أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
42171 169036

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > منبر الفقه وأصوله > منبر الحج

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-15-2009, 11:02 PM
أبوالأشبال الجنيدي الأثري أبوالأشبال الجنيدي الأثري غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 3,472
افتراضي قاعدة في أفعال الحج والعمرة لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ

قاعدة في أفعال الحج
رسالة مستلة من " جامع السائل " (1/119ـ 219) تحقيق محمد حمش
تحت إشراف العلامة بكر ابو زيد ـ رحمه الله ـ .
بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله:
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له.
وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا.
فصل
في أعمال الحج والعمرة، وما يُشرَع منها في غير حج ولا عمرة، وما يختص بالحج، وهل لمن ليس بحاج ولا معتمر أن يدخلَ معهم في بعض ذلك ولا يلتزمَ شرائطَه، وكذلك الصلاة فنقول:
أعمال الحج ثلاثة أقسام، منها ما يختص بالحج، ومنها ما يشترك فيه الحج والعمرة، ومنها ما يُشرَع منفردًا عن الحج والعمرة.
فهذا الثالث هو الطواف بالبيت، فإن الحج لابدّ فيه من طوافٍ بالبيت، وكذلك العمرة. والطوافُ عبادة مستقلة، فيطوف بالبيتِ المُحِلُّ الذي ليس في حج ولا عمرة، ولا يُشتَرطُ له إحرامٌ . وهذا متفق عليه بين المسلمين، مشروع للخلق من حين بَنَى إبراهيمُ البيتَ. قال تعالى: العبادات الطواف والاعتكاف والصلاة هي مشروعة لجميع الناس، لا يَختصُّ شيء من ذلك بالحج والعمرة، بل الاعتكاف مشروع بغير إحرام، وكذلك الصلاة، وكذلك الطواف. لكن الطواف هو ركن في الحج والعمرة، بخلاف الاعتكاف، لقوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ) (1) .
وأما الطواف بالصفا والمروة فيختصُّ بالحج والعمرة، لا يُشرَعُ منفردًا، بل ولا يُشرَع إلاّ بعدَ الطواف بالبيت، ولهذا يجيء في الحديث: "طافَ بالبيت وبين الصفا والمروة" (2) . قال تعالى: (*إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) (3) ، لم يُشرَع ذلك مطلقًا كما شُرِع الطواف والاعتكاف والصلاة، وقد ثبتَ في الصحيح (4) : أن ناسًا كانوا يظنونَ أن الصفا والمروة ليس من شعائر الله، بل ظنُّوا ذلك من أعمال الجاهلية، وآخرون كانوا لا يطوفون بهما في الجاهلية. فلما جاء الإسلامُ سألوا عن ذلك، فأنزلَ اللهُ هذه الآية، يُبيِّنُ أن الصفا والمروة من شعائرِه، وقد شَرَعَ لعبادِه الطوافَ بهما، فلا جُناحَ في ذلك على من حجَّ أو اعتمر، وأزالَ بذلك ما كان قد حَصَلَ من الشك والظن. وهذا كما يسألُ الرجلُ عن عبادةٍ مأمورٍ بها، فيظنُّ أنها منهيّ عنها، فيقالُ له: لا بأس بذلك، وإن كان ذلك مشروعًا مستحبا.
ولم يكن حين نزولِ هذه الآية قد أوجب الله الحج، بل بيَّن أنحج أو عمرةٍ بالكتاب والسنة والإجماع، فلا يُفْعَل مُفردًا كالطواف، ولا يختصُّ بالحج كالوقوف. وكذلك الإحرام والتلبية والحلق أو التقصير هو مما يشترك فيه الحج والعمرة.
وأما القسم الثالث وهو ما يختصّ [به] الحج، كالوقوف بعرفةَ وتوابعه مزدلفةَ ومنى، ورمي الجمار، فهذه الأعمال يختص بها الحج، وما اختصّ به الحج فإنه يختصُّ بمكانٍ وزمانٍ . فالوقوف لا يكون إلاّ يومَ عرفةَ وليلةَ النحر، وهو مختص بعرفات، لا يُسافَر إلى غيرِها للوقوف، وكذلك توابعه: كالوقوف بمزدلفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار، فهذا له مكان مخصوص، وهو مشروع في أوقاتٍ مخصوصة.
بخلاف العمرة، فإنها مشروعة في جميع السنة، قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (1) ، وقال: (*يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (2) .
ولهذا اتفق العلماء على أنَّ من طَلَعَ عليه فجرُ يومِ النحرِ ولم يَقِفْ بعرفةَ، أنه فاتَه الحج، لأنَّ له وقتًا محدودًا، وإذا فاته الحج سقطتْ توابعُه - كالوقوف ورمي الجمار - عند عامة العلماء للسلف والخلف، وهو قولُ الأئمة الأربعة وغيرهم، لكنه هل ينقلب إحرامُه عمرةً؟ لكونها لاحج أو عمرةٍ بالكتاب والسنة والإجماع، فلا يُفْعَل مُفردًا كالطواف، ولا يختصُّ بالحج كالوقوف. وكذلك الإحرام والتلبية والحلق أو التقصير هو مما يشترك فيه الحج والعمرة.
وأما القسم الثالث وهو ما يختصّ [به] الحج، كالوقوف بعرفةَ وتوابعه مزدلفةَ ومنى، ورمي الجمار، فهذه الأعمال يختص بها الحج، وما اختصّ به الحج فإنه يختصُّ بمكانٍ وزمانٍ . فالوقوف لا يكون إلاّ يومَ عرفةَ وليلةَ النحر، وهو مختص بعرفات، لا يُسافَر إلى غيرِها للوقوف، وكذلك توابعه: كالوقوف بمزدلفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار، فهذا له مكان مخصوص، وهو مشروع في أوقاتٍ مخصوصة.
بخلاف العمرة، فإنها مشروعة في جميع السنة، قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (5) ، وقال: (*يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) (6) .
ولهذا اتفق العلماء على أنَّ من طَلَعَ عليه فجرُ يومِ النحرِ ولم يَقِفْ بعرفةَ، أنه فاتَه الحج، لأنَّ له وقتًا محدودًا، وإذا فاته الحج سقطتْ توابعُه - كالوقوف ورمي الجمار - عند عامة العلماء للسلف والخلف، وهو قولُ الأئمة الأربعة وغيرهم، لكنه هل ينقلب إحرامُه عمرةً؟ لكونها لا وقتَ لها، أو يتحلَّلُ بطوافِ الحج وسعيِه؟ فيه قولانِ مشهوران للعلماء، والنزاع في مذهب أحمد وغيره (7) .
وفيها قولٌ شاذ أنه يتمُّ أعمالَ الحج من الوقوف بمزدلفةَ ورمي الجمار، يُروَى عن الأوزاعي والمزني، وهو رواية ضعيفة عن أحمد.
والصواب ما عليه الجمهور، كما نُقِلَ عن الصحابة، ولأن اللهَ إنما أمر بهذه الأعمال من وقفَ بعرفةَ، فقال: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (8) الآية. وإذا كان إنما أمر بذلك من أفاض من عرفات، فمن فاته الحج لم يُفِض من عرفات، فلا يؤمَر بذلك. وهذا كما أن الطواف بين الصفا والمروة إنما يكون تابعًا للطواف بالبيت، فلا يُفعَلُ إلاّ بعدَه، فمن لم يَطُفْ بالبيت لم يَطُفْ بالصفا والمروة.
وأعظم أعمال الحج الوقوفُ والطواف، وهما ركنانِ في الحج باتفاقِ العلماء، وهذا من جنس السكون، وهذا من جنس الحركة.
فصل
فمن اجتاز بالمواقيت لقصد الحج والعمرة، فعليه الإحرام بالسنة المستفيضة واتفاقِ العلماء، كما قال ابن عباس في الحديث المتفق عليه (9) ، وقال: وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، وأهل الشام الجحفة، وأهل نجدٍ قرنًا، وأهل اليمن يلملم، وقال: "هنّ لهنّ ولكل آتِ آتى عليهن من غيرِهن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دُونَ ذلكفمن أهلِه، حتى أهل مكة يُهِلُّون منها".
وإذا اجتاز بالمواقيت لا يُرِيد الحرمَ، فليس عليه الإحرامُ بالاتفاق.
وإن اجتاز بها يُريد مكةَ لتجارة أو زيارة أو غيرِ ذلك مما لا يتكرر، فإنه ينبغي له أن يَدخُل محرمًا بحج أو عمرة. وهل ذلك واجب؟ فيه قولان للعلماء، والجمهور على الوجوب، وهو مأثور عن ابن عباس، حكاه عنه أحمد وغيره، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة، وهو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد. وعنهما أن ذلك مستحب.
ومن قال بالوجوب تنازعوا فيما إذا ترك ذلك، هل يلزمُه القضاءُ؟
فأوجبَه أبو حنيفة، ولم يُوجِبْه الباقون. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "ممن يريد الحج والعمرة" (10) لا يُنافِي هذا القولَ، فإن هؤلاء يُوجبون عليه أن يُرِيد الحج أو العمرة، لكن الحديث فيه نفي ذلك عمن (11) لا يريده، مثل المجتاز بالمواقيت إلى غير مكة.
ولو كان منزلُه بالمواقيت أو دونَها لم يُوجبْ أبو حنيفة عليه الإحرام، وأوجبه مالك والشافعي وأحمد - علىَ قولهما بالوجوب -، وقد حكى الطحاوي الأوَّلَ عن مالك.
والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو وخلفاؤه لم يَدخُلْ أحدٌ منهم مكَّةَ إلاّ محرمًا، إلاّ عامَ الفتح، فانه دَخَلَ وعلى رأسِه المِغْفَر (12) ، ولم يكن محرمًا، لأن الله أَحَلَّ له القتالَ فيها يومَئذٍ، وقال: "إنها لم تَحِلَّ لأحدِ قبلي، ولا تَحِلُّ لأحدٍ بعدي، وإنما أُحِلَّتْ لي ساعةً من نهارٍ" (13) . وقال: "فإنأحدٌ تَرخَّصَ بقتالِ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها فقولوا: إنما أحلَّها اللهُ لرسوله، ولم يُحِلها لك، وقد عادت حرمتُها اليومَ كحرمتِها أمسِ" (14) .
فصل
وأما من عَمِلَ أعمالَ الحج والعمرة فهذا عليه أن يفعلها على الوجه المشروع، وليس له أن يجتاز بالمواقيت بلا إحرامٍ ، بالسنة واتفاق العلماء. وهو كمن أراد الصلاةَ، عليه أن يُصلَّيها على الوجه المشروع، فيصلّيها بطهارة وقصدٍ إلى القبلة، وإن كانت الصلاةُ تطوعًا غيرَ فرضٍ ، لكن ليس له أن يُصلَيَ إلاّ على الوجه المشروع.
كذلك الحج والعمرة وإن كان متطوعًا، فليس له أن يحجّ ويعتمر إلاّ على الوجه المشروع. فلو قال: أنا أدخلُ بلا إحرام، وأطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، لم يكن له ذلك. وكذلك لو قال: أنا أدخلُ بلا إحرامٍ ، وأَقِفُ بعرفةَ ومزدلفةَ وأرمي الجمار، لم يكن له ذلك بالسنة واتفاقِ العلماء.
ولو قال: أنا أريد الوقوفَ فقط، فأذهبُ في شأني غيرَ محرمٍ إلى عرفة، فأقِفُ مع الناس وأرجعُ، فهذا أولَى بالمنع، لأن ذاك تركَ الإحرامَ وحدَه، وهذا تركَ الإحرامَ وتوابعَ الوقوف. والوقوف بعرفة إنما شرعَه الله بعمل قبلَه - وهو الإحرام -، وعملٍ بعده - وهو الوقوف بالمشعر الحرام وسائر المناسك-، قال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْفَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) إلى قوله (*وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) ) (15) .
فأمر سبحانَه الناسَ إذا أفاضوا من عرفات أن يذكروه عند المشعر الحرام، وهو مزدلفة كلها بالسنة واتفاق العلماء، كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عرفة: "هذا الموقف، وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عُرَنَة". وقال في مزدلفة: "هذا الموقف، ومزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن مُحَسَّر". وقال: "منى كلها مَنْحر، وفجاجُ مكة كلها منحر" (16) . وأمر الناس بقضاء مناسكهم أي إتمامها وإكمالها. وأمرهم أن يذكروه في أيام معدودات، وهنّ أيام التشريق، وفيها يُرمَى الجمارُ الثلاث، ويُذكرَ اللهُ عند رمي الجمار بدعاءٍ بينَ كلّ جَمرتَيْن. ومزدلفةُ المبيتُ بها والوقوفُ بها ورَمْيُ الجمار بمنًى واجب عند العلماء قاطبة، ومنهم من جعلَ الوقوفَ بمزدلفةَ ركنًا.
فهذا الذي وقفَ بعرفةَ إن لم يفعل ما أمره الله من هذه الأعمال فقد عصى الله ورسولَه، وتَركَ ما أوجبَه الله. وإن فَعَلَ ذلك بغير إحرام، وقال: كنتُ حاجًّا، فهو أيضًا عاصٍ لله ورسوله، فإن هذه هي أفعال الحج، وليس للإنسان أن يأتي بالعبادة بلا قَصْدِ التعبد، فإنّ هذا استهزاءٌ بآيات الله. وهو بمنزلة من يقومُ ويَركعُ ويقرأ ويسجد، ويقول: لستُ مُصلِّيًا، فلا أحتاجُ إلى وضوء.
وليس لأحدٍ أن يَشهدَ مجامعَ الناس في صلاتهم وحجهم إلاّ إذا شاركهم في ذلك. وفي السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صلاةَ العصر بمسجد الخيف، فرأى رجلينِ لم يُصَلِّيا، فقال عليَّ بهما، فأُتِيَ بهما تُرعَدُ فَرائِصُهما، فقال: "مالكما لم تُصَلِّيا؟ ألستما مسلمينِ؟"، فقالا: يا رسولَ الله! صلينا في رحالنا، قال: "إذا صليتما في رحالِكما ثمَّ أتيتما مسجدَ جماعةٍ فصَلِّيا معهم، فإنهما لكما نافلة" (17) . وكذلك قال عن الأمراء الذين يُؤخرون الصلاةَ عن وقتها، قال: "صَلُوا الصلاةَ لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلةً" (18) . وفي رواية: "ولا يَقُلْ أحدُكم قد صَلَّيتُ" (19) .
وكذلك الوقوف بعرفة ومزدلفةَ، لا يَقِفُ هناك مع الحجاج إلاّ حاجٌّ مُحرِم. وقد رُوِي عن عمر بن الخطاب أنه رأى بعرفةَ قومًا عليهم العمائمُ، فأرادَ عقوبتهم.
والله سبحانَه يُبَاهِي الملائكةَ بأهلِ عرفَةَ، فيقول: انظروا إلى عبادي، آتوني شُعْثًا غُبْرًا (20) . وهذا شعارُ الإحرام، فمن لم يُحرِم لم يأتِ رَبه لاَ أشعثَ ولا أغبرَ. فمن ذهبَ إلى عرفات بغير إحرام، ووقف مع الناس ثم انصرف منها، كما يَحصُل لطائفةٍ من الناس ممنيَحمِلُه الجن والشياطين، يَحمِلُونهم إلى عرفات ثمّ يَرُدُّونهم، فهؤلاء ضالُّون مبتدعون خارجون عن شريعة الإسلام، وإن كانوا وقفوا بعرفاتِ بغيرِ إحرامٍ وفي غيرِ حجّ، ولم يفعلوا ما أمر به المفيضون من عرفات بعد ذلك.
والوقوفُ بعرفاتٍ لا يكون قط مشروعًا إلاّ في الحج باتفاق المسلمين، في وقتٍ معين على وجهٍ معين، فمن قال: أَقِفُ ولستُ بحاجّ فقد خرجَ عن شريعة المسلمين، بل إن اعتقد ذلك دينا لله مستحبًّا فإنَّه يُستتابُ، فإن تابَ وإلاّ قُتِلَ. وإن قال: ليس بدينٍ لله ولا هو مستحب، قيل له: إنما فعلتَ على وجهِ التديُّن والتعبد به، وهذا لا يجوز. وإن كنتَ فعلتَه على سبيل التنزه والتفرُّج فهذا شَرٌّ وشَرٌّ .
والحج والعمرة لهما شأن يميزهما، فيلزمان بالشروع، كما قال: (وأتموا الحج والعمرة لله) (21) ، فمن دخلَ فيهما لم يكن له الخروج، فالواقفُ بعرفةَ عليه إتمامُ الحج وإن كان متطوعًا، وليس له أن يَقِفَ ويَنصرِفَ باتفاق المسلمين.
فهذا الذي حَملتْه الجن إلى عرفةَ ثم منها إلى بلده، قد تركَ ما أمر الله به قبلَ الوقوف وبعدَ الوقوف وحالَ الوقوف، حيث وقَفَ بثيابه من غير إحرام. ولو قُدِّرَ أنه وَقَفَ بعرفةَ ومزدلفةَ ومنى كان قد تركَ ما يجب عليه من الإحرام، وفعل ذلك في ثيابه بغير عُذْرٍ . وهذا لا يجوز بالنص والإجماع.
ولهذا يُذكَر عن بعض المحمولين إلى عرفةَ من بلدٍ بعيدٍ - إمّا الإسكندرية أو غيره - أنه رأى في منامه وهو هناك ملائكةً تَنزِلُ تكتُبُ
الحجاجَ، فقال: ألاَ تكتبوني؟ فقالوا: لستَ منهم، الحجّاجُ هؤلاءِ الذين جاءوا رُكبانًا ومُشاةً، وأحرموا ووقفوا وهم يتمون الحج. أو كما قيل له.
وأيضًا فالله تعالى إنما دعا الناسَ إلى بيته على لسانِ الخليل، قال: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) (22) . فجَعلَ الآتينَ إلى بيته نوعينِ: رجالاً ورُكبانًا، وليس فيهم طائر ولا محمول في الهواء، فدلَّ على أن هذا القسم الثالث ليسوا ممن أجاب دعوةَ ربّهم، ولهذا لا يُلَبون.
ومنهم من يَحمِله الشيطانُ، ويَمنعُه أن يَرى شيئًا، فلا يُحِسُّ بنفسِه إلاّ بعرفةَ أو بغيرها من الأماكن التي يحمله إليها. وقد حدَّثني غيرُ واحدٍ من الثقاتِ عن الشيخ إبراهيم الجعبري أنه قال: خرجتُ مرةً، فرأيتُ بالكسوةِ - أو قال بغيرها - رجالاً ممن يطير في الهواء، فيذهب إلى مكة، فقالوا: لا تذهبُ معنا؟ فقلتُ لهم: لا، فإن هذا الذي تفعلونه لا يُسقِط الفرضَ عنكم، ولا يتقبله الله حتى تحجوا كما أمر الله ورسولُه، فيحصُل لكم في طاعةِ اللهِ من التَعَب وغيرِه ما يَأجُرُكم الله عليه، وأما هذا الحج فلا فائدةَ فيه. فقالوا: نحن نَقْبَل منك ونَحجُّ معك على السنة. فلما حَجوا قالوا: جزاكَ الله خيرًا، فإنّا في هذه الحجة ذُقْنا طعمَ العبادةِ لله وحَلاوةَ الحج.
ومن هؤلاء المحمولين الذي تَحمِلُهم الجن إلى مكة من يُذهَبُ به قبلَ الحج، فيُحرِم من الميقاتِ، ويحجُّ حجَّ المسلمين. ولكن هذا محروم، فوَّتَ نفسَه فَضْلَ السَّيْرِ إلى المواقيت راكبًا أو ماشيًا، فلميكن له أجر الحجَّاج. ومن هذا الباب ما يُحكَى عن بعض المشايخ - معروفٍ أو غيرِه - أنه سارَ في الهواءِ إلى مكة، فطافَ بالبيتِ، ثمَّ ذهبَ ليشرَبَ من زمزم، فوقَعَ فَشُجَّ. فإنّ هذا وإن كان أهونَ من الذي حُمِلَ يومَ عرفةَ إلى عرفةَ، كما حُمِلَ جماعة كثيرة من أعصارٍ وأمصارٍ متفرقةٍ . وأقدمُ من حُكِيَ هذا عنه حبيب العجمي. فأما الصحابة فكانوا أجلَّ قَدْرًا من أن يَطمَعَ الشيطانُ في أن يُضِلَّهم ويَصْرِفَهم عن سنة الرسولِ وشريعتِه، كما صَرَفَ من كانَ قليلَ العلمِ والمعرفةِ بالسنة والشريعة من العُبّاد والزهّاد وغيرِهم.
والذين يُحْمَلون إلى عرفات أو غيرها، منهم من لا يَعرِف أن ذلك من الجنّ، ومنهم من يَعرِف ذلك، ويَظُنّ هؤلاء وهؤلاء أنّ ذلك كرامة من كرامات الأولياء، وأنّ هذا العمل مما يُحِبُّه الله ويَرضاه ويثيبُ صاحبَه عليه. ولو علموا أن ذلك ليس بواجب ولا مستحب في الشريعة، وأنّه من إضلالِ الشياطين لهم، لم يفعلوه لما عندهم من الدين والخير وحسنِ القصد، رحمة الله عليهم. والمجتهد المخطئ يُغفَر له خَطَؤُه، ويثَاب على حسن قَصْدِه وما عمله من عمل مأمورٍ به، والله أعلم. لكن مثل هذا هو مما يُعذَر فاعلُه عليه، ليس هو مما يُستَنكَر عليه، بخلاف ما فعلَه من لم يَعرِف، فإنه يظن أن هذا من أعظم القُربات. ولو عَلِمَ أنّ مثل هذا الحمل إلى الأمكنة البعيدة يَحصُل للكفار من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين أعظمُ مما يَحْصُل للمؤمنين، لَعَلِمَ أنه من عمل الشيطان، لا مما أمرَ به الرحمن.
وذلك أن الطواف بالبيت مشروع بغير إحرام، لكن نفس الدخول إلى مكة للطواف بغير إحرام لا يجوز عند جماهير العلماء، بل لو جاز لتجارةٍ لم يجز، فكيف للطواف بلا إحرام. ومن لم يُوجِبْه فإنه
يَستحِبُّه، فهذا فوَّتَ نفسَه هذه الفضيلة. وذهابُه محمولاً مع الجنّ أو غيرهم في الهواء ليطوفَ ليس من الأعمال الصالحة المشروعة، لا واجبًا ولا مستحبًّا، ولو كان ذلك مشروعًا لكان الأنبياء أقدرَ على ذلك، وكانوا يذهبون في الهواء يَحجُّون، وهذا لم يُعرَف عن أحدٍ من الأنبياء ولا الصحابة، والأنبياء أفضل الخلق، والصحابة أفضل الخلق بعد الأنبياء، ولو كان عملاً صالحًا لكان هؤلاء أحق به من غيرِهم.
ونبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أُسرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليُرِيَه الله من آياته بالمعراج، كما قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) ) (23) . فالمقصود كان أن يُرِيَه الله من آياتِه، كما أراه ليلةَ المعراج ما أراه من الآيات. قال تعالى: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) ) (24) . وقال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) (25) .
وفي الصحيح (26) عن ابن عباس قال: هي رؤيا عَينٍ أُريَها رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلةَ أُسرِيَ به. ولهذا كان قوله (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) دليلاً في المعراج الذي كان بعد المَسْرَى إلى المسجد الأقصى، لم يكن المقصود مجردَ رؤية الأقصى، فإنه قد رآه المسلم والكافر والبَرُّ والفاجر، ولكن هو سبحانَه أخبر بذلك ليكون هذا آيةً للرسول، فإنهم قد رأواالمسجد الأقصى، فإذا أخبرهم أنه رآه ووَصَفَه لهم - كما جاء في الحديث الصحيح (27) - كان ذلك حجةً له على أنه رآه، ولم يُمكِنْهم تكذيبُه في ذلك، بخلاف ما لو أخبر بالعروج إلى السماء ابتداءً، فإنهم كانوا إذا كذبوا بذلك لم يكن هناك ما رأوه حتى يَصِفَه لهم.
وهو سبحانَه قد أخبر بعُروجِه إلى السماء في قوله: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) ) (28) .
وهو سبحانَه ذكر هذا بعد أن ذكر رؤيةَ جبريل النزلة الأخرى في الأرض، فإنه رآه على صورته مرتين، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. وقال في سورة التكوير وقد ذكر سبحانه بقوله: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) ) (29) ، فهذا جبريل، ثم قال: (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) ) (30) .
وهؤلاء الذين يُحمَلُون إلى مكة في الهواء: منهم من مُثل له فرسٌ أو بعيرٌ ، يركبُه وهو يسير في الهواء، ومنهم من لا يرى شيئًا، ومنهم من يَعرِف أنه محمولٌ . وقد حدثني منهم مَن حُمِل، وحدَّثني جماعاتٌ عن جماعاتٍ منهم وعمَّن كان قبلَنا. وأحوالُهم مع الشياطين بحسبِ بُعدِهم عن معرفةِ ما جاء به الرسولُ والعملِ به، فإنّ هذا هودين الله، وأهلُه هم عباد الله الذين لا سلطانَ للشيطان عليهم، كما قال تعالى: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفي بربك وكيلا (65) ) (31) .
ولما قال الشيطان: (بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) ) (32) قال الله: (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) ، ثم قال: (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (33) .
وهذا استثناء منقطع في أصح القولين، لقوله في الآية الأخرى. (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) ) (34) ، ولم يستثن منهم أحدًا. وقال في الآية الأخرى: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) ) (35) .
وعباد الله هم الذين عبدوه وحدَه مخلصين له الدين، وعبادتُه إنما هي بطاعته وطاعة رسله، وذلك هو الواجب والمستحب، كما في صحيح البخاري (6) وغيره [في] حديث الأولياء من حديث أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يقول الله: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة" - ورُوِي: فقد آذنتُه بالحرب - "وما تقربَ إلي عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أُحِبّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يَسمع به، وبَصَرَه الذي يبصر به، ويَدَه التي يبطش بها، ورِجله التي يمشي بها، ولئن سألني لاعطِينه،

ولئن استعاذ بي لأعِيذنَّه. وما تَردّدتُ عن شيء أنا فاعلُه تردُّدي عن قبضِ نفسِ عبدي المؤمن، يكره الموتَ وأكره مَساءتَه، ولا بدّ له منه". وهذا مبسوط في مواضع (1) .
والمقصود هنا أنه كلَّما كان الإنسان أقربَ إلى الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسولَه كان أقربَ إلى أن يكون من عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، وكلَّما كان أبعدَ عن ذلك كان أقربَ إلى الشياطين. فهؤلاء الذين يحملهم في الهواء: منهم من يحمله إلى بلاد الكفر، ويدخلون مع الكفار في دينهم، وهم منافقون وإن كانوا في ديار الإسلام يُظهِرون الإسلام. ومنهم من يُحمَل من بعض بلاد الكفار إلى بعض، ومن ذلك ما يكون بسحر، ومنه مالا يَعرِفُ صاحبُه السحرَ، لكن يكون مشركًا أو منافقا يَتعبُّد تعبد المشركين والمنافقين.
والذين يُحْمَلون إلى مكة: منهم من لا يدخل المسجد الحرام ولا يصلي فيه، ولا يصلي في الطريقِ ولا في بلدِه، والمدة في وصولهم إلى مكة تختلف، منهم من يَصِل في بعض نهار من مثل مصر والشام والجزيرة والعراق، ومنهم من يَصِل في يوم أو يومين أو أكثر من ذلك.
وقد حدثني بعض هؤلاء المحمولين أنه كان له رُفْقَة سماهم، وأنهم لم يدخلوا المسجد الحرام، ولا طافوا ولا صلَّوا، لا فيه ولا في الطريق. ومن هؤلاء من يتمثل له شخص ويقول: أنا الخضر، أو يُسمي غيرَ الخضر من الأنبياء والصالحين، ويقول: أنا أذهب بك إلى مكة أو بيت المقدس أو غيرهما، وقد يُكاشِفُه ببعض الأشياء، وقديُحضِر له طعامًا أو شرابًا في الهواء، ويكون ذلك مما قد أخذه من بعض الأماكن، وكثير منه يكون مسروقًا قد سرقَه وأخذَه الشيطانُ من مالِ مَن خانَ شريكَه، أو من مالِ مَن لم يذكر اسمَ الله عليه.
وهؤلاء من جنس الكُهَّان، قد يُوحُون إلى أوليائهم من الإنس بعضَ ما يكاشفون به، ولابُدَّ أن يكذبوا في بعض ما يُخبِرون به، لكن ما كان مستورًا عنهم قد ذكَرَ صاحبُه عليه اسمَ الله لا يَرَونَه ولا يُخبِرون به. وهذا من الفروق بين إخبار هؤلاء وبين إخبار المسيح بما يأكلون ويدَّخرون في بيوتهم، فإن المسيح يُخبر بالبواطن التي تكون محجوبة عن الجنّ، كما يحجب عنهم الأشياء بذكر اسم الله تعالى. فالآكِل متى ذكرَ اسمِ الله لم يَشْرَكْه الشيطانُ في طعامِه، وإن سمَّى الله عند دخولِ المنزل لم يشركْه في دخولِ البيت، وإن لم يُسمِّ الله لا في هذا ولا هذا أدركَ المبيت والطعام، كما بيَّن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك في الحديث المعروف (38) .
والمسيح يُخبر بذلك، وأيضًا فخبر المسيح صِدق كلُّه، ليس في شيء منه كذب، وهؤلاء الذين يُخبرون عن إعلام الشياطين لهم لابدَّ أن يكذبوا. قال تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) ) (39) . والكلام على جنس هذا وأقسامه مذكور في مواضع.
والمقصود أن مرور هؤلاء على المواقيت مع إرادة الوقوف بعرفة ليس مشروعًا بالإجماع، لا واجبًا ولا مستحبًّا، بل هو منهي عنه لايجوز التعبد به، بل من أراد أن يقف مع المسلمين بعرفة فإنه يحج كما يحج المسلمون، فيُحرِم إذا حَاذَى الميقاتَ، وإذا أفاضَ من عرفات فعلَ عند المشعر الحرام ومِنًى ما أمرَ الله به ورسولُه، وطافَ بالبيت العتيق. لا يُشرَع الوقوفُ إلاّ على هذا الوجه. ومَن حُمِل إلى عرفات ولم يَقِف الوقوفَ المشروعَ، فهو كمن حُمِلَ يومَ الجمعة إلى المسجد وهو جُنُبٌ أو بلا وضوءٍ ، فسمعَ الخطبةَ ولم يُصَلِّ مع المسلمين، أو صلَّى بلا وضوءٍ أو إلى غيرِ القبلة.
والعبدُ والصبي لا يَلزَمُهما الحج، وإذا حجَّا صحَّ حجهما ولم يَسقُطْ عنهما فرضُ الإسلام، بل إذا بلغَ هذا وعتقَ هذا فعليه الحجُّ إن استطاعه.
ولو أراد العبدُ والصبي أن يَقِفَ بلا إحرامٍ وحجّ مُنِعَ من ذلك.
وليس لأحدٍ أن يَقِفَ بعرفة إلاّ مكشوفَ الرأس مُحرِمًا، إلاّ من كان معذورًا. ولو أرادَ الماشي إلى عرفة والراكبُ أن يَقِفَ مع الناس بلا حجّ ولا إحرامٍ مُنِعَ من ذلك، كما لو أراد الماشي والراكب والمحمولُ في الهواء أن يشهدَ عند المسلمين، فيكون بين صفوفهم ولا يُصلّي صلاتهم، فهذا يُعاقَب على ذلك.
والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمر النساء أن يخرجن إلى العيد، وأمرَ الحُيضَ والعواتقَ وذواتِ الخدور، وقالْ: "أما الحيض فيعتزلن المصلَّى ويَشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين" (40) ، فالحيَّض مع كونهن معذورات في ترك الصلاة أمرَهُنَّ أن لا يختلطن بالمصلِّيات، ولا يكُنَّ بين صفوف المصليات، بل يعتزلن المصلَّى، ويشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين. فكيف من لا عذرَ له إذا أراد أن يختلط بالمصلين فيصفوفهم ولا يُصلَّي معهم؟ وكذلك من يطوف بالهواء منِ الإنس، فقد رئيَ بعضُ هؤلاءِ في الهواء عند الكعبة، وتوضأ وسقط من وضوئه على الأرض، فأنكر عليه الرائي وأحسنَ في إنكارِه، فإن الصلاة والطواف في الهواء غير مشروع، بل يطوف بالأرض ماشيا أو راكبا لعذر، وكذلك الصلاة يصلّي على الأرض أو راكبًا لعذرٍ . فهذا هو الذي يكون عبادةً لله واتباعا لما أنزلَه ولرُسُلِه، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "من عملَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردّ" (41) .
وحَمْلُ هؤلاء في الهواء ليس من كرامات أولياء الله، بل من تلعُّبِ الشياطين بهم وإضلالهم لهم، كما يفعل الشياطين بالمشركين والنصارى ونحوهم، يفعل بهم أعظم مما هو من هذا، وكذلك ما يفعل مع السحرة والكفان، كما قد بُسط في مواضع. وقد قال العفريتُ لسليمان لما قال: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) ) (42) . فهذا يبين أن العفاريت يقدرون على مثل ذلك، لكن هذا كان لسليمان تسخيرًا من الله لسليمان، كما سخر له الريح غدوُّها شهر ورواحها شهر، والشياطين كل بناء وغوَّاص، وآخرين مقرنين في الأصفاد.
والشياطين أضلَّت كثيرًا من بني آدم، فذكروا لكثيرٍ من الإنس أن سليمان كان سَحَرَ الجن بأسماء وكلماتٍ يقوم بها وهي شرك، وكتبوا ذلك في كتب، وقد قيل: إنهم دفنوها، حتى ظهرتْ تلك الكتب، وقالوا: إن سليمان كان يسحر الجن بهذا، فصار أهلُ الضلالِ فريقَين:
فريقًا قَدَحُوا في سليمانَ وبَيَّنوا أنه ساحر، كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكتاب، وفريقًا قالوا: إنه نبي، وإنّ هذه الأسماء والكلمات علَّمه الله إياها، فعملوا بها فكفروا. فنَزَّه الله سليمانَ عن قول الطائفتين، وبيَّن كُفْرَ مَن اتبعَ الشياطين، وذَمَّ أهلَ الكتاب الذين نبذوا كتابَ الله وراءَ ظهورِهم، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) ) (43) . وبَسْطُ هذا له مواضع أُخَر، والله سبحانَه أعلم.

__________
(1) سورة الحج: 29.
(2) انظر مثلًا عند البخاري (1545) عن ابن عباس، و(1708) عن ابن عمر، و(1762) عن عائشة.
(3) سورة البقرة: 158.
(4) البخاري (1643) ومسلم (1277) عن عائشة.
(5) سورة البقرة: 197.
(6) سورة البقرة: 189.
(7) انظر: "المغني" (5/425-427) .
(8) سورة البقرة: 198-200.
(9) البخاري (1526) ومسلم (1181) .
(10) في حديث ابن عباس السابق.
(11) في الأصل: "عما".
(12) أخرجه البخاري (1846) ومسلم (1357) عن أنس.
(13) أخرجه البخاري (112) ومسلم (1355) عن أبي هريرة.
(14) أخرجه البخاري (1832) ومسلم (1354) عن أبي شريح العدوي.
(15) سورة البقرة: 198-203.
(16) هذه الألفاظ من حديث جابر الطويل الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما في مواضع من كتاب الحج مطولاً ومختصرًا. فيطلب من هناك.
(17) أخرجه أحمد (4/160 ،161) والدارمي (1374) وأبو داود (575 ،576، 614) والترمذي (219) والنسائي (2/112) عن جابر بن يزيد بن الأسود العامري عن أبيه.
(18) أخرجه مسلم (648) [244] عن أبي ذر.
(19) هي عند البخاري في "الأدب المفرد" (954) ومسلم (648) [242].
(20) أخرجه أحمد (2/224) عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وأخرجه أيضًا (2/305) عن أبي هريرة. وهو حديث صحيح.
(21) سورة البقرة: 196.
(22) سورة الحج: 27.
(23) سورة الإسراء: 1.
(24) سورة النجم: 12-18.
(25) سورة الإسراء: 60.
(26) البخاري (3888 ،4716 ،6613) .

(27) أخرجه البخاري (3886 ،4710) ومسلم (170) عن جابر.
(28) سورة النجم: 13-18.
(29) سورة التكوير: 19-21.
(30) الآيات 22-29.
(31) سورة الإسراء: 65.
(32) سورة الحجر: 39-40.
(33) سورة الحجر: 41-42.
(34) سورة الإسراء: 65.
(35) سورة النحل: 98-100.
(36) برقم (6502) .
(37) انظر "مجموع الفتاوى" (11/61-64، 75-77، 159-162، 186- 190، 194-218، 221-223؛ 17/133-134، 390-394) .
(38) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1096) ومسلم (2018) عن جابر.
(39) سورة الشعراء: 221-223.
(40) أخرجه البخاري (324 ومواضع أخرى) ومسلم (890) عن أم عطية.
(41) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (1718) عن عائشة. وهو عند البخاري (2697) بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه...".
(42) سورة النمل: 38-39.
(43) سورة البقرة: 101-103.
__________________

دَعْوَتُنَا دَعْوَةُ أَدِلَّةٍ وَنُصُوصٍ وليْسَت دَعْوَةَ أسْمَاءٍ وَشُخُوصٍ .

دَعْوَتُنَا دَعْوَةُ ثَوَابِتٍ وَأصَالَةٍ وليْسَت دَعْوَةَ حَمَاسَةٍ بجَهَالِةٍ .

دَعْوَتُنَا دَعْوَةُ أُخُوَّةٍ صَادِقَةٍ وليْسَت دَعْوَةَ حِزْبٍيَّة مَاحِقَة ٍ .

وَالحَقُّ مَقْبُولٌ مِنْ كُلِّ أحَدٍ والبَاطِلُ مَردُودٌ على كُلِّ أحَدٍ .
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:35 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.