع للعلم الشرعي الصحيح الذي يبين لنا المنهج السليم في كيفية التعامل مع المخالف والطرق السليمة للتعاون بين المختلفين في حدود الشرع، فهو منهج تربية وتصفية.
وفي حال كانت المسائل المختلف فيها عارضة أو نازلة أدت إلى فرقة وخصام، وكل طرف تمسك بدليل مجمل أو قول للسلف يحتج به على الآخر، لزم الجميع أن يرجعوا لكبار علمائهم لأخذ المشورة والفتوى في العارضة أو النازلة .
وقد ذكر الله عز وجل هذين الحالين في قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[النساء:83].
قال شيخنا صالح الفوزان: «يرد إلى الرسول إليه صلى الله عليه وسلم في حياته وإلى سنته بعد وفاته ( وإلى أولي الأمر) وهم أهل العلم وأهل السياسة والعقل، ولاة الأمور فيحلون هذه المشاكل ويضعون لها الحلول الناجحة بإذن الله عز وجل، هذا هو طريق الحل في هذه المسألة، ويتولى ذلك أهل العلم وأهل الرأي من الرعية – أهل الرأي والبصيرة والعقول – ما هو بالفوضى والدهماء»([6]) .
فإذا تفاقم الأمر وتعذر تطبيق الحلول السابقة، - وهذا هو الواقع الذي نعيشه اليوم -، فليس أمامنا – فيما يبدو لي – سوى: قيام ثلة من العلماء الربانيين المصلحين الغيورين على جمع الكلمة، ووحدة الصف، فيجتمع هؤلاء الأكابر ويختارون من كل دولة إسلامية أو فيها أقليات إسلامية عالماً معتبراً من أهل السنة والجماعة، باعتبار أن الخلافات عمت دول العالم الإسلامي وغيره، فيجتمع هؤلاء جميعاً من كل الدول الإسلامية، ويكون لهم جدول أعمال خلال الدورة المقررة للاجتماع، ولتكن مكة «أم القرى» مقر اجتماعهم، أو الموطن الذي تراه اللجنة العلمية المُصلحة، ومن هنالك يستدعون رؤوس الشخصيات المختلفة ويجلسون معهم بقصد الحوار والإصلاح، فيضعون مسائل الخلاف للحوار والمناقشة، ثم يعالجونها على ضوء الكتاب والسنة من خلال جلسات مغلقة، ثم يصدرون وثيقة صلح بين الأطراف المختلفة، موقعة من اللجنة المُصلحة ورؤوس الأطراف المختلفة بحيث تشمل الوثيقة نقاط الخلاف متبوعة بما تم الاتفاق عليه عند كل مسألة، ثم نشر هذه الوثيقة المتفق عليها بين الأطراف، مع بيان عام للأمة حول هذه المسائل التي خرج بها مجلس الحوار والمناقشة، مشتملاً على الطريقة المثلى في كيفية التعامل مع من يخرج عما تم الاتفاق عليه سواء من الموقعين أم من غيرهم من العلماء والدعاة وطلبة العلم الآخرين، بحيث يكون هناك اجتماع سنوي لهذه اللجنة من خلال إدارة تنضم سير هذه الاجتماعات وجدول أعمالها الدورية، وتستقبل من دول العالم الرسائل المحتوية على ما طرأ من الخلافات العارضة لعرضها على لجنة المصالحة العلمية في دورتها المقبلة، بحيث لا تخضع هذه اللجنة لأي تكتل حزبي، وأرجو الله عز وجل أن يتم هذا الأمر أو ما يماثله لأهميته حسماً للنزاع والفرقة، وعلى هؤلاء الأعلام الكبار " أعضاء اللجنة " الذين قادوا هذا المجلس أن يسعوا جادِّين لجمع الكلمة وإنهاء النزاع، لكون الأمة تنظر إليهم نظرة إجلال وتوقير، وإن حصل شيء يسير من لمز وهمز من بعض الأطراف إلا أنها لا تضرهم مقابل ما حباهم الله به من الدين والعلم ورجاحة العقل وإجلال الأمة لهم.
ويكفي هؤلاء الأعلام الكبار شرفاً قوله تعالى: (لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء:114].
وأخرج البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه: «أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: اذهبوا بنا نصلح بينهم».
وفي الحديث الذي أخرجه البخاري عن سهل الساعدي رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم في أناس من أصحابه».
قال ابن القيم رحمه الله: «فالصلح الجائز بين المسلمين يعتمد فيه رضى الله سبحانه ورضى الخصمين، فهذا أعدل الصلح وأحقه، وهو يعتمد العلم والعدل، فيكون المصلح عالما بالوقائع، عارفا بالواجب، قاصدا العدل، فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم»([7]).
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: «أنا أريد بالحركة العلمية أن يكون هناك من العلماء الموثوقين والمرضيين من الجانبين، يجمعون هؤلاء ويتكلمون معهم، والشباب إذا نُمّوا على هذا سيكونون غداً رجالاً ويديرون دفة الأمة، فإذا تربوا على هذا الخلاف وهذه البغضاء وهذه الكراهة حصل شرٌّ عظيم»([8]).
وقال رحمه الله: «والواجب علينا أن نصلح بين الناس، والإصلاح ما هو؟ ليس معناه أن نقف موقف المتفرج، لا بد من حركة، حركة علمية للإصلاح»([9]).
وفق الله الجميع لطاعته وألهمهم رشدهم.
انتهت بحمد الله حلقات هذه الدراسة، ونسأل الله أن ينفع بها الاسلام والمسلمين، وبإمكان أي شخص طلب كل حلقات هذه الدراسة في ملف واحد " بي دي إف".
...حواشي ومصادر المقال..
(1) انظر فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (2/192،193).
(2) ابن عثيمين، شرح الأصول الستة (ص 162).
([3]) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء، جمع وترتيب الشيخ أحمد بن عبد الرزاق الدويش، مكتبة المؤيد بالرياض، الطبعة الثالثة، 1419هـ، (2/238)، الفتوى رقم (6280).
([4]) ابن عثيمين، سلسلة اللقاء الشهري، شريط رقم (1)، السؤال الثالث.
([5]) محمد أمان الجامي، مشاكل الدعوة والدعاة في العصر الحديث (ص24).
([6]) الفوزان، خطبة جمعة مسجلة صوتيات بعنوان: «وجوب التمسك بمنهج أهل السنة والجماعة»، منشورة على موقعه الإلكتروني.
([7]) ابن القيم، إعلام الموقعين (1/109).
([8]) ابن عثمين، فتوى صوتية لفضيلته ردا عن سؤال ورده يتعلق بالخلافات بين السلفيين، وهو منشور على الشبكة العنكبوتية.
([9]) ابن عثيمين ، المصدر السابق.
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #37  
قديم 07-17-2017, 07:18 PM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي

يسر القائمين على صفحة الشيخ صادق البيضاني ان يبعثوا لكم سلسلة الملف المرفق بعنوان (دراسات منهجية في ظل الانحرافات الفكرية) وعدد السلسلة 33 حلقة في ملف واحد بي دي اف.
وجزى الله خيرا من نشره حتى تعم به الفائدة.
https://goo.gl/4cqaWc
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
  #38  
قديم 08-11-2017, 11:28 PM
أبوزيد البوسيفي الليبي أبوزيد البوسيفي الليبي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Apr 2013
المشاركات: 230
افتراضي

أحسنَ اللهُ إليك أخي ؛ونصرك باتباعِ السنةِ، وأغنمَك الأجرَ الجزيل.
__________________
قال رجل لابن المبارك:هل بقى من ينصح؟ قال: فهل تعرف من يقبل؟
رد مع اقتباس
  #39  
قديم 11-02-2017, 03:06 PM
ابوخزيمة الفضلي ابوخزيمة الفضلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2012
المشاركات: 1,952
افتراضي

آمين وإياكم أخي العزيز
__________________
قال سفيان بن عيينة رحمه الله : ( من جهل قدر الرّجال فهو بنفسه أجهل ).


قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله- كما في «مجموع الفتاوى»:

«.من لم يقبل الحقَّ: ابتلاه الله بقَبول الباطل».

وهذا من الشواهد الشعرية التي إستشهد بها الشيخ عبد المحسن العباد في كتابه
رفقا أهل السنة ص (16)
كتبتُ وقد أيقنتُ يوم كتابتِي ... بأنَّ يدي تفنَى ويبقى كتابُها
فإن عملَت خيراً ستُجزى بمثله ... وإن عملت شرًّا عليَّ حسابُها
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:37 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.