أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
88032 92655

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > منبر القرآن وعلومه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-12-2013, 11:10 PM
محمد المولى محمد المولى غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2013
الدولة: العراق
المشاركات: 207
Thumbs up الساعي إلى سبيل الرشادمنقول - تأملات قرآنية من سورة عبس / لفضيلة الشيخ فتحي الموصلي

الساعي إلى سبيل الرشاد - تأملات قرآنية من سورة عبس / لفضيلة الشيخ فتحي الموصلي
الرحمن الرحيم

: ((عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى)) [عبس:1-10].
أجمع المفسرون على أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات: أنه جاء رجل من المؤمنين أعمى يسأل النبي ويتعلم منه.
وجاءه رجل من الأغنياء، وكان حريصاً على هداية الخلق فمال ، وأصغى إلى الغني، وصد عن الأعمى الفقير، رجاءً لهداية ذلك الغني، وطمعاً في تزكيته؛ فعاتبه الله تعالى بهذا العتاب اللطيف.
وروى الترمذي (3/126 – صحيح) عن عائشة – ا – قالت :
" أنزل ((عَبَسَ وَتَوَلَّى)) في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله رجل من عظماء المشركين؛ فجعل رسول الله ، يعرض عنه، ويقبل على الآخر، ويقول:
" أترى بما أقول بأسا؟ " فيقول: لا، ففي هذا أنزل.
وقد دل المأثور في سبب النزول على: أن الساعي هاهنا كان قاصداً سبيل الرشاد الذي هو ضد الغي؛ وهو: اسم جامع لكل ما يرشد إلى المصالح الدينية والدنيوية، وهو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة.

· ((عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى)):
1- عبس؛ أي: في وجهة، وتولى في بدنه؛ لأجل مجيء الأعمى له.
وأن جاءه الأعمى في موضع نصب؛ لأنه مفعول لأجله؛ المعنى: لأن جاءه الأعمى، وهذا بيان لعلة التولي؛ كما ذكر أهل التفسير (1).
قلت: وهذه العلة ليست لذات المجيء، وإنما لحال النبي في الانشغال بهداية المعرض عند مجيء الأعمى، والله أعلم.
2- قال الصاوي (4/291) : إنما أتى بضمائر الغيبة ((عَبَسَ وَتَوَلَّى)) تلطفاً به وإجلالاً له؛ لما في المشافهة بتاء الخطاب ما لا يخفى من الشدة والصعوبة.
3- والتعرض لصفة عماه: إما لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه ، وتشاغله بالقوم، وإما لزيادة الإنكار؛ كأنه قيل: تولى لكونه أعمى، ... وكان يجب أن يزيده لعماه، تعطفاً وترؤفاً وتقريباً وترحيباً (2).
4- والآية ذكرته بلقب يكرهه الناس، مع أن الله تعالى قال: ((وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ))، وهذا التعارض الظاهر يُدفع من وجوه:
- إن هذا الوصف جاء من باب التعريف في غرض سليم دون تنقص.
- للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام النبي وللإيذان بالرفق به، ومراعاة حاله (3).
- وذكر بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم، وكأنه يقول لهم: ((فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)) : فهذا كفيف البصر، ولكنه وقاد البصيرة، أبصر الحق وآمن به، وجاء مع عماه طالباً للمزيد (4).
5- والعبوسة أمر لا يتفق في الظاهر مع قوله تعالى: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ))، وقوله: ((وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)).
والذي يظهر – والله تعالى أعلم -، أنه لا يتأتى معه؛ لأنه لم يتكلم بما يسيء إلى هذا الصحابي في نفسه بشيء يسمعه، كل ما كان منه إنما هو تقطيب الجبين، وهي حركة مرئية لا مسموعة، والحال: أن هذا أعمى لا يرى تلك الحركة، فكأنه لم يلق إساءة منه ؛ فعوتب من باب التسامي بأخلاقه إلى ما لا نهاية له، إلى حد اللحظ بالعين، والتقطيب بالجبين، ولو لمن لا يراه؛ كما قال : " ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين " وذلك في صلح الحديبية (5).


· ((وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى)):
6- قال شيخ الإسلام ابن تيميه – رحمه الله تعالى – في "المجموع" (16/164) : " فأمره أن يقبل على من جاءه يطلب أن يتزكى وأن يتذكر ".
وقال الشوكاني – رحمه الله تعالى – في "فتح القدير" (5/382) : " لعله يزكى: مستأنفة لبيان أن له شأناً ينافي الإعراض عنه، أي: لعله يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح بسبب ما يتعلمه منك ".
" والمعنى: انظر فقد يكون تزكِّيه مرجو؛ أي: إذا أقبلت عليه بالإرشاد؛ زاد الإيمان رسوخاً في نفسه، وفعلَ خيراتٍ كثيرة مما ترشده إليه؛ فزاد تزكيه " (6).
أي: للتنبيه على أن الإعراض عنه عند كونه مرجو التزكي مما لا يجوز، فكيف إذا مقطوعاً بالتزكي؟! وفيه إشارة إلى أن من تصدى لتزكيتهم من الكفار لا يجرى منهم التزكي والتذكر أصلاً.
7- تقديم التزكية على التذكر، من باب تقديم التخلية على التحلية، والتزكي: هو الإيمان والعمل الصالح الذي تصير به نفس الإنسان زكية؛ : ((قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)) فالتزكية وإن كان أصلها: النماء، والبركة، وزيادة الخير، فإنما تحصل بإزالة الشر؛ فلهذا صار التزكي يجمع بينَ هذا وهذا.
وإن كانت التزكية هي معنى زائد على قدر التطهر من الذنوب فقط، بل تتزكى النفس بكل ما تتحصل به المنافع، وتندفع به المضار.
ومحل التزكية القلب؛ ولهذا صار الإيمان والقرآن غذاء القلب المتزكي؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيميه في "المجموع" (10/95-96) :
" وفيه – أي القرآن – من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب؛ فيرغب القلب فيما ينفعه، ويرغب عما يضره؛ فيبقى القلب محباً للرشاد مبغضاً للغي، بعد أن كان مريداً للغي مبغضاً للرشاد.
فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للارادات الفاسدة حتى يصلح القلب؛ فأصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فطر عليها، كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي ويتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويؤيده، كما يتغذى البدن بما ينميه ويقومه .. ".
8- أما ذكر التزكي مع التذكر فهو لوجوه:
أحدها: أن التزكي يحصل بامتثال أمر الرسول، وإن كان صاحبه لا يتذكر علوماً عنه؛ كما قال: ((يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ))، ثم قال: ((وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)) : فالتلاوة عليهم والتزكية عام لجميع المؤمنين، وتعليم الكتاب والحكمة خاص ببعضهم، وكذلك التزكية عام لكل من آمن بالرسول، وأما التذكر فهو مختص لمن له علوم يذكرها؛ فعرف بتذكره ما لم يعلمه غيره من تلقاء نفسه.
الوجه الثاني: أن قوله: ((أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى)) يدخل فيه النفع قليله وكثيره، والتزكي أخص من ذلك.

الثالث: أن التذكر سبب التزكي، فإنه إذا تذكر خاف ورجا؛ فتزكى، فذكر الحكم وذكر سببه، ذكر العمل وذكر العلم، وكل منهما مستلزم للآخر؛ فإنه لا يتزكى حتى يتذكر ما يسمع من الرسول كما : ((سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى))؛ فلابد لكل مؤمن من خشية وتذكر، وهو إذا تذكر فإنه ينتفع وقد تتم المنفعة؛ فيتزكى (7) .
9- والتزكية تحصل على إثر السماع المجمل؛ أي: هي مُترتبة على سماع التلاوة؛ كما اله تعالى: ((يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ)).

وفي هذا المعنى يقول أبو السعود في تفسيره (3/162) : " التزكية: عبارة عن تكميل النفس بحسب قوتها العملية، وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية، الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة ".
10- وكان عند ابن أم مكتوم – – علم سابق عند مجيئه، وهو أن طريق الرشاد المتضمن للتزكية والتذكر مسلَّم إلى الرسل؛ فلا يتحصل إلا بالتعلم والسعي لذلك.

وفي هذا المعنى يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى – في "المدارج" (2/314-315) :
"فإن تزكية النفوس مسلّم إلى الرسل وإنما بعثهم الله لهذه التزكية، وولاهم إياها وجعلها على أيديهم دعوة، وتعليماً وبياناً وإرشاداً، لا خلقاً ولا إلهاماً، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم".
11- والتذكر: تفعّل من الذكر، وهو ضد النسيان، وهو حضور صورة المذكور العلمية في القلب واختير له بناء التفعل، لحصوله بعد مهلة وتدرج؛ كالتبصّر والتفهّم والتعلّم.

وجملة : "أو يذكر": عطف على يزكى؛ أي: ما يدريك أن يتحصل أحد الأمرين وكلاهما مهم؛ أي: يتحصل الذكرى في نفسه بالإرشاد، لما لم يكن يعلمه، أو تذكر، لما كان في غفلة عنه (8).
والتذكر قرين الإنابة؛ قال – تعالى – ((تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ))؛ فالتبصرة آلة البصر، والتذكرة آلة التذكر، وقرن بينهما وجعلهما لأهل الإنابة؛ لأن العبد إذا أناب إلى الله أبصر مواقع الآيات والعبر؛ فاستدل بها على ما هي آيات له فزال عنه الإعراض بالإنابة والعمى بالتبصر، والغفلة بالتذكر (9).

فائدة:
فمتى قويت إنابة العبد وتذكره: لم تشتد حاجته إلى العظة – وهي الترغيب والترهيب – ولكن تكون الحاجة منه شديدة إلى معرفة الأمر والنهي.

والعظة يراد بمها أمران: الأمر والنهي المقرونان بالرغبة والرهبة، ونفس الرغبة والرهبة، فالمنيب المتذكر شديد الحاجة إلى الأمر والنهي، والمعرض الغافل شديد الحاجة إلى الترغيب والترهيب، والمعارض المتكبر شديد الحاجة إلى المجادلة، كما : ((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)).
فالمخاطب في الآية هو المنيب المتذكر الذي جاء يسعى لتحصيل النفع الشرعي والديني، فهو من أهل الحكمة؛ فيجب أن يقدم على غيره في خطاب التذكر؛ لتحصيل العلم المفصل المتضمن لأنواع الأوامر والنواهي؛ فتأمل.

12- ولما كان التذكر يحصل لمن له علوم يذكرها؛ فإن الساعي إلى الرشاد الموصوف بالخشية كان بحاجة إلى الدليل الهادي المفصل، فهو يحتاج إلى الظفر بهذا الدليل أولاً، ويحتاج إلى أن يهتدي به وينتفع ثانياً، ويحتاج إلى أن ينزّل على قلبه الأسباب الهادية، ويصرف عنه الأسباب المعوقة ثالثاً، فإذا حصل للعبد غفلة وذهول استذكر هذه العلوم، فضلاً عن العلوم والإرادات الفطرية، فزال عنه الإعراض، وتذكر بهذه العلوم والإرادات مطالب القرآن الكبرى (10).
ويقول شيخ الإسلام في "درء تعارض العقل والنقل" (7/425):
" وقد يكون العلم والإرادة حاصلين بالفعل، أو بالقوة القريبة من الفعل، مع نوع من الذهول والغفلة، فإذا حصل أدنى تذكر رجعت النفس إلى ما فيها من العلم والإرادة، أو توجهت نحو المطلوب؛ فيحصل لها معرفته ومحبته " .
وأيضاً، فذكر الإنسان يحصل بما عرفه من العلوم قبل هذا، فيحصل بمجرد عقله، وخشيته تكون بما سمعه من الوعيد، فبالأول يكون ممن له قلب يفعل به، والثاني يكون ممن له أذن يسمع بها، وقد تحصل الذكرى الموجبة للخير بهذا وبهذا كما : ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)) (11).
أيُّ رجل حي القلب، مستعد، تليت عليه الآيات؛ فأصغى بسمعه، وألقى السمع، وأحضر قلبه، ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه، فهو شاهد القلب ملق السمع، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة (12).
يظهر من ذلك أن "أو" في الآية (أو يذكر) لم يرد على المعنى الواو؛ لأن المطلوب في الآية: التزكية، والتذكر، والغالب تحصيلهما معاً؛ لكون كل منهما مستلزم للآخر وسبب له، لكن مع ذلك فقد يحصل أحدهما دون الآخر أحياناً بحسب حال العبد – والله تعالى – أعلم.

· ((إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى)):
13- هذه الآية؛ كقوله تعالى: ((فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)).
وإنْ: شرطية، ليست نافية، وحكى الماوردي أنها بمعنى: " ما المصدرية "، أي: ذكر ما نفعت، أو ما دامت تنفع، ومعناها قريب من معنى الشرطية.

ومعنى هذا يشبه قوله تعالى: ((فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ)).
وسبب ذلك:
أن التعليم والتذكير له فاعل، وله قابل، وإن لم يتعلم ولم يتذكر؛ فقد وجد أحد طرفيه، وهو الفاعل دون المحل القابل.
فحيث خص بالتذكير والإنذار ونحوه المؤمنين؛ فهم مخصوصون بالتام النافع الذي سعدوا به، وحيث عمم؛ فالجميع مشتركون في الإنذار الذي قامت به الحجة على الخلق، سواء قبلوا أم لم يقبلوا.

فائدة:
فكل تذكير ذكر به النبي المشركين حصل به نفع في الجملة، وإن كان النفع التام هو للمؤمنين، الذين قبلوه واعتبروا به، وجاهدوا المشركين الذي قامت عليهم الحجة.
فيكون مأموراً أن يذكر المنتفعين بالذكرى، تذكيراً يخصهم بها، غير التبليغ العام الذي تقوم به الحجة (13).



· ((أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى)):
14-أي: استغنى بماله وقوَّته عن سماع القرآن والهداية والموعظة؛ فأنت له تصدى، أي: تتعرض بالإقبال عليه، وتصغي له، رجاء أن يسلم ويهتدي !
15-ويدخل فيه هذا المعنى: أنه استغنى عن الله؛ فترك عبوديته جانباً، ولم ير نفسه مفتقرة غاية الافتقار إلى ربها، الذي لا نجاة لها، ولا فلاح إلا بأن يكون محبوبها ومعبودها، الذي تقصده وتتوجه إليه (14).
وهذا هو الاستغناء المذموم الناتج عن جهلين:

أحدهما: جهل العبد بربه.
والثاني: جهله بمعرفة نفسه، فهذا الاستغناء: إما أن يكون في رؤية غنى نفسه لجهله بها؛ وهذا موجبه طغيان العبد؛ كما قال – تعالى – ((كَلا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى))، أي: جعل الطغيان ناشئاً عن رؤيته غنى نفسه.
وأما أن يكون في استغنائه عن ربه بترك طاعته وعبوديته؛ وهذا موجبه الهلاك، وعدم تيسيره لليسرى، كما قال – تعالى – : ((وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى)).
والآية في سورة عبس: جمعت بين الأمرين الناتجين عن الجهل بالله تعالى والجهل بالنفس، فالاستغناء عن الله؛ سبب هلاك العبد وتيسيره لكل عسرى، ورؤيته غنى نفسه؛ سبب طغيانه، وكلاهما مناف للفقر والعبودية (15).


· ((وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى)):

16-وفيها قطع الطمع وبتر الرجاء عن هداية وتزكية كل الخلق؛ لأن هذا حرص زائد على القدر مُفوّت لمصالح جمة، قال الرازي في تفسير الآية: "أي: لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم، إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم ".

17-وفيه إشارة إلى أن من تصدى لتزكيتهم من الكفار لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلاً.


· ((وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى)):

18- أي: وصل إليك حال كون مسرعاً في المجيء إليك طالباً منك أن ترشده، وتعظه بمواعظ الله (16).
فالآية: أثبتت له سعياً وقصداً في تحصيل المطلوب، وهذا السعي؛ يبعث على المقصود والمطلوب قصداً وطلباً، وعلى الخلق دعوة ونصحاً وحرصاً؛ كما : ((وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)).

19-وذِكرُ السعي زائداً على قدر المجيء، فيه إشعار بمدحه من جهة أن السعي فيه معنى الإسراع والإقبال، وهذا شرط في تحقق الإنابة.
فالإنابة تتضمن أربعة أمور: محبة الله، والخضوع له، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه.
والمنيب إلى الله: المسرع إلى مرضاته، والراجع إليه كل وقت المتقدم إلى محابه؛ فهذا الذي جاء يسعى، جاء منيباً مقبلاً على تحصيل المطلوب، ولما كان حاله كذلك؛ فإن رجاء تذكره حاصل لا محالة؛ لأن الإنابة قرينة التذكر وسبب في تحصيل الخشية، ف: ((وَهُوَ يَخْشَى)).
20-والخشية: خوف مقرون بمعرفة؛ أي: معرفة جامعة بالله رباً ومعبوداً وبأسمائه وصفاته، وبشرعه: أمره ونهيه، وبوعده ووعيده.

والخشية تكون لمن عنده علم، : ((يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ))، وقال النبي : "إني أتقاكم لله، وأشدكم له خشية"، وقال ابن مسعود : "كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار جهلاً".

21-والخشية هنا مطلقة؛ أي: يخشى الله تعالى، ويخشى عذابه، والجملة حال من فاعل ((يَسْعَى))، كما أنه حال من فاعل ((جَاءكَ)).
أي: فحاله عند المجيء الإقبال والإسراع مع الخشية والخوف، وهذا ثناء عليه من جهة علمه؛ لأن صاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم، وثناء عليه من جهة عمل قلبه؛ لأن الإنابة من أخص أعمال القلوب.
فاجتمعت له صحة القوة العلمية وصدق القوة العملية الإرادية.

22-فقُرن في هذا السياق بين الخشية والإنابة، والثانية قرينة التذكر، فيكون الأمر أيضاً من باب قرن الخشية بالتذكر، كما : ((سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى))، وكذلك قرن الإنابة بالتذكر كما : ((وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَن يُنِيبُ))، فاجتمعت لهذا الساعي إلى سبيل الرشاد: التذكر والإنابة، والخشية فضلاً عن التزكية؛ فتأمل.

· ((فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى)):

أي: فأنت تتشاغل بغيره وتعرض عن الساعي إلى سبيل الرشاد.

23-وتقديم ضميره – أي: ((فَأَنتَ)) – على الفعلين على أن مثلك خصوصاً لا ينبغي أن يتصدى للمستغني، ويتشاغل عن الفقير الطالب لحق (17).

تنبيه:
فرق ظاهر بين اشتغال النبي بهداية المعرض عن هداية المقبل؛ وبين تشاغله بفضول المباح عن واجب التبليغ، فالأول اشتغال مخل بالكمال؛ لعدم مراعاة الأولوية فيه، والثاني تشاغل مخل بالأصل؛ فكان فعل النبي من قبيل الأول (18) فتأمل.



فوائد دعوية:
الأولى: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله تعالى – في "تيسير الكريم" (7/568):
وهذه فائدة كبيرة هي المقصودة من بعثة الرسل، ووعظ الوعاظ، وتذكير المذكرين، فإقبالك على من جاء بنفسه، مفتقراً لذلك، مقبلاً، هو الأليق الواجب؛ وأما تصديك وتعرضك للغني المستغني، الذي لا يسأل، ولا يستغني لعدم رغبته في الخير، مع تركك من هو أهم منه؛ فإنه لا ينبغي لك؛ فإنه ليس عليك أن لا يزكى فلو لم يتزكَّ فلست بمحاسب على ما عمله من اشر.
فدل هذا على القاعدة المشهور، أنه: "لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة".
وأن ينبغي لطالب العلم المفتقر إليه، الحريص عليه، أزيد من غيره" أ.هـ

الثانية: إذا كان المدعو صاحب حكمة – أي: أنه من أهل الحق قائم به –؛ فهذا يقدم على غيره في التزكية والتذكر؛ لأنه جدير بالرعاية، ومصلحته راجحة على مصلحة غيره.

الثالثة: قال ابن حزم – رحمه الله تعالى – في "الفصل": "وأما قوله: ((عَبَسَ وَتَوَلَّى)) – الآيات –، فإنه كان – عليه السلام – قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش، ورجا إسلامه، وعلم – عليه السلام – أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير وأظهر الدين، وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته وهو حاضر معه؛ فاشتغل عنه – عليه السلام – بما يخاف فوته، وهذا غاية النظر في الدين والاجتهاد في نصرة القرآن – في ظاهر الأمر – ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر فعاتبه الله – عز وجل – على ذلك، إذ كان الأولى عند الله تعالى أن يُقبل على ذلك الأعمى الفاضل البر التقي، وهذا نفس ما قلناه ".

الرابعة: قال ابن عاشور: "بل شأنُ مقوّم الأخلاق أن يكون بمثابة الطبيب بالنسبة إلى الطبائع والأمزجة؛ فلا يجعل لجميع الأمزجة علاجاً واحداً، بل الأمر يختلف؛ فهو مخاطب بالحفاظ على مصالح المجموع ومصالح الآحاد؛ بحيث لا يدحض مصالح الآحاد لأجل مصالح المجموع؛ إلا إذا تعذر الجمع بين الصالح العام والصالح الخاص (19)" أ.هـ

أهم ما أرشدت إليه الآيات:
1- إن الساعي ابن أم مكتوم – – كان قاصداً سبيل الرشاد، وهي الهداية للإيمان والأعمال الصالحة.
2- إن علة التولي ليست لذات مجيء الأعمى، إنما لمجيئه عند انشغال النبي بهداية المعارض.
3- إن عتاب الله تعالى لنبيه عتاب تلطف ولين، وليس عتاب شدة وصعوبة.
4- أن الساعي ذُكر بلقب يكرهه الناس، مع أن منتهى معان الآيات تفيد مدحه والثناء عليه.
5- كان ابن أم مكتوم كفيف البصر، لكنه وقّاد البصيرة؛ أبصر الحق وآمن به وجاء مع عماه يسعى طالباً المزيد.

6- لا يجوز الإعراض عمن يرجى تزكيته، فكيف والحال لمن كان مقطوعاً بتزكيته؟!
7- تقديم التزكية على التذكر من باب تقديم التخلية على التحلية.
8- التزكية متضمنة لتحصيل الخير ودفع الشر، أي: هي معنى زائد على قدر التطهر من الذنوب فقط.
9- الإيمان والقرآن غذاء القلب المتزكي، والتزكي عام لكل من آمن بالرسول، أما التذكر فهو مختص لمن له علوم يذكرها.
10- طريق الرشاد المتضمن التزكية والتذمر مسلّم للرسل، فلا يتحصل إلا من طريقهم تعليماً وبياناً ودعوة وإرشاداً.
11- إن العبد إذا أناب إلى الله تعالى أبصر مواقع الآيات والعبر؛ فزال عنه الإعراض والعمى والغفلة.
12- بحسب قوة الإنابة والتذكر تشتد حاجة العبد إلى معرفة الأمر والنهي.
13- المنيب المتذكر هو من أهل الحكمة؛ فيجب أن يقدم على غيره في خطاب التزكي والتذكر.
14- الساعي إلى سبيل الرشاد – وبعد أن يظفر بالدليل الهادي المفصل – يحتاج إلى أن يهتدي به وينتفع منه، وهذا لا يحصل إلا بإزالة الأسباب المعوقة لذلك.

15- إذا حصل نوع من الذهول والغفلة احتاجت النفس على تذكر علوم الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة؛ لتحصيل مطالب الرسالة الضرورية من التوحيد والأمر والنهي والوعد والوعيد.
16- إذا خُصَّ المؤمنون بالتذكير فهم مخصوصون بالتذكير التام النافع، وحيث يعمم فالجميع مشتركون فيه على أساس التبليغ العام الذي قامت به الحجة.

17- الاستغناء المذموم يكون من جهة جهل العبد بربه، أو جهله بنفسه، وكلاهما موجبه الهلاك والطغيان.
18- جاء ابن أم مكتوم – – إلى النبي ساعياً سعي إنابة وإقبال وقصد وخشية.
19- صاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم الشرعي النافع.
20- لما بدأ الفتية بواقعهم يصفونه، ويشخصون خطورة الشرك في قومهم دلّ ذلك على فقههم بأحوال هذا الواقع لا كدعاة اليوم الذين جعلوا الدعوة إلى توحيد الله تعالى آخر الأمر.
21- هؤلاء الفتية قد أوتوا قوة علمية في جدل خصومهم ويقيناً يعضده؛ فأعجزوا قومهم عن الإتيان بالسلطان البيّن، والدليل الظاهر.


22- لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة.

23- ينبغي الإقبال على طالب العلم، المفتقر إليه، الحريص عليه أزيد من غيره.


هذا ما تيسر جمعه بخصوص هذه الآيات، والله تعالى وحده الهادي إلى سبيل الرشاد.

-------------------------المراجع-----------------------
1) "تفسير القرطبي" (19/11)، وانظر: "تفسير أبي السعود" (3/162).
2) قاله أبو السعود في "تفسيره"، ونقله القاسمي في "محاسن التأويل" (17/53).
3) "نظمُ الدُّرر" للبقاعي (8/324).
4) انظر: "أضواء البيان" (9/74-94).
5) انظر: "أضواء البيان" (9/48) بتصرف.
6) "التحرير والتنوير" لابن عاشور (15/16).
7) انظر: كلام شيخ الإسلام في "المجموع" (16/185-186).
8) "التحرير والتنوير" لابن عاشور (15/16).
9) "مدراج السالكين" لابن القيم (1/441).
10) انظر: حول الظفر بالدليل الهادي، كلام شيخ الإسلام في "المجموع" (4/36).
11) "المجموع" (16/180-181).
12) "مدراج السالكين" لابن القيم (1/242).
13) "المجموع" بتصرف، انظره (16/153-164).
14) "تيسير الكريم الرحمن" (7/638).
15) انظر مباحث الفقر في "طريق الهجرتين" لابن القيم ص34 وما بعدها.
16) الشوكاني في "فتح القدير" (5/383).
17) "تفسير أبي السعود" (3/162).
18) في حين ذهب بعض أهل التفسير إلى أن مناط العتاب إنما هو عتاب على العبوس والتولي، لا على ما حفّ بذلك من المبادرة بدعوةٍ أو تأخير إرشاد؛ انظر "تفسير ابن عاشور" (15/113).
19) "التحرير والتنوير" (15/ص109-110).



[منقول عن موقعه الرسمي]


__________________

رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
taglist

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:28 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.