أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
93692 92655

العودة   {منتديات كل السلفيين} > منبر الموسوعات العلمية > قسم الأشرطة المفرغة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 05-30-2012, 12:51 PM
حامد بن حسين بدر حامد بن حسين بدر غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,115
افتراضي شرح منظومة القواعد الفقهية / للسعدي - للشيخ مشهور بن حسن [مفرغ]

لحاجة الأخوة إلى الموضوع ولإبراز تعليقاتهم في منبر الرجال، كون منبر النساء خاص بهنَّ، نقلت لكم هذا الموضوع ....


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم زيد مشاهدة المشاركة
بسم الله الرحمن الرحيم



كنا قد ابتدأنا -أختكم وبعض الأخوات- في (تفريغ) دروس شرح "منظومة القواعد الفقهية" -للعلامة السعدي-رحمه الله- للشيخ مشهور آل سلمان -حفظه الله-، وانتهينا من تفريغ (ثلاثة) دروس -مع درس أول قديم-، ثم توقف العمل لبعض الظروف الطارئة على أخواتي المشارِكات في التفريغ.
ولما رأيت رغبة البعض المُلحة في إكمال تفريغ هذه السلسلة المباركة؛ عزمتُ على إتمامها -بطريقة التفريغ السريع المستعجل! بمعنى: التفريغ الدارج عند الأغلبية، وهو ما كان بدون كبير عناية ولا ضبط-، مع التنبيه: أني لن أفرِّغ الأسئلة ابتداء، ولعلي أنشط لذلك بعد الانتهاء من تفريغ الشرح(*).
وأسأل الله العون على الإتمام، وحسن الختام.


ثم بدأنا في الدروس المتأخرة والتي ابتدأها الشيخ مشهور -حفظه الله- بتاريخ: (13/4/2008م) -(من هنـا-صوتيا)-:
الدرس الأول - تفريغ : أم عبد الرحمن -جزاها الله خيرًا-.
الدرس الثاني - تفريغ : أم زيد.
الدرس الثالث - تفريغ : أم عبد الرحمن -جزاها الله خيرًا-.
الدرس الرابع - تفريغ : أم زيد.
الدرس الخامس (1-2) - تفريغ : أم زيد.
الدرس السادس (1-2) - تفريغ : أم زيد.
الدرس السابع (1-2) - تفريغ : أم زيد.
الدرس الثامن (1-2) - تفريغ : أم زيد.
الدرس التاسع (1-2) - تفريغ : أم زيد.
الدرس العاشر (1-2) - تفريغ : أم زيد.
الدرس الحادي عشر - تفريغ : أم زيد.
الدرس الثاني عشر - تفريغ : أم زيد.
الدرس الثالث عشر - تفريغ : أم زيد.
الدرس الرابع عشر -والأخير- (1-2) - تفريغ : أم زيد.


فالحمد لله على التمام...

_____________

(*) ثم تطوَّعت الأخت الفاضلة "أم عبد الرحمن" لتفريغ الأسئلة، فجزاها الله خيرًا وأعانها وكتب لنا ولها الأجر.
__________________
قال العلامة صالح آل الشيخ: " لو كان الفقه مراجعة الكتب لسهل الأمر من قديم، لكن الفقه ملكة تكون بطول ملازمة العلم، بطول ملازمة الفقه"
وقال: "ممكن أن تورد ما شئت من الأقوال، الموجودة في بطون الكتب، لكن الكلام في فقهها، وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ"
"واعلم أن التبديع والتفسيق والتكفير حكم شرعي يقوم به الراسخون من أهل العلم والفتوى ، وتنزيله على الأعيان ليس لآحاد من عرف السنة ، إذ لا بد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، حتى لا يصبح الأمر خبط عشواء ،والله المستعان"
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 05-30-2012, 01:10 PM
حامد بن حسين بدر حامد بن حسين بدر غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,115
افتراضي تفريغ الدرس الخامس......

تفريغ الدرس الخامس/الجزء الأول......:


[الـدَّرس الخـامـِس]
(الجزء الأول)


إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
فيقول الناظم:
11. فَنِيَّـةٌ شَــرْطٌ لِـسَـائِــر الْعَـمَـــلْ ... بِهَــا الصَّـلاحُ وَالفَسَــادُ لِلْعَـمَـلْ

هذا البيت عبر به النَّاظمُ على قاعدةٍ كُليَّةٍ مُتَّفقٍ عليها، تدخل في جميع أبواب الفقه، وهذه القاعدة لها أدلة عديدة من كتاب ربنا وحديث نبينا صلى الله عليه وسلم، هذه القاعدة تقول: (الأمور بمقاصدِها)؛ فالعبرة بالنية، وفرَّقنا بين الإخلاص والنية، فقلنا: إن النية الصادقة المقبولة عند الله هي الإخلاص، فالقلب -ابتداء- إن لم يتجه قبل العمل ومن باعثه إلى العمل إلا إلى الله، ولم يُرِد شيئًا آخر؛ فهذا هو الإخلاص، وهذا النوع هو المُراد في كلام الناظم:
فَنِيَّةٌ شَــرْطٌ لِـسَـائِــر الْعَـمَـــلْ
فحتى يُقبل العمل لا بد له شرطين اثنين: الأول: النية الخالصة، والشرط الثاني: المتابعة، لا بد أن يكون العمل على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالنية هي الباعث الذي تحركت العزيمةُ والنية من أجله، فإن ابتغى الإنسان شيئا غير الله عز وجل والدار الآخرة والثواب؛ فهو له {مَن كان يُريد حرثَ الآخرةِ نَزِد لهُ في حَرْثِه}، ويقول الله عز وجل: {إن يعلمِ اللهُ في قُلوبِكُم خيرًا يؤتِكُم خيرًا ممَّا أخذَ مِنكم}، ويقول الله عز وجل: {من يفعل ذلك ابتغاءَ مرضاة الله فسوف نُؤتيه أجرًا عظيمًا}؛ فالفعل لا بد أن يكون من أجل مرضاة الله سبحانه وتعالى.
وهناك أحاديث كثيرة دلت على هذه القاعدة: منها ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غزا يريد عقالا؛ فله ما نوى" من غزا ولا يريد من الغزو إلا العقال، إلا الغنيمة؛ فله من هذا الأجر في الجهاد ليس له إلا الذي طلبه.
وكذلك في "المسند": يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "رب قتيلٍ بين الصفَّين الله أعلم بنيَّته"، فليس كل ما يقتل في المعركة مُقبِل غير مُدبر يريد رفع كلمة الله؛ ولذلك لا يجوز أن يقال عن فلان -على وجهِ التعيين-: هو شهيد؛ هذا أمرٌ لا يجوز شرعًا، وقد بوَّب الإمام البخاري في "صحيحه" في كتاب الجهاد؛ فقال: (باب: لا يقال فلان شهيد)؛ لأنك لا تعلم نيته، تقول: أرجو أن يكون شهيدًا، أحسبه عند الله أن يكون شهيدًا.
ونحن لا نجزم لأحد بالشهادة، وإن قُتل بين الصفَّين، وأنتَ عبد، ولا يجوزُ لك أن تتألَّى على الله، وأن تُدخل من شئتَ الجنة ومن شئتَ النار، ونحن لا نشهد بالجنة إلا بمَن شهد له ربُّنا أو نبيُّنا، ولا نشهد لأحدٍ على التعيين بالنار؛ إلا لمن شهد له ربُّنا، أو شهد له نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، لكن من عدا ذلك إن كان من أهل الصلاح؛ قلنا: نرجو.. نحسب.. نظن..؛ فالعبرة بالنية.
فالنية في الآخرة مثل جواز السفر في الدنيا، تخيل معي إنسان في الطائرة، ولا يوجد معه جواز سفر، ونزل في كل مطارات الدنيا هل يمكن أن ينزل ويدخل أي بلد من البلاد دون جواز سفر؟ مش ممكن!
فالنية في الآخرة أشبه ما تكون بجوازِ السفر في هذه الدنيا بالنسبة إلى القوانين والشخصية الاعتبارية -كما يقولون-.
وفي الحديث المتفق عليه: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّك لن تُنفقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ الله؛ إلا أُجِرتَ عليها، حتى تضع اللقمةَ في في زوجتِك؛ فهي صدقة"؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّك لن تُنفقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ الله" فليس كل صدقة مقبولة إلا الصدقة التي يبتغي بها صاحبُها وجه الله؛ فالأمور بمقاصدها.
وكذلك في الحديث المتفق عليه: عن عائشة رضي الله تعالى عنها لما أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن أقوامًا يَغزون الكعبةَ ويُخسفُ بآخرِهم، وفيهم أسواقُهم -أي: عوامُّهم ممَّن ليس منهم-، فتقول عائشة -كما في بعض ألفاظ الحديث في "صحيح البخاري"-، تقول: "يُخسف بأولهم وآخرِهم ثم يُبعَثون على نيَّاتهم".
هؤلاء جميعًا يُبعثون على نياتهم؛ فالعبرة عند الله عز وجل بالنيَّة.
ولذا: كلنا يحفظ حديث: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى"، وقُلنا: النية لها فائدتان:
الفائدة الأولى: أن بها تتمايزُ مراتب الأعمال: هذا فرض، وهذا سُنة، وهذا تطوُّع، النبي لم يقل: "إنما الأعمال بالنيات" وسكت، إنما قال: "وإنما لكل امرئٍ ما نوى".
لو صليت أربع ركعات فرض الظهر وأنت تنوي النافلة، ثم ضاق بك الوقت، هجم عليك شيء أشغلك، قلت: خلاص أنا صليت أربع ركعات وأمشي! هل هذا مقبول منك؟ لا؛ لماذا؟ لقول النبي: "وإنما لكل امرئٍ ما نوى"، أنت إيش نويت؟ سُنة، فلا يجوز لك أن تقلبَها إلى فريضة، فتبقى سُنة.
وهنا مسألة، وهي في تغيير النيات: هل يجوز للعبد أن يغير نيته؟
العلماء اختلفوا إلى قسمين: قسم يمنع بإطلاق، يمنع أن تُغيَّر النية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئٍ ما نوى"، فلكَ ما نويت، وليس لك أن تُغير نيَّتك، نويتَ سُنة تبقى سُنة، نويت فريضة تبقى فريضة، نويتَ وترًا تبقى وترًا.
وبعض أهل العلم جوَّز تغيير النية بقيد، وهذ القيد قالوا: يجوز أن تُغيَّر النية من الفرض إلى السُّنة، من الأقوى إلى الأضعف، ولا يجوز تغيير النية من العكس -من الأضعف إلى الأقوى-(*).
ودليل ذلك ما ثبت في "مسند الإمام أحمد": أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله إني نويتُ أن أعتكف في المسجد الأقصى، -وسُمي بالأقصى لبُعده- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اعتكف في مسجدي هذا"، هذا رجل نوى في المسجد الأقصى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اعتكف في مسجدي هذا".
أيهما أفضل: الصلاة والعبادة في المسجد الأقصى، أم في المسجد النبوي؟ في المسجد النبوي، ففي الحديث الصحيح: "الركعة في مسجدي هذا بألف ركعة مما سواه".
وعند إبراهيم بن طهمان وأحمد وغيرهما: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أربع ركعات في المسجد الأقصى كركعةٍ في مسجدي هذا" يعني الصلاة في المسجد الأقصى بمائتين وخمسين وليس بخمسمئة، والرواية التي فيها الركعة بخمسمئة في المسجد الأقصى لم تثبت ولم تصح عند علماء الحديث.
الشاهد من هذا: أن الصلاة والاعتكاف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل، فالنبي صلى الله عليه وسلم جوَّز له أن ينتقل من الأدنى إلى الأعلى، فلو اعتكف في مسجده فقد أدى الذي عليه وزيادة.
ولكن: لو أن رجلًا نذر أن يعتكف في المسجد النبوي، أو لو أن رجلًا نذر أن يعتكف في بيت الله الحرام فأراد أن يؤدي نذره بأن يعتكف نذره بأن يعتكف في المسجد النبوي؛ فنقول له هذا لا يجزئك؛ لأنك تحوَّلتَ من الأعلى إلى الأدنى.
لكن لو رجلًا نذر أن يعتكف في المسجد النبوي، فذهب إلى المسجد الحرام، واعتكف فيه؛ هل هذا يجزئ؟ نعم، هذا يجزئ.
وعليه: قال جماهير الفقهاء: لو أن رجلًا نوى الفريضة، ثم تبين له ظانًّا أن الجماعة فرغت من المسجد، وهو يصلي في متجره أو في بيته، ثم انتبه إلى أن الفريضة بعد لم تُصلَّ في المسجد، فقَلَب نيَّته من الفريضة إلى السُّنة كي يتحول إلى المسجد ويصلي السنة؛ فجماهير أهل الفقه يقولون: يجوزُ أن تتحوَّل النية من الأقوى للأدنى، من الفريضة للسُّنة، ومن الوتر إلى السُّنة.
أما لا يجوز أن تتحول من السُّنة إلى الوتر، ولا من السُّنة إلى الفريضة.
فلكَ أن تتحوَّل من الأعلى للأدنى، وليس لك أن تتحوَّل من الأدنى إلى الأعلى.
فالنيَّة يقول الناظم:
فَنِيَّـةٌ شَــرْطٌ لِـسَـائِــر الْعَـمَـــلْ
ما هو تعريف الشرط؟ ...
الفرق بين الشرط والركن: الشرط خارج عن ماهية الشيء، والركن داخل في ماهية الشيء.
يعني: السجود والركوع في داخل الصلاة أم في خارج الصلاة؟ داخل الصلاة يسمى ركنًا، واستقبال القبلة والوضوء وستر العورة داخل الصلاة ولا خارج الصلاة؟ خارج الصلاة، إيش تسمى هذه؟ شرطًا.
فالشيء الذي في داخل العباة: يسمى ركنًا، والشيء الذي هو خارج العبادة: يسمى شرطًا.
لكن هذا ليس بتعريف الشرط، أنتَ ذكرتَ لنا الفرق بين الشرط والركن.
تعريف الشرط عند الع لماء: ما لا يلزم من وجوده وجود، ويلزم من عدمه العدم.
إيش يعني؟
يعني: الوضوء شرط للصلاة، رجل توضأ، هل يلزم من وضوئه الصلاة؟ يعني هل كل متوضئ مصلٍّ؟
ما لا يلزم من وجوده الوُجود، ويلزم من عدمه العدم.
لو عُدم الوضوء؛ عدمت الصلاة، لو وجد الوضوء؛ لم توجد الصلاة.
ما لا يَلزم من وجوده الوُجود، ويَلزم من عدمه العدم.
هذا معنى الشرط عند العلماء.
والشرط -كما ذكرنا- خارج العبادة، والركن داخل العبادة.
ذكرنا في الدرس الماضي أن العبادة ينبغي أن تسبقها النية، ولكن النية هي شرط كما قال الناظم:
فَنِيَّـةٌ شَــرْطٌ لِـسَـائِــر الْعَـمَـــلْ
هي شرط وليس بركن.
ولذا هنالك بعض العبادات تجوز في أثناء العبادة، وتجوز بعد الفراغ من العبادة.
مثلا: الصيام، صيام النافلة، في "صحيح مسلم" عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل بيوت أزواجه فيسأل عن الطعام فلا يجد؛ فينوي الصيام.
ولذا: ذهب جماهير أهل العلم إلى أنه لا يَلزم في صوم التطوع تبييت النية من الليل وقالوا: يجزئ النية في صيام التطوع إلى ما قبل الزوال، إيش يعني: إلى ما قبل الزوال؟ يعني: قبل الظهر.
يعني: رجل أراد أن يصوم صيام نافلة؛ معه أن ينوي إلى الظهر.
فهذه نية متى حصلت قبل العمل أم في أثنائه؟ حصلت في أثناء العمل، وكذلك يقول العلماء: هنالك نية تجزئ بعد العمل، في أي العبادات؟ من يأتيني بمثال على إجزاء النية بعد العمل [.. مداخلات ..].
النفقة على العيال.
طيب: النفقة على العيال من الأشياء المباحة تُقلب إلى عبادة بنِية صالحة، أنت يا من تعمل، يا من تتعب في عملك، إذا نويت من عملك أن تكف أهلك عن المسألة، وأن تعيش الزوجة والأولاد يأكلون طعامًا حلالًا ولا تسأل الناس؛ فأنت في عبادة، وهذه الفائدة الثانية للنية.
قلنا للنية فائدتان: الفائدة الأولى: تبين مراتب العبادات.
والفائدة الثانية من فوائد النية: تَقلِب النية العادات والمُباحات إلى عبادات، بالنِّية الصالحة تنقلب العادات، إيش العادات يعني؟ يعني تقعد تسولف مع جيرانك مع أصحابك مع صديقك، أنا في قلبي هذا تارك صلاة خليني أسولف معه شوي، وأنا قصدي أن أبدأ معه من حيث يُحب؛ لأنتهي به من حيث أحب!
الناس لما يشوفوا شيخ ولحية ودشداش يقول لك: هذا معقد، هذا كله كلامه دين، ما نطيقه!
فرجل موفق في أول مجلس مع جار مع واحد معزوم مع أي إنسان لا بأس أن تنوي الكلام العادي، قل له أنا إنسان عادي مثلي مثلك، لي حاجة مثل ما لك حاجة، لي هوى جاعل مثل لك هوى، أنا كابت هواي وإذا كنتُ درجة أعلى جاعل هواي فيما يحب الله، وأنت مفلِّت الهوى على الإطلاق هذاالفرق بيني وبينك.
فأنا لا بأس أبدأ معه ومقصدي والله يعلم في نيتي أن أستدرجه من حيث أنتهي به إلى حيث ما أحب أنا فيما يحب الله، هذا الاستدراج كل هذه العملية -مسولفة معه والكلام معه-؛ هذا كله عبادة ليش؟ للنِّية الصالحة، أنت أدخلتَ على كلامك نية صالحة.
فالنية الصالحة تقلب العادات والمباحات إيبش المباحات: أنا آكل لأتقوَّى، أنام بكير حتى أستيقظ قبل الفجر فأصلي ركعتين في جوف الليل، أقوم آكل أكلًا زائدًا قبل أن أنام لعلي إن لم أستيقظ غدا إن شاء الله أصوم، كل هذه النوايا تجعل أكلي عبادة.
ولذا كان بعض السلف يقول: أحب أن تكون لي نية صالحة عند قومتي وجلستي وأكلتي ونومتي.
حتى الأكل والجلسة والقومة والنومة؛ كلها بـ[النيات] الصالحات تنقلب إلى عبادات.
نرجع: النية الصالحة تكون بعد العمل في الاستثناء في اليمين، النية تُعتبر - لا أقول تكون عبادة- (تُعتبر) النية في الاستثناء من اليمين: إذا حلفت بالله وعقَّدت قلبك على اليمين؛ فاليمين منعقدة، إن أدخلت قلت (إن شاء الله) بعد أن فرغت؛ فهذا يكون بعد الفراغ من اليمين، فالاستثناء من اليمين يكون بعد الفراغ من اليمين، وتكون النية -حينئذ- صحيحة وتكون بعد العمل، وإلا فالنية تكون قبل العمل، والأحسن أن تكون مرافقة للعمل.
والإنسان يشعر بحلاوة الإيمان، ويشعر بالخشوع، ويشعر برقة القلب لما يستحضر النية في كل عمل؛ بل الموفَّق يستحضر النية في أثناء العمل؛ بل المقبول عند الله عز وجل من الناس من يستحضر النية بعد العمل، حتى لا يُصاب بالعُجب.
فالمطلوب من الإنسان أن ينوي قبل العمل وأن يستصحب النيةَ في أثناء العمل، وحتى ما بعد العمل؛ لأن الإخلاصَ نادر وعزيز، وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص.
والرياء الخفي، الشرك الأصغر: الرياء؛ خفي جدا، وكما ورد: "هو أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء"، الرياء خفي، وخفي جدا؛ ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الرياء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئًا أعلمه، وأستغفرك لما لا [أعلمه]".
فالمطلوب من الإنسان أن يخاف من الرياء، وأن يتعوذ بالله من الرياء.
إيش الرياء؟ مقابل الإخلاص، الرياء نية فاسدة، تريد بالطاعات غير الله عز وجل، تريد من الطاعات غرضًا من أغراض الدنيا، كما في حديث أبي موسى في "الصحيحين" قال: "المجاهد من جاهد لتكون كلمة الله هي العليا"، فمن جاهد لسُمعة أو لأي شيء آخر؛ فهذا هو -والعياذ بالله تعالى- الرياء.
الله عز وجل يطَّلع على قلوب العباد كما في الحديث: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم؛ وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" المراد بأعمالكم: الأعمال الصالحة التي تسبقها النوايا.
لكن: هنالك خلط عند بعض الناس في فهم بعض المفاهيم الشرعية في مثل هذه الأمور، ولعلي -إن شاء الله- في آخر الكلام على النية أتكلم بشيء فيه تفصيل حتى نفهم هذه المسائل فهمًا شرعيًّا صحيحًا.
أقول: الإنسان عند الله عز وجل بنِيَّته، وأنت يوم القيامة الله يُحاسبك على نيتك، الله عادل، والله كريم.
عابد عبَدَ الله تسعين سنة.. سبعين سنة.. ستين سنة، الله عز وجل يجازيه في الجنة ستين سنة؟! الجنة خالدا مخلدا فيها.
قل هذا من كرمه.
طيب: رجل كفر ستين سبعين سنة، إيش ماله؟ النار، لماذا لا يعذبه في النار ستين سنة؟ الكافر الذي كفر وأشرك بالله ستين سنة، والله عادل جل في علاه، ذاك المؤمن جازاه وتفضل عليه وكرمه بالجنةخالدا مخلدا فيها، طيب وذاك الكافر الذي كفر ستين سنة، لماذا يعاقب في النار خالدا مخلدا فيها؟ لأنه نوى لو خُلد في الأرض يبقى كافرًا، فهو يعذَّب على إيش؟ على نيته، بخلاف الفاجر من المسلمين، الفاسق الذي يُسوِّف، ويقول: إن شاء الله العام القادم أتوب، العام القادم أتوب، ومات قبل التوبة، هذا نهايته الجنة، مجرد ما حصلت هذه النية، يعذَّب في النار ما شاء الله، ثم يُفحَّم، أهل النار هؤلاء العصاة من الموحِّدين كما في حديث أبي سعيد الخدري في "الصحيحين": يفحَّمون ثم يُرمون على نهر في الجنة يُسمى نهر الحياة، ثم ينبتون، ويكتب على جباههم (الجهنميون)، لا يبقون مخلدين في النار.
فالإنسان عند الله عز وجل بِنيته.
لو رجل أتى بعملٍ وما أصاب ما يريد، وبِنية صالحة، ورجل آخر أتى بصورةِ العمل الذي يحبُّه الله لكن بِنية فاسدة، من الأفضل؟ الأول أو الثاني؟ الأول؛ لأن نية المؤمن أبلغُ من عمله.
(نِية المؤمن أبلغُ من عمله) حديث رُفع للنبي صلى الله عليه وسلم مِن طُرق عديدة، وكلُّ طرقه مدارُها على مجاهيل أو متروكين، فالحديثُ مع تعدُّد طُرقه من حيث الصَّنعة الحديثيَّة لا يثبت ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن نقول: قال صلى الله عليه وسلم: (نِية المؤمن أبلغُ من عمله).
لكن هذه الكلمة: (نِية المؤمن أبلغُ من عمله) وإن لم تصحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ إلا إن معناها صحيح، فمعنى (نِية المؤمن أبلغُ من عمله) صحيح.
ففي "الصحيحين": أخبرنا النبي عن ثلاثة رجال، أتوا بأفضل الأعمال: عالِم، أو قال: قارئ للقرآن، ومجاهد، ومُنفقٌ في سبيل الله، رجل كريم، يُؤتى بهم يوم القيامة -كما في حديث أبي هريرة في "الصحيحين"- فيُعرِّفهم اللهُ تعالى بنِعمه فيَعرفونها، فيقول الله للعالِم أو لقارئ القرآن: ماذا عملتَ بعِلمك؟ فيقول: يا رب تعلمتُه وعلَّمتُه فيك. فيقول الله له: كذبتَ؛ بل قرأت القرآن، أو قال: تعلمتَ ليقال عالِم، وقد قيل، فخذوه في النار، فيسحب على وجهه في النار، ويؤتى كذلك بالشهيد، بمن مات في المعركة، ممن قال الناس عنه أنه شهيد، ويؤتى -أيضًا- بالكريم الذي يُنفق أمواله، فيُعرِّفهم الله تعالى بنِعمه فيَعرفونها: ماذا فعلت؟ يقول : يا رب، فعلنا -قاتلتُ، أنفقتُ- من أجلك، يقول: كذبتَ؛ وإنما أنفقتَ ليقال: كريم، وإنما قاتلت ليقال شجاع؛ وقد قيل، فيؤمر فيُسحبون.
هؤلاء أحسن ثلاثة، أتوا بأحسن صُور الأعمال، لكن روح العمل النية تخلفتْ عن العمل؛ فالعمل لم يُرفع إلى الله، ولم يقبله الله.
الآن نتحوَّل إلى رجل أراد أن يتصدق -والقصة في "البخاري"- ففي اليوم الأول تصدق على لص، فعَلِمَ الناسُ فأصبحوا يتضاحكون منه: فلان قام تصدّق على لص! فقال: والله لأتصدقنّ! فتصدَّق في الليلة الثانية على غني، فشاع خبره في الناس فأصبحوا يضحكون منه! فقال: والله لأتصدقنّ! فتصدَّق في الليلة الثالثة على مومِس! رأى امرأة في نص الليل ظنها محتاجة فوضع الصدقة في يدها، فعلم الناسُ فأصبحوا يضحكون منه، فضحك الله له! مع أنه أتى في ثلاث محاولات لم يُصِب ولا في محاولة، ولم يضع الصدقة في يد فقير أبدا في المحاولات الثلاثة، الله قبِل منه بِنية صالحة.
والثلاث -الحديث الأول- أتوا بأفضل الأعمال، لكن لم يستحضروا النية الصالحة؛ فإيش كان مآلهم؟ كان مآلهم أنهم يسحبون على النار، فكان أبو هريرة رضي الله عنه كلما روى هذا الحديث قبل أن يقول: قال صلى الله عليه وسلم؛ يغمى عليه، حتى يوضع الماء على وجهه، ثم يفيق، ثم يقول: قال صلى الله عليه وسلم.
وعالم بعِلمه لم يعملَنْ .. معذبٌ [من] قبل عُباد الوثن!
فالذي لا يعمل بعلمه معذب قبل عُباد الوثن.
نسأل الله العافية، نسأل الله أن يجعل طلبنا للعلم، وتعليمنا للعلم أن يكون هذا طاعة ينفعنا الله بها في الدنيا والآخرة، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم سبحانه وتعالى.
فالشرع يريد منا نية صالحة.
طيب: هذه النية الصالحة؛ لكل عمل نية؟ أم يجوز أن تجمع في العمل الصالح أكثر من نية؟
أنت الآن وأنت جالس في المسجد، لو نويت تجلس في حلقة ذِكر، ونويت المرابطة -انتظار الصلاة للصلاة "فذلكم الرباط، فذلكم الرباط"-، فنويت أن ترابط، أنت جالس من صلاة المغرب إلى العشاء -ودرسنا اليوم إلى ما بعد العشاء أيضا-، نويت الرباط وأنت جالس، فهل أن تنوي النيتين أمر مشروع ولا ممنوع؟
طيب: يجوز أن تنوي نيتين في كل عبادة؟
أنت دخلت والإمام يصلي فرض الفجر، ولم تصل سُنة الفجر، فتقول -في قلبك طبعا، النطق بالنية بدعة، ولا يُشرع-، فأنت في قلبك قلت: ركعتين سُنة الفجر، وركعتين فرض الفجر! الله أكبر!
هذا يجزئ؟ [لا يجزئ] طيب ليش ما يجوز؟ قبل قليل كان جمع النية جائز، أصبحنا الآن جمع النية ممنوع!
طيب أعطيكم مثالا آخر: رجل ولدت امرأته في أيام التشريق، إيش أيام التشريق؟... في الوقت الذي تجوز فيه الأضحية، فكان سابع ولدِه يوم من أيام التشريق، يوم العيد يوم من أيام التشريق، أراد أن يذبح، قال: أذبح ذبيحة بنِية العقيقة مع الأضحية، وإذا كان حاجًّا وأخبروه: زوجتك وضعت، فقال: أذبح بنية نسك الحج الهدي مع العقيقة -بسم الله والله أكبر-، هل هذا يُشرع أم يمنع؟
طيب: خلينا أخفف وأرتب الأمور ترتيبا أحسن، نحاول نلم بالمسألة إلمامة فيها شيء من تفصيل أكثر.
رَجُل على رِجله -أجلكم الله- نجاسة، أراد يتوضأ، فغسل رِجله، فمنها أزال النجاسة وغسل رجله، هذا يجزئ ولا ما يجزئ؟
[بعض الطلبة: يجزئ].
طيب: عندنا أمران: عندنا شيء يسميه الفقهاء (وسائل) وشيء يسميه الفقهاء (مقاصد).
الوسيلة: تفعل من أجل مقصد، يعني واحد توضأ، الوضوء عبادة ولا غير عبادة؟ لكن الوضوء عبادة تراد لذاتها؟ ولا هي وسيلة لمقصد؟
يعني: لو واحد الآن ذهب للوضوء، وقف شوي ورد رجع، رد توضأ رد رجع، رد توضأ رد رجع.. يا بو فلان شو بتعمل؟ قال: الوضوء عبادة، وأنا أكثر من العبادة! نقول له: أنت مبتدع! هذا أمر ما عبد اللهَ عز وجل به أحدٌ، كما يقول الإمام النووي في شرحه على "سنن أبي داود" المسمى "الإيجاز"، وقد فصل الإمام النووي رحمه الله في هذه المسائل تفصيلا بديعًا ويسر الله لي ولله الحمد والمنة أن حققت الكتاب، وعلقتُ على كلامه بتعليقات فيها استطرادات وفيها أشياء حسنة مليحة إن شاء الله.
لكن الشاهد: لو رجل توضأ فاستخدم وضوءه فصلى ركعتين، ثم ذهب فأعاد الوضوء؟ لا مانع من ذلك، لو استخدم وضوءه في عبادة ثم أراد أن يتوضأ مرة أخرى؛ لا حرج في ذلك؛ لأن أصبح الوضوء بالنسبة إليه وسيلة، إذا استخدمه في طاعة جعله وسيلة، فإذا أراد أن يعيد؛ لا حرج، فالنبي صلى الله عليه وسلم توضأ لكل صلاة، والنبي صلى في فتح مكة الصلوات الخمس بوضوء واحد.
لو إنسان انتقض وضوؤه بأكثر من سبب؛ يعني -أعزكم الله-: أخرج ريحا وتغوط وبال -في أوقات متفرقات- وأكل لحم إبل، كم مرة يتوضأ؟ لكل ناقض وضوء؟ ولا كل النواقض وضوء واحد؟ باتفاق مما لا خلاف فيه بين العلماء: كل النواقض فيها وضوء واحد.
وكذلك المرأة لو كانت جنبا وكانت حائضا يجوز للرجل أن يأتي أهله من غير إيلاج إذا كانت حائض أو نفساء، فطهرت من حيض وهي جنب، كم غُسل عليها؟ تغتسل أكثر من مرة ولا مرة واحدة؟ مرة واحدة.
فإذا تعددت أسباب الوضوء، وتعددت أسباب الغسل؛ فيكفي غُسل واحد، ويكفي وضوء واحد.
لكن: رجل اغتسل يوم الجمعة وهو جُنب، فهل يجزئه غُسل واحد عن الجنابة والجمعة؟ أم أنه يحتاج لكل واحد منهما إلى غسل؟
طيب نأتيكم بالدليل العقلي، ثم بعد الدليل النقلي يأتي الدليل العقلي، يأتي الفهم والاستنباط، ونحن لا نستغني أبدا كما ذكر الناظم فيما ذكر من مقدمات، نحن نقتفي من قبلنا من علمائنا رحمهم الله.
ثبت عند الحاكم في "المستدرك" ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" بإسناد صحيح عن أبي قتادة الأنصاري أنه رأى ولده قد خرج من الحمام يوم الجمعة فقال لولده الصحابي الجليل أبو قتادة الأنصاري يقول لولده: غسلك للجنابة أم للجمعة؟ فقال ولده: إنما اغتسلتُ للجنابة، فقال له والده وهو صحابي جليل: أعِد غُسلك، فعاد الولد واغتسل للجمعة.
نعيد السؤال الآن بعد هذا الأثر؛ فنقول: رجل اغتسل للجمعة وللجنابة، وهو ينوي الجمعة والجنابة، ينوي في الغسل رفع الجنابة الحدث الأكبر مع الجمعة، يجزئه ذلك أم لا يجزئه؟ فقها واستنباطا يجزئه؛ لأن ولد أبي قتادة إنما اغتسل ولا ينوي الجمعة، كما بوَّب على هذا البيهقي في "السنن الكبرى" وكما نصص على ذلك ابن رجب في "قواعده"، قالوا: لو أن رجلًا اغتسل للجنابة ولم ينو الجمعة فلا يُكتب له غسل الجمعة، واجب عليه -عند من يرى وجوب غُسل الجمعة-، أو يندب -عند من يرى الندب- أن يعيدغُسل الجمعة؛ لحادثة أبي قتادة؛ لأن ولد أبي قتادة لم ينوِ الجمعة، لكن لو نوى الجمعة وجمع بين الغُسلَين؟ لأجزأه ولا حرج عليه.
هذا الأمثلة كلها التي ذكرناها في الوسائل.
نأتي الآن للمقاصد: لا يجوز الجمعُ بين عبادتَين بِنية واحدة في درجتَين مختلفتَين.
لا يجوز أن تجمع بين الفريضة والنافلة، فتصلي ركعتَين بِنِيتَين، لا يجوز.
طيب: إن ضاق بكَ الوقت، ومن عادتك أنك تصلي تحية المسجد، وأنك تصلي سُنة الوضوء، ومن عادتك أن تصلي وتحافظ السنة القبلية للظهر، وضاق بك الوقت ولم يمكنك أن تصلي إلا ركعتَين؛ فهل يجوز لك أن تصلي ركعتَين بِنية تحية المسجد، وسُنة الظهر القبلية؟ يجوز أو لا يجوز؟
هذا يُسمَّى عند الفقهاء: التداخل، والتداخل وارد في أبواب كثيرة من أبواب الفقه، ومدارُه على النيَّة، والذي جعلنا نتحدَّث به كلامُنا على النية، التداخل في النوايا كأصلٍ؛ مشروع.
والدليل على جواز التداخل في النوايا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا همَّ أحدُكم بأمرٍ؛ فليركعْ ركعتَين دون الفريضة" فهذا الحديث فيه دلالة على أنه يجوزُ للرجل أن يصلي ركعتَين دون الفريضة -سواء كانت راتبةً أم غير راتبة-، وينوي في الركعتَين -إن لم تكن فريضةً- ينوي فيها الصلاة التي يريد أن يصليها -تحية المسجد، سنة الوضوء، صلاة الضحى، سنة الظهر القبلية، سنة الظهر البعدية، سنة المغرب البعدية، سنة الفجر القبلية-، وينوي بهما: الاستخارة والصلاة.
"إذا همَّ أحدُكم بأمرٍ؛ فليركعْ ركعتَين دون الفريضة": هذا حديث أصلٌ في جواز أكثر من نِية في ركعتَين.
تحية المسجد: ما المراد من تحية المسجد في الشرع؟ تعظيم بيت الله عز وجل؛ ولذا الناس في آخر الزمان -نسأل الله العفو والعافية- لا يعظِّمون بيوت الله -أو بعض الناس-، ولذا: من علامات أشراط الساعة -كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح-: أن يُجلس في بيوت الله ولا يُصلى فيها ركعتان!
حتى والإمام على المنبر، وأنت يجب عليك أن تستمع الخطبة، إذا دخلت والإمام على المنبر؛ الواجب عليك أن تصلي ركعتَي تحية المسجد؛ لأن ركعتا تحية المسجد تجب تعظيمًا للمحلِّ، تعظيمًا للمكان.
ففي "صحيح مسلم": دخل سُليك الغطفاني المسجد فجلس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قُم فصلِّ ركعتَين وتجوَّز بهما" وفي هذا إبطال لتلك الخرافة عند الناس أن الذي يجلس في المسجد بمجرد جلوسه؛ فتسقط تحية المسجد! هذا غلط؛ لأن سُليكًا جلس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قم فصلِّ ركعتَين وتجوَّز بهما" لا تزدحم المصالح، تزدحم الطاعات، لا تطوِّل التحية، صلِّ ركعتي التحية وتعجَّل، وتجوَّز، ولا تبسط هاتين الركعتين، ولا تطِل هاتين الركعتين.
إذن: صلاة الركعتَين بأكثر من نِيّة -ولا سيما إذا كانت تحية المسجد-؛ فلا حرج في ذلك.
لو إنسان صلى سُنة الفجر القبلية في بيته، ثم دخل فوجدهم يُصلون الفريضة، فصلى معهم الفريضة؛ هل يقوم ويقضي تحية المسجد؟ لا يقضي تحية المسجد.
لو رجل صلى سُنة الظهر القبلية في بيته، ثم دخل فوجدهم يصلون أربع ركعات فرض الظهر؛ هل يصلي تحية المسجد؟ لا.
الشرعُ لا يريد تحية المسجد لذاتها، يريد منهما تعظيم المسجد، وقد حصل تعظيم المسجد بأداء صلاة الفريضة، فتحصيل حاصل نويتَ أم لم تنوِ؛ دخلتْ تحية المسجد في الفريضة، تحصيل حاصل.
ولذا: قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في مقدمات "المجموع"، يجوز للرجل أن يصلي ركعتين بِنية تحية المسجد، سنة الوضوء، سنة الظهر القبلية، لما قال: تأملتُ هذه المسألة نيِّفًا وعشرين سَنة، وقلت: أرجو أن لا بأس.
النووي مات في أوائل الأربعينيات من عمره، مات شابًّا رحمه الله، مكث يتأمل المسألة نيِّفًا وعشرين سنة، فقال: قلتُ أرجو أن لا بأس.
فالمقاصد يُنظر فيها: إذا الشرعُ أراد العبادةَ لذاتِها؛ فلا تَقبل الشِّركة.
مثل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كُل مولودٍ مُرتهِنٌ بعقيقتِه" فالشرعُ يريد العقيقةَ لذاتِها، كل ولد مُرتهِن بعقيقتِه، حتى قال بعضُ الشُّرَّاح: "العمل الصالح ثوابُه لا يُكتب في صحيفة أبيه إلا إن عقَّ عنه" وهذا معنى الرهن "كل ولد مُرتهِن بعقيقتِه"، فهل يجوز حتى تفك الرهن أن تنوي مع العقيقةِ شيئًا آخر؟ الجواب: لا.
بل ينقدح في نفسي -والمسألة فيها خلاف- أن من عقَّ بعِجل أو بِجمل عنه وعن آخر؛ فهذا لا يجزئ؛ لأن النبي قال: "كُل مولودٍ مُرتهِنٌ.." يعني لكل واحد عقيقة، ما تقبل الشِّركة، لا في نِية ولا مع غيرك، كل واحد له عقيقة، فالأمر لا يَقبل الشركة.
طيب؛ في العقوبات: أتي للقاضي برجلٍ قد سرقَ، ثم قَتلَ، ولم يُتمكَّن منه إلا بعد إثباتِ جريمة القتلِ عليه؛ إيش نعمل فيه؟ نقطع يدَه ثم نقتلُه؟ أم نقتلُه دون قطع اليد؟ نقتلُه دون قطع اليد، وقد جوَّز هذا بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
يُقال في هذا: التداخل.
إذن: التداخل وفِعل أكثر من عبادة بنِية واحدة مسألة في الحقيقة لاحبة ومتسعة، لها فروع، لكن: كيفما كان هنالك أصل يأذن لنا في الشرع أن ننوي أكثر من نية في عمل واحد.
الناظم يقول:
فنيَّةٌ شرطٌ لسائرِ العمل
إيش العمل؟ وإيش الفرق بين العمل والفِعل؟
هل النيَّة تجب في القول والفعل؟ أم تجبُ في الفعل دون القول؟
النية تجبُ في القول والفعل، والعمل يشمل الفعل والقول.
إيش الفرق الآن بين النية والفعل والقول؟
القول: يقابله الفِعل.
والعمل: يشمل القولَ والفِعل.
لذا كان عمر بن عبد العزيز يقول: "مَن عدَّ قولَه من عملِه؛ حاسب نفسَه".
بل في القرآن الكريم: {شياطينَ الجنِّ والإنس يوحي بعضُهم إلى بعضٍ زخرفَ القولِ غُرورًا} بعدين إيش قال ربنا عز وجل؟ قال: {ولو شاء ربُّك ما فعلوه}؛ فجعل القولَ فِعلًا.
لكن في العربية المجردة: أن القولَ والفِعل أمران متقابِلان، والعمل يشمل والقَول.
ولذا أحسن الناظمُ لما قال:
فَنِيَّـةٌ شَــرْطٌ لِـسَـائِــر الْعَـمَـــلْ
يعني جميع العمل يحتاج لنِية.
وتأملوا معي -وهذا-الحقيقة-من دقته في ذِكره العمل-، ومن دقته في قوله: (سائر)-: إيش الفرق بين السائر والجميع؟ الجميع: استغراق، والسائر: الأغلب، ويُستثنى منه بعضُ الأشياء.
فهنالك أشياء تُحسب من العبادات، ولا تحتاج إلى نوايا؛ منها: التُّروك، أنا إن أسقطتُ دَينًا عن نفسي؛ يسقط الدَّين ولو ما نويت. ولا يحتاج إلى نية؟!
يعني: أنا علي دين، أخونا أبو أحمد عرف أن علي دَينًا، سده دون نيةٍ مني، يسقط الدَّين من ذمَّتي أو لا يسقط؟ يسقط.
الدَّين فِعل أم ترك؟ ترك، إبراء ذِمة، يسقط شيء من الذمة.
لكن: أنا أردت أن أؤدي زكاة، فأدَّاها عني أبو أحمد دون نيَّة مني؛ هل تقبل الزكاة؟ إيش الفرق بين النيَّة والدين؟ النية فِعل إيش؟ عمل، الترك إبراء.[كذا]
لو أنت على ثوبك فيه نجاسة -أجلكم الله-، فغسلتَ النجاسة وأزلتَها دون نيّة، وصليت في الثوب وغسلت النجاسة دون نية، فصلاتك في الثوب اللي ما عليه نجاسة، وأسقطت النجاسة دون نية؛ هل هذا يجزئ أو لا يجزئ؟ يجزئ؛ لأن التروك لا تحتاج إلى نوايا.
ولذا: أحسن الناظمُ أيما إحسان لما قال:
فَنِيَّـةٌ شَــرْطٌ لِـسَـائِــر الْعَـمَـــلْ
ولم يقل: (لجميع العمل).
حتى بعض أهل العلم ألحقَ الزكوات بالتُّروك، قال: هي دَين للهِ في الذِّمة.
لذا بعضُهم يقول: لو أخذنا بالغصبِ، والي بيت المال لو أخذ غصبًا الزكاة؛ تجزئ أو لا تجزئ؟ بعضهم قال: تجزئ، والأمرُ فيه خلاف على ضابط مهم بينَّاه لإخواننا الطلبة في الدورة الأخيرة من دورات مركز الإمام الألباني، وهذا الضابط قائم على: هل الزكاة واجبة في الذمَّة؟ أم واجبة في المال؟ إذا كانت واجبة في المال؛ أجزأ، وإذا كانت واجبة في الذمة؛ لا يجزئ إلا بنِية.
أما المؤاخذة في الدنيا: فلا يؤاخذ صاحبُها في الدنيا.
وذكرنا لكم بعض الأشياء، هنالك فرق بين الحُكم الأخروي والحكم الدنيوي.
يعني: المرأة النصرانية التي يتزوجها المسلم إن حاضتْ فيحرُم على الرجل أن يأتيَها إلا بعد أن تتطهر؛ لأن الله يقول: {فإذا تطهَّرنَ فأتوهنَّ من حيثُ أمركُم الله} ولم يقل الله (فإذا طهُرنَ)، فيا أيها المسلم: إذا زوجتك طهرتْ من الحيض؛ حرام عليك تأتيها حتى تغتسلَ؛ لأن الله ما قال (فإذا طَهُرنَ فأتوهنَّ)؛ وإنما قال: {فإذا تطهَّرنَ} هذه التاء توجبُ عليها أن تغتسل، لو قال (فإذا طهُرنَ)؛ فمجرد ما تنتهي الحيض لك أن تأتي أهلك، لكن الله ما قال (فإذا طهُرنَ)؛ قال: {فإذا تطهَّرنَ} إذا أحدَثنَ طُهرًا.
طيب: رجل تحته زوجة كتابيَّة وحاضت، متى يجوز له أن يأتيها؟ حتى تغتسل، طيب: هذا الغُسل ينفعها؟ نعم ينفعها، ما عندها نية؟ ينفعها في الدنيا.
المسلم لما يغتسل في ماء بارد أو في وقت برد ويريد يدرك الجماعة، هذه عبادة، أما الكتابيَّة.. ليس بعبادة؛ الله لا يقبل منها حتى تؤمن، لكن هذه النية لها أثر على الأحكام في الدنيا.
مثل المجنونة: رجل عنده زوجة مجنونة، حاضت.. طهرت، أراد أن يأتيها فغسَّلها هو، يأتيها بعد ما يغسِّلها؛ لذا كان الناظم دقيقًا لما قال:
فنيَّة شرطٌ لإيش؟ ما قال: لجميع العمل، ولا قال: لكل العمل؛ وإنما قال: (لسائر العمل).
فالنيَّة: شرط.
والنية ليست رُكنًا، فمتى ينبغي للعبد أن ينوي؟ قبل العمل، هي خارج عن العمل، لكن هنالك -كما ذكرتُ- بعض العبادات يجزئ أن تتأخر النية فتصبح في أثناء العمل -كصيام النافلة-؛ بل بعضُها يُجزئ أن تكون بعد العمل؛ مثل الاستثناء على اليمين: بعد أن تفرغ من اليمين تقول: إن شاء الله، وتنوي الاستثناء، ويجزئك ذلك إن شاء الله.
نأتي إلى تتمة البيت، يقول:
بِهَــا الصَّـلاحُ وَالفَسَــادُ لِلْعَـمَـلْ
العمل صلاحًا وفسادًا يترتب على النية، وصلاح العمل: ما تبرأ به الذمَّة، وفسادُه: ما لا تبرأ به الذمة.
من أتى بعملٍ صالح تبرأ ذمته في الدنيا، وتبرأ ذمته في الآخرة، ومن لم ينوِ نيَّة صالحةً حيث أوجبَ الشرعُ النية؛ فيكون عملُه فاسدًا.
ووقع خلافٌ بين العلماء: هل من فرقٍ بين الباطل والفاسد أم لا؟
فمنهم من جعل الباطلَ والفاسدَ سيان، ومنهم من فرَّق بين الباطل والفاسد، فقال: الباطل ما لا يُشرع بأصلِه ولا بوصفِه -كأكل الميتة والزنا-، ولكن الفاسد.. [توقف للأذان!]
قلنا: إن النيةَ شرط لصحَّة سائر العمل، ويترتَّب عليها وجودًا: صلاح العمل، وبراءة ذمَّة صاحبِه في الدنيا والآخرة، ويترتب عليها عدمًا: فساد العمل أو بُطلانُه.
وإن جماهير الفقهاء والعلماء -باستثناء الإمام أبي حنيفة --رحم الله الجميع- لا يُفرِّقون بين الفساد والبُطلان، وأبو حنيفة رحمه الله يُفرِّق بين الباطل
والفاسد، ويقول: إن الباطل ما لا يُشرع بأصلِه ولا وصفِه، وإن الفاسد ما شُرع بأصلِه دون وصفِه.
فشُرب الخمر وأكل الميتةِ: فهذا من الباطل الذي لم يُشرع لا بأصله ولا بوصفِه.
وأما الرِّبا: فهو من الفاسد؛ لأن الربا نوعٌ من أنواع البُيوع، فيها زيادةٌ لتأخُّر الزَّمن، فالشيء الباطل الشيء الحرام من هذا العقد: هو الزيادة فقط، ويترتَّب على هذا فُروع كثيرة تأتينا في حينها إن شاء الله، وأذكر الآن لكم فرعًا من الفروع:
رجل أعطى آخرَ مالًا برِبا فرفع أمرَه إلى القضاء، فلو كان القاضي غير حنفي -كأن يكون شافعيًّا أو مالكيًّا أو حنبليًّا- فيُلغي أصل القرض، ويُلغيه من الوجود، ويعتبره غير قائم، وينفض المجلس بين الطرفَين بإلغاء ما اتَّفقوا عليه.
لكن: لو كان القاضي حنفيًّا؛ فيصحح القرض، فيقضي بالقرض دون الزيادة، فيقضي بالقرض دون الربا؛ لأن الله عز وجل يقول: {وأحل اللهُ البيعَ وحرَّم الرِّبا} وجميع المفسرين يقولون قوله: {وحرَّم الرِّبا} عطفُ خاص على عام، فالرِّبا خاص معطوف على عام، البيع مُفرد، محلى بالألف واللام، ويأتينا في هذه القواعد في بعض أبياتها أن المفرد المُحلى بالألف واللام من العموم، فالربا هو الممنوع، الزيادة بسبب الزمن هو الممنوع، وأما أصلُ البيع، أصل القرض؛ حلال.
فأبو حنيفة يقول: هذا فاسد وليس بباطل، ومعنى الفاسد: ما شُرع بأصله دون وصفِه، فالممنوع في الوصف دون الأصل.
هذا يفيدنا في قاعدة مذكورة عند العلماء تأتينا أيضا بالتفصيل وليكن هذا الكلام تمهيدًا لها، وتأتينا لها فروع كثيرة جدا، ولست الآن بصدد ذِكر الفروع حتى يقع تكرار في الشرح، وهي قاعدة: متى يقتضي النهي الفساد، ليس كل نهيٍ يقتضي الفساد، فهنالك نهي يقتضي الفساد في الشرع، وهنالك نهيٌ لا يقتضي الفساد.
ليس كل من سرق مالًا فتوضأ فصلى فصلاته باطلة، مع أن سرقة الماء حرام، وليس كل من سرق سكينًا فذكَّى بها شاة فالشاةُ حرام، وليس كل مَن غصب أرضًا فصلى عليها فصلاتُه باطلة، وليس كل من سخن ماء بحطب مسروق فالغُسل.. إلى آخر الفروع التي تأتينا في حينها إن شاء الله تعالى.
فهذه أشياء مشروعة بأصلها ممنوعة بوصفها.
وهذا الذي يسمَّى عند أبي حنيفة رحمه الله: الفاسد، والشيء الذي لم يُشرع لا بأصله ولا بوصفه يسمَّى إيش؟ باطل، وهذا التفريق يكون عند أبي حنيفة فقط، الجماهير لا يرَون التفريق، وبعضُهم اضطر لأن يقول بالتفريق في الفُروج في الأنكحة دون غيرها في تفصيل يأتينا لاحقًا إن شاء الله تعالى.
أكتفي بهذا القدر في شرح البيت الحادي عشر....

انتهى (الجزء الأول) ويتبع (الجزء الثاني).

تفريغ : أم زيد

من هنـا تجميع روابط الدروس المفرغة
__________________
قال العلامة صالح آل الشيخ: " لو كان الفقه مراجعة الكتب لسهل الأمر من قديم، لكن الفقه ملكة تكون بطول ملازمة العلم، بطول ملازمة الفقه"
وقال: "ممكن أن تورد ما شئت من الأقوال، الموجودة في بطون الكتب، لكن الكلام في فقهها، وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ"
"واعلم أن التبديع والتفسيق والتكفير حكم شرعي يقوم به الراسخون من أهل العلم والفتوى ، وتنزيله على الأعيان ليس لآحاد من عرف السنة ، إذ لا بد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، حتى لا يصبح الأمر خبط عشواء ،والله المستعان"
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 05-30-2012, 01:10 PM
حامد بن حسين بدر حامد بن حسين بدر غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,115
افتراضي تفريغ الدرس الخامس/الجزء الثاني......

تفريغ الدرس الخامس/الجزء الثاني.....:


[الـدَّرس الخـامـِس]

(الجزء الثَّـاني)


12. الدِّيــنُ مَـبْـنِــيٌّ عَـلَى المَصـالِــحِ ... فـي جَـلْبِـهَـا وَالـدَّرْءِ لِلْقَبـائِــحِ
13. فَـإِنْ تَــزاحَــمْ عَـدَدُ المَصـالِــحِ ... يُـقــدَّمِ الأَعْــلَى مِـنَ المَصَــالِــحِ
إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
عبَّر الناظم في قولِه:

12. الدِّيــنُ مَـبْـنِــيٌّ عَـلَى المَصـالِــحِ ... فـي جَـلْبِـهَـا وَالـدَّرْءِ لِلْقَبـائِــحِ

على قاعدةٍ كليَّة مهمَّة، وهذه القاعدة تقول: (إن الشارعَ لا يأمرُ إلا بما كانت مصلحتُه خالصةً أو غالبة، ولا ينهى إلا عما كانت مفسدتُه خالصةً أو غالبة).
ولا يوجد شيء في الكون تتساوى فيه المصلحة مع المفسدة؛ لأنه لا يوجَد شيء لا حُكم للشرع فيه، فكلُّ ما غلبتْ مصلحتُه مفسدتَه؛ فهو من شرعِ الله، وكلُّ ما غلبتْ مفسدتُه مصلحتَه؛ فالشرعُ يمنعه، وكل مصلحةٍ خالصةٍ لا شيةَ من المفاسدِ فيها؛ فهي من دين الله، وكلُّ مفسدةٍ خالصةٍ لا شِيةَ من المصالح فيها؛ فدينُ الله تعالى منها بريء.
المصالح والمفاسد لا يُرادُ بها المشاقُّ، كما قال ابن القيم -رحمهُ اللهُ- في كتابه «مفتاح دار السعادة»، قال: «إذا أريد بالمفسدة المشقة؛ فلا يوجد مصلحة خالصة البتةَ»؛ فالمفسدة شيء، والمشقة شيء، ويأتينا الكلام على المشقَّات -قريبًا- في بيت مستقل، في قاعدة مستقلة -إن شاء الله تعالى-.
إذن: هذه القاعدة؛ إن أردنا أن نُفرِّعها فنحتاجُ إلى أمثلةٍ، ونحتاجُ إلى مثالٍ على كلِّ قسمٍ من الأقسامِ التي هي أربعة أقسامٍ:
1.مصلحة خالِصة.
2.مصلحة غالِبة.
3.مفسدة خالِصة.
4.مفسدة غالِبة.
فالمصلحة الخالصة التي لا يوجد فيها أي شيء من المفاسد؛ مثل: الإيمان، والتوحيد، والصدق، والأمانة، والعدل، والإحسان، والبِر، وصلة الرحم، وحُسن الجوار.. هذه كلُّها مصالح خالصة لا مفسدة فيها، وإن وُجدتْ مفسدة؛ فتكون المفسدة في الطريق لا في ذاتِ البِر، قد تبر أو تُحسن لجارٍ وهو يسيئ إليك؛ فالإساءة ليست من ذات البر؛ وإنما المفسدة شيء خارج وعارض، ليس من ذات الطاعة ومن ذات العبادة.
هذه المصالِح الخالِصة.
فالشرعُ؛ كلُّ مصلحة خالصة أتى بها؛ ولذا: الشَّرعُ حَسنٌ في عقولِ كل الخلق، كل أصحاب الفُهوم المستقيمة، والأذواق السليمة، والنَّظر الصَّائب؛ فإنهم يُعظِّمون الأديان، ويعظِّمون من التزمَ بدِين الله -سُبحانهُ وتَعالى-.
هنالك مصالح غالِبة، ولكنَّها تتضمَّن مفاسدَ، فالمصلحةُ الغالِبة إن كانت هي الشَّائعة، وإن كانت المفسدة يسيرة بالنسبةِ إلى المصلحة المتحقِّقة؛ فحينئذٍ: نقدِّم المصلحةَ الغالبةَ، فمصلحةُ الجماعة تقدَّم على مصلحة الفردِ، وهذا ما يُسمى -مثلًا- في الشرع بـ(المُثامنة) في العقار.
يعني: رجل بنى بيتًا، وببيتِه أغلق جميعَ الطرقِ للمسجد! رجل بنى بيتًا، له مصلحة في بيته، لكن إغلاق الطريق للمسجد، ولا يستطيع أحد أن يصل للمسجد إلا من طريق هذا البيت؛ فحينئذٍ: مصلحة الجماعةِ تُقدَّم على مصلحة الفرد؛ فيُؤخذ من أرضهِ عُنوةً لتكونَ طريقًا بالمقدار الذي يصلحُ أن يكونَ طريقًا، وأن يسدَّ حاجةَ الناس، وتملُّك العقار عنوةً مقابل ثمنِه في أعراف التُّجَّار؛ هذا يُسمى عند الفقهاء: (المثامَنة).
تمامًا مثل عضو تآكل، وإن تُرك ولا علاج له، وإن لم يُبتر يهلك جميعُ بدن الإنسان، ففي بتر العضو مفسدة؛ لكن المصلحة الغالبة -مصلحة سائر البدن، وأن يبقى الإنسانُ في حياة-؛ تقتضي أن يُبترَ العضو، فبَتر العضو لسلامة سائر الأعضاء؛ هذا مصلحة غالِبة.
فالشرعُ أتى بالمصالح الخالِصةِ أو بالمصالحِ الغالبةِ.
فكلُّ مصلحةٍ قد تتحقَّق، ولكنَّها مصلحةٌ مغلوبة أو زائلة أو موهومة، أو عند التحقيق هي نشوةٌ آنيَّة ثم يترتَّب على ذلك الضررُ الكبير؛ فهذا ليس بمصلحةٍ معتبرة؛ وعليه: فإن المفسدةَ الخالصةَ في دِين الله حرام.
مثل إيش المفسدة الخالصة؟ مثل الشِّرك مفسدة خالصة، مثل الكذب، مثل الظلم، مثل الخيانة، مثل القطيعة، مثل سوء الخُلق، سوء الجوار..؛ هذه كلُّها مفاسد خالِصة.
وكل المفاسد الخالصة حرام.
ومن عجيبِ شرعِنا أنَّه لم يضعْ حدًّا للإحسان، ولم يضعْ حدًّا للبِر، فالبِر ميدان، والإحسان ميدان آخر يتسابقُ فيه المتسابِقون، وكلٌّ يبر أباهُ على حسب إيمانِه.
فعُمر بن ذر كان بارًّا بأبيه، وكان والدُه يتألَّم من الماء البارد، فسُجن هو وأبوه ذات يوم، ويعلم أن أباه سيصلي الفجر ويتوضأ بالماء البارد في السجن، فبقي طوال الليل يحمل الماء على ضوءِ السِّجن حتى دفَّأ الماء -الفجر-، وأعطاه لوالده حتى يتوضَّأ.
هذا مشروع ولا ممنوع -هذه الصورة-؟ مشروعة، ليش مشروعة؟ لأن البرَّ ميدان فسيح، لا حدَّ له، متروك لمن؟ متروك للناس.
كما أخبرنا النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في الثلاثة الذين تدحرجت الصخرة فغلَّقت عليهم الغار، فقالوا: الجؤوا إلى الله -عزَّ وجلَّ- بصالح أعمالكم -وهذا له صِلة بالنيَّة-، فواحد قال: إنك تعلم يا رب أنه كان لي صِبية، وكنتُ لا أطعمهم حتى أطعِم أبويَّ، وكان عندي أبوان كبيران، فذات يوم جئتُ ووالداي نائمان، فبقيتُ أحمل غبوق لبن، وأنا على رأسِهما، والصِّبية حولي يتصايحون، فقلتُ: والله لا تشربون حتى يشرب الوالدان، فلما استيقظا مع الصباح أشربتُ والديَّ ثم أشربتُ أولادي.
هذا باب عظيم من أبواب البِر؛ أن تقدِّم أبويك على أولادك وعلى زوجك.
فباب البر بابٌ فسيح، وميدان فسيح.
لذا: كان قتادة لما يتكلَّم مع أمِّه يتكلَّم بذُلٍّ، فقيل له: لماذا تتكلَّم مع أمك هكذا؟ قال: الله يقول: {واخفضْ لها جناحَ الذُّل} ينبغي أمام والدَيك أن تكون ذليلًا، ليس البِر أن تطعمها وأن تُسكنَهما، البِر أن تتواضع لهما، {واخفضْ لها جناحَ الذُّل من الرَّحمة} يكون جناح رحمة وجناح ذُل للوالدَين، فمهما سمَوتَ ومهما ارتفعتَ، ومهما علا راتبُك، وعلتْ منزلتُك وشهادتُك؛ أنت أمام أبوَيك ضمَّ الأجنحةَ هذه، وكنْ ذليلًا رحيمًا بأبوَيك.
فباب البِر باب مصلحة خالصة، ولا يمكن أن نحصر صُوَر البر، والشرعُ تركه ميدانًا فسيحًا.
لذا: قال بعض الصالحين، قال: كيف بِرُّك بأبيك؟ قال: بِرِّي بوالدِي أن لا أمشي بليل إلا أمامه، وأن لا أمشي بنهارٍ إلا وراءَه، وأن لا أصعدَ ظهرَ بيتٍ هو تحته! ما أرتفع على أبويَّ.
فهذا البِر ميدانُه فسيح.
فالمصلحةُ الخالصة من دين الله، المصلحة الراجحة من دين الله، المفسدة الخالصة ليست من دين الله، والمفسدة الغالبة ليست من دين الله.
فيه أشياء قد تكون فيها مصالح، لكن هذه المصالح قليلة بالنسبة إلى مفاسدِها، وقد تكون مفسدة شخصيَّة تُعارض مصلحةَ عموم الناس؛ فالمصلحة العامَّة تقدَّم على المصلحة [الخاصة].
لذا قال الله -عزَّ وجلَّ-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، هل الخمر والميسر فيه نفع؟ نعم فيه نفع بنصِّ القرآن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ} الخمر فيه منافع، الخمر فيه تجارة، والقِمار -وهو المَيسر- فيه لهو.
تعرفون الفرق بين القِمار والمَيسر؟
كل لهوٍ باطل يُسمَّى مَيسرًا، فإن صحبَه أكلُ مال؛ فهو قِمار.
ما هو السِّر في أن قرَن اللهُ المَيسرَ مع الخمر؟ الإدمان، فالخمر الكأس يحتاج إلى كأس، والمَيسر الدِّستت يحتاج إلى دست، واللعبة تحتاج إلى لعبة؛ فيصعب فطام النفس عن الخمر، ويصعب فطام النفس عن لهو الباطل.
فإن كان مع اللهو الباطل أكل مالٍ من طرفٍ دون طرفٍ، بمحض الحظ والصُّدفة؛ فينقلبُ الميسرُ قِمارًا.
فكلُّ ميسرٍ قمار، وليس كلُّ قمارٍ ميسرًا.
وهذا التقسيم للإمام ابن قُتيبة في كتابه المطبوع: «الميسر والأزلام»، وعقد الإمام الخرائطي في كتابه «مساوئ الأخلاق» بابًا، ومن يقرأ آثار السلف يجد أن الأمر معروف عندهم على هذا الحال، وهذا الذي قعَّده الإمام ابن القيِّم أيضًا في كتابه «الفروسية» -رحم الله الجميع-.
فالله -عزَّ وجلَّ- يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} فالله -عزَّ وجلَّ- يذكر الجواب قال: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} الذي يشرب الخمر ويلعب الميسر آثم، إثم عظيم، ولكن الله عوَّدنا أن نُنصِف، أن نكون أهل نصَفة، أهل عدل، أن نأخذ الأشياء على حقائقها؛ فمن باب العدل الله قال: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} وأيضا فيهما إيش: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فالناس كانوا يتاجِرون وكان يُحصِّلون الأموال، ويُدخلون الأنسَ على النَّفس بالميسر، وتُصيب شاربَ الخمر النشوةُ وتزيد الشهوة، والحمد لله لم نذُق الخمر، وإن شاء الله لا نذوقه إلا في الجنَّة، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم مِن أهل الجنان إن شاء الله، لكن هكذا يقول القائلون الذين جرَّبوا، وحتى العلماء المفسرون يذكرون هذه الأشياء؛ فهذه منافع للناس.
وحتى بعضهم يقول: في الشتاء تُعطي الخمرُ الدفء، وبعضهم -نسأل الله العفو والعافية- بعض الأطباء الفجَرة الفسَقة يوصفون للناس لمن معهم الحصوة في الكِلية يقولون: اشرب الخمر! الله أكبر! الخمر؟! مع أنه لا ميزة للخمر عن غيرِها، يعني كل السوائل في هذا الأمر سيَّان! لكن هم يخصِّصون الخمر من شدة حنقه على دين الله، وكُرهه لأصحاب الاستقامة وأصحاب الدِّيانة -نسأل الله -سُبحانهُ وتَعالى- العفو والعافية-.
فالله -عزَّ وجلَّ- قال: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ثم قال -سُبحانهُ وتَعالى- ليُبين لنا هذه القاعدة، قال: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} إذن العبرة بالغالب.
فإذا كانت المصلحةُ هي الغالبة؛ فهي حلال.
يعني: الآن الدخان: الدخان فيه منافع، فيه تجارات، و-نسأل الله العافية- نرى بعض المحلات كلها دخان -بيت المدخِّن وإلى ما شابه من هذه الأسماء-، وبعض الناس يزرع الدخان، فيتكسَّب من الدخان، لكن لو قارنَّا بين الدخان بين مصالحه ومفاسده؛ إيش نرى؟ أيهما الغالب المصالح ولا المفاسد؟ إذا كان المصالح غالبة حلال، وإذا كانت المفاسد غالبة؛ حرام.
يعني: لو نأخذ الفلفل الحار: الفلفل الحار فيه مفاسد؟ فيه ضرر، لكن هذا الضرر يشمل كل الخلق؟ يشمل قسمًا من الناس، من معه قرحة -مثلًا-، مع أن الأطباء -سألت البعض- فقالوا: أسرع علاج لمن معه القرحة الشيء الحار، لكن هو علاج مع ألم شديد، وأنا كنتُ أتوهَّم أن الحارَّ مؤذٍ للمعدة، فقالوا: لا، الحار ليس مؤذيًا للمعدة، الحار أنجع شيء لعلاج القُرَح، لكن فيه ألم شديد.
بغض النظر هل صح هذا أم لم يصح، العبرة بالغالِب.
مَن يتضرر من أكل اللحم؛ فيحرُم في حقِّه أكل اللحم؛ للضرر لا لذات اللحم.
فالحرام قسمان: حرام لذاتِه، وحرام لغيرِه.
لكن إن أردنا أن نسقط الحُكم على الشيء: فالشيء إن كانت المفسدةُ خالصةً أو غالبة؛ فهي حرام، وإن كانت المصلحة خالصة أو غالبةً؛ فهي من ضمن ما شرعَ اللهُ -سُبحانهُ وتَعالى-.
فالله -عزَّ وجلَّ- لا يُحلِّل شيئًا تكون مفسدتُه خالصة أو غالبة.
وهذه المسألة مهمَّة -ولا أريد أن أخوض فيها، لكن لا بد أن نتعرض لها-:
المصلحة والمفسدة بم تُعرف؟
هذه مسألة مذكورة في كتب التوحيد، ومذكورة في كتب الأصول، وهي المسألة التي تسمَّى (التحسين والتقبيح)، والعلماء يقولون: التحسين والتقبيح هل هو عقلي أم شرعي؟
العلماء اختلفوا، والاختلاف اختلاف أصل من أصول مهمة، ولذا المسألة لم تُدرج فقط في كتب الأصول؛ وإنما ذكرتْ أيضا في كتب العقائد؛ لشدة الاختلاف فيها -من جهة-، ولالتباس الحق فيها -من جهة-، ولثمارها وتعلُّقاتِها -من جهةٍ أخرى-؛ إذ يبحثونها في بعضِ فروع العقائد.
فمثلا: التحسين والتقبيح عند المعتزلة عقلي، ولأنه عقليٌّ محض يوجِبون على اللهِ أشياء؛ يقولون: يجب على الله أن يبعثَ رسولًا، ويقولون: الله -عزَّ وجلَّ- لا يجوزُ في حقِّه أن يبعثَ رسولًا كاذبًا، ولا يجوزُ في حق الله أن يُجري المعجزةَ على يدِ مَن هم من أولياء الشيطان.
فالتحسين والتقبيح عند المعتزلة عقلي محض.
قابلهم رجلٌ كان منهم ثم في أواخر حياتِه تداركه الله برحمتِه فتبرأ منهم، وهو الإمام أبو الحسن الأشعري -رحمهُ اللهُ-، فكان يقول -وهذا ردة فعل عن قولِهم-: لا يجب على اللهِ شيء، فالله -عزَّ وجلَّ- لا يُسأل، والناس يُسألون، فكان يقول: التقبيح والتحسين تمييز المفسِد من المُصلِح، والحسَن من القبيح أمرٌ شرعي محض، ولا صلةَ للعقل فيه.
فالمسألة أصبح فيها غُلو، وأصبح فيها تقصير جفاء، فحتى كان الأشاعرة قرَّروا في كتبهم أن الله يُمكن أن يبعث رسولًا كاذبًا، وأن الله -عزَّ وجلَّ- يُمكن أن يُجريَ معجزةً على يد دعِي.. قال: الأمر شرعي محض، ويُمكن الله -عزَّ وجلَّ- يُحلل الخمر، ويُمكن أن يحرِّم الخبز.
والصواب وسط بين القولَين، وهذه مسألة جلَّاها ببيانٍ رائع للغاية الإمام ابن القيم -رحمهُ اللهُ- في كتابه «مفتاح دار السعادة» فقال: المصلحة والتحسين والتقبيح يكشف عنه الشرعُ، والعقل يَقبَله ولا يردُّه، فالعقل السليم لا يُسوِّي بين العذرة والخُبز، ولا يمكن أن يقول أن العذرةَ يمكن أن يكون أكلها حلال، فالشرعُ هو الذي يحكم، والعقل يكشف، والعقل والشرع ليسا بمتعارضَين، فالحكم للشرع، وهو يوافق العقلَ، فلا تعارُض -أصلًا-، لكن الذي يحكُم بالحِل هو الشرع، العقل وفقه القاعدة، سبرنا كل أوامر الشرع، وكل ما أحله الشرع؛ فوجدنا أن الشرعَ لا يُحل إلا المصلحة الخالِصة أو الغالِبة.
فالحُكم للشرع، والعقل يكشف عن المصلحة، وسبرنا كل الأشياء فوجدنا أن الشرعَ لا يحرِّم إلا المفسدةَ الخالصةَ أو الغالبة؛ فلماذا هذا التناكد بين العقل وبين الشرع؟
ولذا: شيخ الإسلام في هذه المسألة جلَّاها في إحدى عشر مجلدة سمَّاه: «درء تعارُض العقل والنقل» وبيَّن فيه النصَّ الصريح لا يُخالفُ العقل الصحيح، وإذا وقع تعارُض: فإما النص غير صريح، وإما العقل غير صحيح، المجنون هو الذي يعارِض؛ وإلا: الشرع والعقل متوائمان، ومؤتلِفان، وليسا بمختلِفين.
فلما نقول: مصلحة غالِبة.. خالصة، مفسدة خالصة غالبة؛ بميزان الشرع الذي يُدركه العقل.
ولإدراك العقل قعَّد العلماء هذه القاعدةَ؛ فقالوا: المصلحة الخالصة أو الغالبة حلال، والمفسدة الخالصة أو الغالبة حرام، الأولى في دائرة المشروع، والثانية في دائرة الممنوع.
فالشرع يحكم، والعقل يكشف، فخلَّص الحقَّ بين دمٍ وفرثٍ لبنًا سائغًا للشاربين، خلَّص الحقَّ في المسألة من بين هؤلاء ومن بين هؤلاء، ووضَّحها توضيحًا كثيرًا.
نحن لا نشك أن المصالح درجات، وأن المفاسد درجات، وهذا الامر ينبغي أن يُعلم: ظلم دون ظلم، حرام دون حرام، كُفر دون كفر، فليس الكفر كله واحد، فالمصالح لمَّا نحكم أنها الغالبة إما في النوع وإما في العدد، وكذلك المفاسد، فليس التوحيد كالمسائل الفقهية.
الله يقول: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، القرآن فيه آية أفضل من آية، مع أنه كله كلام الله -سُبحانهُ وتَعالى-، وكذلك المصالح وكذلك المفاسد.
لذا: أتى الناظم -رحمهُ اللهُ- تعالى- ببيتٍ فيه بيان ازدحام المصالح وازدحام المفاسد، كيف نأتي بالازدحام.
ففي «الصحيحين» من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: سئل النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: أي الذنب أعظم؟ فقال: «أن تُشرك بالله وهو خلقكَ»، أو قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خَلَقك» فهذا أعظم الذنب «وأن تقتلَ ولدَك مخافةَ أن يَطعمَ معك، وأن تُزانيَ حليلةَ جارِك»، يعني: الزنا في المرأة الغريبة حرام؛ لكن في مرأة الجار؛ أشد حُرمة؛ لأن هذا من دواعي التكرار، والمرأة البعيد التكرار خفي، تَقتل؛ حرام؛ لكن أن تقتل ولدك؟! هذا حرام زائد، هذا يُخالف الشرعَ والطبع، الإنسان مطبوع على الرِّقة والرحمة بالولد، فأنت لَما تقتل الولد؛ رُفعت الرحمة من قلبك؛ فخالفتَ أمر الشرع والطبع الذي طبع الله الناس {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، وكذلك أن تعبد وأن تجعل لله ندًّا وهو الذي قد خلقك وسوَّاك ورزقك، فأن تُشرك به؛ هذا من أعظم الذنب.
فالمفاسد درجات، وأيضا المصالح درجات، فليست كل الأوامر بدرجة واحدة، وليس من فوَّت الصلاة كمن قطع الرحم، مع أن هذا حرام وهذا حرام، ليس من ترك الأمر بالمعروف كمَن ترك الزكاةَ، وهكذا.
فالشاهد -بارك الله فيكم-: أن الشرعَ جاء بمصالح وجعل المصالح على درجات، وحرَّم المفاسدَ وجعل المفاسد على درجات.
تبقى مسألة وهي: إذا كانت المصالح قد تزاحمت، ومعنى المزاحممة: المضايقة.
يقول الناظم:
13. فَـإِنْ تَــزاحَــمْ عَـدَدُ المَصـالِــحِ ... يُـقــدَّمِ الأَعْــلَى مِـنَ المَصَــالِــحِ
إن اجتمع في المحل الواحد في الوقت الواحد مُلابَسات وظروف، لا تستطيع أن تؤدِّي إلا مصلحة، فتزاحمت عليك عدة مصالح؛ إيش المطلوب منك؟
عبَّر الناظمُ بهذا البيت -البيت الثالث عشر- على قاعدة مذكورة في الكتب الفقهية وتنص هذه القاعدة فتقول: (إذا تزاحمت المصالحُ يُقدَّم أعلاها)، إذا المصالح تزاحمت يقدَّم أعلى هذه المصالح، فإذا كنتُ لا بد أن أترك بعض المصالح؛ فلا أترك الأعلى للأدنى؛ وإنما أترك الأدنى للأعلى.
إيش يعني؟
يعني: لو تعارض معك واجب مع سُنة، أنت مديون، وقد حلَّ أجلُ الدَّين، أعطيت موعدًا للدَّين، وجاءك فقير تريد أن تتصدَّق عليه، أيهما يقدَّم في شرع الله؟ أن تسدد دَينك أم تتصدَّق على الفقير؟ سداد الدَّين -في كل حال-، تَعبُد الله -عزَّ وجلَّ- في سداد الدَّين وتترك الصدقة على الفقير؛ لماذا؟ تزاحمت عليك المصالح: التصدُّق على الفقير مصلحة، وسداد الدَّين فرض، والصدقة على الفقير سُنة؛ فأنا أقدِّم الفريضة.
رجل راتبه محدود، وعنده -بارك الله- أولاد، ونفقة الأولاد واجبة، والنبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يقول في الحديث الصحيح: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول» يَحرُم عليك أن تضيِّع أولادك، يجب عليكَ النفقة، لكن لكن أنت مرتِّب أمورك يعني بالكاد آخر الشهر يأتي راتب على هذا الحال، تعارَض النفقة على العيال مع الصدقة، إيش تقدِّم؟ النفقة على العيال، أنا أعبد الله بالنفقة على أولادي، والنفقة على عيالي فرضٌ عليَّ، وأتقرب إلى الله بالنفقة على العيال أكثر وأشد من تقرُّبي في أن أتصدَّق على الفقير.
وهذه المسألة كثير من الآباء ما ينتبهون إليها، لا ينوون في أعمالهم وفي نفقاتهم لا يُحصِّلون النيَّة.
حتى الوالد الغني: إن مات وترك أولادًا، والأولاد يرِثون كما فعل سعد رضي الله عنه، سعد قرب الموت، ولما يقرب الموت يخاف الإنسان، ولما يخاف يحب أن يكثر من الصالحات، فإيش فكَّر سعد؟ يخرج من كل ماله صدقة، فجاءه النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فأرشده النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- إلى الثُّلث، ما تخرج أكثر من الثلث، حرام على أغنى الأغنياء أن يخرج أكثر من الثلث، والثلثان لمن؟ للورثة، وقال النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- معلِّمًا مربِّيًا أصحاب الأموال، قال: «إنك أن تذرَ ورثتك أغنياء؛ خيرٌ من أن يتكفَّفوا الناسَ»، أنت أيها الأب يا من تملك المال، إن تركتَ الميراث للأولاد هذا أجر، هذا فيه ثواب، هذا أحبُّ إلى الله من التصدُّق فيه، هذا أحب إلى الله من الصدقة، لكن أين النية؟ وأين الفقه؟ أين الإنسان الذي يفقه هذه المسألة وأن يفعل هذا بنِية حتى يحصِّل الأجر، والنبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يقول: «لا ثواب لم لا نيَّة له».
فنحن إن تعلَّمنا فنهنأ بدِيننا، نهنأ بالفقه، فالفقه يُدخل علينا سَعة، يصحح مفاهيمَنا، ويصحح تصرُّفاتِنا.
فالشاهد: أن المصالح إن تزاحمتْ ففي الشرعِ يقدَّم أعلى المصالح، المصلحة التي قرَّرها الشرعُ، وأيضا لا يكشف عنها العقل كما قرَّرنا في شرح البيت السابق.
كذلك: إذا تعارضَ حج نذرٍ -نذر رجل أن يحج- وحجة الإسلام، هذا تعارُض واجب مع واجب، فحج النذر ليس من أركان الإسلام، وحجة الإسلام من أركان الإسلام، فإن تعارَض واجب مع واجب؛ قدَّمنا ما يقدِّمه الشرعُ.
واحد نذر أن يحج ولم يحج بعد، فجاء يستفتي قال: يا شيخ إيش رأيك أقدِّم حج النذر ولا حجة الإسلام؟ إيش نجيبه؟ نقدِّم أعلى المصالح، إيش أعلى المصالح؟ حجة الإسلام، وليش حجة الإسلام أعلى المصالح؟ لأنها رُكن، والوفاء بالنذر واجب ليس ركنًا، فنقول له: أنت الآن حج حجة الإسلام؛ لأن حجة الإسلام هي الركن.
فإن تعارَض واجب مع سُنة؛ قدَّمنا الواجب على السُّنة.
وإن تعارضَ واجب مع واجب؛ قدَّرنا الأعلى من الواجبَين، الذي يجعله الشرعُ أعلى من غيره، مثل إيش؟
الجهاد مع بر الوالدَين، جاء شاب يكتتب في معركة من المعارك ويريد أن يجاهد، فقال له النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم، قال: «فارجع ففيهما فجاهِد».
يا الله! بر الوالدَين يحتاج لجهاد، يحرم أن تقول: أف، يحرم أن ينظر الوالد إليك فتُريه أنك غضبان من أمره، ينبغي أن تبقى على انشراح صدر، وأن تجاهد..
أتدرون من الذي يشعر أن بر الوالدين جهاد؟ من هو؟ الذي يعيش مع والدَيه، أو من يعيش والداه معه، والذي هو حريص على البِر يكونوا عايشين معه وهو حريص على البِر؛ فحينئذٍ في كل لحظة يحتاج أن يبقى على تذكُّر وأن يتذكر أمر الله -عزَّ وجلَّ-، وأن يعظِّم الوالدَين لتعظيم الله لهما، وبر الوالدَين أمر يوافق الطبعَ والشرع.
فهنيئا لمن عنده والدان، من عنده والدان فهنيئا له بالبر، فما أقرب الجنة من البار! فـ«الوالد أوسط أبواب الجنة» كما يقول النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-؛ يعني: أقرب طريق للجنة الوالد، أقرب طريق تصل به إلى الجنة إن كان لك والد فتَبر بالوالد، وكذلك الوالدة الزمها؛ في «السنن الكبرى» عند النسائي يقول النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لبعض الصحابة: «الزمها فإن الجنة عند قدمَيها» وأما «تحت قدمَيها» فرواية ضعيفة، و«الجنة تحت أقدام الأمهات» فحديث باطل، أما «فالزمها فإن الجنة عند قدمَيها» حديث صحيح، فالجنة عند قدمَيها، عند قدم الوالدة؛ فهنيئا لمن له والدان، فالجنة قريبة منهما.
فإذا تعارضَ الجهادُ مع بِر الوالدين إيش يقدَّم؟ يعني اللي يقول بدي أجاهد وعاق لوالديه؛ والله إنه كذَّاب! اللي يقول أنا أريد الجهاد، متى يُفتح باب الجهاد، ويصرخ على الجهاد، وعنده والدان! طيب الوالدان أقرب لك من الجهاد للجنة، مش تريد الجهاد لتدخل الجنة؟ عندك طريق أقرب للجنة من الجهاد، عندك طريق أقرب إلى أن تصل للجنة بسببه، فالعاق إن قال جهاد؛ والله إنه كذاب ليس بصادق مع الله -سُبحانهُ وتَعالى-.
طيب: العلم مع بِر الأبوَين؛ أيهما يقدَّم؟ بر الوالدين ولا العلم؟ [مداخلات]
طيب: هل يجوز الجواب بالظن والتخمين؟ يعني: تجيب بدون علم يجوز ولا ما يجوز؟
يجوز الجواب على السؤال من غير علم؟... أمام الأستاذ يجوز؛ حتى تشغل قريحتك، إن أخطأتَ أصوِّبك، أما في غيابي حرام تتكلم بغير علم، وهكذا كان يصنع أبو حنيفة -رحمهُ اللهُ-.
أبو حنيفة كان يسأل سؤالا، فيجيبون عليه، فيقنِّعهم أنه خطأ، ثم يقنِّعهم أنه صواب، ثم يقنِّعهم أنه خطأ، ثم يقنِّعهم أنه صواب.. هذاحاله -رحمهُ اللهُ- تعالى-، حتى مالك كان يقول: أبو حنيفة -رحمهُ اللهُ- لو أراد أن يُقنِعَك أن أسطوانة هذا المسجد ذهب خالِص؛ لاستطاع؛ يعني: كان عنده قوة مناظرة وقوة قريحة عجيبة، حتى قالوا في مناقب أبي حنيفة الكردري: يوم من الأيام أبو حنيفة مرض، فجاءت امرأة فسألت سؤالا فاجتمع خُلاَّص طلبته فأجابوها الجواب، فلما شفاه الله ورجع إلى حلقته، قالوا له: يا إمام جاءتنا امرأة وسألتنا كذا وجاوبناها بكذا، قال: بماذا أجبتم؟ قالوا: بكذا، فقال لهم: أخطأتم ثم اعترض عليهم، فقنَّعهم أنهم أخطؤوا، ثم قال: أصبتُم فقنَّعهم أنهم أصابوا، وقال: القول كما قلتم! فكان هذا طريقته في التدريس -رحمهُ اللهُ- تعالى-.
أقول: موضوع العلم مع البر للوالدين يحتاج لتفصيل:
قال العلماء -وهذا كلام أبو بكر الطرطوشي في كتابه «بر الوالدين»- قالوا: مقدار العلم الذي تقع به النجاة في معرفة الله ومعرفة المعتقد السليم، إذا وُجد العالِم في البلدة؛ فلا يجوز أن تسافر، ويجب عليك طاعة الوالدَين، وإذا كنتَ لا تستطيع أن تَحمل معتقدًا سليمًا إلا بأن تُسافر -ولو لم يأذن الوالدان-، بمقدار ضبطك للمعتقد السليم بهذا المقدار تُسافر ثم ترجع، أما أن تخرجَ لتتزود من العلم بالفرض الكفائي -لا الفرض العيني-؛ فيَحرُم عليك شرعًا أن تسافر دون إذنهما.
ودليل هذا ما ثبت في «البخاري» في كتاب الصلاة، وبوّب الإمام البخاري في كتاب الصلاة قال: باب وجوب صلاة الجماعة، ثم قال البخاري: قال الحسن -ويريد به البصري- قال: شابٌّ أراد أن يصلي الجماعة فتمنعُه أمُّه، فقال الحسن: يذهب للجماعة ثم يعود فورًا للبيت.
يعني: ما تطيع والدتك في الجماعة، صلِّ وبعد الفرض مباشرة حرام عليك تبقى جالسًا، صلِّ وارجع على طول، تصلي النافلة في البيت، مقدار الفريضة صلِّها ما تطيع والدتك؛ لذا البخاري استنبط من جواب الحسن البصري إن الجماعة؛ قال: باب وجوب صلاة الجماعة، وهذا في «صحيح البخاري».
طيب: الحج والدَّين؛ إيش يُقدَّم؟ رجل عليه دَين وأراد أن يحج؛ إيش يقدِّم؟ الحج ولا الدَّين؟ الدَّين. طيب: الحج ولا الزواج؟ [قال البعض: الزواج]
فيه تفصيل في الأمرَين، اسمعوا التفصيل..
طيب؛ أعطيكم صُوَرًا ستقدِّمون الحج، أنا الآن أعطيكم صُورًا تقولون الحج: رجل غني قال لك: يا بو فلان حجيت؟ قلت: لا، قال لك: حج وحسابك عندي، لا تنفق في حجك ولا قرشًا، أنفق عليك.. تقبل.. حجة الإسلام، والله أوجب الحج لمن استطاع إليه سبيلا، وأنت بهذا الغني الذي يسره الله لك أصبحتَ مستطيعًا، ما تقول: والله ما أريد! حُج معه.
وفي حديث أم حُميد الساعديَّة في «البخاري» قال النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «والحج من سبيل الله».. {إنَّما الصَّدقاتُ للفقراءِ والمساكين..} ثم قال: {وفي سبيل الله..} الحج في سبيل الله، فيجوز للغني أن يعطي زكاة مالِه لفقير لا يستطيع أن يحج إلا بهذه الزكاة، فهو مِن سبيل الله.
واحد غني قال لك: أنت عليك دين؟ طيب؛ اذهب معي الحج والنفقة على حسابي.
أو رجل طالب علم، إمام مسجد، حملة من الحملات قالت له: تعال تفضل معنا، أنت مرشدنا ما تنفق شيئًا، تخرج معنا على حسابنا، علِّم الحجيج الحج وفقه الحج، وعليه دَين، وجاء وقال: لا يا شيخ لازم أقدِّم الدَّين! قلت: ما عندك فقه! أنتَ قدَّمت مصلحةً موهومة ليست حقيقية، أنتَ لو ما حججتَ ما بتسد الدَّين، الدَّين بقي عليك، ما عندك مال، وعطَّلت على نفسك مصلحة أن تُسقط عن نفسك الحج.
فهذا النوعُ مِمن عليه الدَّين إن حجَّ ولم يُنفق شيئًا من مالِه؛ فلا عبرة بدَينه، يحج؛ لماذا؟ لأنه ما ينفق مالًا.
طيب؛ نأخذ صورةً أخرى: رجل عليه دَين، وجاء موسم الحج وبدأ يبلغ صاحبَ الدَّين أن فلانًا بده يحج، فخشي أن يتحرج فقال له: يا بو فلان سمعتُ بدك الحج؟ فقال: إي والله بدي أحج، فقال: ترى اذهب للحج، وإن حان وقت الدَّين فأنا مسامح، وأنا أيضا بأجلك سَنة، حان الآن موعد الدَّين، جاء الحج تريد أن تحج؛ الله يسهل عليك، حُجّ، وبأجلك سَنة أخرى، إيش نقدِّم الحج ولا الدَّين؟ نقدِّم الحج؛ لأنه أذِن صاحبُ الدَّين.
والنبي عليه الصلاة والسلام قال: «تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقرَ نفيًا، ويحطان الخطايا حطًّا».
ولذا: سُئل بكر بن عبد الله المُزني -التابعي الجليل-: هل يجوزُ لمن عليه دَين أن يحج؟ قال: إن أذن له صاحبُ المال؛ فليحج. ثم قال: فإن الحجَّ أقضى للدَّين.
من أسباب قضاء الدَّين: المتابعة بين الحجِّ والعُمرة، تابع والله يسد دَينك، وفي المتابعة بين الحجِّ والعمرة فيه رزق عجيب لا يعرفه إلا من يسر الله -عزَّ وجلَّ- له اليقين على مثل هذه الأحاديث. أي نعم..
لكن: رجل حان موعد الدَّين، ويطالبك بدَينه، ولا يأذن لك أن تخرج، وأنت لا تستطيع أن تحج إلا بمالك، وإما أن تنفق المال في الحج وإما أن تنفقه في سداد الدَّين، إيش يقدَّم الآن؟ يقدَّم الآن الدَّين، حق العبد يقدَّم على حق الله -عزَّ وجلَّ-، هذه من قواعدهم، الله يغفر حتى للحاج وحتى للشهيد، يغفر القُصور في حقِّه، لكن لا يغفر القصورَ في حقِّ العباد، حتى التوبة في حقِّ العباد حتى يتحال، حتى تؤدَّى الحقوق إلى أصحابها، أو أن يُحلِّل صاحب الحق لمن اعتدى عليه -سواء كان الاعتداء ماديًّا أو معنويًّا-.
طيب؛ الزواج والحج؟ ينظر في حال الشاب غير المتزوج، فعلماء البلاغة يقولون: التخلية قبل التحلية، قبل ما نتحلى بالطيب نتخلى من النجاسة، قبل ما نتحلى بالحج نتخلى من المعصية.
رجل نفسه تنازعه، وعنده شبق، ويتعب تعبًا شديدًا، ويحتاج للمرأة، يقول لي: أحج ولا أتزوج؟ تزوج.
رجل يقول: سِني وكبري، ولا يرد على خاطري وعلى قلبي إلا الخير والطاعة، ولا أجد في نفسي حاجة للنساء؛ إيش نقول له؟ حججت ما فيه مشكلة، لو أنك حججت أسقطت فريضة الحج عنك.
ولذا الشاب الذي لا يعرف كبير شهوة إن حج وقد بلغ؛ حجه صحيح.
ومن عجيب ما وقفتُ عليه في ترجمة تاج الدين السبكي، ولد تقي الدين، قال: حججنا مع الوالد وجئنا طريق الساحل، قال: حتى بِتنا في الجُحفة، قال: وكان والدي في تلك الليلة لما وصلنا واغتسلنا، وأحرم وأراد أن نمشي إلى مكة كان مريضًا، قال: فأقعده المرضُ واضطره للمَبيت في الجُحفة، فبِتُّ مع والدي، قال: واحتلمتُ في تلك الليلة، يعني كان احتلامُه في تلك الليلة، قال: فاحتلمتُ وأحرمتُ وكانت حجة الإسلام! يعني: احتلم اليوم وثاني يوم أسقط الحج!
فالشاهد: إذا كانت النفس فيها شبق وحاجة للزوجة؛ فتقديم الزوجة والزواج مقدَّم على الحج، وإن لم يكن الأمر كذلك فتدخل في تقديم الحج؛ لعموم آيات مسارعة الخيرات التي هي معروفة.
..ولا تنسوا ما ذكرتُه أن العز -رحمهُ اللهُ- كتب كتابًا في تقديم المصالح والمفاسد، وإن شاء الله نقرؤه في أيام في مجلس واحد طويل..
لكن من قواعدهم: أن المصلحة العامَّة تقدَّم على المصلحة الخاصة، والمصلحة المتحقِّقة تقدَّم على المصلحة المنتظَرة.
أَذكُر وأختم بهذا المثل: موضوع الإجهاض: امرأة حامل، أرادت أن تجهض، الإجهاض حرام، اعتداء على مخلوق، لكن الحرام درجات، فإذا كان الجنين نُفخ فيه الروح الحُرمة أشد، وإذا كان الجنين لم تُنفخ فيه الروح فيه حرام؛ لكن ليست حُرمة الإجهاض في الجنين الذي تُنفخ فيه الروح كحُرمة إجهاض الجنين الذي لم يُنفخ فيه الروح.
والعلماء يُحرمون الإجهاض في صورتَيه بقاعدة من القواعد التقديريَّة -مذكورة في كتب القواعد-؛ يقولون: المتوقَّع كالواقع؛ لو تُرك هذا الحمل إن لم يُنفخ فيه الروح فسيُنفخ، وإن كان منفوخًا فيه الروح فسينفصل، فالذي ننتظره نُعامله معاملة الواقع (المتوقَّع كالواقع).
طيب؛ هذه صورة.. فالإجهاض حرام كيفما كان، لكن الحُرمة على درجات.
نأتي الآن لصورة أخرى للإجهاض: أطباء ثقات قرّروا أن المرأة إن حملت هلكت، وقوي تقريرُهم هذا بقواعد الطب التي هي سُنة لله -عزَّ وجلَّ- في الإنسان، فأصحبنا الآن أمام أمرَين: أمام مصلحة قائمة متحقِّقة وهي الأم وحياتها قائمة، وأمام مصلحة منتظَرة وهي الجنين، والنفوس مجبولة على حب الأولاد {المالُ والبنون زينةُ الحياة الدُّنيا}، فالدنيا إن لم تُزيَّن بالمال والولد لا تنفِق ولا يكون لها وزن، فالله أنفق الدُّنيا زيَّنها بالمال والولد.
وسمعتُ شيخَنا -مرات وكرات- يقول: عجبي من الناس، يشبعون من الولد ولا يشبعون من المال! والله قال: {المالُ والبنون} يعني الأولاد: ولدان ثلاثة أربعة، قال خلاص يكفي! لكن الأموال مليون ومليونان وثلاث؛ يقول: لا يكفي!!
إذا كان الإنسان له جبل من ذهب أو واد من ذهب -في «صحيح مسلم»-، يتمنى أن يكون له واديان، وإن كان له واديان يتمنى أن يكون له ثلاثة، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.
طيب: عندنا أم، مصلحة قائمة موجودة مخلوقة، وحمل، إن بقي الحمل هلكت، ماتت، بمَن نُضحي؟ نضحي بالأم ولا بالجنين؟ بالجنين؛ ليش؟ الجنين مصلحة منتظرَة، والأم مصلحة قائمة، فالمصلحة القائمة مقدَّمة دائمًا على المصلحة المنتظرة.
فإذن: إذا تزاحمت المصالح إيش يُقدَّم؟ أعلاها، المصلحة العامة، المصلحة الحقيقية، المصلحة القائمة، يُقدَّم على المصلحة الخاصة، وتقدَّم على المصلحة الرجوحة، وتقدَّم على المصلحة المنتظَرة، وتُقدَّم على المصلحة التي تخص فردًا من الأفراد، وهذه لها تفصيل -المصالح عند التزاحم- لها تفصيل طويل يأتينا لاحقًا.
ونكتفي بهذا القدر، لنقف عند البيت الرابع عشر، نشرحه إن شاء الله في درسنا القادم.

انتهى (الجزء الثاني).

تفريغ : أم زيد

من هنـا تجميع روابط الدروس المفرغة
__________________
قال العلامة صالح آل الشيخ: " لو كان الفقه مراجعة الكتب لسهل الأمر من قديم، لكن الفقه ملكة تكون بطول ملازمة العلم، بطول ملازمة الفقه"
وقال: "ممكن أن تورد ما شئت من الأقوال، الموجودة في بطون الكتب، لكن الكلام في فقهها، وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ"
"واعلم أن التبديع والتفسيق والتكفير حكم شرعي يقوم به الراسخون من أهل العلم والفتوى ، وتنزيله على الأعيان ليس لآحاد من عرف السنة ، إذ لا بد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، حتى لا يصبح الأمر خبط عشواء ،والله المستعان"
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 06-01-2012, 04:20 PM
حامد بن حسين بدر حامد بن حسين بدر غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,115
افتراضي تفريغ الدرس السادس/الجزء الأول

تفريغ الدرس السادس/الجزء الأول....:


[الـدَّرس السَّـادس]
(الجزء الأوَّل)




14. وَضِـدُّهُ تَـزاحُـمُ الـمَــفَــاسِـــدِ ... يُـرْتَـكَـبُ الأَدْنَـى مِـنَ المَفَـاسِـدِ
15. قَــاعِـــدَةُ الشَّريعـــةِ التَّيسير ... فـِي كُـلِّ أَمْــرٍ نَـابَــهُ تَـعْـسِـيــرُ
16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ ... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ

إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.

أما بعد:
هذا البيت الرابع عشر من المنظومة يقول فيه الناظم:
14. وَضِـدُّهُ تَـزاحُـمُ الـمَــفَــاسِـــدِ ... يُـرْتَـكَـبُ الأَدْنَـى مِـنَ المَفَـاسِـدِ

عبَّر الناظم بهذا البيتِ على قاعدةٍ هي عكس القاعدة السابقة، وهذه القاعدة تقول: (إذا تزاحمتِ المفاسد يُرتكبُ أدناها).
إذا تزاحمت المصالح يُرتكب أعلاها، وإذا تزاحمتِ المفاسد يُرتكبُ أدناها.
رجل دخل على صلاة الجماعة والإمام يُصلي، ولا يدري هل يُدرك قراءة الفاتحة في الصلاة السريَّة خلف الإمام أم لا، بماذا يبدأ؟ تزاحمت في حقِّه المصالح: يقرأ دعاء الاستفتاح أم فاتحة الكتاب؟ أيهما الأعلى؟ فاتحة الكتاب أم دعاء الاستفتاح؟ فاتحة الكتاب؛ لأنها رُكن، والاستفتاح سُنة، ولا سيما بعض الناس قد يبدأ بدعاء الاستفتاح الطويل، فيقرأ أطول دعاء من أدعية الاستفتاح، وإذا كان الإمام يتعجل فيركع ولم يقرأ الفاتحة أو لم يتمِّم الفاتحة، وهذا عكس القاعدة المعمول بها عند العلماء: إذا تزاحمت المصالح؛ فالعبدُ الموفَّق يرتكب أعلى المصالح.
تزاحم الفرض الواجب الكفائي مع الواجب العيني؛ قدَّمنا الواجب العيني.
تزاحم الفرض مع السنة؛ قدَّمنا السُّنة.
تزاحمت المصلحة العامة على المصلحة الخاصة؛ قدَّمنا المصلحة العامة.
تزاحمت المصلحة المتحقِّقة مع المصلحة المنتظَرة؛ قدَّمنا المصلحةَ المتحقِّقة.
بينما إذا تزاحمت المفاسد: فالواجب على العبدِ أن يقدِّر هذه [المفاسد] بالتقدير الشرعي لا بالأمر العُرفي ولا بالأمر الحِسي، ويجعل أدنى المفاسد هي التي تُرتكب.
فخذوا مثلاً من هدي النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: أعرابي دخل المسجد، والأعرابي يبول في أي فضاء، ليس عندهم مراحيض، ولا يمنعه أن يبول في أي مكان، والأعرابي بال بعد الصلاة -كما صحَّ في الروايات-..
وهنالك لفتة بديعة للإمام ابن الملقِّن في «الإعلام بفوائد عمدة الأحكام» استفاد من حديث الأعرابي -وإن ذكرتُ الفائدة قبل سرده وهذا ليس من العلم، لكن أنا أسرد أذكر الفائدة بناء على قصة الأعرابي وبوله إن شاء الله هي معروفة عندكم-.
..استنبط من هذا أن الحاقن ليست دائمًا صلاتُه باطلة؛ لأن الظاهر في الأعرابي كان حاقنًا ولكن كان يفهم ويعي ما يقول، فلما بال بل تغوَّط بعد أداء الفريضة، كان عنده شيء من الاحتقان في البول، ولم يأمره النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- أن يعيد، أقره، وهذه لفتة عظيمة وجليلة ونادرا ما تجدها في كتاب -في الحقيقة-.
نعود للقصة -فهذه [الفائدة] ليست من صُلب القصة-:
فالأعرابي دخل في المسجد فنظر فذهب إلى ناحية من نواحي المسجد وبال وتغوط، رأوه الأصحاب، والأصحاب رضي الله تعالى عنهم يعظمون شعائر الله فذهبوا لينكروا عليه، فرآهم النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- فقال لهم النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «لا تزرموه» لا تقطعوا بوله «دعوه» اتركوه يبول في المكان الذي هو فيه، وبعد أن فرغ علمه النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- أن هذا لا يجوز، بأسلوب طيب لين، وأمر بذَنوب من ماء، بدلوٍ من ماء بحيث ينظَّف هذا المكان الذي تغوط فيه هذا الأعرابي، فلما رأى الأعرابيُّ نُفرةً وإنكارًا شديدًا من الصحابة عليه، ورأى لينًا ولُطفًا في التعليم من رسول الله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- قال الأعرابي داعيًا قال: «اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا».
فالشاهد: أن الرفق واللين أمر حسن، لكن يا ترى: الصحابة رضي الله عنهم الذين أنكروا ما قدَّروا المفاسد، أن يُرتكب أدنى المفاسد، النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- أعطانا درسًا: إذا لا بد من ارتكاب المفاسد فنحن نرتكب أخفَّها.
طيب؛ لو عقدنا مقارنة أيهما الأخف: معاملة الصحابة أم ترك النَّبي ؟ ترك النَّبي له، تخيل لو أنه مشى في المسجد فكان قد نجس بقعة محصورة معلومة، لكنه لو أُنكر عليه وخرج أو مشى وهو يقضي حاجته فانتشار النجاسة فتكون في مادة أوسع، مع حال الرجل، مع أذى الرجل -الأذى النفسي والأذى المادي-، والنَّبي قال: «لا تزرموه بالبول» شيء قد غلبه، فلو قدرنا المفسدة فنجد أن النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- قدر أدنى المفاسد على التحقيق، الصحابة ما قام في بالهم إلا أن هذا بيت الله -عزَّ وجلَّ- وبيتُ الله لا يستحق فيه هذا، هذا أمر مفسدة، لكن هذا الأعرابي يُعلَّم، وفي حقِّه هذه المفسدة مغلوبة؛ لأنه أعرابي يفعل ما يخطر في بالِه، ولا يعرفُ هذه الحُرمة، فعلَّمه النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-، سدَّ هذه المفسدةَ بالتعليم؛ لأنه جاهل، علَّمه، وقدَّر النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- المفاسد، وجعل أدنى المفاسد هي التي تُرتكب.
الآن الأمر في تقرير المفاسد -كالمصالح-: ينبغي أن تكون بِحُكم الشرع.
لو أن رجلًا اضطرَّ أن يقعَ في مكروه أو في حرام، إيش يختار؟ في المكروه.
لو اضطر أن يأكل مالًا حرامًا لعينِه أو حرامًا لغيرِه، إيش يختار؟ لغيره.
لو خُير بين أن يأكلَ مالًا حرامًا أو مالا مشبوهًا، إيش يختار؟ يختار المال المشبوه.
طيب؛ نعقد بعض الأشياء..
كما ذكرنا أن المصالح درجات، المفاسد درجات، وذكرنا في حديث ابن مسعود -المتفق عليه-: سئل النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: أي المفاسد أعظم؟ قال: «أن تشركَ بالله وقد خلقك» قيل: ثم أي؟ قال -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «أن تقتلَ ولدك مخافة أن يطعم معك» قيل: ثم أي؟ فقال -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «أن تُزانيَ حليلةَ جارك».
فالمفاسد درجات، والإنسان ينبغي إذا اضطر اضطرارًا، وإذا ألمَّت به الأمور وأن يقع في محذور؛ فينبغي أن يتعامل في الوقوع مع المحذور بعِلم وفِقه.
مثلًا: اضطر الإنسان يعلم إن صدقَ فلعله يُضرر غيرَه، وهذا قد يقع عند بعض الناس، إيش يعمل؟ يترك الصدق، كيف يترك الصدق؟ يُورِّي، تورية «إن في التَّوريَة لَمندوحةٌ عن الكذب» هذا قول عمر، وكان ابن سيرين يقول: «إن العربيَّة أوسع من أن يكذب فيها ظريف» اللي يفهم العربية ما يكذب، اللي يفهم العربية يُورِّي، والتَّوريَة تحتاج إلى فطنة، وتحتاج إلى ذكاء، وتحتاج إلى معرفة جيِّدة بالعربيَّة.
إيش حُكم التَّوريَة؟
خذوا هذا الضابط المهم -وهو من الضوابط المهمة التي تَلزم-:
متى كان البيانُ حرامًا؛ كانت التَّوريَة واجبةً، ومتى كان البيان واجبًا؛ كانت التَّوريَة حرامًا، ومتى كان البيانُ مسنونًا؛ كانت التَّوريَة مكروهةً، ومتى كان البيانُ مكروهًا؛ كانت التَّوريَة مسنونةً.
فحُكم التَّوريَة مع حُكم البيان حُكمان متعاكِسان.
يعني مثلًا: يجب عليك البيان أمام القاضي ليظهرَ المُحق من المُبطل، يحرُم عليك التَّوريَة، ويجب عليك البيان.
إن بيَّنتَ يُسفك دم إنسان، أو يؤخذ مالُه؛ فتجبُ عليكَ التَّوريَة.
فحُكم التَّوريَة مع حُكم البيان حُكمان متعاكِسان.
فالواجب على الإنسان إن اضطر لارتكاب المفاسد أن يرتكب أدنى هذه المفاسد.
طيب: هذا الأدنى كيف يُعرف؟ بالشرع.
امرأة مأسورة، أُسرت، واستطاعت أن تهرب، بقاؤها في الأسر مفسدة، وهربُها ورجوعها إلى ديار الإسلام دون مَحرم مفسدة، طيب إيش ترتكب هي؟ تهرب بدون محرم ولا تقول أنا ما يجوز لي أن أهرب إلا مع محرم؟ إيش تعمل؟ تهرب بدون محرم؟ ليش تهرب بدون محرم؟ لا بد أن تقع في مفسدة، مفسدة الأسر، وتترتب على مفسدة الأسر ما تعلمون، أو مفسدة الرجوع إلى ديار المسلمين بدون محرم.. ارجعي بدون محرم.
ولذا: المرأة -كما في «صحيح مسلم»- التي أسرت، ثم رأت النوق لما هربت حتى جاءت العضباء -ناقة النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-- فوجدتها ليِّنة، فركبت عليها، ونذرت: إن نجاها الله تعالى أن تذبحها، فلما وصلت المدينة أُخبر النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- بالخبر، فالنَّبي ما لامها أبدا كيف أنها رجعت بدون محرم، هذه تُحمد ولا تُلام، ولكنه علَّمها، ما أحسنت التصرف، فقال النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «بئس ما جزيتِها! أنجاها الله عليها وتنحرها؟! لا نذر فيما لا يملك ابنُ آدم» الناقة ليست لك ونذرتِ أن تذبحيها وهي ليست لك، والله -عزَّ وجلَّ- نجاك بسببها وكان جزاؤها أن تُنحر! فأخطأت مرَّتين، فعلَّمها -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-، النَّبي معلِّم مُربٍّ مُزكٍّ -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-.
طيب؛ لو قُلنا -مثلًا-لا نقول للارتكاب؛ نقول للتصور؛ حتى تصير عندنا ملَكة ونتصور أوسع-: لو قال لك قائل: أيهما أشد فسادًا في الشرع: نكاح المُحلِّل أم نكاح المُتعة؟ نكاح المحلِّل أشد. لماذا نكاح المُحلل أشد في شرع الله من نكاح المُتعة؟ [مداخلة] لأن المتعة كان حلالًا في يوم من الأيام؛ بينما نكاح المُحلِّل لم يكن حلالًا في يوم من الأيام، فنكاح المُتعة في الشَّرعِ أيسرُ من نكاح المُحلِّل، مع أنه حرام، ثبتت حُرمته في «صحيح البخاري»: «نهى النَّبي عن نكاح المتعة في خيبر».
ثم الحمد لله، ثم الحمد لله، ثم الحمد لله ملء السماوات والأرض وما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد: أن راوي تحريم نكاح المتعة علي بن أبي طالب، الصحابي اللي روى لنا حُرمة نكاح المتعة علي بن أبي طالب؛ فالحمد لله في «البخاري» وعلي رضي الله تعالى عنه.
طيب: لو سأل سائل: أيهما أيسر أن تأكل من الخنزير أم من الميتة للمضطر؟
الميتة، الخنزير محرَّم لذاتِه، والميتة محرَّمة لوصفِها، يجوز الاستفادة منها، الميتة يجوز أن تستفيد من عظمها، تستفيد من ناب الفيل الميت، يجوز أن تستفيد من الجلد بالدباغة، أما الخنزير إيش تستفيد منه؟ ما تستفيد منه شيئا؛ حرام لذاته.
طيب؛ أسألكم سؤالاً وأريد الجواب عليه في الدرس القادم، وفكِّروا فيه:
أيهما أيسر: أن تأكل الميتة؟ أم أن تعتدي على مالِ مسلمٍ محترمٍ فتسرق منه؟
ممكن أن آكل وأدفع الهلاك بالسرقة، نسرق من مال مسلم من المسلمين، وخلاص ادفع الهلاك، أو أني آكل ميتة.
تأملوا المسألة، لا نتعجل، وانظروا أيهما الأهون والأيسر في شرع الله تعالى، وارجعوا للمراجع؛ تجدوا الجواب إن شاء الله، لكن أريد منكم: العقل الباطل كما يقولون يشتغل.
طيب: رجل يعمل في مكان فيه محرَّمات أيهما الأحسن أن يترك العمل ولا يعمل؟ يختلف باختلاف حال الناس.
يعني مثلًا: رجل تقي، كبير السن، بعيد عن فتنة النساء، يعلم الله من قلبه إنه يعامل البنات كبناتِه، لا يغشهن، يذكرهن بالله، يخوِّفهن بالله، لا يتأثر، إذا وُجد هذا النَّوع من الناس؛ نقول له: اخرج اترك؟ إيش نقول له؟ ابق ولا اترك؟ متى رأيتَ ضعفًا اترك، {بل الإنسانُ على نفسِه بصيرة . ولو ألقَى مَعاذيرَه} متى رأيت من نفسك ضعفًا؛ اترك، أما إذا أنت تؤثر؛ علِّم ذكِّر بالله سبحانه وتعالى.
فالإنسان الذي يعمل في مكان فيه حُرمة من أكثر من وجه هو الذي يُقدِّر، وما ينبغي للمسلم أن يرى الحرامَ ويبلِّد على الحرام، ينبغي أن تكونَ عنده فطنة، ويُحسن كيف يغيِّر.
بعض الناس عنده قاعدة صحيحة وهي فرع من فروع بل هي قاعدة كثيرة لكن العلماء يذكرون لها تعلُّقًا بالقاعدة المبحوثة التي نتكلم فيها، وهي قاعدة: (إذا تزاحمت المفاسد وارتُكب أدناها)، العلماء أيضا من فروع هذه القاعدة يقولون: (درء المفاسد مقدَّم على جلبِ المصالح).
الآية: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} أنت إن سببت آلهة المشركين الباطلة؛ فالمشركون يسبُّون الله -عزَّ وجلَّ- عدوانًا وظلما؛ فيحرمُ عليك أن تسبَّ آلهتَهم حتى لا يسبَّ الله جل في علاه.
فدرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
فالشرعُ منعَ من التجارات بالمحرَّمات وإن ترتب على هذه التجارات بعض المكاسب، فدرء المفاسد أولى من جلب المصالح.
يَحرُم شرعًا أن أبنيَ في بيتي وأن أفتح نافذة في هذا البناء يكشف عورات جيراني، هذا حرام شرعًا.
وحرام علي أن أبني بناءً يحجب الهواء عن جيراني.
هنالك نظرية كبيرة عند العلماء -وهي من أجود النظريات- تسمى: (نظرية التعسُّف في استعمال الحق).
لا يجوز أن تتعسف في استعمال حقك: تبني مصنعًا تخرج منه مواد عديمة مؤذية أو روائح كريهة في الأحياء السكنية؛ فهذا كله مع أنها تجلب مصالح إلا أن درء مفاسدها مقدَّمة على جلب المصالح.
طيب؛ لو اختلطت أخت بمجموعة من النساء الأجنبيَّات، ولم تستطع أن تحدِّد أختك في نساء محصورات؛ فالشرعُ يمنع الرجلَ أن يتزوجَ من جميع هذه النساء المحصورات، ويُحرِّم عليه الخلوةَ بهن، ويُحرِّم عليه أن يكونَ مَحرمًا في سفرهن.
يعني أضرب لك مثلًا: أنت تيقَّنتَ أنك رضعت من امرأة، ولكن الأخبار تضاربت، لكن أنت متيقِّن: يا رضعتَ من فلانة يا مِن أختها، ومستحيل أنك رضعت من امرأتين، رضعتَ من امرأة واحدة: يا من فلانة ويا من فلانة.. إيش تعمل؟ تَحرم عليك بنات فلانة وبنات فلانة.
انتشار امرأة بين مجموعة نساء محرَّمات عليك محصورات.
بس لو واحد قال لك -مثلا- أنت رضعت من امرأة في الأردن غير محصورة، أو في عمَّان، وكم عدد نساء عمَّان، كل نساء عمَّان حلال لك، حتى تتعيَّن، أو إن لم تتعيَّن بالذات؛ تُصبح الحُرمة في شيء محصور، فمتى حُصرت المحرَّمات؛ فحينئذٍ سدًّا للذريعة نقول: درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
طيب؛ الأَمة يجوز للرجل أن يتزوج أمةَ غيره؟ أمتك تمتع بها، الأمة التي عندك أنت تتمتع بها بالتسرِّي، وليس بالعقد، ليش بالتسرِّي؟ قالوا: سُمي التسرِّي لسببَين: الأول: لأنه يُفعل في السِّر دون علم الزوجة، والثاني: لأنه يُدخل السرور على النفس.
ترى مش عصرنا عصر تبرج وعصر نساء وإلى آخره، واللهِ لا الكفار ولا المسلمين في هذا الزمان يتمتعون بالنساء كما كان يتمتع بالنساء السابقون من المسلمين، الشَّرع ينظِّم الأمور.
فكان الرجل إذا عنده أمة له يتسرَّى بها، لكن غالبًا من الذي يشتري الأمة؟ الزوجة، لذا: الأمَة كلما كانت بشعةً كانت أثمن، كلما كانت الأمة أبشع؛ كان سعرُها في سوق النخاسة أكثر!
وألف بعضُهم؛ بل أنا ظفرتُ الآن برسالتَين: «هداية المريد في تقليب العبيد» يذكر فيها كيف تقوَّم وكيف تُفحص الأمة، وكيف تُثمَّن..
ما أريد هذا.. أريد شيئا معينًا من هذا المثال: رجل فقير، ليس عنده أمة حتى يتمتع بها، الأمة لغيره، فواحد عرض عليك أمتَه أن تتزوجها، طيب: إيش يترتب على أن تتزوج أمةَ غيرك؟
خذوا مني هذه القاعدة -ولعله يغفل عنها بعض الناس-: (الأولاد في النسبَ لأعلى الأبوَين) الأم قرشية وهو قرشي؛ الأولاد في النسب لأعلى الأبوين، (والأولاد في الحُريَّة والرِّق يُنسبون للأم لا للأب، وفيما عدا ذلك: يُنسبون للأب).
يعني: رجل تزوج أمة غيره: أولاده عبيد لغيرِه، لكن أسماؤهم يُنسبون له.
لذا: كان ابن عباس يقول: لئن أستمني أحبُّ إليَّ من أن أنكح أمةَ غيري. ليش؟ لأنه يجعل ولدَه، أو يجعل بضعًا منه رقيقًا لغيره، يجعله عبدًا.
والشرع منعَ نكاح الإماء إلا في حقِّ من لم يجد طَولًا من الحرائر.
يعني: إنسان وقع الآن بين أمرين: إما والعياذ بالله يفعل الفاحشة وإما أن يتزوج أمة غيره، فإن خشي العنتَ فله أن يتزوج أمة غيره، أما إذا عنده زوجة يحرُم عليه، إذا عنده طَول مال؛ يَحرُم عليه أن يتزوجَ أمة الغير.
فدرء المفاسد تزوج أمةَ غيرك -مع ترتُّب المفسدة من رِق أولادِك منها-؛ مقدَّم على الزِّنا، فدرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
من الأشياء التي ينبغي أن تُذكر وهي مهمة جدا لما نذكُر قاعدة: (إذا تزاحمت المفاسد قُدِّم أدناها).
هذا يجعلنا نذكر أصلًا مهمًّا وهذا الأصلُ يخفف من اندفاع وحماس بعض الشديدي العبادة، الإنسان إذا كان شديد العبادة لا يحسن تقدير الأشياء، فالعبادة تحتاج لعلم، ولما عبد الله بن عمرو بن العاص أراد أن يصوم الدهر؛ فالنَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- قال له: يوم ويوم، «خير الصيام صيام داود»، حتى لما كبر عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقول -كما في «البخاري»-: «ليتني قبِلت رخصة رسول الله» -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-، حتى قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء»: «فصام الدهرَ فساء مزاجُه».
والنَّبي عليه السلام لما قال في «البخاري»: «خير الصيام صيام داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا» قال على إثر الحديث: «وكان لا يفرُّ إذا لاقى»، يعني نخلي الجانب الثاني للونٍ آخر من ألوان العبادة «لا يفر إذا لاقى».
من وضع عباداتِه في باب واحد ولم ينوِّع العبادات؛ تثقل عليه سائر الطاعات.
وهذا سِر قول النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «خير الصيام صوم داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا» ثم قال مباشرة بعدها: «وكان لا يَفرُّ إذا لاقى»، لعله لو صام الدهر كلَّه ما يستطيع الجهاد، كل الطاقة المخزونة التي عنده وضعها في شيء واحد.
هذه لفتة مهمة من النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-.
طيب؛ ما الذي ألجأنا لهذا؟ الذي ألجأنا لهذا: أن المنهيات التي توجد في واقع حياة الناس ينبغي أن يتعامَل معها بفِقه، ولذا الفقهاء يذكرون من ضمن قواعدهم الفرعيَّة لقاعدة (درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح)، ولقاعدة (إذا تزاحمت المفاسد ارتُكب أدناها) يذكرون قاعدةً مهمة جدا، وعليها نقولات، عليها آثار من النقل، عليها الأدلة، يقولون: (المنهي عنه شرعًا لا يُعاملُ معاملةَ المعدومِ حِسًّا).
يعني: الشيء الذي الشَّرع نهى عنه لا تعاملهُ معاملة اللي مش موجود، ينبغي أن تعامله معاملة الموجود لا المعدوم.
يعني: إيش حُكم قراءة القرآن في المآتم؟ بدعة -بكسر الباء لا بضمِّها-، حُكم قراءة القرآن في المآتم بدعة.
طيب: رجل سُنِّي دخل على مأتم يقرؤون القرآن، هل له أن يلغو وأن لا يستمع لقراءة القرآن؟ له ذلك؟ لا، ما يجوز له ذلك، إذا قُرئ القرآن يستمع وينصت، ولو كانت أصل القراءة بدعة؛ لأن المنهي عنه شرعًا لا يُعاملُ معاملةَ [المعدومِ حِسًّا].
رجل يصلي صلاة أنت لا تراها مشروعة، فليس لك أن تشوِّش عليه.
رجل شيعي يُصلي في الحرم، لكَ أن تمر بين يديه؟ ليس لكَ ذلك؛ لأن المنهي عنه شرعًا لا يُعاملُ معاملةَ المعدومِ حِسًّا.
إيش الأدلة على هذا؟ من يأتيني بدليل نقلي على أن المنهي عنه شرعًا لا يُعاملُ معاملةَ المعدومِ حِسًّا؟
نأتي بالسنة الآن، إيش في السُّنة..؟ [مداخلة]
النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- يقول: «إذا تأمر عليكم عبد حبشي رأسُه كالزبيبة فعليكم بالسمع والطاعة» والنَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- يقول: «الأئمة من قريش» لو كان الملك أو الأمير ليس من قريش نطيعه ولا ما نطيعه؟
يجب في حق الأمير أن يكون من الأحرار، ولا يجوز شرعًا أن يكون الملِك أو الأمير أو خليفة المسلمين من العبيد.
طيب؛ عبد تغلَّب وأخذ المُلك، رجل غير قرشي تغلَّب وأخذ المُلك، نطيعه أو لا نطيعه؟ إيش يقول النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-؟ «إذا تأمر عليكم عبد حبشي رأسُه كالزبيبة» فبعض أهل العلم اشترط في الخليفة أن يكون ذا منظر مقبول، ما يكون رجلًا يُنفِّر، هذا يمثِّل دولة الإسلام.
.. من باب التأكيد على الطاعة ذكر أسبابًا: ذكر أنه «عبد» وهذا يُنافي الحريَّة، وذكر «حبشي» وهذا ينافي القُرشيَّة، وذكر «رأسه كالزبيبة» وهذا يُنافي حسن المظهر، فمع وجود المخالفات الثلاثة يقول النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: « فعليكم بالسمع والطاعة» فلم يجعل النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- المنهي عنه شرعًا كالمعدومِ حِسًّا.
الرجل الذي يجتهد ويتزوج دون إذن وليِّ أمر البنت، ودخل بها، ماذا لها؟ نقول هذا زاني وليست لها مهر؟ نقول: هذه زانية وليس لها مهر؟ لا؛ لها مهر، مع أنه تزوج زواجًا فيه مخالفة.
رجل وقع في مخالفة بتأويل، لا نجعله كالمعدوم حِسًّا، ما يجوز لواحد يرى واحدًا يأكل لحم جزور ولحم الإبل، ويصلي وما يتوضأ، يقول: هذا فاجر، هذا فاسق، هذا تارك الصلاة..؛ ما يجوز لك هذا، فله أن يباحثَه في المسألة وهكذا.
فإذن: متى تزاحمت المفاسد ارتكبنا أدناها.
طيب؛ نأخذ بعض التطبيقات العصرية: عندنا تأمين السيارات، صاحب التأمين عمل حادثًا، وقع في محذور، التأمين محذور، التأمين غَرر وقمار، وجاء فاستفتى، قال: يا شيخ أن دفعت تأمينًا، وعملتُ حادثًا، يستفيد من التأمين ولا ما يستفيد من التأمين؟ يعامَل معاملة المعدوم حسًّا ولا الموجود حسًّا؟ يعامل معاملة الموجود حسًّا، ولا يعامل معاملة المعدوم حسًّا.
حتى في هذا الباب يتسع..
رجل يعمل بكسب وتعب، ويأخذ راتبا بتعب، لكن في عمله حُرمة، فأهداك هدية، تأخذ الهدية ولا لا تأخذها؟ تأخذها والإثم عليه، ما لم تعلم أنها ليست له، أنها لغيره، أنا أعلم أن هذه الهدية سرقها من غيره يعني ليست له، فهذه لا يجوز لي أن آخذها؛ لأنها ليست ماله، لكن لو تعب فعمل حرامًا فأهداك؛ تأخذها ولا لا تأخذها؟ طيب؛ ليش تأخذها؟ المنهي عنه شرعًا لا يُعاملُ معاملةَ المعدومِ حِسًّا.
واحد يعمل في البنك، عنده سيارة، أنت في البرد رايح على المسجد، وقَّف لك: اركب معنا نروح على المسجد، تركب معه ولا ما تركب؟ ليش؟ لأنَّ المنهي عنه شرعًا لا يُعاملُ معاملةَ المعدومِ حِسًّا.
فيه عشرات الأمثلة اليومية التي يمكن أن تذكر بهذا الصدد.
... طيب؛ نأتي للبيت الخامس عشر.
البيت الخامس عشر يقول فيه الناظم:

15. قَــاعِـــدَةُ الشَّريعـــةِ التَّيسير ... فـِي كُـلِّ أَمْــرٍ نَـابَــهُ تَـعْـسِـيــرُ

هذه قاعدة كلية من القواعد الخمس التي ذكرناها أجمع العلماء عليها، والتي تدخل في أبواب كثيرة وكثيرة جدا، وهذه القاعدة تقول: (المشقَّةُ تجلب التَّيسير).
هذه قاعدة مهمة وهي قاعدة كُلية دلَّت عليها كثير من الآيات والأحاديث؛ منها قول الله -عزَّ وجلَّ-: {يريد الله بكم اليُسر ولا يريدُ بكم العُسر}، ومنها قول الله -عزَّ وجلَّ-: {وما جعلَ عليكم في الدِّين من حرج}، ومنها قول الله -عزَّ وجلَّ-: {ما يُريدُ اللهُ ليجعلَ عليكم مِن حرج}، ومنها في «الصحيحين» من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «ما خُير رسول الله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- بين أمرَين إلا اختار أيسرَهما»، شعار المسلم التَّيسير في كل شيء.
رجل جاء ضيفًا عند آخر: إيش أبا فلان تشرب؟ الميسور، أيسر شيء.
إذا خُيرت بين شيئين، في أي موطن، في أي مكان، إن أردت الاتساء والاقتداء بالنَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-؛ ينبغي أن يكون خيارك أيسر الشيئين.
والله بعض الناس نكِدين!
أخرج أبو يعلى في جزء المفاريد -في غالب الظن- بإسناد حسن: أن ضيوفًا جاؤوا لسلمان الفارسي وكان في دمشق، والشوام بيحبوا الزعتر من زمان، وكان سلمان زاهدًا فقدم لهم خبزًا، فلما رأوا الخُبز قالوا: نريد زعترًا! خبز بس ليس من إكرام الضيف، نريد زعترًا، فأخذ سلمان إناء في بيته، وذهب إلى السوق فرهنَه واشترى زعترًا، وقدمه لأضيافه.
المنهي عنه شرعًا لا يُعاملُ معاملةَ المعدومِ حِسًّا.
قال سلمان بعدها -وقوله في البخاري، والقصة عند أبي يعلى- قال بعدها: «نُهينا عن التكلف».
لكن: إكرام الضيف من شرعنا، فرهن إناءه واشترى الزعتر، وأتى لهم بالزعتر.
هؤلاء ما اختاروا الأيسر!
ففي شرعنا وعلامة المسلم أن يكونَ سهلًا، المؤمن هيِّن ليِّن في كل شيء، أن يختار الأيسر، يحب اليُسر، يكره العُسر.
والعجب بعض الناس لا يتأدب مع الله: (ربِّ يسر ولا تعسِّر)، واللهِ ليس هذا أدبًا مع الله، الله لا يُعسر، إذا أنتَ الله علَّمك -يا مسلم- أن لا تُعسِّر، فتأدب مع ربِّك، لما تقول: (ولا تعسِّر) يعني تذكرُ ربَّك جل وعلا بدعاء ما ينبغي أن تفعله أنت! ما ينبغي أن تقول: (ربِّ يسر ولا تعسِّر)، ما ينبغي أن تنسب أي شيء فيه شر لله جل في علاه.
والأسوأ من هذا الدعاء المشهور على الألسنة، وللأسف بعض الخطباء يقولوه، يقولون: (اللهم لا نسألك رد القضاء، ونسألك اللطف فيه)، هذا دعاء أعوج، ولا يكون إلا من صاحب ذوق أعوج؛ بل صاحب عقل أعوج.
النَّبي في «صحيح مسلم» يقول: «اللهم إني أعوذُ بك من درَك الشقاء، وجهد البلاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء».. أعوذ بك من سوء القضاء..؛ إني لا أسألك رد القضاء! أعوذ بك من سوء القضاء..
«اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وبارك لي فيما أعطيتَ، وقِني شرَّ ما قضيتَ».
أنت تتعوذ بالله من سوء القضاء.. «وقِني شرَّ ما قضيت».
صح عن عمر عند الإسماعيلي في «المستخرج» بإسناد جوَّده ابن كثير في «مسند الفاروق»: كان عمر يدعو فيقول: «اللهم إن كنتَ قد كتبتني عندكَ شقيًّا؛ فامحُ ذلك، واكتبني عندكَ سعيدًا» إيش رايكم في (اللهم لا نسألك رد القضاء، ونسألك اللطف فيه)؟ يخالف قول الله: {يمحُ اللهُ ما يشاءُ ويُثبت وعنده أمُّ الكتاب}، فالله يمحو.
اللهم إن كنتَ قد كتبتنا عندك فقراء؛ فامح ذلك واجعلنا أغنياء.
اللهم إن كنتَ قد كتبتنا جهلاء؛ فامح ذلك واجعلنا من العلماء.
اللهم إن كنتَ قد كتبتنا أشقياء؛ فامحُ ذلك واجعلنا من السعداء.
هذا دعاء المؤمن، هذا حسن ظن العبد بربه سبحانه وتعالى، ما تقول: (ما تعسر يا الله)، الله ميسر الأمور، وترك لك دعاء بأن تتعوذ من شر القضاء.
طيب: القاعدة (المشقة تجلب التَّيسير)؛ هل في الشَّرعِ مشقة؟
المشقة تجلب التَّيسير في العبادات؛ إذن: فيه في الشَّرعِ مشقة، صحيح؟
طيب، نتدرج مسألة مسألة.
المشقة تجلب التَّيسير، نتكلم في غير [...]، يعني في غير الذي قد أدخل الشَّرع عليه التَّيسير؛ هل في الأصل فيه مشقة في العبادات؟ العبادات أصلها فيه مشقة ولا ما فيها مشقة؟ فيها مشقة باعتبارَين لا غير:
الاعتبار الأول: بالنظر إلى المُداومة في العمل.
يعني: الصلاة دقائق معدودات، لكن دوام دوام دوام على العمل، كل يوم خمس مرات، فمع المداومة النفس تستشعر المشقة.
والنَّوع الثاني -الذي يدخل على النفس من مشقة في غير ما يُستدعى من التَّيسير-: الإلزام.
فالنفسُ إن أُلزِمت استَثقلت، النفس إن ألزِمت بشيءٍ استثقَلتْه.
ففي الشَّرعِ مشقة باعتبارَين لا ثالث لهما.
الاعتبار الأول: أن الشَّرع يطلب منك الدوام على العمل.
والأمر الثاني: أن الشَّرع يُلزِمك، ولا يُخيِّرك، فالنفس إذا أُلزمت تستَثقل.
بهذين الاعتبارين -في غير مناط الرُّخص، في غير موضع الرُّخص- يوجد مشقة في التكاليف؛ وإلا النفس المطمئنَّة التي تحب الله، وتحب رسوله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-، وتبتعد عن المعاصي، وتأخذ نصيبها مما أباح الله لها؛ فإنها تهنأ وتمرأ بدِين الله، وترى سعادتَها في دُنياها قبل أُخراها في دِين الله.
ولذا: الله يقول في سورة النحل: {وقيل للذين اتَّقوا ماذا أنزلَ ربُّكم قالوا خيرًا} التقي يقول: خيرًا، والمسلم يقول: حقًّا. المسلم؛ ماذا أنزل ربك؟ يقول: حق، بس هو لا يرتع فيه، ولا يعرف بركات هذا الخير الذي أنزل الله، فلو كان مؤمنًا ما قال حقًّا؛ لقال: خيرًا.
وفرق كبير بين درجة الحق ودرجة الخير، درجة الخير أنت تعايش الشرع، أن تعيش مع الشرع، وترى أن الشَّرع قد هذَّبك، والأشياء التي مُنعتَ منها هي بمثابة ضوابط لمصالح معتبرة، بالموازين الشرعية المعتبرة.
طيب؛ إيش يريد الشَّرع من المسلم في العبادات، أو من الطاعات؟ الشَّرع يريد من العبد في الطاعات أن يخرج من داء هواه ويستسلم لأمر مولاه وأن يَثبت على العبادة ولا يتركها.
ولذلك قالت عائشة في «صحيح مسلم» عن رسول الله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- قالت: «كانت عملُه دِيمة» كان النَّبي إذا عمل عملًا أثبتَه، وكان هذا نهج الصالحين.
فكان الإنسان إذا بدأ بعبادة -من صلاة، أو قيام، أو صدقة، أو صوم- لا ينقطع عن هذه العبادة، تبقى معه فتصبح جزءًا منه، ثم بعد حين يُدخِل عبادة أخرى على نفسه، فتبقى معه، ثم بعد حين يُدخل عبادة ثالثة، يوغِل برِفق، يكون زاهدًا في فقه، وفقيهًا في زُهد، يوغِل في الطريق إلى الله في الطريق إلى اليوم الآخر يوغِل برِفق، لا ينقطع، ولا يحمِّل نفسَه ما لا تحتمل.
ولذا: النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- علَّمنا: «أحب الأعمال إلى الله أدومُها وإن قل».
تتصدق بخمسة قروش كل أسبوع خير من أن تتصدق بخمسمئة دينار مرة في [...]، تذوق لذة العبادة بس مرة، لكن تذوقها كل مرة خير وبركة.
أحب الأعمال أدومُها وإن قل.
ولذا: قرأت في تراجم كثير من أهل العلم على اختلاف تنوعاته، على اختلاف فنونهم من محدِّثين وفقهاء، أنه كان يقال لبعضهم: إن مت غدا؟ فلا يستطيع أن يسجد لله سجدة، لأن [كل] وقته أصبح في عبادة، وأصبح في عبادته على الدوام، فهدي النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- كان عمله ديمة.
تريد أن تصوم الخميس افحص استطاعتك، تثبت صُم، ما تثبت درِّب نفسك حتى تثبت، افعل الفعل وافحص مقدرتك، واثبت على العمل، ولم يُعرف عن صحابي قط أنه فعل فعلاً من خير ثم تحوَّل عنه.
ولذا أسند اللالكائي عن عمر بن عبد العزيز قال: كان السلفُ يكرهون التلوُّن والتحوُّل.
ما تتحوَّل، حضرتَ درسًا تثبت عليه، لستَ أهلا للحضور ما تحضر.
أنت أيها الأستاذ عندك مقدرة تكمل على التدريس درِّس، ما تقدر؛ ما تدرِّس، ما تشغل الناس.
وهذه آفة أهل الخير في هذا الزمن: أن أعمالهم ليست دِيمة.
يعني: يجي كما يقولون تهب ريح الجنة فيشم ريحها من بعيد، فيحضر مرة ثم يترك! لا ليس هذا من عمل السلف.
من يحفظ أن صحابيًّا فعل شيئا ثم تركه؟ من؟ [ابن عمر] إيش كان يعمل؟ كان يقوم الليل، شو قال النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- لابن عمر؟ قيام ليل، شو يعني قيام ليل؟ يعني أمر مندوب، لا سُنة راتبة ولا واجب، النَّبي يقول أمام الناس وعبد الله بن عمر صحابي صغير، فتى صغير، تخيل النَّبي سيد الأمة يتكلم عن ولد صغير عن عبد الله بن عمر فتى يافع صغير، يقول: «نعم الفتى عبد الله بن عمر؛ إلا أنه كان يقوم الليل فتركه» إيش يدل هذا الحديث؟ أن من بدأ بفعل ثم تركه؛ مذموم.
أي العبادات يجب على المسلم إن بدأ بها أن يثبت عليها حتى الدِّين، حتى الممات؟
ثلاث عبادات: القرآن، والعلم، والجهاد.
الأدلة: حديث ابن عمر في «مسلم»: «من تعلَّم الرمي ثم تركه فليس منا» يعني اللي يتعلم شيئًا من الجهاد؛ يجب عليه حتى يثبت ليوم الدين.
حديث أبي هريرة عند ابن حبان: «عرضت علي أعمال أمتي فوجدت أسوأها: رجل أوتي القرآن ثم لم يقُم به؛ فنسيه».
حافظ القرآن حتى يثبت عنده؛ ينبغي أن يقوم به، حتى يتداعى هو وزوجه في القيام لا حرج.
(ضحك الله لرجل أخذ ماء فرماها في وجه زوجته حتى تقوم الليل)، والعكس، حتى يبقى فيه نوع من التواصي بالقرآن وحفظ القرآن وتلاوة القرآن في قيام الليل.
تخيل لو أنك تقوم الليل ساعة وساعتين وما عندك قرآن إيش تقرأ؟ كيف ترى نفسك تناجي ربك ساعة وساعتين؟
بعض الناس يعيش ويموت وما وقف أمام الله ساعة، بعض الناس يعيش ويموت ولم يدخل جنة الدنيا، ما عرف جنة الدنيا أبدا، عاش ومات ولم يعرف من هذه الدنيا إلا أسوأ ما فيها! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الشاهد: أن الشَّرع لما قدَّر، الله الذي خلق هو الذي شرع {ألا له الخلقُ والأمرُ}.. لما قدَّر الشارع الحكيم أن نفوسَ الناس قد تترك بعض العبادات لمشقة زائدة عن المشقة المعتادة -البندان اللذين ذكرناهما: الإلزام والتكرار-، فقد تطرأ مشقة زائدة عن المشقة المعتادة، ولحِرص الشَّرع على ثبات العبدِ على العبادة، وألا ينقطعَ عنها؛ أدخلَ التَّيسير لرفع المشقة من أجل تحصيل بركة الثبات على العمل.
ليش نحن نجمع بين الصلاتين في جماعة؟ حتى لا يترك الجماعة، تأتي مشقة، الإمام الفطِن الموفَّق ينظر، يجد بعض الناس الطيِّبين من كبار السن الحريصين على الجماعة، إن لم أجمع بين الصلاتين لا يستطيعون صلاة العشاء؛ نقول له: اجمع! ليش يجمع؟ من أجل أن لا ينقطع صلاة الجماعة.
دخلتْ مشقة بسبب برد شديد، بسبب وحل، بسبب مطر، بسبب برَد، بسبب ثلج، دخلتْ مشقة قد تمنعه من العود، فيجمع، ليش الجمع؟ من أجل الدوام على الجماعة.
ولذا: من بديع تقريرات ابن القيم في «بدائع الفوائد» -وأرجو أن تنتبهوا-، قال: (حكم أداء الصلاة في وقتها الوجوب، وحرَص الشَّرع على الجماعة، فلما طرأ عُذر يمنع بعضَ الناس من حضور صلاة الجماعة في المسجد؛ فأذِن الشَّرع أن تقدَّم الصلاةُ إلى وقت الصلاة التي قبلها، فدلَّ هذا على أن أداء الصلاة في جماعة في نظر الشَّرع مقدَّم على أدائها في الوقت، وكان حكمها أدائها في الوقت الوجوب، فلم تبقَ حكم صلاة الجماعة إلا الوجوب) الكلام واضح [مداخلة]...
فأقول: أن المقصد من إدخال الشَّرع التَّيسير على المشقات: الثبات على العمل.
يعني: مسافر إن طَلَب منه الشَّرع أن يؤدي كل صلاة في وقتها يفوت مقصد السفر، فقال له الشرع: اجمع. وقد يضيق به الوقت فلا يستطيع الوضوء لكل الصلاة، بل قد يضيق به الوقت ويزدحم فأذِن له الشَّرع بالقصر، وجعل القصرَ عزيمة.
فكل التَّيسيرات الواردة في الشرع؛ إنما جاءت من أجلِ أن يثبتَ المكلَّف على العبادة، وحتى لا ينقطعَ عنها.
طبعًا: ليست التَّيسيرات محصورة في العبادات وإن كانت العبادات هي الغالبة في هذا الموضوع.
في المعاملات: يعني أذِن لي الشَّرع أن أوكَّل غيري، قد يزدحم الوقت [...] ما أريد، فيأذن الشَّرع بالتوكيل، ليش التوكيل؟ حتى ما يفوِّت عليّ المصلحة، فالإذن مباح في التوكيل، في البيع، في الإجارة، حتى في الزواج.
فكل هذه الأمور لو أنَّ الشَّرع حصَر أن هذه الأمور لا تُشرع إلا أن يفعلها الإنسان بنفسه، لكان في ذلك مشقة، ولتعطلت في حق بعض الناس بعضُ هذه المصالح، فأدخل الشَّرع التَّيسير في هذا الباب.
طيب؛ أسباب التَّخفيف، لو أردنا أن نحصر أسباب التَّخفيف التي تُثمر عن الرُّخص، ويظهر [في] هذه الثمرة التَّيسير، فأسباب التَّخفيف سبعة، وأنواع التَّخفيف سبعة.
أما أسباب التَّخفيف:
فالسَّبب الأول: السفر؛ فالسفر للقصر، والجمع، والمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها.
و[من] أسباب التَّخفيف: المرض؛ فالمرض لمَن لا يفيق من المرضى يجمع -تقديمًا وتأخيرًا-، وبالمرض يتيمَّم، وبالمرض يقعد إن كان لا يستطيع القيام في الصلاة.
والسَّبب الثالث: الإكراه؛ مَن أُكره على شيء -حتى لو كان هذا الشيءُ كفرًا-؛ فلا يُؤاخَذ، من نطق بالكُفر كُرهًا، فالله يقول في «النحل»: {ولكنْ من شرحَ بالكُفر صدرًا}، والإمام الشوكاني له كلمة في تفسير هذه الآية بديعة، أنصحكم أن ترجعوا إليها في (ج4/ص577) من كتابه «السيل الجرار»..[نقاش جانبي]..
السَّبب الرابع: النِّسيان، من نسي الصلاة لا يُؤاخذ، من نسيَ وهو في الصلاة فتكلم يكمل صلاته ويسجد للسهو.
السَّبب الخامس من أسباب التَّخفيف: الجهل؛ الرجل الذي قد أساء صلاتَه، فصلى صلاة دون طمأنينة، فقال له النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ» فرجع فصلى، فقال له النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ»، فقال: والله يا رسول الله إني لا أعلم غيرَها، غير اللي صليتُ ما أعرف، فأمر النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- وبيَّن له الطمأنينة في أفعاله، ولم يأمره -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- أن يعيد الصلوات الماضيات، ما كان مؤاخذًا فيما كان فيه جاهلًا.
والسَّبب السادس: العُسر.
بقي سببان أخيران من أسباب التَّخفيف؛ فالسَّبب السادس قلنا: العُسر.
فمثلًا: دم العرق الذي يبقى في عروق الذبيحة بعد أن تُذكَّى معفوّ عنه، يعسُر، أمر عسر جدًّا.
بول الذكَر يُنضح ولا يُغسل؛ لأن عادة العرب الأولاد يصطحبون آباءهم بخلاف البنات، والعجيب -اليوم- الطب في التحليلات المخبرية أثبت أن بول الأنثى غير بول الذكر، والناس تقول الذكر كالأنثى، إذا بول الذكر غير عن بول الأنثى، فكيف أصل الأنثى أصل الذكر، الله يقول: {وليس الذكرُ كالأنثى} -ولعلنا تكلمنا في هذه المسألة-.
فمتى غُسل أصبح هنالك عسر فالشرعُ رتَّب على هذا العُسر تيسيرًا.
والسَّبب السابع الأخير من أسباب التَّخفيف: النقص؛ فلم يوجبِ الشَّرع على من كان ناقصًا في حريَّته جمعةً ولا جماعة ولا جهادًا -كالعبد-، والمرأة لقوَّتها في بدنِها ضعف وخور ما أوجب عليها الشَّرع الجهادَ، وأسقط عنها الجمعة والجماعة لحاجاتها لوقتها لإدارة بيتها وما شابه.
فالنقص من أسباب التَّخفيف.
إيش جهاد المرأة؟ الحج؛ فجهاد النساء الحج، لأن بُنية المرأة ليست كبُنية الرجل.
هذه أسباب التَّخفيف السبعة.
أما أنواع التَّخفيف؛ فهي سبعة أيضا:
فالنَّوع الأول من أنواع التَّخفيف: الإسقاط؛ فأسقط الشَّرع الحج على غير المستطيع، وأسقط الجهاد عن المرأة والصبي، وأسقط الجماعة بالأعذار.
فأنواع التَّخفيف: الأمر الأول: الإسقاط.
الأمر الثاني: التنقيص؛ فالشرعُ أوجب القصرَ، وهو تنقيص عدد الركعات، والأمَة عدتُها حيضتان، وإقامة الحدِّ عليها كنصفِ إقامة الحد على الحُرة.
والنَّوع الثالث من أنواع التَّخفيف: الإبدال؛ فإذا الإنسان ما استطاع استخدام الماء فأبدلهُ بالتيمُّم، وإذا ما استطاع القيام أبدلهُ بالقعود، وإذا ما استطاع الصيام أبدلهُ بالكفَّارة بالإطعام.
فمن أنواع التَّخفيف: النَّوع الثالث: الإبدال.
النَّوع الرابع من أنواع التَّخفيف: التقديم؛ مثل: جمع تقديم في المطر، مثل تقديم الكفَّارة على الحِنث، ورد في ذلك حديثان وكلاهما في «صحيح مسلم»، في بعض الأحاديث: «فلْيأتِ التي حلف، ثم لْيكفِّر عن يمينه» وفي حديث آخر في «مسلم»: «فليكفِّر عن يمينه، ثم يأت التي حنث».
إذا أردت أن تحنث في يمينك يُشرع لك أن تقدِّم الكفارة قبل الحنث، لكن إذا حنثتَ وجبت عليك الكفارة، لكن لو قدَّمت الكفارة؛ فلا حرج عليك.
النَّوع الخامس من أنواع التَّخفيف: التأخير؛ مثل تأخير رمضان للمريض والمسافر، وكذلك يُلحق بهما ما ورد في قول الله -عزَّ وجلَّ-: {وعلى الذين يُطيقونه فِدية} هذا ليس تأخيرًا؛ وإنما هذا إبدال.
النَّوع السادس: التغيير؛ تغيير صفة العبادة، وأكثر ما يظهر هذا في صلاة الخوف، في تغيير صلاة الخوف، هيئة الصلاة تختلف، وورد في السُّنة ثمان صفات لصلاة الخوف، وجُلها فيها تغيير الصلاة عن الصفة المعهودة.
والنَّوع السابع من أنواع التَّخفيف: الترخيص؛ فرخَّص الشَّرع في استعمال الحجر في الاستجمار بدلاً من الماء، ورخَّص الشَّرع عندما يغصُّ الرجل بلُقمة أن يستخدم الخمرَ في تسليكها إن غلب على ظنه الهلاك.
فالنَّوع السابع هو الترخيص.
هذه أنواع وهذه أسباب التَّخفيف بإيجاز شديد، وهمُّنا أن نرسم الكليَّات، وأن لا نخوض في التفصيل في أحكام الأمثلة، همُّنا أن نفهم موضوع المشقة بكُليَّاته -إن شاء الله تعالى-.
نكتفي بهذا البيت الخامس عشر.....


انتهى (الجزء الأول) ويتبع (الجزء الثاني).

تفريغ : أم زيد

من هنـا تجميع روابط الدروس المفرَّغة
__________________
قال العلامة صالح آل الشيخ: " لو كان الفقه مراجعة الكتب لسهل الأمر من قديم، لكن الفقه ملكة تكون بطول ملازمة العلم، بطول ملازمة الفقه"
وقال: "ممكن أن تورد ما شئت من الأقوال، الموجودة في بطون الكتب، لكن الكلام في فقهها، وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ"
"واعلم أن التبديع والتفسيق والتكفير حكم شرعي يقوم به الراسخون من أهل العلم والفتوى ، وتنزيله على الأعيان ليس لآحاد من عرف السنة ، إذ لا بد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، حتى لا يصبح الأمر خبط عشواء ،والله المستعان"
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 06-02-2012, 10:59 AM
الصورة الرمزية أبو مسلم السلفي
أبو مسلم السلفي أبو مسلم السلفي غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jun 2009
الدولة: الأردن
المشاركات: 3,420
افتراضي

بارك الله فيك أبا عبد الله
__________________






رد مع اقتباس
  #6  
قديم 06-03-2012, 11:59 AM
حامد بن حسين بدر حامد بن حسين بدر غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,115
افتراضي

تفريغ الشريط السادس ج2...

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم زيد مشاهدة المشاركة
[الـدَّرس السَّـادس]

(الجزء الثَّاني)


14. وَضِـدُّهُ تَـزاحُـمُ الـمَــفَــاسِـــدِ ... يُـرْتَـكَـبُ الأَدْنَـى مِـنَ المَفَـاسِـدِ

15. قَــاعِـــدَةُ الشَّريعـــةِ التَّيسير ... فـِي كُـلِّ أَمْــرٍ نَـابَــهُ تَـعْـسِـيــرُ

16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ ... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ


إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
يقول الناظم:
16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ ... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ
هذا البيت حوى قاعدتَين مهمَّتَين كُليَّتَين:
القاعدة الأولى: أن الوجوبَ يتعلقُ بالاستطاعة، فلا وُجوبَ مع العجز، وهذا من محاسن دينِنا، فالشرعُ لا يوجِبُ على العبدِ شيئًا لا يقدرُ عليه، الشرعُ لا يكلِّفُ العبدَ فوق طاقتِه.
والقاعدة الثانية: لا مُحرَّم مع الضرورة، وهي قاعدةٌ فقهيَّة يُعبَّر عنها بـ(الضرورات تُبيح المحظورات).
ولكلٍّ من هاتين القاعدتين اللتَين عبَّر عنهما الناظم بهذا البيت -البيت السادس عشر- أدلةٌ وتطبيقات كثيرة، وتفريعات عديدة، وهمُّنا الإجمال، مع شيءٍ من الإحاطة، فلا نشرحُ شرحًا طويلًا مُملًّا، ولا قصيرًا مُخِلًّا -إن شاء الله-.
أما القاعدةُ الأولى: الوجوبُ يتعلَّق بالاستطاعة، ولا وجوبَ مع العجز؛ فالأدلة كثيرة؛ منها: قول الله -عزَّ وجلَّ-: {لا يُكلِّفُ اللهُ نفسًا إلا وُسعَها}، ومنها قول الله -عزَّ وجلَّ-: {لا يُكلِّفُ الله نفسًا إلا ما آتاها}، ومنها قول الله -عزَّ وجلَّ-: {فاتَّقوا اللهَ ما استطعتُم}.
ومنها ما ثبت في «صحيح البخاري» أن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال لعمران بن حُصين -وكان به النَّاسور-وهو أشد من الباسور-، قال له: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِع؛ فصلِّ جالسًا، فإن لم تستطعْ؛ فصلِّ على جنب»؛ فالذي لا يستطيع القيام يصلي جالسًا، والذي لا يستطيع الجلوس يصلي على جنب، فقوله: «فإن لم تستطعْ» فيه إشارة إلى أن الوجوب مع عدم الاستطاعة؛ ساقط.
والأصرح من هذا الحديث: قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «إذا أمرتُكم بأمرٍ؛ فاتوا منه ما استطعتُم، وإذ نَهَيتُكم عن شيءٍ؛ فاجتنِبوه»، ولم يقلْ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنِبوا منه ما استطعتم، ولم يقل: إذا أمرتُكم بأمرٍ فافعلوه؛ وإنما قال: «إذا أمرتُكم بأمرٍ؛ فاتوا منه ما استطعتُم».
الله يعلم أننا نحب الجهاد في سبيل الله، ولا نستطيع أن نجاهدَ؛ فلا إثم علينا.
والنبي رَفع عنا الإثمَ بقوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «مَن مات ولم يَغزُ ولم يُحدِّث نفسَه بالغزو؛ مات على شُعبة من شُعب النفاق».
فلو حدَّثت نفسك -وعلِم الله صدق نيَّتك- أنه لو قام الجهاد بشروطه الشرعية الثلاث تجاهد في سبيل الله؛ فأنت رُفع عنك النفاق.
والشروط الثلاثة للجهاد:
الشرطُ الأول: إعدادُ العدة {وأعدُّوا لهم ما استطعتُم من قوَّة}.
والشرط الثاني: الرايةُ المسلِمة، لا يجوزُ القتالُ تحت راياتٍ ليست شرعية، يقول النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «مَن قاتَل تحت رايةٍ عُمِّيَّة» راية في عماء، لا تعرف أصحابَها هل هم على هُدى أم لا «مَن قاتَل تحت رايةٍ عُمِّيَّة، فمات؛ فميتتُه جاهليَّة» ابق في بيتك لا تخرج للجهاد إذا كانت الرايةُ عُمِّية.
والشرط الثالث: ما ثبت في «الصحيحين»: من حديث أبي هريرة: قال النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «الإمامُ جُنَّة يُقاتَل من ورائه» لا بد من إذن الإمام، ما فيه إذن الإمام؛ فجهادُ الطلب متعطِّل، «يُقاتَل من ورائه»، الجهاد يحتاج إلى إعداد وتنسيق، وتنسيق في الطُّرقات، وأمن في طريق الذَّاهب للجهاد، مش هيزعة الجهاد؛ امش امش جاهِد!
في أزمة العراق اتصلت بي أخت، تسمع كلام المحمِّسين، تقول: أنا أرضع، أريد أترك ولدي، ولا أستأذن لا أبي ولا زوجي، والمشايخ يقولون لنا حرام حتى على المرأة!؟
هذا كلام مُراهَق، هذا كلام ما فيه فهم، ولا فيه علم، ولا عليه نور؛ إيش حرام تجلس.. الخبَّاز حرام يخبز، تتعطل الدُّنيا!
فالجهاد له أحكام..
أنت تطلق الكلام على العوام هكذا! كثير من الناس يُطلقون واجبات على الناس ومن أين دليلك على الوجوب؟ ما يعرف! بل كثير من الخَلق يطلقون واجبات على الناس هي فوق استطاعتهم!
واحد مات في هنغاريا كافر أنا مسؤول عنه؟! هل أنا يجب علي أن أتعلم اللغة الهنغارية ويجب علي أن أزور هنغاريا؟!... أنت تحسبني كل كافر في الأرض إذا ما بلغتُه الدعوة يجب علي أن أتعلَّم جميع اللغات، ويجب علي أن أزور كل البلاد!!؟ الله يقول: {فاتَّقوا الله ما استطعتُم}، الله يقول: { لا يُكلِّفُ الله نفسًا إلا وُسعَها}، {لا يُكلِّفُ الله نفسًا إلا ما آتاها}، «إذا أمرتُكم بأمرٍ؛ فاتوا منه ما استطعتُم»
طيب؛ «إذ نَهَيتُكم عن شيءٍ» إيش؟ فاجتنِبوا منه ما استطعتم؟
النهي فعل إيجاب ولا فعل عدم؟ النهي فعل عدم، هل العدم يحتاج لإرادة؟
المنهي الأصل فيه معدوم، الكذب معدوم، الزنا معدوم، السرقة معدوم.. صحيح؟ يعني لا يحتاج لإرادة، لا يحتاج لقُدرة، إيش الذي يحتاج لقدرة؟ أن ينتقل العمل من العدم إلى الإيجاد.
طيب؛ لو سألك سائل فقال: هل النهي يقتضي التكرار؟ إذا أمرك اللهُ بأمر يجب عليك أن تكرره؟ ولا أنا عملت مرة؛ خلاص؟ إذا فيه قرينة بالتكرار؛ كرَّرنا.
الله أمر بالصلاة، وعلَّقها بأوقات خمس، فبِتكرُّر الأوقات تتكرر الصلاة.
الله أمر بالصوم وعلَّقه برؤية هلال رمضان، كلما رأينا هلال رمضان؛ إيش عملنا؟ كرَّرنا.
الله أمرنا بالزكاة بشرطَين: النِّصاب، وحوَلان الحَول، ولم يجعل النِّصابَ واجبًا، يعني لو أنا كنت عندي أموال يأتي عليّ النصاب وزيادة، ولكن الأموال أنفقها، ما بلغت عندي النصاب، يجب علي الزكاة؟ ما تجب علي الزكاة.
طيب؛ الحج، إيش سبب الحج؟ وجود الكعبة المشرفة، هل وجود الكعبة يتكرر؟ فكم مرة يجب الحج في العمر؟ ليش؟ لأنه ما يتكرر السبب، حتى لما تُهدم الكعبة يجب الحج، ويجب الطواف حولها، لَمَّا يهدم ذو السُّويقتَين الكعبةَ، وينقض أحجارها حجرًا حجرًا، من يُدرك ذاك الزمان يقول لنا: إيش نعمل؟ نقول له: طف حول الكعبة بالتَّقدير، هنالك قواعد تقديريَّة عند العلماء ويأتينا التنويه والتنبيه على بعضها.
فالشرعُ ما أمر المكلَّفين إلا على وفق استطاعتهم.
طيب؛ النهي يقتضي التكرار؟ يعني: لو واحد ما زنى مرَّة، وما كذب مرة، وما سرق مرة، يقول: أنا استجبت؛ المرة الأولى ما كذبت، الثانية يجوز لي أن أكذب، المرة الأولى ما زينت، المرة الثانية يجوز لي أن أزني.. هذا الفهم صحيح؟ غير صحيح، فالأمر لا يقتضي التكرار إلا بِقرينة، والنهي يقتضي التكرار، ليش النهي يقتضي التكرار؟ لأن النهي عدمٌ، والأصل في النهي أن يبقى عدمًا، فمتى حوَّلت العدم إلى حضور؛ خالفتَ.
ولذا: النهي، إن نهى الشرعُ عن شيء ما قال نبينا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: وإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنِبوا منه ما استطعتم؛ وإنما قال: «فاجتنِبوه» وهذا الاجتناب يجب أن يبقى على الدوام، وهو يقتضي التكرار.
طيب؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: هل هو مناط بالمقدرة ولا بغير المقدرة؟ بالمقدرة «من رأى منكم مُنكرًا؛ فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع؛ فبِلسانه، فإن لم يستطع بقلبِه» إيش قلبه؟ يعني: تَقلِبه؟ ولا «فبقلبِك» فبِجنانك؟ قطعًا؛ بقلبك يعني بجنانك.
طيب؛ لما تبدأ تنهى عن المنكر أو تأمر بالمعروف من أين ينبغي يبدأ أول خطواته؟ من أين ينبغي أن يبدأ الإنكار؟ القلب، الذي يُنكر بيده قبل قلبه منافق؟ صحيح؟ وبعد القلب تُنكر بإيش؟ بالتعليم، باللسان، وبعد اللسان: باليد.
طيب؛ ليش النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: «من رأى منكم مُنكرًا؛ فليغيِّره بيده»؟ يعني كان المُنكِر والمُنكَر عليه يعلمون هذا، النية حاصلة وصادقة، النبي يتكلم عن درجات القوَّة، ولا يتكلَّم عن آليَّةِ التَّغيير، آليةُ التَّغيير تبدأ بالقلب ثم اللسان ثم اليد، أما درجات القوَّة: تبدأ الأقوى فالأضعف، الأقوى: اليد، وبعد اليد: باللسان، وبعد اللسان: بالقلب.
المنكر على درجات، وليست كلُّ درجات المنكر واجبة:
- فإن غلب على ظنِّك إن أنكرتَ زال المُنكر، أو زال بعضُه؛ فالإنكار واجب.
- إن أنكرتَ فزال المنكرُ وحلَّ منكرٌ بقدره؛ فهذا موضع نظر، بعضُهم جوَّز وبعضهم منع.
- فإن أنكرتَ فترتَّب على إنكارِك المنكرَ منكرٌ أكبر منه؛ فإنكار المنكر في هذه الصورة؛ حرام.
هذا بناء على أي قاعدة؟ إذا ازدحمت المصالح؛ ارتَكبنا أعلاها، وإذا ازدحمت المفاسد؛ اجتنبنا أدناها.
يقول الإمام ابن القيم في كتابه «إعلام الموقِّعين»: كنت أسير أنا وشيخي أبي العباس -من أبو العباس؟ ابن تيمية-، فكان يرى التتار يشربون الخمر، قال: فتفلَّتُ وأردتُ أن أذهب وأن أُنكر عليهم.. العصر عصر عافية، والأرض أرض فيه خير كثير، والناس يشربون الخمر على قارعة الطريق، شيء غير طبيعي، فكنت أرى التتار يشربون الخمر، وأمر عليهم أنا وشيخي أبي العباس ابن تيمية، فكنتُ أتفلت لأنكر عليهم شرب الخمر، قال: فكان شيخي يأخذ بيدي ويمشي سريعًا ويقول لي: اتركهم، فإن الذي هم فيه أحب إلى الله من صَحَيانهم!
هؤلاء إن صحوا قتَّلوا المسلمين، فليبقوا مخمورين! التَّتري إن صحا من الخمر حمل السيف وبدأ يقطع رقاب المسلمين، يهجم على العُزَّل والضعاف من الناس، اتركهم، الذي هم فيه -الذي هو الخمر- أحب إلى الله من صَحَيانهم.
فهذا المثل يفيدنا في ثلاث قواعد مضت؛ أن المنكر إن ترتَّب عليه منكر أكبر منه؛ يكون إنكاره إيش؟
واحد شاب متحمس اليوم راح على خَمَّارة وحرق الخمارة، إيش يترتب على حرق الخمارة؟ كل الخمارات في التأمين، ما بيصدق صاحب الخمارة.. يفرح، يجدد كل المحل بِدِيكوره وكل شيء، صحيح؟ وأضر بنفسه، صحيح؟ بل ربما بعض الناس يفعل فعلًا قبيحًا فيضرر كل المسلمين، فيُضرَّر أهل التقوى، وليست الفتن ببعيدة عنا -التي حصلت في حماة، والتي حصلت في الجزائر، والتي حصلت هنا وهناك-.
فهذا كله أمور حرام شرعًا، يترتب على إنكار المنكر منكر أكبر منه؛ فإنكاره حرام هذه قواعد أهل العلم، وإنكار المنكر منوط بالاستطاعة، إذا ما استطعت إنكار المنكر باليد فباللسان، إذا ما استطعتَ باللسان تُنكره بقلبك، تقول في نفسك: اللهم إن هذا منكر ولا أرتضيه ولا أحبه! وخلاص رفع عنك الإثم -إذا كنت لا تستطيع حتى أن تبين-.
يقول الإمام أبو العباس القرطبي -شيخ القرطبي المفسِّر- في شرحه «المُفهِم على صحيح مسلم»، يقول: في ذاك العصر لما النبي قال: «فلينكره بيده» قال: هذا في الوُلاة وأعوانهم، «فإن لم يستطع؛ فبِلسانه» قال: هذا في العلماء وأعوانهم، العلماء والخطباء والوعَّاظ والدعاة، ثم قال: «فإن لم يستطع فبِقلبه» قال: هذا للعوام، عوام المسلمين ما عندهم علم.
فالدرجة الأولى: للوُلاة وأعوان الولاة، من أعوان الوُلاة؟ القُضاة والمحتسِبون، كان فيه نظام اسمُه نظام (الاحتساب) وألَّف فيه العلماء كتبًا [...] على الخبَّازين فيه مُحتسِبون، وعلى السمَّاكين فيه مُحتسِبون، وعلى أصحاب الذين يبيعون الحلويات فيه مُحتسِبون، وهذه الكتب تفصِّل كيف عمل المحتسب وكيف يقع الغش في كل مهنة من هذه المهن قديمًا.
فكان المجتمع يجتمع في دين مع مصالح الدنيا، والناس كلهم يعملون ويخافون الله[...] فكان الخير في كل مكان، خير الأرض وخير السماء، كان مجتمِعًا بين الناس.
طيب؛ هذه القاعدة الأولى، التي أرادها الناظمُ بقوله:
16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ
نأتي للقاعدة الثانية -وهي في تتمة البيت-، قال:
... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ
إذا اضطُررتَ لشيء؛ فهذا ليس بحرام.
ومن بديع ما قال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري شرح صحيح البخاري» (1/338) يقول: (ما أُبيحَ للضرورة لا يُسمَّى وقتَ التناوُل محرَّمًا).
يعني: إنسان غص بلُقمة، ولم يجد سائلًا يُسلِّك فيه اللقمة لا ماء ولا عصيرًا إلا خمرًا، وإن لم يسلِّك اللقمة يموت، فعند شُربه للخمر لا يكونُ شُربه للخمر محرَّمًا.
إنسان كاد أن يهلك، فلم يجد إلا ميتةً، فأكل من الميتة، فأكلُ الميتة عند تناوُل الميتة في وقت الضرورة؛ فلا يُسمى تناوُلُه محرَّمًا.
يقول الله -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}؛ {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ}: لا يريد هذا، {وَلَا عَادٍ} لا يتعدَّى مقدار الأكل، قال الله -عزَّ وجلَّ-: {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، وختم الآية بقوله سبحانه: {إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ} ليش؟ لأن المضطر لا يعرف المقدار الذي يدفعُ الضرورةَ، فقد يتعدَّى، هو لا يريد التعدِّي، لكن هو أيضا ما يستطيع أن يتناول المقدار الذي يستطيع أن يصل إلى الطعام الحلال، فقد يزيد، فإن زاد في مثل هذا الأمر وهو لا يبغي، وهو مضطرٌّ، ولا يتقصَّد، ولكنه وقعت الزيادة؛ فناسب أن تُختم الآية بقوله: {إنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ} فهذا أمر معفوٌّ عنه مغفور في حقه.
جماهير العلماء قالوا: الأكل يكون بمقدار كسر سَوْرة الجوع، الجائع لما يجوع لما يأكل قليلا سَوْرة الجوع تنكسر، جماهير أهل العلم فسَّروا {وَلَا عَادٍ}؛ يعني: يأكل بالمقدار، قالوا: يكسر سَوْرة الجوع، سَوَران الجوع حدته يكسره ويقف، ليس له أن يأكل حتى يشبع.
أبو حنيفة قال: لا، يأكل ما يسد الرمق.
يعني: لو كسر حدَّة الجوع وأكل شيئًا زائدًا حتى يغلب على ظنه أنه يصل، والذي أخذه ينجِّيه بسبب تقدير المسافة -أو ما شابه-؛ فحينئذٍ: لا حرج عليه.
وأنا الذي أراه -والله أعلم- صوابًا -وهذا تفصيل إمام الحرمين- التفصيل: المكان الذي ستصل إليه قريب وإلا بعيد؟ يحتاج يسقط سَورة الجوع؟ وإلا يحتاج أنه يأخذ شيئًا زائدًا عن سَورة الجوع؟ على حسب الحال الذي هو فيه، وهذا يدخل تحت عموم قول الله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} فالغير باغ ولا عاد يختلف باختلاف الأماكن، وباختلاف الأشخاص، والقُرب والبُعد عن وجود الطعام، أو عن وجود مخايل وجود الطعام، الإرهاصات التي تجعلني أرجِّح أني أجد طعاما، فهذه المسافات تختلف.
مما ينبغي أن يُعرف أن في الشرع: ضروريات وحاجيَّات وتحسينيَّات، وينبغي أن نفرِّق بينها؛ لأن الناس يخلطون [...].
يترتب على عدم الضرورة هلاك، وفاة، أو انعدام عضو، هذه ضرورة.
ويجوز لك أن تهجم على الحرام بسبب هذه الضرورة من غير عدوان ولا بأس، ... والله يعلم أنك إيش؟ واحد يأكل فيتمثل أنه قد غص حتى يَشرب الخمر! هذا باغٍ! والعادي أنه شرب ونزلت اللقمة وبقي يشرب، أصبح إيش هذا الآن؟ أصبح عاد، المطلوب أن تشرب غير باغٍ ولا عاد.
الضرورة إن تعطلت ماذا يترتب عليها؟ هلاك.
والحاجية إن تعطلت إيش يترتب عليها؟ ضرر، حرج، شِدة.
يعني اليوم: نمط حياة الناس أصبحت السيارات من الحاجِيات ولا من الضروريات؟ من الحاجيات، مش من الضرورة، غلط تقول من الضرورة، يترتب على عدم الضرورة وفاة أو هلاك، لو ما عندك سيارة لا تهلك ولا تموت، لكن يترتب على عدم وجود السيارة إيش اليوم؟ يترتَّب حرج.
ولذا: العلماء يقولون في قواعدهم: (الحاجيات تَلحق بالضروريات)، فكما يُقال: (الضروريات تُبيح المحظورات)؛ يقال: الحاجيَّات تُبيح المحظورات بِمقدار الضَّرر.
يعني: ما من رجل اليوم يشتري سيارة إلا وعليه تأمين، ممكن واحد يشتري سيارة ما يؤمن؟ التأمين ممنوع، طيب؛ إيش الآن حُكم شراء السيارة؟ لو سألك سائل: إيش حُكم شراء السيارة؟ حلال ولا حرام؟ حلال. ليش حلال؟ لأن الحاجيَّات تُنزَّل منزلة الضروريات، فكما أن الضروريَّات تُبيح المحظورات؛ فإن الحاجيات تبيح المحظورات.
طيب؛ نجيب شيئًا آخر: السكن، من الحاجيات أم من الضروريات؟ من الحاجيات. هل يجوز أخذ قرض ربوي للسكن؟ تقول: الحاجيات تنزَّل منزلة الضروريات، والضروريات تُبيح المحظورات؟ قلنا: نعم نحن نقولها؛ لكن نقول: القاعدة التي بعدها: أن الضرورة تقدَّر بقدرها.
هل يلزم للإنسان حتى يدفعَ حاجة ستر العورة والإيواء في بيت؛ هل يلزم ذلك أن يكون مالكًا للبيت؟ مُمكن تُستر العورة ويَسكن الإنسان بالإيجار؟ فالضرورة تقدَّر بقدرها، أجِّر، لا يلزمك أن تسكن البيت، ولذا: الذي يُفتي بجواز أخذ القرض الربوي من أجل بناء البيت وأعمَلَ قاعدة: (الحاجيات تُنزَّل منزلة الضروريات)، ونحن نوافق على أن السكن حاجة، وأن الحاجة تُنزَّل منزلة الضرورة؛ لكن توسَّع، كان باغيًا، وبغى هذا الأمرَ أصالةً واعتدى.
لذا الناظم في البيت الذي بعده قال:
17. وَكُـلُّ مَحْـظُــورٍ مَـعَ الضَّــرُورَهْ ... بِقَــدْرِ مَــا تَحْتَــاجُــهُ الضَّــرُورَهْ
إيش يعني: (بِقَــدْرِ مَــا تَحْتَــاجُــهُ الضَّــرُورَهْ)؟ يعني: امرأة احتاجت أن تتطبَّب، وإيلامها في أسفل قدمها، المرأة لما تتطبَّب تحتاج أن تذهب إلى أين؟ تذهب إلى من؟ طبيبة مسلمة، إن لم تجد الطبيبة المسلمة ذهبت إلى الطبيبة الكتابية، إن لم تجد الطبيبة الكِتابية تذهب للطبيب المسلم، إن لم تجد الطبيب المسلم تذهب للطبيب الكتابي.
كم من امرأة تذهب للطبيب الكتابي النصراني أو الكافر لأول مرة، تجاوزت ثلاث مراحل، والرجل يجد في نفسه، إخواننا الأطباء الثقات أصحاب الديانة الملتحِين يسألون يقولون: يا شيخ نحن نفحص البنات نجد في أنفسنا، الله يؤاخذنا؟ الطبيب آلة وليس برجل؟! الطبيب يجد في نفسه كما يجد الرجال، الطبيب واحد من الناس، فواجب عليه أحكام، والواجب على من تذهب إليه أحكام من النساء أحكام، فيَحرُم على الطبيب إلا الضرورة، والمرأة كذلك يحرُم عليها طبيب إلا الضرورة.
طيب؛ أسفل قدمها يؤلمها، لماذا يرى غير أسفل القدم؟
طيب؛ المرأة التي تحتاج لتشخيص، فحص داخلي يسمونه اليوم في الطب، ليش ما تكون عنده ممرضة، الممرضة تعمل الفحص الداخلي، ويدربها إيش تريد، فيَحرم على الرجل أن ينظر، والضرورة تقدَّر بقدرها، ويمكن غيرُه يسد مسدَّه فيها.
امرأة ذهبت عند كبير من الطبيبات ما استفادت ما بقي إلا الطبيب.
فإذا الضرورة تُدفع بالنظر للمرأة يُدرب امرأة مثلا؛ فهذا واجب، والضرورات فقط تقدَّر بقدرها، هذه تأتينا في المرة القادمة، نفصل فيها ونذكر الحالات.
لكن: الذي أريد أن أقرِّره الآن: أن الشرعَ من حيث الأهمية جعل هنالك:
الضرورات، وجعل هنالك رقم2 إيش؟ الحاجيات، وجعل رقم3 إيش؟ التحسينيات.
شو التحسينيات؟ يعني: إدخال السرور، التنعُّم في الدنيا.
طيب؛ هل إدخال السرور على النفس والتنعُّم في الدنيا واتخاذ المَصيَف والمَشتى واتخاذ العمارة والقصر، هذا ممنوع في الشرع ولا مذموم؟ ليس ممنوعًا في الشرع، «إن الله يحب أن يرى أثرَ نعمتِه على عبده»، وسليمان عليه السلام كان متنعِّمًا.
لكن: أن تجعل هذه الأشياء هي التي تشغل قلبك، وهي التي تملأ وقتك، وتصرفك عن العبادة وعن الخير؛ فهذا المذموم.
هذه الأشياء من مظنة أن تصرف الإنسان عن الخير.
لذا: أتعبَ العلماءَ مسألة: أيهما أفضل الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟ من أحسن؟ إيش رايكم؟
طيب؛ أنا أذكر لكم شيئًا: صاحب المال، رجل عنده أموال كثيرة، هل تجب عليه الزكاة أم لا تجب؟
طيب؛ الفقير هل يجب عليه أن يأخذ؟ طيب؛ من أحسن الفقير ولا الغني؟
الفقير مش واجب عليه يأخذ.. خذ يا حبيبنا، أرجوك، هذه زكاة المال.. يأثم؟
طيب؛ الغني الذي لم يدفع؟ يأثم.
في الحديث الصحيح: أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمئة سَنة، خمسمئة سَنة حساب على الأموال.
فبعض العلماء قال: لهذين السببين -وغيرهما- أن الفقير أفضل، الفقير الصابر خير من الغني، لكن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- إيش قال؟ قال: «نِعم المال الصالح للرجل الصالح».
والفصلُ في المسألة يختلف باختلاف حال الناس، والعبرةُ في الحالتين: أن يكون الإنسان رجَّاعًا إلى الله، فلما ذكر الله في «سورة ص» قصة أيوب -وهو رمز للفقير الصابر المُبتلَى-، ولما ذكر قصة سليمان -وهو رمز لمن آتاه الله المالَ والمُلك والسلطان-؛ فقال الله عن كل واحد منهما: {نِعمَ العبدُ إنَّه أوَّاب}، فالعبرة أن تكونَ أوَّابًا لله.
اللهم إن كان صلاحُنا في الغنى؛ فأغنِنا، وإن كان صلاحُنا في الفقر؛ فأفقِرنا.
إيش رايكم بالدعاء؟ ما تخافون الفقر؛ الله يعطي المالَ لمن يُحب ولمن لا يحب.
والكفار مِن بغيِهم لَما يدخلون النار يلتفت بعضُهم إلى بعض ويقولون: {ما لنا لا نرى رجالًا كُنا نعدُّهم من الأشرار} وين الفقراء المسلمين؟ يظنون -مساكين- أن موازين الآخرة موازين الدنيا! {ولِئن رُجِعتُ إلى ربِّي إنَّ لي عندهُ لَلحُسنى} هكذا الكافر يقول، ما دام أن الله أعطاني هذه الأموال، وأعطاني في هذه الدنيا، معناها إذا رجعت عند الله في الآخرة فلي عنده كما أعطاني في الدنيا!!
والنبي كسر هذا الأمرَ، النبي قال: «لو كانت الدنيا عند الله تُعادل جناحَ بعوضة؛ ما سقى منها كافرًا شربة ماء».
الدنيا هيَّنة، ومِن هوان الدنيا على الله يقول الله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}؛ لولا أن المسلمين يصبحون كافرين؛ لجعلت الكفار في الدنيا لبيوتهم سقفا من فضة، ومعارج من فضة، وأبوابا من فضة، لكن الله -عزَّ وجلَّ- جبر كسر قلوب المؤمنين، الناس حينئذ قد يميلون للكفار، يصبح الناس كلهم كفار، {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}.. {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} ختم الآيات.
فالدنيا الله يعطيها للكفَّار، فوجود مال عندك، وجود أولاد عندك، وجود جاه عندك، وجود [سلطان] عندك؛ لا يدل على أنك مرضي عند الله!
قد يكون فقير مدفوع بالأبواب، أشعث أغبر لا يلتفت إليه أحد يملأ مثل الدنيا من هذا الإنسان اللي ما شاء الله..!
فالتحسينيَّات شرعُنا جاءنا به، ومن ذم غيرَه بسبب التَّحسينيَّات المأذون بها في الشرع باعثُه في الذم: الحسد لك.
يعني يقول فلان: الشيخ الفلاني [...]! ليش؟ والله ساكن في قصر! طيب إيش مشكلة؟ هذا شيء حلال، أنس بن مالك كان عنده قصر.. إنسان يركب سيارة مثلا نوعها فاخر، إيش المشكلة؟
لكن إذا طغى هذا على الدِّين، واحتل هذا محل القلب، وبدأ الإنسان يضيِّع هذا المذموم!
أما السعادة فكما قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: السعادة في أربعة: المركب الهنيء، والبيت الفسيح، الزوجة الصالحة، والجار الصالح، هذه السعادة في الشرع.
والشقاوة في أربعة عكس الأمور الأربعة.
والله امتنَّ على قريش بقوله سبحانه: {رحلةَ الشِّتاءِ والصَّيفِ} قال الإمام القرطبي في «تفسيره»: «وفي هذه الآية دلالة على جواز أن يتخذ الرجل مَصيفًا ومشتى» يكون له قصر في مصيف وقصر آخر في مشتى؛ «لأن الله لا يمتن على أحد إلا بحلال، الله ما يمتن على قريش بشيء حرام، قال لهم رحلة شتاء، ورحلة صيف، لو كان عندك تصيِّف فيه، وآخر تشتِّي فيه؛ إيش مشكلة؟!...
فهنالك ضروريات وحاجيات وتحسينيات.
فالذي يُبيح المحرَّمات: الضروريات والحاجيات.
فلان أخذ قرضا من بنك؟ ليش؟ يغير أثاث بيته، [...] هذا حرام! في أي باب هذا؟ هذا في باب التحسينيات.
فالحرام يُهجم عليه بالضرورةِ والحاجةِ، وهذا الهجوم ليس على الإطلاق، حتى أكل الميتة.
يعني مثلا: ما وجدنا إلا مقدار من الميتة مقدار واحد، واثنان مضطران، واحد يأكل حتى يسد مقدار ...، لا يجوز للآخر أن يعتدي عليه، حتى في أكل الميتة؛ لأن الله يقول: {غير باغٍ ولا عادٍ}، إذا ما فيه غير مقدار واحد وهم اثنان؛ فيَحرُم على الآخر الذي لم يَسبق للميتة أن يعتدي على من يأكل الميتة.
فيه ضوابط أخرى تأتينا في درسنا القادم إن شاء الله تعالى.
فلما نقول: الضرورات تُبيح المحظورات نحتاج نقيِّدها، ننبذ التحسينيات أصلا، ونُقيِّد الضروريات والحاجيَّات التي تُحلِّل المحرَّمات بالمقدار دون الاعتداء، نأخذ المقدار دون الاعتداء.
والله أعلم.
وصلى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

انتهى (الجزء الثاني).

تفريغ : أم زيد


من هنـا تجميع روابط الدروس المفرَّغة
__________________
قال العلامة صالح آل الشيخ: " لو كان الفقه مراجعة الكتب لسهل الأمر من قديم، لكن الفقه ملكة تكون بطول ملازمة العلم، بطول ملازمة الفقه"
وقال: "ممكن أن تورد ما شئت من الأقوال، الموجودة في بطون الكتب، لكن الكلام في فقهها، وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ"
"واعلم أن التبديع والتفسيق والتكفير حكم شرعي يقوم به الراسخون من أهل العلم والفتوى ، وتنزيله على الأعيان ليس لآحاد من عرف السنة ، إذ لا بد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، حتى لا يصبح الأمر خبط عشواء ،والله المستعان"
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 06-04-2012, 11:01 AM
حامد بن حسين بدر حامد بن حسين بدر غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,115
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم زيد مشاهدة المشاركة
بسم الله الرحمن الرحيم

شـرح

«منظومة القواعد الفِقهيَّة»
-للإمام السَّعدي-
-رحمهُ الله-


[الـدَّرس السَّـابع]

(الجزء الأوَّل)


لفضيلة الشَّيخ

مشهور بن حسن آل سلمان
-حفظه الله-



15. قَــاعِـــدَةُ الشَّريعـــةِ التَّيْسِـيـرُ ... فـِي كُـلِّ أَمْــرٍ نَـابَــهُ تَـعْـسِـيــرُ
16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ ... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ
17. وَكُـلُّ مَحْـظُــورٍ مَـعَ الضَّــرُورَهْ ... بِقَــدْرِ مَــا تَحْتَــاجُــهُ الضَّــرُورَهْ
18. وَتَرْجِــعُ الْأَحْـكـامُ لِـلْـيَـقِـيـنِ ... فَــلَا يُــزِيــلُ الشَّــكُّ لِلْيَـقِـيــنِ


إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.

أما بعد:
اللهم لا تعذِّب لسانًا يُخبر عنك، ولا عينًا تنظر في عُلوم تدلُّ عليك، ولا قدمًا يمشي إلى خدمتك، ولا يدًا تكتب حديث رسولك -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
القواعد الفقهية الكُلية الكثيرة، ومن بينها أن المشقة تجلبُ التيسير، وذكرنا أنواع المشقة، وذكرنا أن العلماءَ يقولون: ضروريَّات وحاجيَّات وترفيهيَّات أو تحسينيَّات، وأن الحاجيات تلحق بالضروريات.
ومن محاسن شرعنا أن الله جل في علاه ما أنزل الشرعَ إلا لمصلحتِنا، فرفع عنا المشقَّات، ورفع عنا المؤاخَذات، ورفع عنا ما لم نُطِقه.
ولذا: ثبت في «صحيح مسلم» أن الإنسان لما يقرأ في أواخر «البقرة»: {ولا تُحَمِّلنا ما لا طاقةَ لنا به} فيقول الله تعالى: «قد فعلتُ»؛ فالله لا يحمِّلنا ما لا طاقة لنا به.
ولذا: متى اشتدت الضروريات أو الحاجيات؛ فحينئذ يجوز ارتكاب المحظورات، وفي حال الارتكاب مع وجود الضرورات أو الحاجيات؛ فلا يُسمى هذا الارتكاب حرامًا، وكل هذا فصَّلناه فيما مضى.
وآخر ما ذكرنا في الدرس الماضي: البيت السابع عشر، بعد أن ذكرنا:
16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ ... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ
قلنا هذا البيت يتضمن قاعدتين: القاعدة الأولى؟ [..مداخلة..]
وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ
إيش هذا البيت؟
الواجب الشرعي قدر الاستطاعة، ولا واجب مع عجز، متى وُجد العجز؛ فلا واجب، لا تكليف مع عجز، هذا ذكرناه في الشطر الأول من هذا البيت.
والشطر الثاني:
... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ
أن الضروريات تبيح المحظورات، وقلنا هذه قاعدة كُلية، وأن الحاجيات تلحق بالضروريات، وفصلنا معنى الضروريات ومعنى الحاجيات.
أي؛ نعم.
يأتي بعد ذلك أن الحاجيَّات تُبيح المحظورات، هذه القاعدة ليست على إطلاقها؛ وإنما تُقيَّد بقاعدة أخرى، ذكرها الناظم في البيت السابع عشر؛ فقال:
17. وَكُـلُّ مَحْـظُــورٍ مَـعَ الضَّــرُورَهْ ... بِقَــدْرِ مَــا تَحْتَــاجُــهُ الضَّــرُورَهْ
هذا البيت يتضمن قاعدة مهمَّة، مقيِّدة لقاعدة (الضروريَّات تُبيح المحظورات)، وهذه القاعدة تقول: (الضرورة تقدَّر بقدرها).
فليس للإنسان إن هجم على الحرام للضرورة، فليس له أن يسترسل، وليس له أن يأخذ منها دون ضوابط؛ وإنما الضابط أن الضروريات تُبيح المحظورات بمقدار الضرورة، فمتى سُدت هذه الضرورة؛ فلا يجوز أن نتعدَّاها، ولا يجوز أن نزيد عليها.
فمثلًا: الميتة.
الميتة لا يجوز للإنسان إذا اضطُر أن يأكل من الميتة وخاف الهلاك أن يأكل وأن يَحمل معه الميتة، ويضعها في الثلاجة، أو يأكلها في الطريق، هذا ممنوع، هو يأكل بمقدار ما يسدُّ الرمق، أو بِمقدار -على أرجح الأقوال-وهو اختيار إمام الحرمَين-كما ذكرنا- يأكل بمقدار ما يسعفه أن يصل إلى المكان الناجي الذي ينجِّيه، وإن زاد وأخطأ في التقدير، فإن الله لما أحلَّ أكلَ الميتة فوصف ذلك مِن غير بغيٍ ولا عدوان ثم قال: {إنَّ اللهَ غفورٌ رحيم}؛ لأن الإنسان قد لا يضبط ما يحتاج.
فالضرورة لا بد أن تكون بمقداره، حتى إن العلماء رحمهم الله تعالى لما ذكروا أكل الميتة؛ ذكروا ضوابط كثيرة، فذكروا الضابط الأول مثلًا قالوا: لا يجوز للمضطر أن يتناول طعام مضطر غيره، لو وُجد اثنان، ووُجد طعام لواحد؛ لا يجوز للواحد منهم أن يسرق طعام الثاني وإلا تعدى عليه؛ ولذا: أكل الميتة مقدَّم على السرقة، وحُل الجواب السابق الذي طُرح في المرة السابقة.
ولا يجوزُ له أن يَقتل الآدمي حتى يأكل لحمه، لو كانوا مجموعة نقول: نذبح فلانًا ونأكله! حياتك ليست مقدَّمة على غيرك!
وقد فصَّل في هذه المسألة تفصيلًا بديعًا الإمام الغزالي في كتابه «شفاء العليل»، واستهجن واستنكر استنكارًا كثيرًا من زعم -وهو قول شاذ عند الفقهاء- أنهم إذا كانوا مجموعة من الآدميِّين وجاز لهم أن يهجموا على الحرام؛ أن يذبحوا واحدا منهم وأن يأكلوه! هذا الكلام أبدًا غير مقبول، أصلا ما أُحلت أكل الميتة إلا من أجل الحفاظ على الآدمي، ولا نُحسن كيف نحافظ على هذا الآدمي، ولا يجوز أن نقتحم المهالك لقتل آدمي؛ بل هذه الميتة من أجل إحياء الآدمي.
وكذلك يذكرون أنه لا يُشترط تيقُّن الهلاك حتى يأكل المضطر من الميتة؛ وإنما يكفيه غلبةُ الظن، لا يَلزم أن يقع الهلاك المتحقِّق، فغلبةُ الظن في جواز أكل الميتة وتناوُل الميتة؛ يكفي إن شاء الله تعالى.
وكذلك ذكرنا إن استبيحت المحرَّم من الميتة لا يجوز تخزينها ولا يجوز حملُها ولا يجوز التزود منها، يعني أن تأكل حتى تمتلئ؛ لا، ما يجوز هذا.
والعلماء يذكرون أيضا -من باب الاستطراد- أن هذا يجوز في الحضر والسفر وليس خاصا بالسفر، ويمثِّلون على هذا بمن غص بلُقمة فلم يجد ما يسلِّك هذه اللقمةَ إلا الخمر؛ فإنه يجوز له أن يتناول من الخمر بمقدار ما يُسلِّك هذه اللقمةَ، فهذا أمرٌ ليس خاصًّا بالسفر؛ وإنما هو الهجوم على الضرورة، أيضا هذا أمر عام في الحضر والسفر.
هنا تأتي -في الحقيقة- بعض الأشياء المهمة التي تحتاج إلى فطنة، وتحتاج إلى توفيق من الله سبحانه وتعالى، وأنا أرى أن الفقهاء في هذا الزمان، المتساهل منهم والمتشدِّد من لم يضبط القواعد العِلميَّة، أو قُل -بتعبير أدق-: التطبيقات على القواعد العلمية عند السابقين في موضوع ضبط الحاجية أو الأمر الترفيهي، فتجد في بعض الفتاوى تشدُّدًا، وتجد في بعضِها تساهلا، فما لم يُضبط هذا الباب بضوابط جيدة، وأن يكون الإنسان يُحسن كثرة النظر، وإدمان النظر في تفريعات الفقهاء وتطبيقاتهم على القواعد؛ فتخرج عندنا مسائل شاذة وشاذة على وجه كبير؛ لذا فيه -الحقيقة- جملة مسائل تحتاج لتدقيق في النظر في كثير من الأبواب الفقهية.
فمثلا يَذكرون من ضمن الضوابط، يقولون: (ما أُبيح سدًّا للذريعة جاز للضرورة).
ننظر مثلا في موضوع التصوير: هل التصوير محرَّم لذاته؟ أم أنه محرَّم سدًّا للذريعة؟
التصوير إن كان محرَّمًا سدًّا للذريعة؛ فينبني على ذلك آثار، وإن كان التصوير محرمًا لذاتِه؛ ينبني على ذلك آثار.
ولستُ بصدد الكلام في التصوير شديدًا، ولكن بلا شك ثبت في «صحيح مسلم» أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- نهى عن التصاوير والتماثيل، وثبت في «صحيح البخاري» أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: «أشد النَّاس عذابًا المصوِّرون»، وجاء رجل لعبد الله بن عباس -والقصة في «صحيح البخاري»-، وكان يتأكل من التصوير، من الرسم والنحت، كان يتأكل منه، فسأل ابنَ عباس عن مهنته؛ فقال ابنُ عباس رضيَ اللهُ تعالى عنه: إني سمعتُ رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول: «مَن صوَّر صورةً فيؤمَر يوم القيامةِ أن ينفخَ فيها روحًا وليس بِنافخ»، قال: فشهق الرجل شهقةً واصفرَّ لونُه، ثم قال له عبد الله بن عباس رضيَ اللهُ تعالى عنهما: يا ابن أخي! عليكَ برُسومِ ما ليس فيه روح كالأشجار. ما ليس فيه روح كالأشجار؛ فلا حرج.
فالتصاوير رخَّص فيها النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بالرقم في الثوب، الشيء الذي يبقى في الثوب، وأن لا يكون صورة لها ظل، ولا تكون صورة شاخصة؛ وإنما تكون صورة برقم في الثوب، موجودة في الثوب.
وفي «موطأ مالك» -وأصل القصة في «صحيح مسلم»-: أن أبا طلحة الأنصاري رأى رجلًا جالسًا على بساط فيه تصاوير، وكان في هذه التصاوير رقم في الثوب، فأخذها من تحته، ونزع هذه الصورة، فقال له سهلُ بن حُنيف رضيَ اللهُ تعالى عنه: ألم ينهَ النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- عن التصاوير وقال: «إلا رقمًا في الثوب»؟ فقال أبو طلحة: بلى، ولكن هذا أطيبُ لنفسي.
فبما أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- رخَّص نوعًا من أنواع التماثيل وهي ألعاب الأطفال، وزُفت عائشة -كما في «سنن أبي داود»- وكان بأيديها ألعاب، ورخَّص النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- الرقم في الثوب؛ فدلَّ هذا الترخيص على أن المصوَّرات ليست محرَّمة لذاتِها؛ وإنما هي محرَّمة سدًّا للذريعة؛ خوفًا أن يتخذ النَّاس الأصنام، وهكذا بدأت -كما في «البخاري» عن ابن عباس- عبادة الأصنام، اتخذ النَّاس تصاوير لأناس صالحين، ثم أرادوا أن يُخلِّدوا ذكراهم -كما يقولون في عبارات اليوم-العبارات الدارجة- وبقيت هذه التماثيل، حتى أصبح النَّاس يقولون: {إنَّما نَعبدُهم ليقرِّبونا إلى الله زُلفى}، فنحن عُصاة ولا نستطيع أن نعبد الله مباشرة فلا بد أن نتخذ وسائط بيننا وبين الله!
هكذا بدأت الأصنام تُعبد.
وقد يقول قائل: نحن في عصر حضارة، وفي عصر عِلم، ولا يوجد أصنام!
النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أخبرنا: أنه في آخر الزمان «لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دَوس على ذي الخَلصة» وذو الخلَصة:صنم، ونساء دَوس إليتهن تضطرب بالعبادة والتعظيم والانحناء لهذه الأصنام، وأن النَّاس في آخر الزمان سيعودون ويعبُدون الأصنام، والحديث في «الصحيح».
ولذا: التصاوير قال غيرُ واحد من أهل العلم: بما أن النَّبي رخَّص في نوعٍ منها؛ فدل ذلك على أن الأصل فيها ليست الحُرمة؛ إنما حُرمت سدٍّا للذريعة.
ولذا قالوا: ما حُرم سدٍّا للذريعة أُبيح للضرورة.
إيش الضرورة؟ لو أردنا التطبيقات العملية اليوم:
يعني الذكرى ضرورة؟ يعني أتخذ صورة قريبي أو حبيبي أو صديقي، وأجعله في ألبوم صور عندي، هذه ضرورة؟!! ليست بضرورة.
من أحب النَّاس إلينا؟ رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، صحيح؟ وأصحاب النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بعده، صحيح؟ تجدون حبًّا في قلوبكم أشد من حب النَّبي وصحبه والأنبياء؟ لا والله لا نجد، وليست لهم صُور، ليس لهم صُوَر.
فالألبومات، وتعليق الصور على الجدران والحيطان، هذه ليست ضرورة، ولا حاجية.
طيب؛ أن تتخذ الدولة الصوَر، وتضبط رعاياها، وتضبط الدخول والخروج، ويعرف المجرِمون الذين يعتدون على أرواح الناس، ويُعرف -من خلال هذه الصُّوَر- المجرِمون يعتدون على أعراض وأموال النَّاس ونفوس الناس، هذه ضرورية ولا حاجية؟ حاجيَّة في أصلها، مع كثرتها تُصبح ضرورة، في أصلها كإجراء احتياط حاجية، لكن مع وجودها وكثرتها؛ قد تُصبح ضرورة، ويترتب على عدم وجودها: فقدان أمن، واعتداء على أرواح، أو على أبدان، أو على أعراض، أو اعتداء على أموال، والشريعة جاءت تحافظ على الأبدان، تحافظ على الأعراض، وتحافظ على العقول، وتحافظ على النَّسل، وتحافظ على المال، هذه مقاصد الشريعة الكُلية.
فموضوع الصورة للحاجة والضرورة لا حرج فيها.
تبقى في بعض المسائل: مثل الصورة للتعليم، الصُّوَر التي تُنصب للتعليم، ليتعلم الطلبة، ويتعلم الصغار بعض الأشياء، فهذه الصُّور -ولا سيما مع الآلات الحديثة التي لا تُحفظ، ولا تبقى ثابتة-؛ فأمرها مع الضرورة يُتوسَّع فيها، لا تبقى ثابتة، الصوَر التي توجد في أجهزة الحاسوب، وفي شاشات العرض الموجودة اليوم؛ لا حرج في ذلك.
بل سمعتُ شيخَنا رحمهُ اللهُ تعالى يقول: لو وُجد إعلام صحيح هادف، يعلِّم النَّاس دينَهم؛ لعلِّي أفتي في يوم من الأيام بوجوب حضور التلفاز وما شابه، إذا ترتَّب على هذا تدريب النَّاس على فهمِ الدِّين .. وإلى آخره.
فالإنسان يفهم في الصورة ما لا يفهم في غيرها.
فلما كان تحريم التصوير سدًّا للذريعة؛ جاز للحاجة والضرورة، ولكن الضرورة تُقدَّر بقدرها، وأرجو الكاميرا التي أمامي تكون من باب القدر، أرجو الله أن يكون الأمر كذلك.
وإلا: الصُّورة من الفِتن التي عمَّت وانتشرت، وفي فهمي: أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في «صحيح البخاري» لَما قال لبعض الأصحاب قال له: «اعدُد ستًّا بين يدي الساعة» وقال: «وفتنةٌ لا تَدَعُ بيتًا إلا دخلته» فلعل هذه الفتنة فتنة التصوير.
ما يلحق بهذا: ما حُرِّم سدًّا للذريعة أيضا في بعض صُوَر الغَرَر.
ففي «صحيح مسلم»: عن أبي هريرة: أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- نهى عن الغَرَر، والغرر ما جُهلت عاقبتُه، سلعة تشتريها ولا تَعرف مقدارها، لكن إذا كان الخلاف يسيرًا، وكانت العلاقة بين الطرفَين قائمة على مُسامحة لا مُشاحَّة؛ فمثل هذه الأشياء أيضا تدخل تحت الضرورة، أو يُتعامل معها معاملة الحاجيَّات.
والتطبيقات كثيرة في هذا الباب.
مثل مثلًا: أساس البيت ما يُرى، لكن يجوز أن أشتري البيت وأساسه غير ظاهر لي، صحيح؟ لأن الأصل في الأساسات أن تقوم على وفق قواعد هندسية صحيحة.
بيع الموصوف في الذمة الذي ألحقه الفقهاء بالسَّلَم، بيع المعدوم مرفوض شرعًا؛ غرَر؛ أن يبيع رجل آخرَ سمكًا في ماء، أو طيرًا في هواء قبل أن يحوزه وقبل أن يكون في ملكه؛ هذا مرفوض شرعًا، لكن أن أبيعك خزان ماء، أو أبيعك خزانة ملابس، غير موجودة صحيح؟ موجودة ولا غير موجودة؟ لما يتفق الحداد أو النجار على بيع خزانة، أو بيع خزان ماء، أو ما يلحق بهذا، الذي يسمونه التفصيل اليوم، هذا يلحق بإيش؟ يلحق ببيع السَّلَم، الشيء المفقود الموصوف في الذمة، فإذا وُصف وصفًا يقطع النِّزاع بين البائع والمشتري؛ فإن هذا الوصفَ الذي يقطع النزاعَ حينئذ يجعل السلعةَ كأنها موجودة.
ويلحق هذا بما يُسمى عند الفقهاء -كما قال مالك في «الموطأ»- ببيع الأنموذج، بيع البرادي والقماش ...، عنده نموذج، يعطيك نموذج من قماش، تنظر في الأنموذج وتشتري على الأنموذج الذي يسمونه اليوم الكتالوج -بتعبيرنا الدارج-، فبيع الكتالوج هذا يفصل النزاع.
ويلحق بهذا ما يقوم على المسامَحة لا المشاحَّة وإن لم تتحقق به الضرورة؛ لأن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- لما نهى عما كان مجهول العاقبة، هذا معقول المعنى، ويلحق بهذا -في التطبيقات العصرية-اليوم-: البوفيه المفتوح.
البوفيه المفتوح: السلعة ستأخذها غير معروفة، السلعة التي راح تأكلها مش معروفة، قد يأكل اثنان، وأحدهما يأكل ثلاثة أضعاف الآخر، والمبلغ واحد، هو في الأصل غَرر، لكن طبيعة العلاقة بين الآكل وصاحب المطعم، العلاقة إيش طبيعتها قائمة على المسامحة ولا على المشاحة؟ المسامحة، من مروءات النَّاس أن الطعام قائم على المسامحة لا المشاحة، وبالتالي البوفيه المفتوح وإن فيه غَرر؛ لكن الغرر معفو عنه.
وكذلك كل معاملة يمكن أن تُضبط بأي ضابط، ولو كان الضابط عُرفيًّا.
مثل: واحد راكب باصا وأخذ التذكرة، نزل في ربع الطريق، وآخر نزل في نصف الطريق، وآخر نزل في آخر الطريق، والدفع واحد، لكن هذا أصبحت أعراف.
مثل: استهلاك الماء، واستهلاك الكهرباء، أنت ما تدري كم ستستهلك ولا لا؟ تعرف كم ستستهلك ماء أو كهرباء؟ ما تدري، لكن هذا ضُبط بإيش؟ ضُبط بالعدَّادات والأرقام، وهناك تسعيرات للعدَّادات؛ مثل ما اتفق علي رضيَ اللهُ تعالى عنه مع اليهودي لما كان فقيرًا أن يَنزع له من بئرٍ ذَنوبًا من ماء واتفق معه على كل دلوٍ تمرة، كلما ما نزع له دلوًا يأخذ تمرة، كلما ما نزع له دلوًا يأخذ تمرة، فمتى انتهت عدد الدِّلاء أخذ التمر، وهكذا في موضوع عدادات الماء، وعدادات الكهرباء؛ فهذه كلها تُنزَّل منزلة الحاجيات، أو توصَف بشيء معلوم، وبشيءٍ يقطع النِّزاع، ويكون هذا الوصف في الذمة يقوم مقام الأمر الحاضر، ليس الأمر الغائب أو الأمر المجهول.
التطبيقات على مسألة الضرورة تقدَّر بقدرها كثيرة وكثيرة جدا.
المرأة لما يموت زوجُها؛ الواجب عليها إيش؟ أن تعتدَّ، ومِن عدَّتها أن تبقى في بيتها ولا تخرج، وألا تتشوَّف للأزواج، يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}، فالواجب على المرأة أربعة أشهر وعشرا من وفاة زوجها تنتظر تبقى في بيتها، لكن هنالك ضروريات في الحياة، وإن لم تكن ضرورات هناك حاجيات.
امرأة زوجها فقير، مات، هي تعمل موظَّفة، تخرج للوظيفة لا حرج.
لكن الخروج بِمقدار الضرورة، يعني مجرد ما تنتهي دوامها.. وأنا أتكلم عن العمل الشرعي، لأن العمل غير الشرعي أصلا غير مشروع في حياة الزوج وبعد وفاة الزوج.
امرأة مدرِّسة مات زوجها، والله أمرها أن تعتد أربعة أشهر وعشرا -بالهجري لا الميلادي- من وفاة زوجها، تقول: أنا ما أستطيع آخذ إجازة أربعة أشهر وعشرا، إيش أعمل؟ وما أستطيع أستغني عن الوظيف الأولاد يضيعون، إيش أعمل؟ نقول لها: اخرجي، واذهبي لعملي بمقدار الضرورة، متى انتهى العمل ترجعين للبيت، الضرورة تقدَّر بقدرها، الحاجية تقدَّر بقدرها، أصبح فيه ضرورة عند هذه المرأة المعتدَّة، هذه المرأة عندها حاجيَّة من الحاجيات، اخرجي بمقدار الحاجة هذه، ثم مجرد ما ينتهي الدوام ترجعين للبيت.
منع النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- -في «سنن النسائي»- المرأة المعتدة أن تلبس الزاهي من الثياب وأن تختضب وأن تكتحل وأن تتطيب، يعني منعها أن تتشوَّف للرجال، وأم السنابل رضيَ اللهُ تعالى عنها لما مات أبو السنابل خرجت للنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وخرجت تسأله عن عدتها، فأجابها النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- تعتد أربعة أشهر وعشرا، وقال لها -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «امكثي في بيتك» ولم يزجرها، ولم ينهها عن الخروج.
فإذا اضطرت المرأة أن تخرج للفتوى لنازلة تنزل بها؛ فلا حرج.
تحتاج المرأة أن تذهب للطبيب، تعود مريضا -أعني المعتدَّة- لحاجة؛ لا حرج، لكن تكون بمقدار الضرورة.
طيب؛ امرأة احتاجت أن تختضب أو أن تكتحل، وكانت معتدة، وكان الاختضاب والاكتحال تطبُّبًا لا تجملًا؟ تفعله من باب التطبُّب، ممنوع ولا مشروع؟ مشروع.
حاجية تقدَّر بقدرها.
وفي الحديث نفسه: لما انتهت عدة أم السنابل اكتحلت وخرجت، تتشوَّف الأزواج، وفي هذا فوائد.
ومن الفوائد الحسنة التي نبَّه عليها ابن الخطَّاب في كتابه العجيب «إحكام النظر بحاسة البصر» قال: أنه يجوز للمرأة المخطوبة أن تَظهر على خطيبها بشيء مِن زينة، يعني لو اكتحلت، لو خرجت بِلباس مُنمَّق، لا تُظهر عورة، تظهر الوجه والكفين فقط، لكن من غير أن يظهر لها عورة، لا تظهر شعرًا، ولا تُظهر شيئا من بشرتها، لكن المرأة لما تخرج على خطيبها في شرعنا ليست كما لو خرجت في الشارع على الأجانب، صحيح؟
أم السنابل اكتحلت وخرجت تتشوَّف للأزواج، هي طلبت، والمرأة ذات الأيتام تحتاج إلى زوج؛ بل كل امرأة في الدنيا تحتاج إلى زوج، فاكتحالها محمول على هذا الأمر.
وهذا أمر لا تُذم به النساء، بل يُحمد به النساء، أن تكون المرأة التي مات عنها زوجها تطلب الزوج أمرٌ محمود وليس بِمذموم، إلا إذا وُجد الكبت، ووُجد مصادمة الفطرة، ومُصادمة الطَّبع، ومُصادمة الغريزة، ومُصادمة الحاجة، وإدخال العَنت والمشقة، تحت ستار يسمى العيب والعُرف والعادة؛ فهذه أشياء مهترئة لا وزن لها في ديننا، وينبغي أن نزِن الأمور بما يَرفع عنا المشقة، ويرفع عنا أي حاجة، ويرفع عنا الآصار والأغلال، فالله جل في علاه رفع عنا الآصار والأغلال.
طيب؛ مَن أبيح له الفطر بعُذر، هل هذا الأمر على الإطلاق ولا بمقدار الضرورة؟
رجل مرض، فأفطر، فمتى رُفع عنه المرض وجب الصيام، فالمرض يكون بمقدار.. وكذلك استخدام الماء في التيمم يكون بمقدار الضرورة، {فإن لم تَجِدوا ماءً فتيمَّموا}.
طيب لو سألكم سائل فقال: المريض يجدُ الماء، فكيف يتيمَّم؟ الله يقول: {فإن لم تَجِدوا ماءً فتيمَّموا} والمريض يجد الماء، فكيف الجواب...؟ المريض الماء بجانبه، إن استخدمه أدخل استخدامُه عليه حرجًا، هل له أن يتيمَّم؟
طيب؛ أنا أريد الآن أتعنَّت الله يقول: {فإن لم تَجِدوا ماءً فتيمَّموا} وهذا واجد، فأريد منكم دليلا على جواز مثل هذا الأمر، الله يقول: {فإن لم تَجِدوا} وهذا المريض واجد الماء، فكيف تجيبون؟ وماذا تقولون؟
[مداخلة: الآية في سورة النساء: {ولا تقتُلوا أنفسَكم إنَّ الله كان بكُم رَحيمًا}..] يعني أنت استدللتَ بآية أخرى، الآية التي استدللت بها عامة، صحيح؟ حُرمة إلقاء النفس للهلاك وما ورد في هذا الباب من نصوص -آيات أو أحاديث-.
تفضل!
[مداخلة: ...] كان به شجة في رأسه، وإيش صار معه؟ فسأل الأصحاب ولم يكونوا فقهاء، فلم يجوِّزوا له إلا استخدام الماء، مثل مسألتنا هذه، فإيش عمل؟ اغتسل، فإيش قال لهم النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-؟ قال: «قتلوه قتلهم الله، إنما شِفاء العي السؤال»، جعل النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- الجهلَ مرضًا، قال: «إنما شفاء» إيش يقابل الشفاء؟ المرض.
المريض الجاهل إيش روشيتة الطبيب؟ السؤال، أقل شيء السؤال، أقل مقدار واجب في العلم السؤال «إنما شِفاء العي السؤال».
طيب؛ نرجع للآية، هل الحديث يوافق الآية، أم يخالف الآية، أم شيء زائد عن الآية؟ هم وجدوا الماء، النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- طلب منهم أن يُفتوه بالتيمُّم، طيب؛ هل طلب النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أن يُفتوه بالتيمُّم شيء زائد عن الآية أم من معاني الآية؟
[مداخلة: من معاني الآية].
من معاني الآية وليس شيئًا زائدًا عن الآية، يعني النَّبي أفتاه بالآية، وإن لم يذكر الآية.
فيه شيء مُتعب يحيِّر كل طالب علم، ووجدتُ عبارة للشافعي، أظن لو أن علماءَ الأمة اجتمعوا في صعيدٍ واحد وأرادوا أن يُطبِّقوها؛ ما استطاعوا!
قرأتُ في «الموافقات» للشاطبي، يقول عن الشافعي: ما مِن حديث إلا وله صلة بالآية علِم من علِم، وجهل من جهل.
وهذا شيء عجيب، تطبيق هذا العموم شيء عجيب!!
طيب؛ كيف أن الحديث يوافق الآية، والأصل الموافَقة لا المخالَفة، كيف؟ على أي قاعدة اعتمدتَ؟ جوابك صحيح، لكن ما هو تأصيل هذا الاعتماد؟
[مداخلة: {فإن لم تجِدوا} نكرة..].
وين النكرة {فإن لم تجِدوا}؟
[مداخلة: الواو في (تجدوا)].
فاعل (تجد) إيش؟
[مداخلة: الواو].
تعود على أشخاص معيَّنين أم نكرات؟
[مداخلة: نكرات].
والنكرة في أي سياق؟ الشرط، {فإن لم تجِدوا ماءً} تفيد العموم.
[مداخلة: الفقدان المعنوي والحِسِّي].
أحسنت!
{فإن لم تجِدوا فتيمَّموا} (تجِدوا) هذه الواو هو الفاعل في (تجد) نكرة، وليست أناسا معلومين، وجاءت النكرة في سياق الشَّرط، والنكرة في سياق الشَّرط والنفي والنهي-كما سيأتينا في ضمن القواعد المتأخرة في هذه المنظومة- من ألفاظ العموم.
فالمعنى: إن لم تجدوا سواء كان عدم الوجود وجودًا ماديًّا كأن تفقد الماء حسًّا، أو أن يحول بينك وبين الوصول إليه مُخاطرة -مثل سبُع، أو قتل-، فالماء موجود لكن أنا لا أستطيع أن أصل إليه، أو الثمن المرتَفع.
وستأتينا من مضمون القواعد القريبة ذكرها إن شاء الله تعالى -ولعلها تكون من نصيب الدرس القادم- أن من لم يجد ماء، ولا تصح له صلاة إلا بطلب الماء، فإن وجده بسِعر مثله، بسِعره المعتاد، أو زيادة طفيفة عليه؛ وجب عليه شراؤه، لكن لو كان الماء غير موجود، أو موجود ولا تستطيع أن تصل إليه بأضعاف أضعاف الثمن، أو بوجود مانع يحول دونك ودون وصوله؛ هذا فقدان حسي.
والفقدان الآخر: فقدان معنوي، إيش الفقدان المعنوي؟ أن تجد عَين الماء، ولكنك لا تستطيع أن تستخدمه لتأخير برء، أو لحصول داء.
إن استخدمته تأخر بُرؤك، أو إن استخدمته؛ حصل لك داء..
فهذه الصُّوَر كلها يشملها قول الله تعالى: {فإن لم تجِدوا ماءً فتيمَّموا}، فالوجود عام يشمل الوجود المادي، ويشمل الوجود المعنوي.
طيب؛ نأتي مثلا لقول الله تعالى: {فإنْ أطَعْنَكم} يعني: النساء {فلا تَبغُوا عليهِنَّ سبيلًا} فالأصل الطلاق الحظر والمنع، والطلاق الكسر، وإذا جاز لك أن تعظ المرأة أو أن تهجرها في المضطجع أو أن تضربها إن نشزت ولم تُطع؛ فهذا الضربُ هل هو على إطلاقه؟ ليس على إطلاقه؛ وإنما هو يُستخدم بمقدار الضرورة، إيش مقدار الضرورة؟ متى رجعت للطاعة؛ حرُم عليك أن تبغي عليها السبيل، حرُم عليك الضرب، حرُم عليك الإيذاء، حرم عليك الطلاق، حرم عليك أي شيء، أن تؤذيها {فإنْ أطَعْنَكم فلا تَبغُوا عليهِنَّ سبيلًا}.
وذكرنا مثلا: تأمين السيارات في هذا الزمان، وقلنا: التأمين على السيارات، أصبحت السيارات اليوم ضرورة ولا حاجيَّة؟ حاجيَّة وليست ضرورة، الضرورة قلنا يترتب على تعطُّل أو عدم وجود الضرورة هلاك أو موت أو بتر عضو من الأعضاء، هذا الضرورة، والحاجية يترتب على عدم تحققها مشقة زائدة، وتكاد تتعطَّل مصالح العبد في حياته.
فاليوم السيارات من الحاجيَّات في حق كثير من الناس، أو في حق أغلب النَّاس السيارات من الحاجيَّات، فلا يجوز لواحد يقول لنا: حرام اقتناء السيارة، ليش حرام اقتناء السيارة؟ قال: حرام اقتناء السيارة لأنه إذا اقتنيتَ السيارة أنت تؤمِّن على السيارة، والتأمين على السيارة حرام.
طيب؛ التأمين على السيارة حرام، الآن إذا حرَّمنا اقتناء السيارة إيش يترتب على هذا؟ مشقة، والشرع جاء برفع المشقة، والمشقة تجلب التيسير.
ولذا: جاءت قاعدة (الحاجيَّات تُنزَّل منزلة الضروريات) وقاعدة (الضروريات تبيح المحظورات).
لكن: الضرورة بقدرها، إيش يعني الضرورة بقدرها؟ لو سُئلتَ يا طالب العلم: أنا أمامي نوعين من التأمين -تأمين شامل وتأمين ضد الغير- إيش لازم تؤمِّن؟ ضد الغير، ليش؟ لأننا جاوزنا الضرورة بمقدار الحاجة، وتندفع الضرورة التي تترتب عليها اقتناء السيارة بالتأمين ضد الغير، فيحرُم التوسُّع فيها.
أما تحريم اقتناء السيارة من أجل التأمين؛ فهذا ما لا يضبط محاسن الشريعة، فالشريعة كلها محاسن، والشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، وليست الشريعة فقط تأتي بدرء المفاسد، وحال من يُفتي بتحريم السيارة كحال الذي يحرِّم الذهاب للمسجد مخافة النظر إلى امرأة متبرجة! قال إذا ذهبتُ إلى الجماعة أنظر إلى امرأة متبرجة، وإذا ذهبت إلى صلاة الجمعة أنظر إلى امرأة في الطريق متبرجة وهذه تغريني في ديني!
هذه مفسدة مغمورة، وأنت تخرج ليس في بالك هذا، وإن وقع هذا في الطريق، فهذا وسيلة أنت مضطر إليها، لكن المصلحة المعتبرة هي القائمة.
مثل إنسان يأتي على الدرس، يركب الباص، ويسمع في الباص الغناء، وأنت ليس في بالك غناء ولا تسمع الغناء، ولا شيء، لكن أنتَ سُمِّعت الغناء، فهذه مفسدة مغمورة لا وزن له.
فينبغي أن تُضبط هذه الأمور.
وأعجبني كلامًا وظَّفه الإمام الشاطبي في «موافقاته» عن الإمام ابن العربي المالكي، ابن العربي يذكر حُرمة دخول الحمامات العامة التي كان يغتسل النَّاس بها قديمًا من غير مئزر، ثم يذكر أنه في زمنه اشتهرتْ كشف العورات في الحمامات، صار كل من يدخل الحمام يرى الرجال، يرى تهتُّكًا وتساهلا، ويرى عورات للرجال في هذه الحمامات.
فيقول ابن العربي -وينقل عنه الشاطبي في كتابه «عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي»- ينقل: أنه هل يجوز الآن دخول الحمامات أم لا؟
فابن العربي يقول: لا حرج، لأن العادة بهذا التهتُّك لا تقع مفسدة في حق الرجال، الرجل لا يُغري الرجل، والمخالفات شاعت وذاعت، والواجب على من يدخل أن يغض بصره، وأن ينصح ويأمر وينهى بالمقدار اللازم، ويترتب على الحرمة تعطيل بعض [المصالح] المعتبرة.
الشاطبي ينقد كلامه، ثم يقول -بتعليق بديع جدًّا في كتابه «الموافقات»-طبعا أن أتكلم بمفاد كلامه ومعناه-، يقول: أخشى أن يأتي يوم على المسلمين تكون مجتمعاتهم بأسرها مثل حمامات ابن العربي!!
هؤلاء مِمَّن وفقهم الله، ومِمَّن سبقوا زمانَهم، ومِمَّن أصَّلوا وقعَّدوا -أمثال الشَّاطبي، وأمثال ابن تيمية، وأمثال ابن القيِّم-، واللهِ يتكلَّم بكلام تعجب منه، يتكلم عن كلام يسبق زمانه بعُقود، وأحيانًا بمئات السنين، هذه البصيرة التي ينظر فيها المؤمن، والتأصيل العلمي، وبركة التأصيل العلمي، وبركة أن تكون النفس شبعانة من النصوص الشرعية، فكلما كان الإنسان شبعان بالنصوص وتطبيقات العلماء؛ كلما فتح الله بصيرتَه وكلما سبق زمانَه!
ولذا: نحن نجد عبارات عند علمائنا السابقين من أعجب ما يكون!
مشكلة اليوم: اختلاف المطالِع، وواحد يذهب من بلد لبلد ويجدهم صيام، وهناك إفطار، وقصص وحكايات.
السيوطي له رسالة مطبوعة في «الحاوي للفتاوي» سماها «تنوير الفلك في تطوُّر الملَك» -أو شيء بالمعنى-، يقول: لو أن رجلًا وليًّا طار من بلد إلى بلد وكان البلد الذي فيه صيام، ثم ذهب إلى بلد فطار فيه فكان إفطار، إيش يعمل؟! وبدأ يتكلم بكلام كثير يلزم أحكام الطائرات في هذا الأيام!
فالشاهد أن شريعتنا غنية ولكن نحن إن شاء الله تعالى نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكشف عن بصيرتنا، ويرفع الران والجهل عن قلوبنا وعقولنا، وأن يرزقنا إن شاء الله تعالى العلم النافع، وأن يجعلنا ممن ينفع الله بهم البلاد والعباد وأن يرزقنا إن شاء الله تعالى حتى ينفع بنا الأجيال القادمة.
البيت الثامن عشر:
18. وَتَرْجِــعُ الْأَحْـكـامُ لِـلْـيَـقِـيـنِ ... فَــلَا يُــزِيــلُ الشَّــكُّ لِلْيَـقِـيــنِ
(وَتَرْجِــعُ الْأَحْـكـامُ لِـلْـيَـقِـيـنِ)
الأحكام: حُكم، أحكام، إيش الأحكام هذه؟ جمع التكسير، الفعل يكون مذكَّر ولا مؤنث؟ التأنيث أقوى (وَتَرْجِــعُ)، {قالتْ رُسُلُهم أفي اللهِ شك} الرُّسل جمع تكسير، والله إيش قال عنها؟ {قالت} تأنيث ولا تذكير؟ جمع التكسير يكون الفعل فيه للتأنيث؛ ولذا: (وَتَرْجِــعُ) أحسن.
(وَتَرْجِــعُ الْأَحْـكـامُ لِـلْـيَـقِـيـنِ ... فَــلَا يُــزِيــلُ الشَّــكُّ لِلْيَـقِـيــنِ)
هذه قاعدة مهمة وجميلة، ولها تطبيقات كثيرة، واردة في بعض الأحاديث النبوية عن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
القاعدة تقول: (لا يزولُ الشكُّ باليقين).
(اليقين) معناه في العربية: يَقَن الماءُ؛ أي: استقر، واليقين الشيء المستقر الثابت الذي لا يقبل الزحزحة ولا الزعزعة من النفس، يعني -بتعبير سهل-: اليقين مائة بالمائة، يعني درجة اليقين مائة بالمائة.
ويبقى عندنا (شك)، ويبقى عندنا (ظن)؛ إيش (الشك)؟
(الشَّك): التردد بين الوقوع وعدم الوقوع، يعني الشك خمسين بالمائة، الظن: ستين، سبعين بالمائة، غلبة الظن: ثمانين، تسعين بالمائة.
لذا الفقهاء يقولون في الأحكام الفقهية: يكفي في الأحكام الفقهية غلبة الظن، لا يلزم اليقين في الأحكام الفقهية.
شو (اليقين) يعني؟ الشيء الثابت المستقر في النفس، لا يزول بالشك، شو (الشك)؟ الشيء المتردَّد فيه.
طيب؛ اليقين لا يزول بالشك.
أضرب لكم مثالَين -بين يدي التفصيل في القاعدة، حتى تتصوروا القاعدة ثم نبني على الكلام ونذكر بعض الأشياء-: الظن مرفوض في الشرع {إن الظَّنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئًا}، فالأصل يكون عندنا يقين أو يكون عندنا غلبة ظن.
وقد يأتي الظن بمعنى اليقين {إنِّي ظننتُ أنِّي مُلاقٍ حسابِيَه}، إيش يعني {إنِّي ظننتُ أنِّي مُلاقٍ حسابِيَه}؟ أنا متيقِّن، يأتي بمعنى اليقين.
وأما قول الله تعالى عن يونس: {فظنَّ أن لن نَقدِرَ عليه} المراد: أن لن نُضيِّق عليه في رزقه، أن لن نضيق عليه في أَمنِه، وليس ظنَّ أن الله لن يَقدِر عليه من القُدرة، فالأنبياء مُنزَّهون عن مثل هذا {يَبسُط اللهُ الرِّزقَ لِمن يشاءُ ويَقْدِر} فـ(يقدِر) عكس (يبسط)، (يبسُط) يوسِّع، و(يَقدِر) يضيِّق أو يُمسك.
أذكر لكم صورتَين:
صورة: أنت تيقَّنت أنك متوضئ، أنا متيقِّن واقف على المَجلى، أو واقف على المغسلة، أو واقف في مكان متوضئ بيقين، ماني شاكك في أني ما توضيت، ثم طرأ في قلبك أو على عقلك صورة: أنا انتقضتُ وضوئي ولا ما انتقضتُ وضوئي؟ انتقضتُ وضوئي ولا ما انتقضتُ وضوئي؟ بقيت في شك من أمرك، انتقض الوضوء ولا ما انتقض الوضوء، وأنت متيقن أنك توضأت، إيش الآن نقول عنك؟ أنت تصلي ولا لا تصلي؟ [تصلي] أنت متوضئ ولا غير متوضئ؟ [متوضئ] ليش متوضئ؟ لأن اليقين لا يزول بالشك.
طيب؛ نعكس، نأخذ صورة بالعكس:
أنا متيقن -أجلكم الله- أني دخلت الحمام وقضيت الحاجة، أنا متيقن أني دخلت الحمام وقضيت حاجة، أو أني أحدثت، لكني أنا شاك: هل توضأتُ أم لم أتوضأ، أنا شككتُ هل بعد ناقض الوضوء الذي وقع مني هل أنا بعد هذا توضأتُ أم لم أتوضأ، إيش نقول؟ توضأ، ليش نقول له توضأ؟ لأن اليقين لا يزول بالشك.
اليقين الأول كان وضوءًا، واليقين الثاني كان حدَثًا، ووقع شكٌّ بالحدَث في الصورة الأولى، ووقع شك في الوضوء في الصورة الثانية؛ فاستصحبنا في الصورة الأولى الوضوء، واستصحبنا في الصورة الثانية الحدَث، فلم نوجِب في الصورة الأولى على صحابها أن يتوضأ، وأوجبنا في الصورة الثانية على صاحبها الوضوء.
فاليقين لا يزول بالشك، إيش أنت متيقن عليه، إيش مستقر في قلبك في عقلك بجزمٍ من غير تردد تبقى عليه، حتى يثبت عندك خلافُه.
إن كنتَ مترددًا، ثم زال التردُّد فوقع يقين آخر.
يعني: أنا الآن متوضئ، ومتيقن أني متوضئ، وشككتُ هل أحدثتُ أم لا، ثم بعد حين، بعد تأمُّل وتقليب نظر وقع في قلبك يقينٌ أنك أحدثتَ.. أنا بعد ما توضيت، أنا متيقن دخلت الحمام بعد الوضوء؛ فاليقين يزول باليقين، صحيح؟ لكن اليقين لا يزول بالشك.
طيب؛ لو غلب على ظنك يعني تسعين بالمائة أنا أحدثتُ؟ تتوضأ؛ لأن اليقين لا يزول بالشك، ولا نقول لا يزول بالظن، أو بغلبة الظن؛ فالأحكام تُبنى على غلبة الظن.
فاليقين لا يزول بالشك، لكن بالظن وغلبة الظن يزول إلا بقرائن تجعلنا نقول: لا يزول، وهذه تحتاج لتفصيل طويل، لكن يكفيني الآن أن أضبط تصوُّر القاعدة حتى أنطلق لذكر الأدلة الشرعية على ما ذكرت وهو حديث في «الصحيحين» عن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- وسأذكر لفظ مسلم في «صحيحه»:
قال النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «إذا وجد أحدُكم في بطنه شيئًا فأشكل عليه: أَخَرَجَ منه شيءٌ أم لا» يقول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «فلا يَخرُجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد رِيحًا» يعني: إذا بقيت في شك إيش تعمل؟ لا تخرج من الصلاة حتى تسمع صوتًا، سمع الصوت يسمى ضراط، أو تجد ريحًا ويسمى فساء، هذا هو الفرق بين الفساء والضراط، الضراط له صوت والفساء رائحة بلا صوت.
يقول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «فلا يَخرُجنَّ من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد رِيحًا».
يقول أبو محمد البغوي في «شرح السنة» يقول: هذا في حق الأصحَّاء، وفي حق السليمي الحواسّ، قال: أما في حق الأطرش والذي لا يشم، فهذا الحديث لا ينطبق، هذا الحديث في حق من كان سليم الحواس، في حق من كان سليمًا؛ فحينئذ ما يلتفت.
لذا ورد في «مسند أحمد»: أن الشيطان يأتي لأحدكم فينزع شعرة من دبره حتى يُخرجه من صلاته.
فالشيطان يُدخل الوساوس، والشيطان أكثر من يلعب بالنساء، والنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- سمى الاستحاضة الذي يسمونه دم عرق، ويسميه النساء فيما بينهم بالنزيف، النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- سماه قال: «ركضة من ركضات الشيطان» يعني دفعة من دفعات الشيطان.
فالشيطان يشوِّش، فالمرأة حتى يشوَّش عليها في الصلاة والصيام، فيبدأ الشيطان يلعب بهذه العروق، وهذا دليل صريح لأهل السنة -خلافًا للمعتزلة- الذين يقولون بالصرع، وأن الجن يصرع الإنسان، والصرع حقيقي وليس الصرع أمرًا معنويا، هذه وغيرها أدلة كثيرة كما هو مذكور عند العلماء.
طيب: الآن الإسلام والتكفير.
لو وقعنا في شك: رجل مسلم، متيقنون أنه مسلم، عاش لأبوين مسلمَين، وعاش في بلاد الإسلام، ونراه في المسجد، ونسمع منه الشهادتَين، وطرأ طارئ يجعل بعض النَّاس يُكفِّرونه، وبَقينا في شك: هل هو مسلم أم كافر؟ إيش نقول؟ [مسلم] اليقين يزول بالشك ولا لا يزول بالشك؟ لا يزول بالشك، إيش يعني نبقيه على إيش؟ على إسلامه. ولو حكم بغير ما أنزل الله؟ ولو حكم بغير ما أنزل الله.
النجاشي مات ولم يحكم [بما] أنزل الله، في «صحيح مسلم» النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- صلى عليه صلاة الغائب، وما حكم [بما] أنزل الله، لأنه استجاب له، استجاب للإسلام.
أنا ما أعرف الذين يكفِّرون الحكام هذه الأيام كيف [سيردون على حادثة] النجاشي، واضحة جدا حادثة النجاشي، النجاشي ما حكم لا بكتاب ولا بسُنة، وكل الشرع كان مغيَّر في زمنه، ومات والنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- صلى عليه صلاة الغائب، إلا إذا قيل أن النَّبي صلى على الكافر! هل ممكن أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- على الكافر؟ ما يصلي النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- على الكافر صلاة الجنازة! فصلى عليه صلاة الغائب.
لو شككنا في إسلام رجل من عدمه؟ نبقى على اليقين، شو اليقين؟ نحكم بإسلامه.
لذا: قال العلماء: لو أن الرجل قال قولًا أو فعل فِعلا يحتمل مائة وجه، تسع وتسعون منها -من الأقوال والأعمال- محمولة على الكفر وواحد محمول على الإسلام؛ حمَلناه على الإسلام.
نحن نحتاج نكثِّر سواد المسلمين، ولا نقلِّل سواد المسلمين؟
أيهما أفضل للإسلام والمسلمين: نكثِّر سوادهم ولا نقلل سوادهم؟ نكثر سوادهم.
حتى عند اختلاف -وسيأتينا هذا في بعض الفروع وبعض الاستطرادات- عند اختلاف الأصل والظاهر.
يعني: لو ظهر عندنا رجل كافر أصلي، كافر جاء في معركة يحاربنا، وكافر أصلي، ورأينا أنه ما أسلم في ظاهر أمره من قلبه، ولكنه أسلم من لسانه، تحت القوة، نحكم بإسلامه أم بعدم إسلامه؟ نحكم بإسلامه.
فالإسلام في كل الحالات غالب، وهو الأصل.
لذا: أسامة بن زيد لما رفع السيف على ذاك الكافر، فالكافر يعلمُ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، أسامة بن زيد استصحب الأصل، وقدَّم الأصل على الظاهر، قال هذا ظاهره أنه أسلم تحت السيف، وهو أصله كافر، فأنا أحكم بكُفره، فقطع رأسه لتقديمه الأصل على الظاهر، فلما بلغَ النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- غضب النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- غضبًا شديدا، أسامة كان الحِب ابن الحِب، كان يسمَّى: الحِب ابن الحب، كان أحب النَّاس للنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، كان النَّبي يحبه، فلامه النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، حتى قال أسامة: «وددتُ لو أني أسلمتُ بعدها»! يا الله! وكان النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول له: «أشققتَ عن قلبه؟» خلاص قال لا إله إلا الله، إيش تريد منه؟ نترك النَّاس على إسلامهم.
إذا فيه حكم في الشرع يمضي إسلامه في الدنيا ولا يمضي إسلامه في الآخرة، وهو حكم من؟ المنافقين، المنافق كيف يعامَل في الدنيا؟ مسلم، وعند الله؟ أشد من الكفار {إن المنافقين في الدَّرْك الأسفل من النَّار} عند الله أشد من الكافر، لكن كيف نعامله نحن في الدنيا؟ نعامله معاملة المسلم.
فالشاهد أن الأصل والظاهر متى ظهر من رجلٍ إسلام؛ فيجب علينا أن نَقبَله، ولا يجوز لنا أن نتشكَّك فيه، ولا يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن نُشكِّك فيه.
طيب؛ اليقين لا يزول بالشك.
رجل شكَّ هل طلَّق زوجته أم لا؟ إيش الأصل في الطلاق؟
بعض النَّاس مجرد ما يشك يُطلق ...!
جاء رجل لمحمد بن حسن فقال: أنا شككتُ أني طلقت زوجتي فطلقتُها قلت: أنت طالق!؟ قال: حالك كحال من شك هل وقعت على ثوبي نجاسة أم لا؛ فبال على الثوب!
أنت الآن الأصل أن العقد عقد الزواج الأصل فيه أنه قائم وصحيح؟ أم الأصل فيه عدم الصحة؟ صحيح.
لذا: تأملوا -إخواني- النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- لما كان الرجل يسلم، فيمهل زوجته، فإن أسلمتْ بعده ولو بمدَّة ما كان النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يُجدد العقدَ بينهما، يبقى الحال على العقد الأول، أي عقد أول؟ الذي أُبرم في الجاهلية، وهذا مأخوذ من القرآن، من أين من القرآن؟ من قوله: {وامرأتُه حمَّالة الحطب} الله قال عن أبي جهل: {وامرأتُه}، فالعقد في الجاهلية صحيح.
فإذا الإنسان وقع في شك: هل زوجتي طالق أو غير طالق، إيش الحكم؟ اليقين لا يزول بالشك، إيش يعني؟ تبقى زوجة.
ولذا من بديع مؤلفات الإمام السلفي الدمشقي الشيخ جمال الدين القاسمي له كتاب بديع سماه: «الاستئناس بصحَّة أنكحة الناس» لأن بعض النَّاس يشكك في الأنكحة، وهذا من الخطأ الكبير.
اللام للتمليك، وليست للوسيلة، (الأحكام لليقين) فاللام هذه لام الاختصاص، الأحكام الشرعية يخصُّها اليقين؛ الأصل في الأحكام اليقين وعدم الشك، وهذا لا يكون إلا في حق العلماء، أما غلبة الظن فعند المقلِّدة وعند الطلبة وليس عند العلماء.
جميل، إذا أردنا أن نشرح هذا الشرح يطول، وإلا كنا جميل نقف عند كل شيء.
فإذن: اليقين لا يزول بالشك، وله فروع كثيرة، ومن أهم فروعه مسألة الذي يشك في الصلاة في عدد الركعات، فالواجب على من يشك في عدد الركعات في الصلاة فريضة أم نافلة، أو في عدد التكبيرات في صلاة الجنازة، الواجب عليه أن يبني على الأقل؛ لأن اليقين لا يزول بالشك.
يعني: إنسان شكَّ هل صلى ركعتين أم ثلاثة، يبني على ماذا؟ يبني على الركعتَين.
شك: هل صلى ثلاثا أم أربعا؟ يبني على ثلاث.
شك في الجنازة أو في تكبيرات العيد، هل كبَّر خمسًا أم سبعًا، أو في الجنازة هل كبَّر ثلاثًا أم أربعًا -سواء يصلي إماما أو يصلي مسبوقًا- فوقع في شك في عدد الركعات أو في عدد التكبيرات؛ فالواجب عليه أن يبني على اليقين.
ولذا في الحديث: «لا صَرورةَ في الصلاة»، والحديث يدور بين التحسين والتضعيف، حسن لغيره أو ضعيف، و(الصَّرورة) أي لا يجوز لك أن تخرج من الصلاة وأنت في أي صُورة من صُوَرها في شكٍّ منها، والواجب عليك أن تخرج من الصلاة وأنت مطمئن وأنت متيقن في الصلاة.
تبقى مسألة مهمة: المسبوق الذي يأتي مسبوقًا للصلاة، وشكَّ هل أدرك مع الإمام التسبيح أم لم يُدرك.
رجل جاء والإمام راكع.. أبو بَكرة -كما في «الطبراني الكبير»- لما رأى النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- راكعًا في صلاته، فركع ودبَّ راكعًا، مشى وهو راكع، فسمع به النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وكان النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- من خواصه الثابتة عن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في قوله أنه يرى مَن خلفَه في الصلاة كما أنهم بين يديه، وهذه خاصة بالنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في صلاته فقط، فرآه، فالنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- ما أمره أن يعيد الركعة، وهذا أقوى دليل لجماهير العلماء في أن قول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في حديث عبادة بن الصامت في «الصحيحين»: «لا صلاةَ لمن لم يقرأ بأم الكتاب» عام مخصوص، ومعنى أنه (عام مخصوص) أي: أن القراءة واجبة إلا في صورة من أدرك الركوع مع الإمام؛ لأن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- لم يأمر أبا بكرةَ بأن يُعيد الركعة، ولكنه تعجل، فقال له النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بعد الصلاة: «زادك الله حرصًا، ولا تَعْدُ» أو قال: «ولا تَعُد»، «لا تَعْدُ» أي لا تركض، أنت ركعتَ وددبتَ راكعًا بركض وعجلة «فلا تَعْدُ»، أما «ولا تَعُد» لا حرج من أن تركع خارج الصف وأن تدبَّ فيه؛ لكن: لا تتعجَّل، لا تُسرع، والعلماء مختلفون على قولَين في ضبطِ قولِه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
الذي يهمني من هذا: رجل ركع مع الإمام وهو مسبوق، فشكَّ هل أدرك تكبيرةً أم لا، كيف يتعامل مع هذه الصورة بناء على قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك)، فالمسبوق له ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يتيقَّن أنه ما سبَّح مع الإمام، كأن ينظر أو يتحول بصرُه وهو راكع، وهو هاوٍ للركوع، فيجد الإمام صاعدًا فيتيقَّن أنه ركع ولم يدرك مع الإمام ولا تسبيحة؛ فهذا لم يُدرك الركوع مع الإمام، وهذا لا يجعل ركوعه ركعة، لا يحسب ركوعَه ركعة، يُلغي الركوع، لم يُدرك مع الإمام أي تسبيحة من تسبيحات الركوع.
الصورة الثانية: أن يتيقَّن أنه أدرك مع الإمام تسبيحةً فأكثر، كأن يجد الإمام في أول ركوعه، فقد ركع وأدرك تسبيحةً مع الإمام فأكثر؛ فهذا يحسبُها ركعة.
تبقى الصورة الثالثة وعليها تتنزَّل القاعدة، وهي قاعدة (اليقين لا يزول بالشك)، وهذه [الصورة]: أن يبقى في شك هل أدرك مع الإمام أم لم يُدرك، هل أدرك تسبيحةً مع الإمام أم لم يُدرك، فتارة يقول: أدركتُ، وتارة يرى أن المدَّة التي ركعها مع الإمام قصيرةً لا تُسعفُه بأن يُدركَ تسبيحةً مع الإمام، فيبقى في شكٍّ بين الأمرَين، فماذا يفعل؟ (اليقين لا يزول بالشك) إيش (اليقين لا يزول بالشك)؟ يعني: لا يحسبها ركعة، ويسجد للسهو، حاله كحال من شكَّ في ركعتَين أو ثلاث ركعات.
قال ابن العطار جامع وتلميذ الإمام النووي في «الفتاوى» قال -على لسان شيخه الإمام محيي الدين النووي-رحمهُ اللهُ-يحيى بن زكريا- قال: «هذه مسألة أحبُّها وأحبُّ أن أُعلِّمها».
فإذا كان الإنسان في شك هل أدرك أم لم يُدرك التسبيحة؛ فإن اليقين لا يزول بالشك، وعليه حينئذ أن يُعاملَ هذا الحال كمعاملة من شكَّ في الركعتين أم الثلاثة.
وقلَّ من النَّاس مَن يضبط هذه المسألة الثالثة بطريقة فقهيَّة شرعيَّة صحيحة، فالناس إما يتعجَّلون فيحسبونها ركعة، وإما أنهم يُلغونها من غير اعتبار لسجود السهو، وقد أمر النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- من شكَّ في هل أدرك ركعتين أم ثلاث أن يبني على الأقل وأن يسجد للسهو.
بقيت بقيَّة، ثم نتكلم في فرعٍ من فروع قاعدة (اليقين لا يزول بالشك) بعد صلاة العشاء.
والله الموفق.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

انتهى (الجزء الأول) ويتبع (الجزء الثاني).

تفريغ : أم زيد

من هنـا تجميع روابط الدروس المفرَّغة

الجز السابع............
__________________
قال العلامة صالح آل الشيخ: " لو كان الفقه مراجعة الكتب لسهل الأمر من قديم، لكن الفقه ملكة تكون بطول ملازمة العلم، بطول ملازمة الفقه"
وقال: "ممكن أن تورد ما شئت من الأقوال، الموجودة في بطون الكتب، لكن الكلام في فقهها، وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ"
"واعلم أن التبديع والتفسيق والتكفير حكم شرعي يقوم به الراسخون من أهل العلم والفتوى ، وتنزيله على الأعيان ليس لآحاد من عرف السنة ، إذ لا بد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، حتى لا يصبح الأمر خبط عشواء ،والله المستعان"
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 06-05-2012, 12:20 PM
حامد بن حسين بدر حامد بن حسين بدر غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,115
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم زيد مشاهدة المشاركة
[الـدَّرس السَّـابع]
(الجزء الثَّاني)


15. قَــاعِـــدَةُ الشَّريعـــةِ التَّيْسِـيـرُ ... فـِي كُـلِّ أَمْــرٍ نَـابَــهُ تَـعْـسِـيــرُ
16. وَلَـيْـسَ وَاجِــبٌ بِـلا اقْــتِــدَارِ ... وَلاَ مُـحَـــرَّمٌ مَــعَ اضْــطِـــرارِ
17. وَكُـلُّ مَحْـظُــورٍ مَـعَ الضَّــرُورَهْ ... بِقَــدْرِ مَــا تَحْتَــاجُــهُ الضَّــرُورَهْ
18. وَتَرْجِــعُ الْأَحْـكـامُ لِـلْـيَـقِـيـنِ ... فَــلَا يُــزِيــلُ الشَّــكُّ لِلْيَـقِـيــنِ


إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
قبل أن أبدأ بتكميل شرح الأبيات، أحتاج أن أتكلم معكم في فرع خطر في بالي، وسنح في خيالي، فأحببتُ ذكره على استعجال -من غير إمهال ولا إهمال-، والله الموفق ذو الجلال سبحانه.
بناء على ما سمعنا من حُكم التصوير وهل هو حرام لذاتِه، أو أنه حرام سدًّا للذريعة،
لو سأل سائل فقال: ما حُكم التحنيط؟ شيء خلقه الله ثم حُنِّط ووضع في البيت، هل هذا مشروع أو ممنوع؟ الشيء الذي يُحنَّط [...] ممنوع ولا مشروع؟ مشروع؟ هو خلق الله، وبالتالي مشروع؟ طبعًا: لا بد، يحتاج ضوابط، القول بالمشروعية يحتاج لضابطَين؟ [مداخلات]
أولا: نهى النَّبي عن إيلام الميت، صحيح؟ تعذيب الحيوان، صحيح؟ ونهى النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- عن إضاعة المال، بعض الحيوانات مال.
فلو تدرَّجنا في السؤال فقال قائل: أريد أن أحنِّط حيوانا هلك وحده أنا ما قتلتُه؟ فزال المحذوران: المحذور الأول: الإيلام والإيذاء، والمحذور الثاني: إضاعة المال، المحذوران زالا؛ فإيش الجواب الآن؟ إذا كان التصوير حرامًا لذاته، و[النَّبي] يقول: «أشد الناس عذابًا المُصوِّرون» ويقول الله تعالى للمصوِّرين: «أحيوا ما خلقتُم» فلا يُقال إلا بالتحليل، لا بالتحريم؛ لأني أنا يا رب ما فعلتُ شيئا، هذا خلقُك، وهذا صُنعك، ونفقت وخرجت الروح، وأنا وضعت على هذا الحيوان مواد تحفظه ويبقى.
وإذا قُلنا إن التصوير ممنوع سدًّا للذريعة؛ فيكون من باب أولى القول بمنعِ التحنيط؛ لأن التصوير مُنع سدًّا للذريعة، وهذا وجودُه فيه ذريعة لمنع الشرعِ من الصُّورة.
وفي الحديث في «صحيح مسلم»: نهى النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في التصاوير والتماثيل، و(أل) في التصاوير والتماثيل للجِنس، فكل التصاوير وكل التماثيل ممنوعة، والله تعالى أعلم.
أحلنا -في درسنا الماضي- على كلامٍ للإمام الشَّوكاني في كتابه الجيِّد «السيل الجرار المتدفِّق على حدائق الأزهار»، وذكرنا إن في المجلد الرابع (ص577) كلامًا مفيدًا جدًّا حول آية: {ولكن من شرحَ بالكُفر صَدرًا} وفيه ضابط يلتقي على ما قرَّرناه اليوم -على عجلة- في موضوع اليقين لا يزول بالشك، وأن الأصل أن المسلم وإن نطق الكفر أو إن فَعله فلا يُحكم بكُفره ما لم يشرح صدره به، مع القول بالتكفير بالقول والعمل لكن ضمن ضوابط.
نسمع كلام الشَّوكاني... حتى نكمل شرحنا إن شاء الله.
[مداخلات.. سؤال من بعضهم: بالنسبة للمصلِّين، لو صلى مثلا ثلاثة...(غير واضح)]
لو صلوا بين الصفوف؟ ... طيب نأتي، نجيب عن السؤال...:
ثبت في «البخاري» تعليقًا ووصله غير واحد بإسناد صحيح: عن قرة بن إياس رضي الله تعالى عنه قال: كنَّا نتدافع عن الصلاة بين السواري، يعني: كل منا يدفعُ الآخر.
وفي «سنن أبي داود» يقول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «من وصلَ صفًّا؛ وصله الله، ومن قطعَ صفًّا؛ قطعهُ الله».
قال الإمام النووي في «شرح صحيح مسلم»: معنى قول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «من وصلَ صفًّا؛ وصله الله»؛ أي: من وصلَ صفًّا وصله الله بجنَّته، وصله الله برحمتِه، وصله اللهُ بثوابِه، ومن قطع صفًّا؛ قطعه الله من جنتِه، وقطعه اللهُ من رحمتِه، وقطعه الله من ثوابه.
فالواجب على المسلمين أن تكون صفوفُهم بين يدي الله رب العالمين، متراصَّةً، وأن لا يكونَ فيها فجوات، وأن لا يوجد شيء يقطعها، ومن قطع صفًّا؛ قطعه الله.
ويُخشى في قطع الصَّف من صُور:
الصورة الأولى: الولد الصغير الذي لا يعرف الطهارة، الذي تقول له أمه بل تأمرُ أباه: خذ الولد معك، الولد مغلِّبنا في البيت، خذه معك على الجامع، فيقف بجانبه، فيقطع الصف، فيُخشى أن يكون حال هذا الرجل ممن ينطبق عليه هذا الحديث.
وكذلك الذي يمد المنبر، ويجعله درجات كثيرة، ويخالف هدي النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في منبره ثلاث درجات، ويقطع الصفين او ثلاث صفوف أو أربع صفوف -في بعض المساجد-، فيُخشى على من يفعل ذلك من هذا الحديث.
وأما إن ضاق المسجد: فيجوز مِن ضيق المسجد أن يُصلَّى بجانب الإمام، وأن يُصلَّى كذلك بين السواري، كيوم الجُمَع، ويوم الأعياد، الأجواء الممطرة، وعند ازدحام الناس في المساجد -عند الدروس وما يلحق بها-، فإن ضاق المسجد؛ لا حرج من الصلاة بين السواري.
أما إن اتسع المسجد فالصحابة.. قرَّة بن إياس يقول: «كُنا نتدافع على الصلاة بين السواري». «كنا نتدافع»: أي يدفع بعضُنا بعضًا.
قال الإمام [ابن حجر] رحمه الله في شرحه لـ«صحيح البخاري» في «فتح الباري» قال: «وقد وقع خلاف بين العلماء في العلَّة في ذلك، فمنهم من قال: إن الجنَّ يُصلُّون بين السواري» قالوا: العلة أن هذا مصلَّى الجن، يعني الجن المؤمنون يُصلون بين هذا المكان فاتركوه لإخوانكم الجن.
وهذا يحتاج إلى نقل، والنقل لم يَرِد عن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، فلم يبق والله أعلم في المعنى: التضام، والتقارُب، والاجتماع، وعدم الافتراق، وعدم وجود فُرقة بين المصلِّين.
وكان النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قد سبق ما يُسمَّى اليوم بـ(علم النفس) وبـ(علم الاجتماع) فقعَّد قاعدةً مهمَّة للغاية، لا ينتبه إليها إلا الموفَّق؛ فقال -كما في «صحيح مسلم»-: كان النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول -قبل تكبيرة الإحرام، قبل الصلاة- كان يقول: «لتُسوُنَّ صفوفَكم، أو لَيُخالفَنَّ اللهُ بين قُلوبِكم».
علماء النفس اليوم يقولون: هنالك ارتباط وثيق بين الظاهر والباطن، الظاهر والباطن بينهما ارتباطٌ وثيق، فعدم مُساواة الصف بالأقدام يؤدِّي إلى عدم ائتلاف القُلوب؛ «لتُسوُنَّ صفوفَكم، أو لَيُخالفَنَّ اللهُ بين قُلوبِكم».
فحتى يبقى المسلم يستشعر أنه قريب من أخيه، وأنه حريص عليه؛ ما ينبغي -وهو بين يدي الله- أن يفرِّق بينهما شيء؛ إلا لضرورة، وإلا لحاجة، والحاجة -كما تعلَّمنا- إنما تُقدَّر بقدرها، فإذا ضاق المسجد؛ فالحمد لله؛ لا حرج من الصلاة بين السواري.
أما مع المقدرة، ومع وجود الصلوات؛ فما ينبغي أن نقف بين السواري.
لكن في «صحيح ابن خزيمة» يقول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- لما ذكر مساواة الصفوف، قال: «وقارِبوا بينها».
فما ينبغي أن نصلي بين السواري، وما ينبغي أن نُباعد بين الصفوف أيضا، ينبغي أن تكون المسافات بين الصفوف متقاربة؛ بمعنى أن نجعل الصفَّ قبل السارية، أقرب صف للسارية أن نجعله قبل السارية بقليل، وأن نجعل الصف الذي بعده بعد السارية بقليل، فنجمع بين الحُسنَيَين، أو نجمع بين الحسنَتَين: حسنة التراص وعدم قطع الصف، وحسنة مقاربة الصفوف.
ومقاربة الصفوف لها أثر: ففي «سنن أبي داود»، لما كان النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يَنزل في المنزل فكان أصحابه يفترقون عنه، فكان النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول لهم -معلِّمًا مربِّيًا مؤنِّبًا-، كان يقول لهم: «ما لي أراكم عِزين، ما لي أراكم متفرِّقين» ويقول: «إن تفرُّقكم هذا من الشيطان» قال الراوي: «فكنا نجتمع بحيث لو بُسط علينا ثوبٌ لوَسعنا» بعد هذا الأمر، لما النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- كان يراهم في مجلس العلم، في حلقة الذِّكر يراهم مُفترِقين، كان النَّبي يلومهم ويقول له: «ما لي أراكم عِزين» لماذا أنتم مبتعدون، اقتربوا، فكانوا يقتَرِبون حتى لو بُسط ثوبٌ لوسِعهم، فالنَّبي أراد الأمرَين: أراد تراص الصف، وأراد المقارَبة.
ومقاربة الأبدان تؤثِّر على مقاربة القُلوب، كما أن عدم استواء الصف يؤثر على اختلاف القلوب، فلا نريد هذه المخالفة، ولا نريد تلك المخالفة، ونريد أن نسدد ونقارب.
ولا ينبغي أن نجعل الرسومات التي في السجادة هي الأصل الذي يحكُمنا، وينبغي أن نجعل نصوص الشرع هي التي تحكم، مش نجعل الشيء اللي في السجادة هو الذي يحكم، ينبغي أن نجعل.. يعني: لو أعدنا توزيع الصفوف..
الفقه والله يا إخوة بحاجة إليه، صاحب السجادة الذي يمدد سجادا في المسجد بحاجة للفقه، والمواسرجي بحاجة إلى الفقه، والبنّاء بحاجة إلى الفقه، يَحرم على الإنسان أن [يستقبل] القِبلة ببول أو غائط أو يستدبرها، المهندس الذي يخطط الحمامات لازم يعرف، يجب عليه أن يَعلم كيف يعمل الحمام -أجلكم الله-.
ويا ليت إخواننا المهندسين يسُنُّون سُنَّة حسنة، كما قال أبو داود في «سُننه»، قال: (باب: تجمير المساجد التي في البيوت)، يكون في البيوت مكان مُصلّى.
ليش البيت فيه غرفة نوم، وغرفة طعام، ومطبخ، وغرفة الصالة، والمصلى منسي من البيت؟!
يكون قيام الليل وقراءة القرآن وقراءة أحاديث النَّبي في البيت في هذا المكان الصغير، في هذه الغرفة، أو في هذه الصالة، يجتمع فيها أهل البيت للذِّكر ولقراءة القرآن.
أبو داود يقول في «سُننه»: (باب: تجمير المساجدِ التي في البيوت)، الأصل في البيت يكون فيه مسجد، في كل بيت الأصل يكون فيه مسجد.
لا يلزم يعني مسجد مِئذنة وقُبَّة! مش هذا المسجد، المسجد مكان صغير المساحة، تكفي أفرادَ الأسرة يَجتمعون فيها على قراءةِ القُرآن، يجتمعون فيها، واحد يقرأ شيئًا مِن أحاديث النَّبي -على حسب ما يُيسِّر اللهُ-سُبحانه وتَعالَى- للمُعلِّم أن يُعلِّم.
فهذه السُّنن الحسَنة....
نسمع كلام الشَّوكاني ثم نعود للدرس:
[قراءة لكلام الشَّوكاني -من قبل بعض الطلبة-]:
(( بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم على نبيك.
قد ذكر شيخنا أن من أسباب التخفيف ورفع الحرج سبعة أسباب، وذكر منها: (الإكراه؛ فلا يُؤاخَذ مَن نطق بالكُفر كُرهًا).
قال الإمام الشَّوكاني -رحمه الله-:
«ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير وقد قال الله عزوجل: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106]، فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه.
فإن قلت قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلما كما تقدم وورد في السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلا يخالف الشرع كما في حديث: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض»، [البخاري (3/573)]، ونحوه مما ورد مورده وكل ذلك يفيد أن صدور شيء من هذه الأمور يوجب الكفر وإن لم يرد قائله أو فاعله الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر؟ قلت: إذا ضاقت عليك سبل التأويل ولم تجد طريقا تسلكها في مثل هذه الأحاديث فعليك أن تقرها كما وردت وتقول من أطلق عليه رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- اسم الكفر فهو كما قال ولا يجوز إطلاقه على غير من سماه رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- من المسلمين كافرا إلا من شرح بالكفر صدرا فحينئذ تنجو من معرة الخطر وتسلم من الوقوع في المحنة فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة فكيف إذا كان يخشى على نفسه إذا أخطأ أن يكون في عداد من سماه رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- كافرا )). [اهـ قراءة كلام الشَّوكاني في «السيل الجرار»]
جزاك الله خيرًا.
نقول: أن اليقين لا يزول بالشك، وأرجع إلى القاعدة على عجلة لأفرغ منها وأذكر بعض مقيِّداتها، حتى يكون الكلام موصولًا -وصلني الله وإياكم برحمته-.
فأقول أيضا منوِّهًا مُنبِّهًا: أن الشك الطارئ بعد العبادة -ولا سيما إن وقع من الموسوس- لا عبرة به، الشك الواقع بعد الفراغ من العبادة إن وقع من الموسوس خاصة؛ فلا عبرة به.
يعني: إنسان يصلي فقيل له: أنت صليت اليوم العصر؟ قال: سجدت السجدة الثانية من الركعة الثالثة من ركعات العصر؟ قال: والله ما أدري! أو دخل عليه شك، دخل الشك متى؟ بعد الفراغ من العبادة، فإذا وقع شك بعد الفراغ من العبادة؛ فلا عبرة بالشك الذي يقع بعد الفراغ من العبادة، لماذا لا عبرة به؟ لأن اليقين لا يزول بالشك.
أنا صليت الصلاة بشروطها، والعادة: من يصلي يسجد سجدتين، والعادة من يصلي أن يأتي بصورة الصلاة المعهودة المعروفة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم، فالشك الذي يطرأ بعد الفراغ من العبادة لا حرج فيه.
18. وَتَرْجِــعُ الْأَحْـكـامُ لِـلْـيَـقِـيـنِ ... فَــلَا يُــزِيــلُ الشَّــكُّ لِلْيَـقِـيــنِ
هذه القاعدة لها فروع، ومن فروعها -والذي لا يزول الشك بها- البيت الذي بعده، قال:
19. وَالْأَصْـلُ فِي مِيـاهِنَــا الطَّهَــارَهْ ... وَالْأَرْضِ وَالثِّيـابِ وَالْـحِـجــارَهْ
الأصل في المياه أنها طاهرة، والأصل في الثياب أنها طاهرة، والأصل في الأرض أنها طاهرة، والأصل في الحجارة أنها طاهرة.
وهذا الذي يسميه الفقهاء الاستصحاب، ومعنى الاستصحاب: إبقاء ما كان على ما كان عليه.
النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال عن الأرض: «وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» هي تطهِّر، ترابُها يطهِّر.
المراد بالأصل ها هنا: استصحاب البراءة الأصلية؛ لأن الأصل يأتي في كلام الفقهاء وكلام الأصوليين على معانٍ عديدة، فالقاعدة تسمَّى أصلا، والأساس يسمَّى أصلا، و القاعدة المستمرة تسمَّى أصلا، والبراءة الأصلية تسمَّى أصلا، والمراد بقول الناظم ها هنا:
وَالْأَصْـلُ فِي مِيـاهِنَــا الطَّهَــارَهْ
أي: استصحاب البراءة الأصلية؛ إبقاء ما كان على ما كان عليه.
هذا البيبت إما أن يُراد به الأصل في الأشياء الطهارة، أو القول بإبقاء ما كان على ما كان عليه.
فالله عز وجل يقول في «سورة الأنفال»: {وينزِّل عليكم من السماءِ ماءً ليُطهِّرَكم به}، فالأصل في المياه الطهارة.
والله عز وجل يقول: {هو الذي خلقَ لكُم ما في الأرضِ جميعًا} لكم لتملِكوه، ولتتمتَّعوا فيه، ولتستفيدوا منه.
وهذه الآية جاءت في معرض الامتنان، والله عز وجل لا يمتنُّ إلا بحلال، الله لا يمتن بحرام.
الأصل في الأشياء الحل ولا الحرمة؟ الحل.
بعض الناس يسألك عن دليل الحِل في أشياء الأصل فيها أنها حلال! والذي يسأل هذا السؤال يُنبئ عن عدم فقه عنده!
ما ينبغي أن نسأل عن سبب حِل البسكويت وحِل الخبز وحِل التفاح وحِل الموز وحِل المشي وحِل القيام وحِل القعود وحِل النوم وحِل السجاد وحِل الكهرباء وحِل السيارة وحِل المروحة..!!
لو أن الأصل في الأشياء الحرمة حتى يأتي الحِل؛ لكنا نحتاج لقرآن مثل قرآننا بحجم مليارات المرات! إذا كل شيء حلال نحتاج ينصص عليه؛ مشكلة!!
فأحيانا بعض الناس يطالب بالدليل في موطن من الخطأ أن تطالب بالدليل.
فطالب العلم إن طلب الدليل ينبغي مطالبته بالدليل يبقى يستحضر القواعد الكلية، ويحسن تمييز هذه المسألة وين تدخل، تدخل في الأشياء المباحة ولا في الأشياء المحرمة.
الأشياء المحرَّمة ما ينبغي أن تُفعل إلا بعد الدليل.
الأشياء التي الأصل فيها الحرمة لا تجوز إلا بالدليل، والأشياء التي الأصل فيها الحل نبقى على استصحاب البراءة الأصلية، إيش يعني استصحاب البراءة الأصلية، إيش يعني استصحاب البراءة الأصلية؟ {هو الذي خلقَ لكُم ما في الأرضِ جميعًا} الله خلق لنا الأرض والجبال، وخلق لنا النبات والأعشاب، وخلق لنا الحيوانات، وخلق لنا كل شيء، الأصل فيه الحل، يعني مش حاجة حتى نأكل البقدونس والنعناع والمرامية يجينا دليل من الشرع أن البقدونس حلال والمرامية حلال، مش بحاجة لهذا.
فالأصل في هذه الأشياء الحِل {هو الذي خلقَ لكُم ما في الأرضِ جميعًا}، كل ما في الأرض لكم أيها المسلمون، تمتعوا فيها، استفيدوا من ظاهرها، واستفيدوا من باطنها، نقِّبوا عن الخيرات، ونقِّبوا عن المعادن، كل شيء.. {هو الذي خلقَ لكُم ما في الأرضِ جميعًا}، الأصل في كل هذه الأشياء الحِل.
الأعشاب الطبية وغير الطبية الأصل فيها الحِل حتى يأتي الدليل.
الحيوانات الأصل فيها الحِل إلا أن يأتي الدليل، شو الدليل؟ الميتة، أن تكون خبيثة، {ويُحرِّم عليهم الخبائث} ما تستخبثه العرب أو قريش في ذاك الوقت حرام، فالفئران خبيثة حرام.
إيش الدليل على حرمة الفأر؟ {ويُحرِّم عليهم الخبائث}.
وإيش الدليل على حرمة أكل الصراصير؟ {ويُحرِّم عليهم الخبائث}
وإيش الدليل على حرمة أكل النمل؟ ولا النمل حلال؟ يجوز أن نأكل النمل؟ [لا يجوز] إيش الدليل؟ «نهى النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- عن قتل النمل والنحل والهدهد والصُّرَد»، الصُّرَد: طير أكبر من القُبرة بقليل أخضر اللون.
وضابط من الضوابط علماء الشافعية يقولون: كل شيء نهى الشرع عن قتله حرُم أكله، لكنه كلام غير منضبط، لكن هي قاعدة مجملة صحيحة.
نعود للأصل، قال:
وَالْأَصْـلُ فِي مِيـاهِنَــا الطَّهَــارَهْ ..
مش بحاجة حتى نشرب كل نوع من أنواع المياه -الغدير والأنواع هذه المتنوعة..- يقوم دليل على حِل كل نوع من الأنواع، ما دام أنها ماء، رقتها، ولونها، ورائحتها، وطعمها طعم الماء؛ فالأصل فيها الحِل.
إن خالطها حلال، خالط الماء حلال فغير اللون، أو غيَّر الطعم، أو غيَّر الرقة فأصبحت كثيفة، فإذا كان الذي غيَّره طاهرًا؛ بقي طاهرًا، وإن سُلبت الطُّهورية منه، يعني الخل والعصير ما يجوز الوضوء فيه بس هو طاهر، فإن خالط الماء الطاهر شيء طاهر؛ يبقى طاهرًا.
طيب؛ إن خالطت النجاسةُ الماءَ فغلبته، يصبح إيش؟ نجسًا.
طيب: لو كررنا الماء ففصلنا النجاسةَ عنه، فرجع اللون والطعم والرائحة والرقة كالماء، إيش يكون؟ حلالا، ويرجع كالحِل، إيش يعني يرجع كالحِل؟ يجوز أن تشربه، ويجوز أن تطبخ به، ويجوز أن تغتسل به، ويجوز أن تتوضأ به، ولا حرج في ذلك كله إن شاء الله تعالى.
الأرض الأصل فيها الطهارة؛ لقوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- -عند أبي داود والنسائي- من حديث أبي ذر، قال النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «الصَّعيد الطيِّب وَضوء المسلم» قال: (وَضوء)، ولم يَقل: (وُضوء)، إيش الفرق بين وُضوء ووَضوء؟ كالفرق بين وَقود ووُقود، وكالفرق بين فُطور وفَطور، وكالفرق بين سُحور وسَحور، السَّحور الشيء الذي يُعد للطعام، والفَطور الشيء الذي يُعد للطعام، فالجُبن والزيت والزعتر والبيض والخبز .. هذا كله يسمى فَطور -بفتح الفاء-، وتناول الأكل في وقت الصباح يسمى (فطورًا)، والسَّحور والسُّحور كذلك، والوَضوء والوُضوء كذلك، إيش الوَضوء؟ الشيء الذي يُعد، الماء الذي يُعد للوُضوء قبل عملية الوُضوء يسمَّى وَضوءًا، ولما تتوضَّأ يسمَّى وُضوءًا.
النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول: «الصَّعيد الطيِّب» إيش قال؟ قال: «وَضوء المسلم»، وفي رواية: «طَهور المسلم»، إيش (الوَضوء) يعني؟ يعني كالماء، الصعيد الطيِّب كالماء.
رواية أبي داود والنسائي: «وَضوء» وأيضا ثبت: «طَهور».
الملابس إيش الأصل فيها؟ يعني مش بحاجة الشرع قُلنا.. اللباس أو البرادي أو الكنبيات المصنوعة في بليجيكيا حلال، والمصنوعة في تركيا حلال، والمصنوعة في سورية حلال، مش بحاجة لهذا، الأصل فيها كلها الحل.
طيب؛ لباس الكافر؟ الأصل فيه الحِل ولا عدم الحِل؟ الحل.
فثبت أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- لبس البُرود اليمنية، وثبت أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- لبس الجُبَّة الرومية التي جاءت من الروم، الجُبة لبسها -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، ولبس النِّعال السَّبتية.
فالأصل في الملابس حتى التي تأتي من الكفار الأصل فيها الحِل.
والحجارة؛ ثبت في «أبي داود» أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب ومعه ثلاثة أحجار، فإنها تُجزئ عنه».
فلو كان الحجارة لا تجزئ لما كانت طاهرةً، فيجوز الاستجمار والاستنجاء، الاستجمار بالحجارة، والاستنجاء يكون بالماء.
والأحسن الاستجمار والاستنجاء، الاستجمار يزيل عين النجاسة، والاستنجاء يزيل أثر النجاسة، فالاستجمار وما يقوم مقامه من الخرق والفاين وما شابه هذا كله يجزئ، والواجب استخدام ثلاثة، وإن لم يُنقَّ المحل يُزاد عن الثلاثة حتى يُنقى، فإن نُقيَ بستٍّ فالأحسن أن نوتِر أن نجعلها سبعًا، وإن نقي بثمان فالأحسن أن نوتِر أن نجعلها تسعًا، وهكذا.
فالواجب أقل شيء: ثلاث، حتى لو وقع الإبراء بواحد؛ لا بد من استخدام ثلاثة في الأحجار وما يقوم مقامها، فإن وقع الإبراء والإنقاء بغير الوتر فوق الثلاثة؛ فالأحسن أن نكملها بوتر.
طيب؛ إذا وقع شك في نجاسة بقعة من البقاع في الأرض: في المسجد في البيت في المصنع في البقالة في العمل.. الأصل إيش نستصحبها طاهرة ولا نجسة؟ الطهارة، عملا بأي قاعدة؟ اليقين لا يزول بالشك.
فاليقين لا يزول بالشك في كل الأشياء، فجاء الناظم فأكَّد وسمَّى أشياء، خصَّ أشياء معينة، فجعل الأرض والحجارة والماء والثياب، خصَّها..
طيب: الإمام أحمد له كلمة جميلة في الحقيقة في موضوع ثياب الكفار، وهذا يُذكر في موضوع الأصل والظاهر، يقول الإمام أحمد رحمه الله: الأصل في ثياب الكفار الطهارة، إلا الثياب التي تُلاقي عوراتهم، فيحرُم استخدامها حتى تُغسل؛ لأن القوم لا يُعرف عنهم استنجاء أو استجمار، الكافر لا يُعرف عنه يستجمر أو يستنجي.
فالملابس إن جاز لنا التعبير اليوم التي تسمى الملابس الداخلية، فالملابس الداخلية على رأي الإمام أحمد يحرم استخدامها حتى تُغسل، ليش؟ لأن القوم لا يُعرف عنهم إنقاء وإزالة النجاسات والحمد لله على الإسلام.
الذي يعيش مع الكفار يعلم ويحمد الله كثيرا، في أشياء ظاهرة وباطنة، في أشياء خُلُقية، وممارسات مادية أو حسية أو معنوية.
فالإمام أحمد لا يرى طهارة ملابس الكفار التي تلامس العورات.
هذا الأمر يبقى على عمومه، القاعدة، ولكن هنالك ضوابط تقيِّد قاعدة الأصل في الأشياء الطهارة، وتدخل تحت قاعدة اليقين لا يزول بالشك، لكن بالعكس، كيف يعني بالعكس؟
تذكرون ضربت لكم مثالين، نحن الآن نتكلم في المثل الأول: أنت متوضئ ومتيقن أنك متوضئ وشككت أنك أحدثت، فقلنا إيش؟ الأصل أن تبقى متوضئًا، وذكرنا صورةً أخرى: أنت متيقن أنك انتقض وضوؤك دخلت الحمام خرج منك ريح تغوطت تبولت، وشككت هل توضأت أم لا، فاليقين لا يزول بالشك، إيش تعمل؟ يجب عليك الوضوء، تبقى على غير وضوئك.
نحن الآن: المياه والثياب والحجارة والأرض هذه كلها بمثابة المثل الأول: أن اليقين لا يزول بالشك نبقيها على طهارتها.
فيه أشياء بمثابة المثل الثاني وهو الأصل في الأشياء ليست الطهارة، الأصل في الأشياء الحرمة، هنالك أمور الأصل فيها الحرمة، ولا تحل إلا بدليل، وإنما إن أردنا أن نتكلم فيها؛ فالأصل الحُرمة.
فأسألكم: إيش الأصل في فروج النساء الحل ولا الحرمة؟ يعني لو رجل اعتدى على امرأة عفيفة ماشية في الطريق، قلنا له: يا بو فلان إيش تعمل؟ قال: الشيخ قالنا الأصل في الأشياء الحل، والنكاح الحل الأصل فيه، قلنا إيش هذا صحيح ولا غلط؟ هذا غلط، الأصل في الفروج الحُرمة.
النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول في «صحيح مسلم»: «إنكم استحللتُم فروجهن بكلمة الله» إيش معنى: (استحللتُم) كانت إيش قبل الاستحلال؟ كانت حرامًا، النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول: «إنكم استحللتُم فروجهن بكلمة الله» شو (كلمة الله)؟ العقد، الإيجاب والقبول الذي يكون بين الزوج وبين ولي الأمر.
فأنت تستحل الفرج بكلمة الله؛ فدل الحديث بلازمه أن الأصل في الفرج الحُرمة، ولذا قال الناظم:
20. وَالْأَصْـلُ فِي الأَبْضاعِ وَاللُّحُـومِ ... وَالنَّفْـسِ وَالْأَمْــوالِ لِلْمَعْـصُــومِ
21. تَـحْريمُـهـا حَتَّـى يَجِــيءَ الحِــلُّ ... فَـافْـهَـمْ هَـداكَ اللـهُ مَــا يُـمَــلُّ
(مَــا يُـمَــلُّ) أو قال: (ما يَحل)، (ما يُمل): أي ما أُمليه عليك من الإملاء، (ما يَحل) افهم الحلال والحرام، اعرف الحلال والحرام.
نرجع لهذين البيتين نفصل قليلا فيهما ونختم درسنا إن شاء الله.
الناظم يقول:
20. وَالْأَصْـلُ فِي الأَبْضاعِ...
إيش المراد في (الأصل في الأبضاع)؟ (الأبضاع) جمع (بضع) وهو الفرج، والمراد هنا: وطء النساء، الأصل في وطء النساء الحُرمة، الأصل في فروجهن الحرمة.
20. وَالْأَصْـلُ فِي الأَبْضاعِ وَاللُّحُـومِ ..
أرجو أن تنتبهوا: فرق بين اللحوم وبين الحيوانات، الأصل في الحيوانات أنها حلال، لكن اللحم الذي يقدَّم لك الأصل فيه إيش؟ الحرمة.
ولذا: الصحابة رضي الله تعالى عنهم أبَوا أن يأكلوا حتى تأكدوا أن اللحمَ من لحوم أهل الكتاب، ولكن شكُّوا: هل يسمون أم لم يسموا؟ فقال لهم الن أ
نبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «سمُّوا وكُلوا» فالصحابة فهموا أن الأصل في اللحم أن لا يُؤكل، الأصل فيه الحرمة، حتى يتأكدوا من حِله، فأمسكوا عن أكل اللحم، وتيقَّنوا أن الذبح لأهل الكتاب فأكلوا وكان التردد في موضوع التسمية وعدمها، فقال لهم النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «سمُّوا أنتم» وإن لم يسمُّوا «أنتم سَمُّوا وكُلوا»؛ فالأصل في اللحوم الحُرمة، وليس الأصل في اللحوم الحِل، حتى تتيقَّن من الذبح، إذا بقيتَ في شك: وقع ذبح ولا ما وقع ذبح، الطريقة الشرعية، الحيوان مات بسببَين: سبب مُبيح، وسبب مانع، سبب مُحلِّل، وسبب محرِّم، وبقيتَ في شك من الأمرَين؛ الأصل في اللحم التحريم.
يعني: حامل بندقية صيد، طائر في السماء، قنصت الطائر، قلتُ بسم الله؛ خلاص حلَّ الطير، وقع الطير في الأرض فارتطم ارتطاما شديدًا، وقع الطائر على الأرض جاءت سيارة فدهسته، وقع الطائر في ماء فغرق.
فأنا الآن وقعتُ في شك: أن موت الطير هذا كان بسبب طلقة الصيد الحلال السبب المُبيح، أم بسبب الغرق في الماء، أم بسبب دهس السيارة؟ فأنا حينئذ وقعت في شك، فأنا أغلِّب ماذا؟ أغلِّب اليقين، واليقين على الفروج وعلى اللحوم وعلى النفوس وعلى الأموال للمعصوم الأصل فيها الحرمة.
يعني: أنا شككت المال هذا لي ولا [ليس] لي، آخذه ولا ما آخذه؟ لازم ما آخذه.
طيب؛ أنا وقعتُ في شك أن فلانا قاتل ولا مش قاتل وأنا قاضي، فلان سارق ولا مش سارق وأنا قاضي، هل أفتي بقتله؟ هل أقضي وأنا قاضي مسلم أقضي بقطع يده؟ الجواب: لا، ليش؟ لأن الحدود والقصاص يُدرأ بالشبهات، شو يعني: القصاص يُدرأ بالشبهات؟ دل هذا على أن الأصل في الدم والعضو والمال، الأصل فيه في الشرع أنه محتَرم، غير مُهان.
لذا قال الناظم:
وَالْأَصْـلُ فِي الأَبْضاعِ وَاللُّحُـومِ
اللحم إذا شككت: هل ذُبح أم لم يُذبح، حصل وفاة في شيء أحله الله، وسبب الوفاة: هل هو ذكاة شرعية أو غير شرعي، الأصل فيه نغلِّب الحُرمة، ولا نأكله.
قال:
... وَالنَّفْـسِ وَالْأَمْــوالِ لِلْمَعْـصُــومِ
من هو المعصوم؟ المعصوم: المسلم معصوم.
اليهودي والنصراني الكِتابي في الدولة المسلمة معصوم.
يعني اليهودي المغربي الذي يعيش في المغرب، لو جاءني واحد من المغرب وقال لي: أنا أريد أن أقتل يهوديا إيش أقول له؟ حلال ولا حرام؟ حرام.
طيب؛ نصراني يعيش في عمَّان حلال أقتله ولا حرام؟ حرام.
فالمعصوم يشمل ثلاثة أصناف من الناس: الصنف الأول: المسلم، طبعا المسلم والمسلمة.
والصنف الثاني: الكِتابي.
والصنف الثالث: الكافر المعاهَد، الذي بيننا وبين الكفار معاهَدة، وتأشيرات السفر اليوم التي تُوضع على جوازات السفر؛ هي بمثابة المعاهَدة، هؤلاء أموالهم ونفوسُهم الأصل فيها إيش؟ الحرمة.
واحد يقول: هذا سايح يهودي الأصل، يعيش في بلد أوروبي، إيش نقتله؟ نسلب أمواله؟ إيش الجواب؟ إيش الأصل في أمواله وفي نفسه؟ الحُرمة، الأصل فيه أنه معصوم.
هذان البيتان قال:
20. وَالْأَصْـلُ فِي الأَبْضاعِ وَاللُّحُـومِ ... وَالنَّفْـسِ وَالْأَمْــوالِ لِلْمَعْـصُــومِ
21. تَـحْريمُـهـا حَتَّـى يَجِــيءَ الحِــلُّ
إيش إعراب (تحريمُها)؟ خبر (الأصلُ)، (الأصلُ.. تحريمُ)، (تحريمُها): أول كلمة في البيت الثاني إعرابُها خبر (الأصلُ)؛ الأصلُ في كذا وكذا وكذا؛ التحريم.
(تَـحْريمُـهـا حَتَّـى يَجِــيءَ الحِــلُّ)
«لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيِّب الزَّاني، والتَّارك لدِينه المُفارِق للجماعة».
فلو واحد معصوم مسلم، قتل دم مسلم؛ إيش نعمل فيه؟ يُقتل، لماذا أفتَينا بقتلِه؟ حتى يجيء الحِل.
طيب؛ فرج المسلمة هل يجوز وطؤه؟ [لا] يجوز، حتى يجيء الحل، إيش الحِل؟ العقد.
مال المسلم هل يجوز أخذه؟ الأصل الحرمة، حتى يجيء الدليل، شو الدليل؟ الزكوات، رسول الزكاة ساعي الزكاة في بيت المال يأخذ مال من لم يؤدِّ الزكاة عُنوة، بقوة الدولة يأخذه؛ بل ثبت في «سنن أبي داود»: يقول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- عن الزكاة: «مَن لم يؤدِّها؛ فإنا آخذوها وشطر مالِه عزَمة من عزمات ربِّنا» من لم يدفع الزكاة نأخذها ونأخذ ضعفَيها، الضعف في العربية: المِثل.
فهذان البيتان اشتملا على ثلاثة قواعد:
القاعدة الأولى: أن الأصل في الأبضاع التحريم.
والقاعدة الثانية: إن الأصل في الذبائح التحريم.
والقاعدة الثالثة: الأصل في مال ودم المعصوم التحريم.
الأصل في النكاح والفروج التحريم.
أنا عندي الآن أمي أخبرتني: والله أنت يا فلان رضعتَ من جارتنا، لكن أنا والله ما عارفة فلانة ولا فلانة، هي تقول: أنا نسيتُ، أنت رضعتَ يا من فلانة أو فلانة، أو أنت رضعت من خالتك فلانة أو فلانة، أنا جازم، لي خمس خالات.. رضعت هذه أو تلك، أما الثلاثة الباقيات لم ترضع منهن يقينًا، فأنا إيش حرام علي الآن؟ حرام علي بنات خالتي هذه وخالتي هذه، يحرم علي أن أتزوج بنات خالتي هذه وبنات خالتي هذه، ويحرم علي أن أتزوج بنات تلك المرأة أو تلك المرأة الأجنبية عني التي تجزم أمي بأني رضعت من واحدة منهن؛ ليش؟ لأن الأصل في الفروج التحريم.
فإذا كان هنالك امرأة محرَّمة عليَّ اختلطتْ بمجموعة من النسوة، وكان الاختلاط محصورًا محدودًا؛ فحينئذ -بناء على قاعدة الأصل في الفروج الحرمة، والأبضاع الحرمة-؛ يحرم علي أن أتزوجها.
لكن لو قالت لي: والله أنا أرضعتك من واحدة، وما كان الحصر محدودا، أنت رضعت من امرأة من سورية؛ ما تصبح كل نساء سورية حرام عليّ.. والله واحدة شامية رضعتك، من هذه الشامية؟ ما نعرف عنها شيء! هذا ممكن في النكبات، أمر ممكن.
لو تقول لي: رضعت من امرأة كذا، وصارت المحرمات علي غير محصورات؛ حينئذ نستصحب الحِل، أما الفروج إذا حُصرت في مكان معيَّن؛ فلا.
طيب؛ أسألكم سؤالا: رجل طلَّق امرأة من نسائه الأربع، ونسي أي امرأة طلَّق، إيش يعمل؟ رجل عنده أربع نساء، فطلَّق امرأة.. يا فلان طلقتَ من؟ والله أنا متيقِّن أني طلقت امرأة لكن أنا شاك في أيهن طلقت! ممكن هذا؟
أسألكم سؤالا: ممكن واحد يطلق خمس نساء؟ [مداخلة]
واحد غضب من زوجاته الأربع بصوت مرتفع، فطلَّق زوجاته الأربع، [فجارتُه] عاقلة قالت: يا أبا فلان أنت رجل عاقل، طلقتَ زوجاتك الأربعة في ساعة واحدة فهلا انتظرت وكذا وكذا، فغضب منها، فقال: أنت طالِق إن قبِل زوجكِ! فزوجُها سمعه؛ فقال: كما قلتَ! قبِلتُ قبِلتُ! فطلَّق الخمس!!
طيب؛ رجل طلَّق زوجة من أربع زوجات، وجاء يستفتي، طالب علم، قال: والله يا شيخ أنا لي أربع زوجات، أو لي ثلاث زوجات، أو لي زوجتان، وطلقتُ واحدة ونسيت من أريد، والله ما أدري من أريد، هذه كنت مُغضب منها، وهذه كنت مغضَب منها، وأنا طلقتُ واحدة لكن أنا والله ما أدري من أريد؟ إيش نفتيه؟
نفتيه على مذهب جماهير العلماء؛ قال: أنتَ لا تطأ زوجتَيك إلا بإرجاء؛ لأن الأصل في الفروج الحُرمة، والذي أحلَّ لك زوجتَيك العقد، وأنت نقضتَ العقد بالطلاق... فرجع الزوجتَين عليك حرام، ويحرم عليك أن تطأ واحدة منهن حتى تجدد العقد، أو حتى تحدِّد واحدة من اثنتين، ما لم تحدِّد فالزوجتان حرام عليك.
هذا قول جماهير أهل العلم.
الإمام أحمد رحمه الله تعالى وسَّع في الباب فقال: يقرع بينهما، قال: اعمل قرعة، اللي تطلع عليها القرعة هي الطالق...
الجواب الأول أقعد، بناء على القاعدة: أن الأصل في الفروج الحُرمة، الأول أقعد، والله تعالى أعلم.
طيب؛ الأدلة على حُرمة دم ومال المعصوم كثيرة، فالنَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في حجة الوداع في خطبته ركَّز كثيرًا على حقوق الضعاف.
فالنَّبي قال في خطبة الحاجة: «استوصوا بالنساء خيرًا»، وقال في خطبة الحاجة: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام، كحُرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»؛ فالنَّبي حرَّم الأبشار؛ الإيذاء، الجَلد، جلد البشرة، وحرَّم الأموال.
والنَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: «لا يحلُّ مال امرئ مسلم إلا بِطيب نفسٍ منه ولو قضيبًا من أراك» إيش يعني (قضيب من أراك)؟ يعني: سواك، يحرم عليك أن تأخذ مال أخيك إلا بطيب نفس منه، ولو كان سواكًا، ولو كان شيئًا يسيرا ليس له بال.
والنَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول فيما أخرج أحمد بإسناد صحيح: «من قتل رجلًا من أهل الذمَّة لم يَرَح رائحة الجنة» يا الله ما أحسن ديننا! في كثير من كتب التاريخ -وهذه مسألة تحتاج لإبراز ولا سيما في هذا الزمان-:
في كثير من كتب التاريخ كان أهل الكتاب يناضلون عن المسلمين أكثر من دفاعهم عن أنفسهم، يريدون هذه النعمة، لذا هم يدفعون الجزية مقابل حمايتهم، فهم شركاء معنا في المحافظة على أموالهم والمحافظة على أرواحهم.
ولذا: النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال فيما أخرج أحمد قال: «من قتل رجلًا من أهل الذمَّة لم يَرَح رائحة الجنة».
بل ثبت في «صحيح الإمام البخاري» أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: «مَن قتل معاهَدًا لم يَرَح رائحة الجنة».
في «مسند أحمد» قال: «مَن قتل رجلًا من أهل الذِّمة»، وفي «صحيح البخاري» قال: «مَن قتل معاهَدًا» من المعاهَد؟ الكافر الأصلي، الذي يدخل بلادَ المسلمين بعهد، أو ما يقوم مقام العهد، فالكافر لا يُقتل، [الكافر] له أمان بأماننا.
لماذا لا يُقتل الكافر؟ ليس كل كافر، الكافر في المعركة يُقتل، وفيه أجر على قتل الكافر في المعركة، الكافر المُحارِب يُقتل ويُسلب ماله، النَّبي يقول: «مَن سلبَ قتيلًا فله مالُه»، فالكافر المُحارِب يُقتل في المعركة.
نتكلم عن المعصوم، المعصوم المسلم، وأهل الذمة، والكافر المعاهَد.
فهؤلاء الثلاثة الأصلُ في دمائهم وفي أموالهم الحُرمة.
20. وَالْأَصْـلُ فِي الأَبْضاعِ وَاللُّحُـومِ ... وَالنَّفْـسِ وَالْأَمْــوالِ لِلْمَعْـصُــومِ
الإضافة (للمعصوم) تعود على النفس والأموال، فالنفس والأموال للمعصوم الأصل فيها تحريمها حتى يجيء الحِل.
الأصل يحرم قتل المسلم حتى يأتي دليل أنه قتَل.
طيب؛ لو رجل قَتَل لك قتيلًا، قتَل لك أبًا أو أخًا أو ابنًا أو شقيقًا، فأنت أصبحتَ ولي الدم، فهل يجوز أن تقتلَه من رأسك؟ الجواب: لا، القصاص والقتل والحُدود تُناط بمن؟ بأولياء الأمور.
يعني: واحد جاءك زاني تقيم عليه الحد، يجوز لك هذا؟ هذا الأمر لا يجوز لك.
لكن القاضي يقتل القاتلَ لأن الشرعَ أذِن بقتل القاتِل بقولِه: {النَّفس بالنفس}، فلولا وُرود الآيات والأحاديث التي فيها أن النفس بالنفس؛ لما جاز لنا أن نَقتل.
ولذا: ذكرتُ لكم متى وقعت شُبهة عند القاضي أن القاتلَ هو ليس بقاتِل؛ فحينئذ مباشرة نُبرِّئ القاتل.
فقال الناظم الأصل في هذه الأشياء: (تَـحْريمُـهـا حَتَّـى يَجِــيءَ الحِــلُّ) حتى يأتي دليل خاص على استحلال المال، على استحلال الجلد، على استحلال النفس، على استحلال بتر العضو، وقطع اليد مثلا.
فإن جاء الدليل الشرعي {والسَّارق والسَّارقة فاقطعوا أيديَهما}؛ فعلنا، {والزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مائة جَلدة}؛ جلدنا، فما لم يأتِ الدليل؛ فالأصل الحرمة، الأصل التحريم.
فلو سئلتَ: إيش الدليل على جواز جلد الزاني؟ فيه آية، لو لم تَرِد آية؛ ما جلدنا، فنفعل ما ورد عند ربنا، ما ورد في شرعنا من نصوص في الكتاب والسنة، الذي ورد نفعله.
طيب؛ يجوز أن نزيد عن العدد، أو أن نزيد في جنس العقوبة عما ورد في الشرع؟
شو الجواب؟ المنع، ليش المنع؟ لأن الأصل التحريم، وجاء الدليل على الحِل بالمقدار الذي جاء فيه.
فالنَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- مثلا غرَّب الزاني؛ نُغرِّب الزاني، والتغريب فعله النَّبي وتركه؛ فدل على أن التغريبَ ليس حدًّا؛ وإنما هو تعزير، فيجوز للقاضي أن يُغرِّب الزاني، ولا سيما إن كان عَزَب، شاب مفسد، وتعرف على نساء الحي، وعرف المداخل والمخارج، وكيف يُميِّل النساء إليه، فمِن حُسن الشريعة أن زاد الشرعُ على حد الجَلد فجعل للقاضي حكمًا تعزيريًّا زائدا عن الجلد، وهو أن يُغرِّب الزاني، أن يُغرِّبَه، يعني أن ينقله من مكان لمكان.
فما ورد في الشرع نقول به بالمقدار الذي ورد وبنفس جنس العقوبة، الشارع قال: {والسَّارق والسَّارقة فاقطعوا أيديَهما}، والنَّبي امتثل أمر الله، وقطع اليد اليمنى من الرسغ، لا يجوز تقطع الرجل، ولا يجوز أن نقطع اليدَ من الذراع، أو من الإبط، أو نقطع اليد مثلا من المرفق، فمقدار ما أذِن به الشرعُ فعلنا.
قال: (حَتَّـى يَجِــيءَ الحِــلُّ) المقدار الذي جاء فيه الحِل؛ فعلنا الحل، والزيادة على ما ورد بالمقدار -كميةً أو كيفيةً-؛ يبقى التحريم.
يعني واحد زنى وهو أعزب تقتله؟ حرام، ولو سئلنا شو الدليل على التحريم؟ نذكر الأصل في دمه حرام، وهو زنى وهو ليس بثيِّب، النَّبي قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاث» قال: «الثيب الزَّاني» وهذا ليس بثيِّب، هذا أعزب، فالأعزب لا يقتل، فلو قتلنا من زنى وهو غير ثيِّب؛ أفتينا بالحُرمة بناء على الأصل، فالذي يحل بمقدار ما ورد فيه النص بالحل.
قال:
20. وَالْأَصْـلُ فِي الأَبْضاعِ وَاللُّحُـومِ ... وَالنَّفْـسِ وَالْأَمْــوالِ لِلْمَعْـصُــومِ
21. تَـحْريمُـهـا حَتَّـى يَجِــيءَ الحِــلُّ ..
قال:
فَـافْـهَـمْ هَـداكَ اللـهُ
أيضا الهداية هنا بمعنى الإلهام والالتزام، لا بمعنى الدلالة، وأهل الصلاح والعلماء إن دعوا لطلبة العلم -ونحن نقرأ دعاءَهم ونقرأ كلامَهم، ونشرح كلامهم-؛ فأرجو الله سبحانه وتعالى أن تصيبنا بركة دعائهم -إن شاء الله-.
وأسأل الله لنا ولكم الهداية، وأن يهدينا إلى سواء السبيل، وأسأله سبحانه أن يهدينا فيُعلمنا ما ينفعنا، وأن يجعل هذا العلم حجة لنا لا علينا، وأن ينفع بنا البلاد والعباد، وأن يحيينا طلبة علم، وأن يُميتنا طلبة علم، وأن يجعلنا نورًا إن شاء الله، وأن يكون النور على ألسنتنا وفي قلوبنا، وفي حياتنا، وفي ذرارينا.
تَـحْريمُـهـا حَتَّـى يَجِــيءَ الحِــلُّ ... فَـافْـهَـمْ
العلم فهم، والفقه هو الفهم، والله قال: {ففَهَّمناها سُليمانَ}.
والفهم قيل لعلي في «البخاري»: هل عندكم شيء غير كتاب الله وسُنة النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-؟ قال: «لا والله؛ إلا فهما يؤتاهُ الرجل».
فقه عجيب أن تؤتَى فهمًا، الله يعطيك فهما، «اللهم فقِّههُ في الدِّين، وعلِّمه التأويل» أن تفهم كتاب الله وأن تفهم حديث النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- هذه الأمور الحسنة وإن جاء بصيغة الأمر (فافهم هداك الله).
إيش الفرق بين الالتماس والأمر والدعاء؟
[الأمر مِن] الأعلى للأدنى، إذا الله أمرنا في الكتاب أو السنة: أقيموا الصلاة.. الزكاة، إيش هذا يسمى؟ يسمى أمرا.
الأمر في اللغة والشرع عند الأصوليين: إذا كان الأمر من الأعلى للأدنى يسمى أمرًا.
تقول: رب اغفر لي، إيش هذا؟ أنتَ أدنى تأمر الأعلى؟ معاذ الله، الله لا يؤمر.
فإذا كان الفعل -فعل الأمر- صدر من الأدنى للأعلى هذا يكون دعاء.
وإذا كان من الأعلى للأدنى هذا يكون أمرًا.
وإذا كان من المثل للمثل؛ يسمى التماسا.
فالناظم يلتمس منك أن تفهم العلم، يرجوك، يحب لك، يُرغِّبك، يشجعك، ويدعو لك.. ما أحسن العلم! فهو يلتمس منك ويرجوك ويدعو لك أن تفهم هذا الكلام.
هذه كليات مهمات وضوابط يحتاجها طلبة الفقه وطلبة العلم في الفتوى، نتكلم بعمومات، لكن طالب العلم صاحب الملَكة إذا بقي مواصلا للطلب كل سؤال يُسأله تزدحم هذه الأشياء في قلبه وفي عقله، وتصير مفاعلات في الداخل ويخرج الجواب.
حتى يلصق نوع هذا السؤال بأصل من هذه الأصول، بطريقة فرز أتوماتيكية من غير كبير وعي، بالملَكة، من كثرة الممارسة، وهذا الذي نحتاجه، نحفظ، ثم نفهم، ثم تضبط، فيبقى الخير موصولا، نبقى نسير فيما سار عليه السابقون من علمائنا الأفذاذ رحمهم الله وحشرنا وإياكم في زمرة النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- معهم.
قال:
21. تَـحْريمُـهـا حَتَّـى يَجِــيءَ الحِــلُّ ... فَـافْـهَـمْ هَـداكَ اللـهُ مَــا يُـمَــلُّ
إيش معنى (ما يُمل)؟ ما يُملى عليك، {ولْيُمْلِل الذي عليه الحقُّ ولْيتَّق اللهَ ربَّه}، يعني ما أُمليه عليك، فافهم الذي ذكرتُه لك.
أو (فافهم هداك الله ما يَحِل) فافهم الحلال والحرام.
فهذه القواعد الأصل في الأشياء الحل، وفي الأشياء الحرام هي التي توضح لك ما يُحل مما يُمنع من الممنوع والمحذور.
نكتفي بهذا القدر، ونكمل في الدرس القادم إن شاء الله شرح البيت الثاني والعشرين:
22. وَالْأَصْـلُ فِي عَـادَاتِنَــا الْإِبَـاحَـهْ ... حَتَّـى يَجِــيءَ صَــارِفُ الْإِبـاحَـهْ
نبدأ إن شاء الله الدرس القادم البيت الثاني والعشرين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

انتهى (الجزء الثاني).

تفريغ : أم زيد

من هنـا تجميع روابط الدروس المفرَّغة
السابع- الجزء الثاني...
__________________
قال العلامة صالح آل الشيخ: " لو كان الفقه مراجعة الكتب لسهل الأمر من قديم، لكن الفقه ملكة تكون بطول ملازمة العلم، بطول ملازمة الفقه"
وقال: "ممكن أن تورد ما شئت من الأقوال، الموجودة في بطون الكتب، لكن الكلام في فقهها، وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ"
"واعلم أن التبديع والتفسيق والتكفير حكم شرعي يقوم به الراسخون من أهل العلم والفتوى ، وتنزيله على الأعيان ليس لآحاد من عرف السنة ، إذ لا بد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، حتى لا يصبح الأمر خبط عشواء ،والله المستعان"
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 06-06-2012, 10:39 AM
حامد بن حسين بدر حامد بن حسين بدر غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,115
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم زيد مشاهدة المشاركة
بسم الله الرحمن الرحيم

شـرح
«منظومة القواعد الفِقهيَّة»
-للإمام السَّعدي-
-رحمهُ الله-


[الـدَّرس الثَّـامِن]
(الجزء الأوَّل)

لفضيلة الشَّيخ
مشهور بن حسن آل سلمان
-حفظه الله-


إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
فلو سأل سائل فقال: هل كان الصحابة والتابعون يعلمون القواعد الفقهية وأصول الفقه؟ إيش تقولون؟ كانوا يعلمون ولا لا يعلمون؟ يعلمون.
وما هي الأدلة على علمهم؟
هل كان ينطلقون في فقههم وفتاويهم من هواء وفراغ أم من علم متين وأساس ركين؟
بلا شك كانوا ينطلقون من قواعد علمية صحيحة.
لكن: لو قال قائل وهو يعيش في بلاد حارة، لا مطر فيها ولا برد، وينظر للناس وعاش بينهم سنة وسنتين، فلم يجدهم يلبسون المعاطف، فقال: أهل هذه البلدة لا معاطف عندهم.
أصاب أم أخطأ؟ العاقل ماذا يقول له؟ يقول: انتظر حتى ينزل المطر ثم تفحص وتعرف الجواب، انتظر حتى ينزل المطر، فإذا نزل المطر ولم يرتدوا المعاطف؛ فحينئذ نفيُك صحيح، أما المطر غير نازل فلا يجوز لك أن تقول إنه لا معاطف عندهم.
فالصحابة نمط حياتهم كانت الأحكام ظاهرة فيه، أعني الأحكام الشرعية من خلال الآيات والأحاديث النبوية، ولما كانت تستجد نوازل، تأتي هبات ريح بارد، أو زخات مطر بين الحين والحين، فكانت تبرز القاعدة، يبرز الأصل، وما عدا ذلك يبقى الناس على الحال الأول الأنور.
إذا عمر -كما عند عبد الرزاق-بإسناد صحيح- لما وقع ميراث الجد والجدة، وقع فيه خلاف كثير، وكان يود لو أنه سأل رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- عن ذلك، واختلف الصحابة حتى قال علي: من أراد أن يَقتحم براثين النار؛ فليقضِ في الجد والجدةِ في الميراث؛ من شدة خوفهم في المسألة.
فعمر اختلف اجتهادُه في ميراث الجد والجدة، فلما كان يُسأل كان يقول: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي، يعني الاجتهاد لا يَنقض الاجتهاد.
قتادة -كما في «مصنف عبد الرزاق»- كان يقول: كل قرضٍ جرَّ نفعًا؛ فهو باطل. وبعض الناس يرفعه إلى النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بلفظ: «فهو رِبا»، وهو مما لم يثبت عن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وهو من قول قتادة وهو تابعي الجليل.
فالقواعد كانت عند الصحابة وعند التابعين لكن النوازل والمشاكل، وخلاف ما عليه نظام الحياة من تعظيم أمر الله وأحاديث رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- كانت بالنسبة إلينا قليلة، وجُل فقه ما في هذه الأيام نوازل، نمط حياتنا نمط حياة الغربيين، فكل ما يجري في الغرب يأتينا، من مسائل اقتصادية، مسائل طبية، نوازل سياسية، اجتماعية، إلى آخره، فلا نجد لها أصولًا عندنا؛ إذ نمط حياتنا غير نمط حياتهم؛ فنحتاج إلى إبراز الأحكام الشرعية من خلال القواعد..
فزخات المطر والريح العاصفة الباردة كثيرة في حياتنا فنحتاج دائما أن نبرز هذه المعاطف التي لم تكن بارزة وكانت موجودة ولم تكن معدومة.
فإياك أن تظن -يا طالب العلم- أن الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم لا يَعرفون الأصول أو لا يعرفون القواعد.
ولذا: الذي يقرأ كتب الحديث -كـ«صحيح البخاري» و«سنن ابن ماجه» و«صحيح ابن خُزيمة» -خاصة- و«ابن حبان» على وجه أخص، و«سُنن البيهقي الكبرى»- يستطيع أن يتلمس كثيرًا من القواعد والمسائل الأصولية والقواعد الفقهية، افحص؛ تجد، والشيء الذي لا تعرفه لا تجهل فتنكره، لا تكن جاهلا.
فبعض الطلبة يقول: ليش أنتم مشغولون بالقواعد؟ القواعد التأصيل؛ حتى نرتقي في هذا العلم خيرَ مرتقى، وحتى نفهم الأمور بجذورها.
أنا لَمّا أدخل بيتًا ولم أر فيه الأساس؛ فلا يجوز لي أن أقول: هذا البيت بُني على غير أساس! وإن كنت لا أرى الأساس بعينيَّ، لكن لولا هذا الأساس؛ ما قام هذا البيت!
فهذه مسألة ينبغي أن تنتبهوا إليها.
آخر ما بلغ بنا المقام في درسنا السابق، شرحنا البيت العشرين والحادي والعشرين من منظومة الشيخ السعدي رحمه الله في القواعد الفقهية.
20. وَالْأَصْـلُ فِي الأَبْضاعِ وَاللُّحُـومِ ... وَالنَّفْـسِ وَالْأَمْــوالِ لِلْمَعْـصُــومِ
21. تَـحْريمُـها حَتَّـى يَجِـيءَ الحِـلُّ ... فَافْـهَـمْ هَـداكَ اللـهُ مَـا يُـمَـلُّ
وقلنا أن الأصل في الفروج -وهي الأبضاع- واللحوم والدماء -دماء المسلمين ودماء أهل الكتاب ودماء المعاهَدين من الكفار- الأصل فيها التحريم حتى يجيء دليل الحِل.
ثم تفريعًا على هذا الأصل -وقد تكلمنا عن هذا طويلا-أيضا قال:
22. وَالْأَصْـلُ فِي عَـادَاتِنَــا الْإِبَـاحَـهْ ... حَتَّـى يَجِــيءَ صَــارِفُ الْإِبـاحَـهْ
لو أن الشيء المباح لا يكون مباحا إلا بدليل خاص، تعرفون إلى مصحف كم مجلد؟ لعل الكرة الأرضية لا تسع المصحف، إذا كل عادة وكل حركة وكل مشروب وكل مطعوم وكل مُبتكَر وكل مخترع وكل لبس وكل استعمال لا يكون حلالًا حتى يجيء الدليل على الحِل نحتاج إلى مصحف يعيش الإنسان ويموت وهو لم يقرأه وهو لم يمر به.
ولذا وأرجو أن تنتبهوا: النوازل والمسائل والأشياء التي لم تكن موجودة ووُجدت كثيرة لا يُمكن أن تُحصر، والآيات والأحاديث محصورة، صحيح؟
والمحصور يسعُ اللامحصور، المحصور: الآيات والأحاديث، تسع المسائل والمشاكل التي هي ليست بمحصورة، كيف يكون ذلك؟ لأن القاعدة الواحدة من القواعد الفقهية المأخوذة من النصوص مباشرة، أو من معاني النصوص يُفرَّع عليها ألوف مؤلفة من المسائل الموجودة والمسائل التي لم توجد بعد.
حتى تقرأ تحتاج لدليل، وحتى تشم تحتاج لدليل، وحتى تأكل تحتاج لدليل، وتحتاج لدليل على حل كل شيء من المطعومات والمشروبات والفواكه والخضراوات والأعشاب والحيوانات والمِهن والعادات والتقاليد، إذا احتجنا لكل واحدة، لكل مفردة من المفردات لدليل؛ سيكون أكثر من عدد أوراق المصحف! كم أنواع الجبن في العالم؟ كم أنواع الزيتون في العالم؟!
ولذا: الناظم إيش قال؟ قال:
22. وَالْأَصْـلُ فِي عَـادَاتِنَــا الْإِبَـاحَـهْ ... حَتَّـى يَجِــيءَ صَــارِفُ الْإِبـاحَـهْ
هذا البيت عبَّر الناظمُ فيه على قاعدة مهمة الكل يحفظها وهي أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي التحريم، حتى يأتي ما يصرف الإباحة إلى الكراهة أو إلى التحريم.
فالأصل في الصنائع، جميع أنواع الصنائع الأصل فيها إيش؟ الحل.
العمل في البنك حلال ولا حرام؟ حرام، هل هذا يخالف القاعدة؟ لا، ليش؟
حَتَّـى يَجِــيءَ صَــارِفُ الْإِبـاحَـهْ
في حديث ابن مسعود عند النسائي: «لعن الله آكل الربا وموكِله» المُوكِل: المُطعِم، والآكل: الذي يأكل، ولعن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في الربا إيش أيضا؟ كاتبَه وشاهدَيه.
طيب؛ إذن: الذي يأكل الربا ويساعد على الربا هذا صارف الإباحة، لو لم يرِد دليل؛ لكانت البنوك حلالا.
الذي يعمل في شركات التأمين حلال ولا حرام؟ حرام، ليش حرام؟ لأن التأمين غَرَر.
وفي «صحيح الإمام مسلم»: عن أبي هريرة قال: «نهى النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- عن الغَرَر»، والغَرر ما كانت عاقبته مجهولة.
فالأصل في المِهن الحِل، حتى تصادم نصًّا، فما لم يأتِ دليل من الشرع على حُرمة مهنة من المهن فتبقى هذه المهن من الحل.
نعم في أعراف بعض الناس هنالك مهن تخالف المروءة، وفي أعراف بعض الناس هنالك مهن لا يقع التزاوج بسببها؛ فهذا من موروثهم القَبَلي لا من موروثهم الشرعي.
وهذه الموروثات مع العولمة الجديدة ومع نظام الحياة الجديد أصبحت في خبر كان، فأصبحت ضعيفة وضعيفة جدا.
يعني: بعض العادات لا يناسبون مثلا الغجر، بعض أصناف الناس يُسمَّون الغَجَر ويسمون النوَر ويسمون الكوليَّة في العراق، هذا شأن الأعراف، لكن الله ماذا يقول عز وجل؟ يقول: {إنَّ أكرمَكم عند اللهِ أتقاكم} العبرة بالتقوى، فلا يُحط من قيمة الإنسان بأصله وهو ليس مخيرًا فيه، هذه عادات ما تخالف الشرع، هذه عادات أصلا ما لها صلة بالشرع، فالشرع يقول:
22. وَالْأَصْـلُ فِي عَـادَاتِنَــا الْإِبَـاحَـهْ ... حَتَّـى يَجِــيءَ صَــارِفُ الْإِبـاحَـهْ
فالأصل في الأشياء الحل، الأصل في الصنائع كلها الحل.
بعض الناس ما يناسب الجزار، ما يناسب الحداد، ما يناسب صاحب الصنعة، هذه عادات لا وزن لها في الشرع، والأحكام الشرعية على خلافها، والعادات محكومة بالشرع وليست حاكمة على الشرع، فلا وزن لها.
فالأصل في الصنائع والأصل في الأعمال العادية من المعاملات من أنواع الرياضات ومن أنواع الذهاب والمجيء والحركات الأصل فيها الحل.
فالأصل في هذه الأشياء والأصل في المشارب ما يُشرب أنواع الأشربة، وفي المطاعم جميع أنواع المطعومات، الأصل فيها الحل.
طيب؛ يا شيخ الخمر؟ نقول: جاء صارف الإباحة.
الخنزير؟ جاء صارف الإباحة.
ما يُسكر من سائل أو جامد، فهذا إيش؟ هذا جاء صارف الإباحة.
ما يشمله النص مباشرة وما في معنى ما شمله النص، هذا فيه صارف الإباحة.
يعني: الحشيش حلال ولا حرام؟ حرام، ليش الحشيش حرام؟
طيب الحشيش ورد في القرآن؟ الحشيش ورد في السنة؟
الذين يُنكرون حرمة الدخان يقول: يا شيخ أنا لا أؤمن بحرمة الدخان حتى تأتيني بآية أو حديث؟!
يا أهبل! يا مسكين! الدخان ما عُرف إلا كولمبس عرف الدخان، بعد النبي، وبعد الصحابة، وبعد التابعين، بعد مئات السنين عُرف الدخان، مثل الحشيش، الحشيش عُرف في القرن السادس الهجري، قبل القرن السادس ما كان فيه حشيش.
فمش متصور شيء عُرف في القرن السادس باسمه نجد له نصًّا قبل ستمئة سنة! لكن نجد معنًى من معاني النصوص.
النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول -في المتفق عليه من حديث عبد الله بن عمر-، يقول: «كل مُسكر حرام» فكل شيء يُسكر حرام، الحشيش يُسكر ولا لا يسكر؟ يُسكر.
الذي يتعاطى الحشيش -نسأل الله عز وجل لي ولكم العفو والعافية ولذرارينا ولمن نحب- هؤلاء يعلمون هذا الأمر.
فلو سأل سائل فقال: أيهما أشد: الحشيش أم الخمر؟ إيش الجواب؟ أيهما أكثر ضررًا الحشيش أم الخمر؟ إيش الجواب العلمي يا طلبة العلم؟
[مداخلة] أحسنتَ؛ الجواب: التفصيل، كيف التفصيل؟
أثر الخمر على المجتمع أكثر ضررا من أثر الحشيش على المجتمع.
المخمور يؤذي المجتمع أكثر من أذى صاحب الحشيش، وصاحب الحشيش يضر نفسه أكثر من شارب الخمر في ضرره لنفسه، كلاهما حرام، والغالب على متعاطي الخمر ضرر الناس، والغالب على متعاطي الحشيش ضرر النفس؛ لكن هذا حرام، وهذا حرام.
ما نفترض يوجد نص في في حرمة الحشيش، لكن الحشيش ليس بحلال، الحشيش حرام، وسبب حُرمة الحشيش: الضرر؛ النبي يقول: «لا ضرر ولا ضرار»، وسبب حُرمة الحشيش الإسكار، النبي يقول: «كل خمر مُسكر» الخمر معناها: ما خامر العقل، الشيء الذي يُغيِّب العقل، هذا هو الخمر، لذا مش حاجة نقول: أي خمر حرام: خمر العنب، ولا خمر التمر ولا خمر التفاح هو الحرام؟ كل ما خامر العقل فهو خمر، والشرع سكت عن أنواع الخمر، من أي الأنواع مصنوعة الخمر.
فالأصل في الخمر الحرمة، وعلة تحريم الخمر النبي يقول: «كل مُسكر خمر»؛ فالخمر ليس حراما للونه، فلو صار عصير بنفس لون الخمر عصير التفاح يكون حرام ولا حلال؟ حلال، وليس الخمر حرامًا لرقته، وليس الخمر حراما لطعمه، لو غيرنا طعمه بمواد أخرى، حُرمة الخمر من أجل إسكاره «كل خمر مسكر، وكل مسكر حرام» فكل مسكر حرام.
طيب هذا الإسكار سواء كان سائلا أو كان جامدا، سواء يتعاطى عن طريق الشراب، أو يُتعاطى عن طريق المضغ، مثل -نسأل الله العفو والعافية للجميع- مثل ما فيه اليمن اليوم الذي يسمى القات، القات نوع من أنواع الحشيش -ولله الحمد والمنة مُدرج تحت أنواع الحشيش-، والذي يُمسك متلبسا ومعه القات يعاقَب معاقبة من معه الحشيش.
فإذن: الأصل في المطعومات والأصل في المشروبات..
طيب؛ الأصل في الملبوسات؟ بحاجة الشرع يقول لنا كل نوع من القماش حلال، شو أنواع التفاصيل حلال، وأنواع الستائر إيش منها حلال وإيش منها حرام، وأنواع الفُرُش، وأنواع الأغطية وأنواع الفرشات، الشرع يقول هذا؟ ما يقول هذا الشرع، شو الشرع يقول؟ يقول: الأصل في الأشياء الإباحة، كل شيء حلال، «البس ما شئت» كما قال النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- «وكل ما شئت، واشرب ما شئت، ما لم يكن إسراف أو مَخيَلة».
إذا لبست لباسا طيبا ما تتكبر على الخلق، اعلم أن هذا من فضل الله عليك، ولا تسرف، البس حاجتك، كل حاجتك، ما تسرف في لبسك، ولا تسرف في طعامك وشرابك، ولا تتكبر على الخلق بطعامك وشرابك ولباسك.
«البس ما شئت»، إيش يعني «البس ما شئت»؟ يعني كل أنواع الملبوسات حلال.
«كُلْ ما شئت»؛ إيش يعني «كُلْ ما شئت»؟ يعني كل أنواع المأكولات حلال.
قال: «اشرب ما شئت»، يعني: كل أنواع المشروبات حلال.
أنواع الطبايخ، بدنا يجينا نص حتى تكون حلال؟ لو نفكر في هذه الأشياء التي نمارسها كل يوم، ولو إنسان قلب هذه القاعدة؛ لعلِم الشدةَ والعسر التي تقع في حياة المسلمين.
فمن محاسن دينِنا: أنه يريد منا أن نُعمل عقولنا، يعطينا القاعدة العامة، فكر، عمِّل عقلك.
فكل أنواع الطبيخ حلال، كل أنواع العصير حلال، إلا إن صادم نصًّا.
22. وَالْأَصْـلُ فِي عَـادَاتِنَــا الْإِبَـاحَـهْ ... حَتَّـى يَجِــيءَ صَــارِفُ الْإِبـاحَـهْ
فما لم يأت صارف الإباحة فكل شيء حرام نقول لك هات الدليل، لما تقول لي شيء حرام مِن ملبوس، مِن مطعوم، مِن عادة، مِن مهنة، من حركة، مِن ذهاب، مِن مجيء، مِن جلوس، مِن سفر.. الأصل في الأشياء الحل، أنت إذا سألتني إيش الدليل على الحل؟ تكون مش طالب علم، إذا واحد سألني عن شيء من هذه الأشياء شو الدليل على الحل.. كثير من الناس يقولون: شو الدليل على كذا أنه حلال؟ أقول له: شو الدليل على أن التفاح حلال؟ يستغرب! أقول: سؤالي مثل سؤالك.
إذا بدنا نص من القرآن التفاح حلال، والبرتقال حلال، والتمر حلال، والعنب حلال.. المصحف ما يكفي!
هذا النوع من التشريع يصلح لأناس ما زودهم الله بعقل، يُعملون عقولهم ويفهمون على الشرع.
فالشرع أعطانا ضوابط، أعطانا قواعد عامة، ومن هذه القواعد ينبغي أن نُعمل عقولنا.
طيب؛ إذن هذه الأشياء كلها الأصل فيها الحل، حتى يأتي دليل صريح، أو نص صحيح، أو ما في معنى النص إذا كان له علة، وهذه العلة منصوص عليها، أو في معناه من إلحاق ضرر أو ما شابه.
طيب؛ الأدلة على هذه القاعدة كثيرة جدا، الله عز وجل يقول مثلا في سورة البقرة: {هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعا} كل ما في الأرض لكم بحشائشها، واستخدام ما نبت عليها، وكل ما فيها لكم حلال، هذا نص ذُكر في معرض الامتنان، والله عز وجل لا يمتنُّ إلا بحلال.
{هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعا} يا أيها الناس كل شيء في الأرض لكم حلال، جعله الله لكم، حتى الأشياء المُرة والأشياء التي لا تُستطعم تكون فيها أدوية.
ويقول الله عز وجل في «سورة الأعراف»: {قُل من حرَّم زينةَ الله التي أخرجَ لعبادِه والطَّيِّبات من الرزق} من الذي حرم الطيبات؟ ومن الذي حرم الزينة؟ كل الزينة الأصل فيها الحل حتى يأتي الدليل على التحريم.
الذهب حرام للرجال، الحرير حرام للرجال، ليش؟ لورود النص.
ما لم يرِد فيه نص؟
طيب؛ الساعة المطلية بالذهب حلال ولا حرام؟
الأحكام الشرعية في الدين تُعلَّق بالحقائق ولا بالأسماء؟ بالحقائق.
طيب؛ الساعة المطلية بالذهب هل هي ذهب؟ هي لونها لون الذهب، هل حقيقتُها حقيقة الذهب؟
لبس شيء لونه لون الذهب حلال ولا حرام؟ حلال، ليس ذهبا، والشيء المطلي بالذهب حلال مش حرام، بناء على أي قاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة.
لو واحد سأل: إيش حكم الساعة المطلية بالذهب؟ أقول له: هذا ذهب؟ يقول: مش ذهب. أقول له: أنا عندي قاعدة الأصل في الأشياء الحل، بدك تحرم أعطيني دليلًا.
إذا أوردتَ علي حديث: «هذان حُرِّما على ذُكور أمتي: الذهب..»؟ هذا ليس بذهب، القاعدة: الأصل في الأشياء الحل.
تقول لي: حرام؛ هات الدليل، ما عندك دليل: الأصل في الأشياء الحل.
لون الذهب ليس حراما، اللون يسمونه المطلي بالذهب اليوم بتعبيرنا، لون الذهب ليس بحرام، الحرام عَين الذهب.
طيب؛ ذهب أبيض؟ ما فيش فرق بين اللون، ذهب أبيض ولا ذهب أصفر ولا ذهب أحمر، ما دام اسمه ذهب؛ حرام، الذهب ألوان.
طيب؛ الشرع حرَّم معدن الذهب ولا حرم لون الذهب؟ معدن الذهب، فإن تعددت ألوان الذهب؛ يبقى حرامًا، وإن وافق معدن آخر لونَ الذهب؛ يبقى حلالا.
فالأصل في الأشياء الحِل، في كل الأشياء الحل {هو الذي خلقَ لكم ما في الأرض جميعا}، {قُل من حرَّم زينةَ الله التي أخرجَ لعبادِه والطَّيِّبات من الرزق} شو الحلال من الرزق المأكول؟ الشيء الطيب، الشيء الخبيث حرام، {ويحرِّم عليهم الخبائث} فكل ما تستخبثه العربُ الأقحاح؛ حرام.
يعني العرب تستقبح تستخبث أكل الأفاعي، وأكل الصراصير، وأكل الحشرات، وأكل الفئران، هذه كلها إيش حكمها؟ هذا حكمها عند جماهير أهل العلم -عدا مالك- حكما الحرمة.
لماذا حرمنا أكل الصراصير وأكل الأفاعي وأكل الضفادع وأكل الجراذين؟ لأن الله يقول: {ويحرِّم عليهم الخبائث}، فما عدَّه العرب -عند نزول القرآن-ومنهم من قيَّد ذلك بقريش- ما عدُّوه خبيثًا فهو خبيث.
وكذلك ما يلحق به في المعنى.
الدخان طيب ولا خبيث؟ خبيث، أصحاب الفطر السليمة والعادات المستقيمة والعقول الصحيحة والأمزجة الهادئة الرقيقة، لا يستطيبون الدخان؛ لذا أكثر من يتأذى من أصحاب الدخان من؟ أكثر من يتأذى من الدخان زوجة المدخِّن، صحيح؟ ولو كان المدخن منصفًا لجعل زوجته تدخِّن قبله حتى لا يؤذيها!
فالدخان خبيث، ودلالة خبث الدخان: يستحيل أن تتعاطى الدخان في المسجد، لكن يمكن للمدخن أن يتعاطى السجارة في الحمام -أجلكم الله-، ويمكن وأنت صائم تأكل التمر وتشرب الماء في المسجد، لكن لو أذن عليك المؤذن وأنت صائم وأنت في الحمام والتمر في جيبك لا تأكل التمر في الحمام، فالذي يسوِّي بين التمر وبين الدخان ظالم، يُخالف الفطرة التي فطر الناس عليها.
فالدخان يشمل الخبث، ويشمل الإيذاء كما في حديث أبي أيوب الأنصاري عند مسلم في «الصحيح» قال: قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم» وهو في معنى خُبث رائحة البصل والثوم غير المطبوخين.
وفي «الصحيح»: كان من يأتي للمسجد تنبعث منه رائحة الثوم والبصل يحمله اثنان واحد من قدميه وواحد من [يديه] ويرمون به عند البقيع!
هذه السُّنة لا تفعلوها -يا طلبة العلم- لا تفعلوها! بارك الله فيكم؛ إياكم أن تفعلوا هذه السنة! هي سُنة؛ لكن إياكم أن تفعلوها!
ليش لا تفعلوها؟ عندنا قاعدة جديدة تأتينا، أنتم وحدكم إن شاء الله تعرفونها، لما نتمم القواعد تعرفون هذه الأشياء.
إذن الأصل في كل هذه الأشياء الأصل فيها كلها الحل.
وأما الآيات فكثيرة جدا.. أما الأحاديث فكثيرة جدا، أجتزئ على حديثين:
الأول: ما أخرجه البخاري من حديث سعد بن أبي وقاص رضيَ اللهُ تعالى عنه قال: قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «إن أعظم المُسلمين جُرمًا من سأل عن مسألةٍ؛ فحُرِّمت من أجل مسألتِه».
لذا: ثبت في «الطبراني الكبير» عن عبد الله بن عباس قال: «ما سأل أصحابُ رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- رسولَ الله إلا أربع عشرة مسألة» كانوا يخافون يَسألون، قال: «وكانوا يعجبنا أن يأتي الرجل الأعرابي من البادية فيدخل ويسأل» أما نحن كنا نخاف، هذا الرجل لا يلقي بالا لشيء، كل شيء عنده يسأل، أما نحن لما سمعنا قول النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «إن أعظم المُسلمين جُرمًا من سأل عن مسألةٍ؛ فحُرِّمت من أجل مسألتِه»؛ أصبحنا ما نسأل، نترك الأمر على ما هو عليه، ما نسأل.
طيب؛ إيش مفهوم الحديث؟ الأصل في كل الأشياء قبل السؤال الحِل، وأنتم -أيها السائلون- إن ضيقتم على أنفسكم ضيق الله عليكم، وإن بقي الأمر ولم تسألوا، بقي الأمر على الأصل في الأشياء الإباحة.
ولذا: عند الترمذي عن سلمان الفارسي قال: قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «الحلالُ ما أحل الله، والحرام ما حرم الله، وما سكت عنه؛ فهو عفو» الشيء الذي لم يحلَّل ولم يحرَّم الأصل فيه إيش؟ «وما سكت عنه؛ فهو عفو»، إيش يعني «فهو عفو»؟ ليس بحرام، «ما سكت عنه» ما لم يرِد فيه تحليل ولا تحريم؛ «فهو عفو».
وهذا أصل من أصول قاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة.
فالأصل في الأشياء الإباحة.
طيب؛ النباتات التي لا نعرف حالها؟
إنسان سافر لبلدة من البلاد -مثل أندونيسيا- مليئة بالنباتات، فأراد استخدام النباتات، الأصل إيش في النباتات هذه؟ الحل، سواء كان رجل مريض وُصفت له نبتة ليستخدمها، أو إنسان مكتشف مخترع يريد يستخدم أدوية من هذه النباتات أو ما شابه، الأصل الحِل.
ما ينبت الآن على الجبال من أنواع كثيرة من الأشواك والنباتات، الأصل فيها الحل.
إذا كان عندك أنت من أهل الحلال، وعندك غنم، ما تسأل عن كل نوع إيش يرعى الغنم! يرعى هذا ولا يرعى هذا ولا يرعى هذا! هذا الأمر عسر!
فالأصل في كل هذه النباتات الحل؛ وبالتالي الدواب ترعى من كل شيء، ما فيه مشكلة.
وكم من فائدة من فوائد النباتات لم تُعرف إلا من خلال الدواب، بعض المقوِّيات الجنسية عُرفت من خلال الدواب، لما تأكل منها تصبح عندها شبق، فنظروا فحصوا فأخذوا هذه للبشر.
القهوة البُن أول ما اكتشفت وجدوا بعض الغنم يأكل من شجرة في اليمن وكانت لا تنام لما تأكل، فعلموا أن هذه النبة فيها منبِّهات فأصبحوا يستخدمون البُن للناس.
فالأصل في هذا الرعي كله الحِل، وليس الحرمة، الأصل في كل هذه النباتات الحِل وليست الحُرمة.
فالأصل في كل النباتات المجهولة الحِل.
هذه القاعدة التي ينبغي إن سأل طالبُ العلم وتذكر هذه القاعدة يُحسن أن يسأل إيش الحلال وإيش الحرام.
فما ينبغي لطالب العلم أن يسأل عن أشياء مسكوت عنها في دائرة العفو يقول: إيش الدليل على حِلها؟ بمجرد ما يسأل هذا السؤال تقول: هذا مش طالب علم هذا من عوام الناس! فإذا طلبتَ الدليل؛ طالِبِ الدليل في باب دون باب، في مسائل دون مسائل، ولا تكن من أصحاب المشاكل.
الآن نطالب الدليل نعكس القاعدة، الآن نأتي لقاعدة أخرى نطالب فيها الدليل، فنأتي للقاعدة التي بعدها، القاعدة في بيت رقم (23) يقول الناظم رحمه الله:
23. وَلَيْـسَ مَشْـرُوعًـا مِـنَ الأُمُــورِ ... غَيْـرُ الَّـذِي فِي شَـرْعِنَـا المَـذْكُــورِ
هذه قاعدة مهمة والغفلة عنها مَقتلة، وهي عكس القاعدة الأولى.
القاعدة الأولى: الأصل في الأشياء الحل.
القاعدة الثاني: الأصل في العبادات الحظر، الأصل في العبادات ممنوعة، ممنوع تعبد الله إلا بما ورد، تعبد الله بقلبك بعقلك بكيفك؛ لا!
لو نعبد الله بعقلنا؟ الغائط نجس، والمني طاهر، لازم نتغسل من الغائط ما نتغسل من المني، صحيح؟ لو نعبد الله بعقولنا ليش نتغسل من الطاهر؟ المني طاهر، والغائط نجس، نحن نتغسل من طاهر ونتوضأ من نجس! كما قال علي رضيَ اللهُ تعالى عنه قال: «لو كان الدينُ يُعرف بالرأي؛ لكان باطنُ الخُف أولى بالمسح من ظاهره» أنا أمشي على باطن الخف ولما أمسح؛ أمسح ظاهره! الأمر ليس إليك، هذا إيش الله يحب مش لك، هذا لله عز وجل.
لو كان الأمر بالعقل؛ يأتي آخر النهار والإنسان يتعب في عمله وفي مهنته، وفي الزمن الأول الأنور وقت التنزيل كان الناس يعملون ويتعبون في العمل، يأتي آخر النهار صلاة العشاء: أربع ركعات، وتستيقظ طول الليل وأنت نائم وتصلي ركعتين! كان الأصل أن تصلي وأنت مرتاح أربعة، وآخر النهار تصلي ركعتين.
أنت تعِب وتشتاق للنوم؛ لا، آخر النهار مطلوب منك أن تصلي أربعًا، وأول النهار وأنت قوي تصلي ركعتين! ليش؟ هذا الأمر [ليس لك] هذا الأمر لله، الله كلفك، هكذا أمرَ، ليس لك إلا أن تستسلم.
علَّق الإمام البخاري عن الإمام الزُّهري قال: «مِن الله الرسالة، وعلى الرَّسول البلاغ، وعلى النَّاس الاستسلام».
الرسالة من الله، والرسول إيش عليه؟ يبلِّغ، ونحن إيش المطلوب منا؟ نستسلم، علينا الاستسلام، ونحن مسلمون، وكل الأديان الإسلام، وربنا قال: {إنَّ الدِّين عند الله الإسلام} شو يعني الإسلام؟ المراد بالإسلام الاستسلام، نستسلم لأمر الله، هكذا يا رب تحب؛ سمعا وطاعة، هكذا تريد؛ سمعًا وطاعة، فقلبي وعقلي وأحاسيسي وقوَّتي كلها تخضع لأوامرك، وليس لي أن أخرج عن أمرك، فأنا أستسلم لما تحب.
فالرسالة من الله، والرسول -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- مُبلِّغ، والناس عليهم يستسلمون لأمر الله جل في علاه.
لذا يقول الناظم:
23. وَلَيْـسَ مَشْـرُوعًـا مِـنَ الأُمُــور ... غَيْـرُ الَّـذِي فِي شَـرْعِنَـا المَـذْكُــورِ
فالأصل في العبادات: الحظر، ولا يُشرع منها إلا ما شرعه اللهُ تعالى ورسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، فما ورد في كتاب الله، وما ورد على لسان رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-؛ هو المشروع، وما لم يرِد مشروع ولا ممنوع؟
يعني: لو جاءنا واحد قال: يا جماعة! خمس صلوات في اليوم والليلة ما تكفي، وزيادة الخير خير، وأنتم تصلون خمس صلوات، أنا بدي أصلي ست صلوات، وأنا الصلوات عندي ستة مش خمسة، وأنتم تصلون خمسة أنا عندي ستة، إيش نقول له؟ أقل الأحوال نقول له: أنت مبتدع! وإذا استحل هذا؛ نقول له: أنت كافر!! دِينك ست صلوات، ديننا خمس صلوات، ديننا غير دينك، أنت لك دين غير ديننا، كل شيء دينه كديننا، كل دينه مثل ديننا، لكن قال: أنا بس بدي أزيد صلاة، أنتم عندكم خمس صلوات، أنا عندي ست صلوات!!
واحد جاءنا قال: يا جماعة! أنا ديني مثل دينكم، كل ما تقولون فيه أقول فيه، حرفًا بحرف، لا أخالفكم في شيء، إلا إني أقول: زكريا عليه السلام مش نبي، كل دينكم أنا وياكم سيان، بس أنتم تقولون زكريا نبي أنا أقول مش نبي، إيش نقول له؟ كافر! لأنه ما استسلم لأمر الله، هذا صار عقله هو الحَكم على الدين، والذي يَكفُر بنبي يَكفر بجميع الأنبياء.
فالشرع لما تجي تثبت نبوة رجل تحتاج لدليل على إثبات نبوته، ولا كل إنسان نبي!! ولا النبي الذي ورد في الكتاب والسنة؟ النبي الذي ورد في الكتاب والسنة.
فلما بيان بن سمعان المجرم كان يقول: الله يقول: {هذا بيانٌ للناس} أنا بيان! بيان اسم رجل كان قديمًا، فجاءنا واحد دجال ادعى النبوة قال: أنا الذي الله عناه في كتابه فقال: {هذا بيانٌ للناس}! كفرتَ!
واحد سمى حاله (لا)!! وقال: النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: «لا نبي بعدي»! قلنا: يا هذا! النبي قال: «لا نبيَّ بعدي» ولم يقل: لا نبيٌّ بعدي! لا النافية ليست (لا) مبتدأ و(نبي) خبر! ما قال: لا نبيٌّ بعدي! قال: «لا نبيَّ بعدي».
فالدجالون والكذابون وأعوان الشياطين الذين ينفخ الشياطين في قلوبهم يأتون شمالا يأتون شرقا، لكن على غير الأصول العلمية.
فإذن: الناظم يقول:
23. وَلَيْـسَ مَشْـرُوعًـا مِـنَ الأُمُــورِ ... غَيْـرُ الَّـذِي فِي شَـرْعِنَـا المَـذْكُــورِ
ما ورد في شرعنا في أمور النبوة، ما ورد في شرعنا من أمور الوحي، ما ورد في شرعنا من العبادات؛ نَقبلُه، وما لم يرِد لا نقبله حتى يأتي الدليل؛ لماذا؟ لأن الله تعالى يقول: {اليومَ أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نِعمتي ورضيتُ لكمُ الإسلامَ دِينًا} الدين كامل {اليومَ أكملتُ لكم دينَكم}؛ فالذي يقول فيه فرض الله يحبه ولم يرِد في كتاب أو سُنة؛ كأنه يقول -إن سلَّمنا أن هذا الأمر يحبه الله كما يقول- كأنه يقول: هذا الأمر يحبه الله، وأنزله على قلب رسوله محمد -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، ومحمد خان الأمانة! وأنا أريد أن أُكمِلها، وقول الله: {اليومَ أكملتُ لكم دينَكم} ليس بصحيح إلا هذا الأمر الناقص، هذا محمد -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- خان الأمانة فيه، فأنا اليوم أُكمِلكم، آتيكم بشيء جديد ما جاء في زمن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-!!
لذا: جاء رجل للإمام مالك بن أنس، وكان بيته بعيدا أمتارا عن ذي الحليفة -آبار علي-، قال له: يا إمام! يا أبا عبد الله! أنا أريد أن أعتمر وأُحرم من بيتي، ما أريد أن أذهب هذه الأمتار وأُحرم من ذي الحليفة!
النبي وقَّت لنا مواقيت الحج والعمرة -المكانية والزمانية-، صحيح؟
يعني: لو واحد قال: أنا بدي أحج في صفر مش في ذي الحجة، أنا الحج اليوم.. بدي أعمل أعمال الحج كاملة غير ناقصة لكن في صفر مش في ذي الحجة؟ نقول له: حالك كحال من يقول: أنا أريد أن أحج في ذي الحجة إلى ماليزيا مش إلى الكعبة!! لا فرق بين هذا وذاك!
فالذي يغير المكان يغير الزمان، والدين كامل.
فجاء هذا الرجل فقال: يا أبا عبد الله -الإمام مالك، إمام دار الهجرة- أنا بيتي بعيد عن ذي الحليفة أمتارا، وأريد أن أُحرم من بيتي للعمرة؟ فقال له الإمام مالك: إني أخشى عليك الفتنة. قال: وأي فتنة هذه؟! إنما هي أمتار أمشيها! قال: يا هذا؛ أما سمعتَ قول الله: {فلْيحذر الذين يُخالفون عن أمرِه أن تُصيبَهم فِتنة أو عذاب أليم} (أمرِه) الهاء، مضاف إليه، على من تعود؟ على رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، فلْيحذر الذين يُخالفون أمر رسول الله أن تصيبهم فتنة، فالذي يخالف أمر رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- هذا أصبح فتنة، الفتنة في مخالفة الرسول -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
فـ{اليومَ أكملتُ لكم دينَكم} الدين كامل.
عمر -رضيَ اللهُ عن عمر وعن سائر أصحاب رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم--، عمر مُلهم، سمع رجلًا من اليهود -والقصة في «البخاري»- يقول: لو نزلت علينا هذه الآية لاتَّخذناها عيدًا، قال عمر: والله إني لأعلمُ أين نزلت وفيمَ نزلت، والله إنها نزلت يوم الجمعة، في يومِ عيدٍ، في العاشر من ذي الحجة، في العام الذي حجَّ فيه رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
عيد لنا في الأسبوع، وعيد السنة، وآخر الموسم الذي حج فيه النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- نزلت هذه الآية.
ولذا عمر لما كانت تُقرأ عليه الآية: {اليومَ أكملتُ لكم دينَكم} كان يبكي، وكان يقول -رضيَ اللهُ تعالى عنه-: «واللهِ ما بعد الإتمام إلا النقصان»؛ بعد التمام النقصان، اليوم أُكمل الدين يبدأ النقص سيظهر في الأمة، أي نعم.
وهذا يطابق كلام النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «إنه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنتي وسُنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» إيش قال بعدها؟ قال: «وإياكم ومحدَثات الأمور؛ فإن كل محدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار».
ماذا يُستفاد من قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «وإياكم ومحدَثات الأمور؟
يُستفاد من قوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-:«وإياكم ومحدَثات الأمور بأن الأصل في العبادات التوقيف، وأن الإحداث فيها، إيش الإحداث يعني؟ يعني الافتراع والاختراع وأن نتعبد الله بما في عقولنا، أو عاداتنا أو تقاليدنا، أو ما وجدنا عليه الآباء أو الأجداد، أو ما وجدنا عليه أهل العادات والتقاليد، أو ما تمليه علينا السياسات والمصالح، أو الأهواء والمنامات، هذه كلها محدثات أمور، فلما قال النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «وإياكم ومحدَثات الأمور؛ فإن كل محدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»؛ تبين لنا من هذا الحديث أن الأصل في العبادات التوقيف، والإحداث فيها حرام.
وكذلك يقول الله عز وجل: {أم لهُم شُركاءُ شرعوا لهم من الدِّين ما لَم يأذنْ به الله} دلت الآية أن الذي يُشرِّع الدِّين بغير نصٍّ من كتاب أو سُنة؛ هو شريك لله في التشريع، في التحليل والتحريم!
ولذا: في حديث عدي بن حاتم -وكان نصرانيا- فأُسرت أخته -عدي بن حاتم ذاك الرجل المعروف بالكرم عند العرب- فكان عدي قد هرب، وكان نصرانيًّا، فلما أخبرتهُ أختُه أن النبي رحيم بالناس، وأن من يأتيه فالنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- لا يظلمه، فجاء عَدي، وكان في صدره صليب، فجاء للنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- وكان النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقرأ: {اتَّخذوا أحبارَهم ورُهبانَهم أربابًا من دون الله}، فعدي قال -ويعبر عما في قلبه-: ما اتَّخذوهم أحبارًا من دون الله. فقال له النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-:«ألم يُحلِّلوا لهم الحرام؟ ويحرِّموا عليهم الحلال؟» قال عدي: بلى. فقال النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-:«تلك عبادتُهم إيَّاهم»!
إذن: من شرَع في الدين ما لم يأذن به الله، فاخترع من رأسه عبادات، هذا إيش؟ مُشرِّع! {أم لهُم شُركاءُ شرعوا لهم من الدِّين ما لَم يأذنْ به الله} فدلت الآية على أن الأصل في العبادات التوقيف، ما لك أن تُحرِّم، ما لك أن تقول للناس عبادة كذا مشروعة أو ممنوعة.
وكذلك ورد هذا في عدد كبير من الآثار، فعبد الله بن مسعود رضيَ اللهُ تعالى عنه كان يقول:«اتَّبعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفيتم» ما ورد في الكتاب والسنة يكفيكم، فعليكم بالاتباع وإياكم والابتداع، فقد كُفيتم، كل من لا يُغنيه الكتاب والسُّنة ويريد أن يعبد الله من غير دليل؛ هذا ضال؛ بل هذا رأس من رؤوس الضلال.
وكان عبد الله بن مسعود يقول -وهذه قاعدة هنيئة مريئة يهنأ بها السني- كان يقول: «الاقتصاد في سُنة خيرٌ من الاجتهاد في بِدعة»، سُنة قليلة مُباركة خير من اجتهادٍ كثير في بِدعة «الاقتصاد في سُنة خيرٌ من الاجتهاد في بِدعة».
وعند الدارمي عن عبد الله بن عمر رضيَ اللهُ عنهما كان يقول: «كلُّ بدعة ضلالة وإن رآها الناسُ حسنة».
فيه بدعة حسنة في الدين؟ في الدين ما فيه بدعة حسنة.
في الدنيا: الأشياء التي لم تكن في زمن الرسول -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- ما نقول عنها بدعة؛ نقول عنها : حلال، يعني: المروحة والثريا والسيارة والتخت وما أدري إيش.. هذه الأصل فيها الحِل ولا الحرمة؟ الحِل، ليش نقول عنها بدعة؟
إذا أبيتُم إلا أن تقولوا: فيه بدعة حسنة؟ قولوا: البدعة أصلها حلال! فصار الخلاف شكليًّا، لكن هذه لا تسمى بدعة، البدعة لا تكون إلا في الدين، ولذا قال النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، وقال عبد الله بن عمر رضيَ اللهُ تعالى عنهما: «كل بدعة ضلالة وإن رآها الناسُ حسنة» ما فيش في الدين بدعة حسنة.
إذا تقولون عن الباص وعن القطار وعن الطيارة بدعة! هذه ليست في الدين، ننتكلم عن الدين، فالدين كامل، ما يجوز لأحد أن يزيد عليه، ولا يجوز أن يقول: هذا شيء يحبه الله ولم يكن في زمن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
ولذا: كان سعيد بن المسيب يقول:«ما لم يعرفه أهلُ بدرٍ؛ فليس من دين الله في شيء» الذي لا يعرفه أهل بدر ليس من دين الله، لكن أهل بدر لا يعرفون السيارات والطيارات، هذه من الدين -الطيارات والسيارات-؟ ليست من الدين، والنظارات والمكروفونات، ليست من الدين، هذه ليست لها صلة بالدين.
أما تقول لي: فيه عبادة ما كان يعرفها أصحاب النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، أو لا يعرفها أهل بدر؛ فهذا كله بدع.
جاء رجل لعبد الله بن عباس رضيَ اللهُ تعالى عنهما فقال له: أوصني! فقال: «عليك بتقوى الله والاستقامة، اتَّبع ولا تبتدع».
رأى سعيد بن المسيب رجلًا يقوم يصلي تطوعا في وقت غروب الشمس قبل المغرب، وكان شابا، فسعيد أبو محمد سيد التابعين، أخذ بيد الشاب وأجلسه بقوة، هو قام يصلي لله في وقت فيه إيش؟ كراهة، فأخذ بيده وأجلسه، فقال الشاب لسعيد: يا إمام! أيعذبني الله على أن أصلي له؟ معقول الله يعذبني أن أصلي له! استغرب من فعل سعيد، قال: أيعذبني الله لأني أصلي له؟ فقال له سعيد -ونهره- قال: يا هذا! اجلس! إن الله لا يعذبك لصلاتك له، ولكن الله يعذبك لخلافك للسُّنة. الله يعذبك لأنك خالفت السنة، الله لا يعذبك لأنك تصلي له، النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- نهاك أن تصلي في هذا الوقت، فلا تصلي في هذا الوقت.
وكذلك: ابن عمر دخل المسجد، فوجد المؤذن يؤذن ويثوِّب في الأذان، يعني شو يثوِّب؟ قالوا: يقول: الصلاة خير من النوم، في غير وقتها، وقالوا: أنه يؤذن للمسؤولين وللبعيدين وللغافلين ويؤذن لكل واحد على صلة، قالوا هذا التثويب.. فخرج عبد الله بن عمر رضيَ اللهُ تعالى عنه من المسجد وصاح بأعلى صوته وقال: «أخرجتني البدعة» هذا المؤذن بسبب فعله هذا خرجتُ من المسجد.
جاء مؤذن لعبد الله بن عمر وقال: يا عبد الله! إني أحبك في الله، فقال له عبد الله بن عمر: أما أنا والله أشهده أني أبغضك في الله، قال: لم؟ قال: إنك تلحن في أذانك وتأخذ عليه أجرًا. اللحن في الأذان ممنوع في الشرع.
أكثر قصة تُبين أن الأصل في العبادات التوقيف: رجل عطس عن ابن عمر -والقصة عند الترمذي-، لما عطس قال: الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، فقال له ابن عمر: أما الصلاة على رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- فحَسنة، ولكن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- ما علمنا أن نصلي عليه في هذا الموطن، ولم يعلِّمنا إلا أن نقول: (الحمد لله على كل حال)، فزجره أن يقول: صلى الله على رسول الله.
فهذه كلها تدلل على قاعدة: (الأصل في العبادات التحريم).
والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

انتهى (الجزء الأول) ويتبع (الجزء الثاني).

تفريغ : أم زيد

من هنـا تجميع روابط الدروس المفرَّغة
الثامن........
__________________
قال العلامة صالح آل الشيخ: " لو كان الفقه مراجعة الكتب لسهل الأمر من قديم، لكن الفقه ملكة تكون بطول ملازمة العلم، بطول ملازمة الفقه"
وقال: "ممكن أن تورد ما شئت من الأقوال، الموجودة في بطون الكتب، لكن الكلام في فقهها، وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ"
"واعلم أن التبديع والتفسيق والتكفير حكم شرعي يقوم به الراسخون من أهل العلم والفتوى ، وتنزيله على الأعيان ليس لآحاد من عرف السنة ، إذ لا بد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، حتى لا يصبح الأمر خبط عشواء ،والله المستعان"
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 06-11-2012, 06:09 AM
حامد بن حسين بدر حامد بن حسين بدر غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,115
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم زيد مشاهدة المشاركة
[الـدَّرس الثَّـامِن]
(الجزء الثَّاني)



إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
بناء على ما قررنا في شرحنا للقاعدة الأخيرة أن الأصل في العبادات الحظر والمنع، لو سأل سائل فقال: ما حُكم الصلاة الرجبيَّة -مثلا-؟ تعرفون إيش الصلاة الرجبية؟
الصلاة الرجبية: صلاة تؤدى في التكايا والزوايا، تصلى مائة ركعة في رجب خاصة، وفي كل ركعة تُقرأ أم الكتاب و{قل هو الله أحد} عشر مرات، ويتعبدون الله تعالى بها في كل رجب، ولا سيما في ليلة المنتصف من رجب، يقوم يصلي بعد صلاة العشاء، ويصلي مائة ركعة، في كل ركعة يقرأ [الفاتحة] ويقرأ {قل هو الله أحد} عشر مرات، إيش حكم هذه الصلاة؟ نريد جوابًا علميًّا بناء وتفريعًا على الأصل الذي قررناه وشرحناه والمعمول به عند أهل العلم.
إيش يمكن أن يقول طالب العلم؟ [مداخلة]
يا من تصلي هذه الصلاة لا يحل لك أن تصليها حتى يتبرهن عندك دليلٌ من كتابٍ أو سُنة أن هذه عبادة يحبها الله، فما لم يَقم دليل؛ فالأصل في مثل هذه العبادة وما هو على شاكلتها؛ الأصل فيه المنع.
فكيف وقد ذكر الإمام أبو شامة المقدسي -شيخ الإمام النووي وتلميذ ابن الصلاح-رحم الله الجميع-في كتابه البديع «الباعث على إنكار البدع والحوادث»- قال: «في رحلتي إلى بيت المقدس جاءني رجل من نابلس، وقال لي: إني وضعتُ الأحاديث التي فيها فضل الصلاة الرجبية، وكذبتُ فيها على رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-».
ينبغي أن تقول: حتى يثبت، ما تقول: حتى يَرِد، ما تقول: هذا لا أتعبد بهذه العبادة حتى يَرِد عن رسول الله؛ يجب أن تقول: حتى (يثبت) مش يرِد.
يقول: أنا وضعتُ هذه الصلاة، أنا الذي كذبت على النبي، قال: واستتابني وتوَّبتُه، تاب، قال: أنا كذبت على النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في هذه الصلاة، وبقيت الصلاة للآن موجودة، بقيت هذه الصلاة لهذه الساعة تُصلَّى في الزوايا والتكايا.
كذلك إحياء ليلة النصف من شعبان، ابن كثير في تفسير «سورة الدخان» {إنا أنزلناهُ في ليلةٍ مباركة} يزيِّف ويضعِّف قولَ من قال إن ليلة القدر ليلة النصف من شعبان، ويقول ليلة القدر قطعًا هي في رمضان لأن الله يقول: {إنا أنزله} أي القرآن {في ليلة القدر}، فرجل يقوم ليلة النصف من شعبان، ويعتقد أن لها أجرا وفضلا، فما لم يرد دليل في هذه الصلاة؛ فممنوع هذا الاعتقاد.
لكن من قام ليلة النصف من شعبان كسائر الليالي، ليلة من الليالي وافق أن يسر الله له أن تكون ليلة النصف من شعبان، مثل الليلة التي قبلها والليلة التي بعدها، ولم يعتقد فيها أجرا؛ فهذا مما أطلقه الشرع، فالشرع أطلق قيام أي ليلة من الليالي.
لكن أن تقوم فقط ليلة النصف من شعبان، وأن تصوم فقط النصف من شعبان، ولم يثبت عن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- شيء من ذلك؛ فالأصل في العبادات المنع، وبالتالي هذه العبادات كلُّها مردودة.
فكل عبادة من صلاة أو صيام أو حج، إيش حج؟
بدعة كانت قديمة معروفة عند أهل دمشق، وعرفت في العصور الأولى، تسمى التعريف، كان الناس يوم عرفة يتجردون من المَخيط وهم في دمشق، ويلبسون ملابس الإحرام، ويقفون في المساجد يتضرعون يتوجهون للقِبلة ويسألون الله تعالى!
أبو شامة بحث هذه المسألة أيضا في كتابه «الباعث» بحثًا عجيبا ونقل عن جملة من الأعيان من التابعين من أهل الشام أنهم كانوا لا يَخرجون بعد عصر يوم عرفة، كانوا يبقون من بيوتهم، ولا يخرجون يقفون مع الدهماء ومع العوام.
فلا يجوز تعبُّد الله عز وجل بأي عبادة من العبادات إلا إن ثبت ذلك.
لا يجوز لك أن تؤذن في وقت لا يشرع لك الشرع الأذان؛ لأن الأصل في الأذان التوقيف، لا يجوز لك أن تزيد على الأذان.
أتَعلمون أن خلاف المسلمين في بعض مسائل في الأذان، والأذان -في «سنن النسائي»- سبعة عشر كلمة، يقول ابن عباس، يعد الكلمات!
يعني إذا اختلفنا نحن في الأذان، هل الصلاة على النبي من الأذان ولا ليس من الأذان؟
يا جماعة، إذا نحن ما اتفقنا في عبادة تُنشر على الملأ وتُفعل في غير خفاء، ويُصاح بها صياحا وتُفعل في كل يوم وليلة خمس مرات، إذا ما اتفقنا عليها إيش نتفق؟
فالخلاف في الصلاة على النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- هل هي من الأذان ولا ليس من الأذان خلاف خطير، لا من حيث الماهية، من حيث النوعية، مسألة خطيرة جدا.
ابن عباس يقول: «الأذان سبعة عشر كلمة، آخرها: لا إله إلا الله»، والنبي يقول: «من قال مثل ما قال المؤذِّن (ثم) صلَّى علي».. يعني الصلاة علي (ثم) إيش يعني؟ ليست الأذان.
طيب شو فيها يا شيخ نصلي على النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بعد الأذان في الميكروفون؟
طيب لو قرأنا الفاتحة بعد الصلاة شو فيها؟ شو الفرق؟
طيب؛ نقرأ الفاتحة في خطبة الزواج، إيش رايكم؟ قراءة الفاتحة عبادة ولا عادة؟ تدخل في (الأصل في الأشياء الإباحة) ولا تدخل في (الأصل في العبادات المنع)؟ تدخل في (الأصل في [العبادات المنع]).
طيب يا جماعة النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في زمنه كان فيه فاتحة ولا ما فيه فاتحة؟ فاتحة لنا ولا كانت عندهم؟ طيب كان عندهم زواج ولا ما كان عندهم زواج؟ طيب كانوا حريصين على الخير ولا مش حريصين على الخير؟ طيب؛ إيش كانوا يقولون في أعراسهم، في الخطبة إيش كانوا يقولون؟ إيش كانوا يقولون نقول.
يمكن نحن نفعل شيئًا أحسن مما فعله النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-؟
طيب ... لو قرأنا {قل أعوذ بربِّ الناس} {قل أعوذ بربِّ الفلق} إيش المشكلة؟
أزيدكم شيئًا:
العادات إذا انقلبت عبادات وأصبح الناس يفعلونها على أنها عبادة، أو أنزلوها منزلةَ العبادة من حيث أنها فرضٌ لازمٌ، وحتم واجب؛ فينبغي للقدوات أن لا يفعلوها على هذا الوجه وأن يتركوها.
طيب؛ أزيدكم شيئا آخر:
السُّنة التي يحبها الله، المشروعة، إذا فعلها الناس على وجهٍ يُفهم منه أنها أصبحت واجبًا؛ فعلى أهل الفضل أن يتركوها بين الحين والحين.
النبي عليه السلام قام رمضان ليلتين تداعى الناس من كل مكان؛ فترك القيام، ما أظهر القيام قيام رمضان، إيش قال؟ قال: «مخافة أن تُفرض عليكم» فالنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- [...] ما أظهر القيام في الجماعة وعلَّل قال: «مخافة أن تُفرض عليكم».
عمر رأى الناس يصلون ويتركون كما كان الناس -كما في «موطأ مالك»- في زمن أبي بكر، يصلون عِزِين متفرِّقين، وكل جماعة بإمام، تأمل عمرُ فكَّر عمر: ليش النبي ما صلى جماعة؟ ليش ما جمع الناس على إمام واحد؟ قال: النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- ما جمع الناس؛ مخافة أن تفرض عليهم، والآن ما فيه وحي؛ فأنا أجمعهم.
فالعِلة التي خشيها -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- ممنوعة، وأصل الاجتماع على الجماعة مشروع؛ لأن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- فعله مرات قليلة، ولم يداوم عليه من أجلِ عِلة، فالعِلة انتفت، وأصل المشروعية حاصل؛ فجمعَ النساء على تميم الداري فأمَّ بهن، وجمع الرجال على أُبي بن كعب، ونظر إليهم فقال -وكان يصلي آخر الليل- فقال: «واللهِ إنَّ التي ينامون عنها خير من التي يُصلونها، نعمت البدعةُ هذه».
يعني: أحدث جديدا ليس بمعنى الإحداث الذي ليس له أصل؛ وإنما بمعنى أن المداومة ما داوم عليها النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وفعل النبي يأذن لأمثالنا أن نداوم عليها، لأننا لو داومنا نحن -عمر ومن بعده-؛ ما كانت واجبة على الأمة.
فبعض الناس يقول لك: كيف ما في في الدين بدعة حسنة وعمر يقول: «نعمت البدعة هذه»؟ نقول: يا مسكين! مش فاهم شو عمر فعل؟! اصنع صنيع عمر، وصنيعُ عمر على العين والرأس، فعمر أراد إحداث الاجتماع والمداومة على الاجتماع وهو مشروع وليس بممنوع، وكان الاجتماع أصله مشروعا، والمداومة عليه ممنوعة لعِلة في زمن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، فزالت هذه العِلة بوفاتِه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
هكذا ينبغي أن نفهم هذه القاعدة لما نقول: الأصل في العبادات المنع.
فالأصل في العبادات المنع.
طيب؛ «صلاة الرجل في جماعة خير من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» الحديث في «الصحيحين»، يا جماعة! تعالوا نصلي سُنة الظهر القبلية جماعة؟ إيش رايكم؟ أو الآن نقوم نصلي سُنة العشاء في جماعة؟ واحد يقول: النبي عليه السلام يقول: «صلاة الرجل في جماعة خير من صلاة الفذ بسبع وعشرين»؟
نقول: يا جماعة! هذا الحديث كيف الصحابة فعلوه؟ وكيف طبقوه؟ وكيف فهموه ينبغي أن نفهمه.
هل فهم الصحابة -وقبلهم رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أن صلاة المرء في جماعة خير من صلاة الفذ، أي صلاة؟ ولا صلاة معيَّنة؟ [صلاة معينة] أي صلاة؟ الفريضة.
طيب، لو كانت صلاة النوافل جماعة مشروعة، وفُهم أن الله يحبها، أما فعلها الصحابة؟
فلذا -يا إخواني- ما ينبغي أن نفهم الأحاديث النبوية -ولا سيما في باب العبادات- إلا كما فهمها أصحاب رسول الله؛ إلا في الواقع الذي ينبغي أن نُنزِلها في الواقع الذي طُبقت وفعلت فيه.
أما واحد يضحك علينا ويستدل لنا بحديث عام ويسرق عقولنا، ويُنسينا ما كان عليه الأصحاب، وما كان عليه القرون المفضَّلة من الصحابة والتابعين وتابعين [الذين] زكاهم النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- حيث قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» قالها مرتين أو ثلاثا كما في «الصحيح»، «ثم يظهر السِّمن وتسبق شهادةُ أحدِهم يمينَه، ويمينُه شهادتَه؛ فهذا تغرير.
ولذا -يا إخواني- الأصل في العبادات التوقيف.
طيب؛ نحن الآن نصلي قيام رمضان جماعة صحيح؟ هذا مشروع ولا ممنوع؟ مشروع، ليش؟ لما أسلفنا، والنبي أعطانا مشروعية فقال: «مَن صلى مع الإمام حتى ينصرف كتبت له قيام ليلة»؛ يعني: فِعله ينبغي أن يُضم إلى قوله، والصحابة فهموا المداومة.
لو واحد قال: يا جماعة! اليوم ربنا يُعصى في الأرض، وفيه حفلات عيد ميلاد، نحن بدنا نقول الليل في المسجد، وبدنا نصلي قيام الليل جماعة مثل ما نصلي لقيام رمضان، طيب الأصل في العبادات المشروعية ولا المنع؟ مشروع هذا ولا ممنوع؟ نتداعى لصلاة قيام الليل ليلة من الليالي؟ مشروع ولا ممنوع؟ ممنوع.
طيب؛ أضرب لكم مثلا آخر:
شاب، أو مجموعة من الشباب يسكنون في غرفة -في غربة، في جامعة-، واحد منهم قام توضأ وصلى، فاستيقظ الآخر فنظر إليه فوجده يصلي فتوضأ ووقف بجانبه، ما اتفقوا ولا تواطؤوا على قيام هذه الليلة، هذا الفعل مشروع ولا ممنوع؟ مشروع، ليش مشروع؟ لأن النبي عليه السلام لما كانت نوبته من ميمونة فدخل ابن عباس ووجد النبي واقفا يصلي، فتوضأ ووقف بجانبه، فالنبي إيش فعل فعلناه.
لكن لما نصير نصيّح: يا جماعة كل يوم أربعاء بعد العشاء بدنا نقوم الليل!
أنت تستدرك على الشرع، الشرع يقول: كل رمضان نقوم الليل جماعة، سمعنا وأطعنا، لا نزيد.
لو الشرع جاء كل يوم أربعاء؛ قلنا: كل يوم أربعاء، لو قال: كل يوم سبت؛ قلنا كل يوم سبت.
فالأصل في العبادات المنع حتى يأتي الدليل، فإن جاء الدليل فنستخدمه كما استخدمه السابقون، كما فعله النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- وكما فهمه الصحابة عن لسان الرسول -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
إن أذِنوا لنا أن نتوسع قليلا؛ كفِعل عمر لما داوم لِعِلة، عمر رأس المهديِّين، وعمر مُلهَم، وصنيع عمر حُجة.
طيب؛ عثمان.
يا شيخ مش عثمان زاد أذان يوم الجمعة؟ [...] عثمان زاد الأذان، قلنا: على العين والرأس، ما ورد عن عثمان نقول فيه، عثمان زاد أذان؛ على العين والرأس، لكن: وين عثمان زاد الأذان؟!
السوق اتسع، والدنيا اتسعت، والمؤذن ما فيه مكبرات صوت، والمؤذن يؤذن والناس يتبايعون في الأسواق، فعثمان بنى مكانًا في السوق بعيدا عن المسجد يُسمى الزوراء، فكان المؤذن يصعد على الزوراء فيُذكر أهل السوق بالأذان، ليش عثمان فعل هذا؟ لأن صوت الأذان لا يصل إلى السوق، فذَكَّرهم في السوق بالأذان حتى يتهيؤوا لصلاة الجمعة، فيأتون الجمعة.
فعثمان لم يُحدِث أذانا، لأن الصوت ينبغي أن يصل السوق، ولم يصل الصوت للسوق، بنى مكانا يصعد عليه المؤذِّن فيذكرهم بالصلاة.
طيب؛ لو كان الصوت يصل السوق، أأحدث عثمان هذا الأذان؟ لا.
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في أواخر كتابه «الاعتصام» قال: «فلما تقادم الزمنُ نقل هشام بنُ عبد الملك الأذان الذي أحدثه عثمان من السوق، فأصبح يؤذَّن في المسجد».
من الذي أحدث الأذان الثاني في المسجد؟ هشام بن عبد الملك، هل هشام بن عبد الملك فعلُه مقبول؟ لا والله ليس بمقبول.
فِعل الخلفاء الراشدين الأربعة: «عليكم بسُنتي وسُنة الخلفاء المهديين الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ» أفضل.
ولذا الشافعي رحمه الله في كتابه «الأم» يقول: «وما كان في زمن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- وزمن صاحبيه أبي بكر وعمر أحب إليَّ مما أحدثهُ عثمان من الأذان للجمعة» هذا كلام الشافعي.
يا أخي! عثمان ما أحدث يعني ابتدع، دعت حاجة لإيجاد الأذان ليسمع أهل السوق.
في «البخاري» كان النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- كان بلال يؤذِّن فيصعد النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- على المنبر، أين كان الناس تصلي الجمعة القبلية، والنبي يخطب؟ يستحيل، والأصل في العبادات المنع، ما نصلي الصلاة إلا على ما ورد في الشرع، ولم يرِد دليل صحيح لصلاة السُّنَّة القبلية، فالأصل في صلاة السُّنَّة القَبلية ممنوعة مش مشروعة ويحرم أداؤها، والنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: «من كان مُصليًّا فليصلِّ ركعتين أو أربعًا» فالجمعة لها سُنة بعديَّة لقوله الصحيح: «من كان مُصليًّا فليصلِّ ركعتين أو أربعًا»، إن شئت صلِّ ركعتين أو أربع ركعات بعد الجمعة، أما أن تصلي قبل الجمعة فهذه الصلاة ممنوعة وليست بمشروعة، ليش ممنوعة؟ لأنَّ الوقت هذا أصلاً مُحدَث، كان في زمن بني أميَّة، وفي زمن النبي وزمن أبي بكر وزمن عمر كانوا يؤذنون ويصعد الإمام على المنبر على طول ويخطب مباشرة، وفي زمن عثمان كذلك، لكن في زمن عثمان الناس ما كانوا يصلهم الأذان فأحدث لهم ليُبلغهم ليجهزوا أنفسهم للصلاة، هذا الذي فعله عثمان، أما عثمان ما فعل أذانا ثانيا في المسجد حتى يكون هنالك مجال لصلاة السُّنة القَبلية، فما لم يثبت حديث لصلاة سُنة الجمعة القبلية يحرم علينا أن نصليها ولا يجوز لنا أن نصليها؛ فهي في عداد الممنوع وليست في عداد المشروع.
هذه بعض الأمثلة التطبيقية المهمة التي تلزمنا، كل ذِكر تداوم عليه من رأسك ولم يرِد عن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- وتعتقد أن له خاصية أو أن له فضلا يلقنك إياه راقٍ -زعم- أو شيخ وهو لم يثبت في شرع الله سبحانه وتعالى؛ هذا افتئات على الشرع، تعدٍّ على الشرع.
الذي يقول لك: قُل كذا 444 مرة،4444 مرة مثل الصلوات النارية، وواحد راقي يقول لك اقرأ كذا 77 مرة و90 مرة و30 من رأسه! هذه من خواص لا يعرفها إلا الأنبياء، هذه أشياء أخذها خاصية -الذِّكر0.
فلا يجوز أن تتعدى طورك، ولا يجوز لك أن تتعدى على شرع الله سبحانه وتعالى.
فكل راقي إن أن أراد يقول لك تقرأ الفاتحة سبع مرات، تقول: نعم، ورد عند الترمذي أن أبا سعيد الخدري لما رقى سيد القوم قرأ عليه الفاتحة سبع مرات وأقره رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- على العين والرأس، إقرار النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- ... على العين والرأس.
أما أن نزعم أن هنالك أسرارًا للصلوات وللأذكار وللأوراد، وِرد البحر، وِرد البر، وِرد النار، ورد الإيش! هذه كلها ما أنزل الله بها من سلطان.
الأصل في هذه الأمور المنع.
ورحم الله الإمام النووي ،كان عمليا، وكان مباركا، وكان موفقًا، نشأ في سورية، وبيئة صوفية، فيها أوراد، وفيها خلط في الأذكار التي يُعبد الله تعالى بها، ووُجد افتراءات واختراعات وموروثات أخذها التلاميذ والمريدون من المشايخ، فألَّف كتابًا بديعًا سماه «الأذكار» جمع فيه الأذكار الواردة عن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وذكر كل الأذكار الواردة عن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، فقضى على الخرافات بِمثل هذا الكتاب، وببركة وصدق نية قائله -والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدا- وضع الله له القبول، وأصبح الناس يأخذون الأذكار النووية، وفي الأذكار النووية غُنية، حتى قالوا في أمثلتهم: «بِع الدَّار واشترِ الأذكار» من شدة القَبول الذي وضعه الله تعالى لهذا الكتاب.
فالأذكار الواردة عن سيد الأخيار عن محمد -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- فيها الغنية وفيها الكفاية.
ولذا يا إخواني -بارك الله فيكم-: الأصل في كل ما يُتعبد الله به من عبادات وأذكار وصيام وصلوات وتقديس بِقاع، ما نقدس أي بقعة، نحن نقدس ونحترم ونعظم ما عظمه الله: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
انظروا إلى الحجر، عندنا في الحج نوعان من الحجر: حجر تأخذه وتحذفه عبادةً في رمي الشيطان، وحجر تُقبِّله عبادةً اتباعا للنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-! لا إله إلا الله! ما الذي جعلنا نُقبِّل هذا الحجر ونرمي ذاك الحجر؟! وهذا حجر وهذا حجر؟! ما الذي جعلنا نفعل هذا؟ الشرع أمرنا أن نُقبل هذا وأمرنا أن نرمي هذا، هذا هو الشرع.
فما ورد في الشرع تعبَّدْنا الله تعالى به، ليس لعقولنا دَور إلا أن نفحص الخبر وصحة الخبر.
فالعبادات الأصل فيها التوقيف، لا يجوز لنا أن نفعل شيئا من العبادات التي نتعبد الله بنا وليس لنا على ذلك دليل.
فكل من طلب منك أن تعبد ربَّك بذِكر أو بصيام أو صلاة أو تعظيم مكانٍ، فإذا أتى بالدليل فعلى العين والرأس، ما أتى بالدليل؛ فلا.
لذا عُمر صرَّح بهذا فقال: «والله؛ إني أعلمُ أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع، ولكنِّي رأيتُ رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يُقبِّلك فقَبَّلتُك» اتباع تام للنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
طيب؛ نأتي لقاعدة جديد وبها نختم مجلسَنا حتى لا يطول إن شاء الله.
البيت الرابع والعشرين يقول الناظم:
24. وَسَـائِــلُ الْأُمـورِ كَـالمَقـاصِــدِ ... وَاحْكُـمْ بِهَـذَا الحُـكْـمِ لِلـزَّوائِــدِ
(الوسيلة): ما يُتقرب بها إلى الغير، وما تكون بين يدي الغاية، هذه الوسيلة.
و(المقصَد): قصدتُ الشيء أتيتُه، أي: الشيء الذي تُريده وتجعل الوسيلة بين يديه، بمثابة السُلَّم للسطح، السُّلَّم وسيلة للصعود على السطح.
يقول الناظم: (وَسَـائِــلُ الْأُمـورِ) الوسيلة للحلال حلال، والوسيلة للمكروه مكروه، والوسيلة للحرام حرام، والوسيلة للواجب واجب، فتُعطي الوسيلةَ حكم الغاية.
الشرع أمرنا بأشياء هو لا يُريدها، وإنما أمر بها لتكون وسيلةً لشيء آخر.
يعني: الشرع طلب منا أن نتوضأ، ليش الشرع طلب منا الوضوء؟ الوضوء عبادة ولا وسيلة؟ وسيلة لعبادة، إيش العبادة؟ الصلاة.
النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- -في «الترمذي»-وهو الحديث الأول في «الترمذي»- يقول: «لا صلاة لمن لا وضوء له»، إذا الإنسان صلى من دون وضوء؛ لا صلاة له، فالوضوء وسيلة.
الصلاة واجبة، والصلاة لا تصح إلا بالوضوء، إيش حُكم الوضوء؟ واجب.
متى انتقض الوضوء؛ فيجب على الإنسان أن يتوضأ؛ لأن حكم الوسائل حُكم المقاصد.
طيب؛ إيش حكم الوضوء لصلاة الضحى؟ حتى تصح صلاة الضحى؛ نتوضأ، فالوضوء شرط لصحة الصلاة.طيب.
الوضوء يتعبد الله به هو عبادة يتعبد الله به؟
يعني: الآن ونحن جالسون رجل خرج على المُوضَّأ دخل توضأ، ثم خرج ودخل، خرج ودخل! يا أبا فلان! إيش تعمل؟ قال: الوضوء عبادة وأنا أعبد الله بالوضوء!
يا حبيبنا! الوضوء وسيلة، توضأ، اعبد الله بالوسيلة، صلِّ ركعتين، روح جدد الوضوء، ما فيه مشكلة.
توضأ، اجعل وضوءك وسيلة، صلِّ ركعتين، وروح جدد الوضوء، ما فيه مشكلة، النبي توضأ وهو متوضئ، لكن بعد أن جعل الوضوء وسيلة.
لذا: لما كان الشرع لا يريد الوضوء لذاته؛ وإنما أراده وسيلة، فإذا نقضتَ وضوءك بكل ناقِض، بعشر نواقض تتوضأ كم مرة؟ مرة واحدة.
وكذلك الغُسل: لو الإنسان نقضَ غُسله بعدة أسباب: امرأة كانت جنبا وحائضا فاغتسلت، تغتسل كم مرة؟ غُسلا واحدا، هو وسيلة، ما فيه داعي تغتسل مرتين.
ولا فيه داعي لمن أكل لحم الجزور وأخرج ريحا وبال وتغوط في مرات متعددات، على كل ناقض من النواقض يتوضأ وضوءا! فكل هذه وسائل تكفيها الوضوء الواحد.
طيب؛ إذا كنت لا تحضر صلاة الجمعة إلا بأن تسعى لها وأن تمشي لها، إيش حكم المشي والسعي لصلاة الجمعة؟ واجب، ليش واجب؟ لأن صلاة الجمعة واجبة {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} فالله يقول: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، فصلاة الجمعة واجبة، ولا يمكن للإنسان أن يؤديها إلا بأن يسعى إليها، فالسعي وسيلة، والجمعة مقصد، وحُكم الوسائل حُكم المقاصد.
فلو سألك سائل فقال: إيش حكم السعي لصلاة الجمعة؟ واجب؛ لأن فرض الجمعة لا يسقط من الذمة إلا بالسعي، وحُكم الوسائل حُكم المقاصد:
وَسَـائِــلُ الْأُمـورِ كَـالمَقـاصِــدِ
طيب؛ إيش حكم الجلوس بين يدي العلماء وفي حلقات الذِّكر؟ وسيلة الطلب، وسيلة أن تتفقه في الدِّين، وسيلة تحقيق قول النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «طلب العلم فريضة -أو واجب- على كل مسلم» هذا الحديث له طرق عديدة جدا، أول من حسَّنه المِزي، وللسيوطي جزء مطبوع في طُرقه.
فالوسيلة التي تتحصل فيها على العلم واجبة، النبي يقول: «إنما العلم بالتعلُّم».
النبي قال: «طلب العلم» ولم يحدِّد الوسيلة، فكل وسيلة تحصل بها على العلم؛ فحينئذ تجب عليك.
يعني إنسان لا يقرأ ولا يكتب؛ يجب عليه أن [...] للركب بين يدي العلماء، ما يحسن القراءة ولا الكتابة.
فالوسيلة لطلب العلم واجبة، لكن غير محصورة بشيء خاص.
لكن: أبرك الوسائل وأكثرها أجرا وأقلها خطرا وأبعدها عن المزالق والعوائق والقواطع والمصائب والبلايا والرزايا أن تجلس بين يدي المشايخ، لا أن تجلس أمام نِت، أو أمام شريط! مع أن الجلوس أمام الشريط وسيلة، النبي قال: «طلب العلم» لم يحدِّد الوسيلة؛ لكن الذي حدد هذا الطلب وحدد هذا النوع من الطلب: القرون السابقة الفاضلة، فأن نبقى على هديِهم وأن نسير على منوالهم؛ فهذا آمن طريق، وأخصر طريق، وأفضل طريق، وأقرب طريق.
لكن بأي طريق؛ لو قرأت كتابا، سمعت شريطًا، اتصلت بالشيخ على الهاتف، كل هذه وسائل.
وقول النبي: «طلب العلم» تشمل كل هذه الوسائل، النبي ما حدد الوسائل، لكن الوسيلة التي أحبها الله، وارتضاها الله للسابقين من الأولين، من المزكَّين هذه الوسيلة؛ وسيلة الجلوس؛ طلب العلم في حلقات الذِّكر، هذه أبرك الوسائل، وأقربها إلى الله سبحانه وتعالى.
المشي للمسجد عبادة ولا غير عبادة؟ ليش المشي للمسجد عبادة؟ كل خطوة ترفع درجة وتحط سيئة وتكتب حسنة، ولما كان المشي للمسجد عبادة حكمه حكم العبادة؛ قال النبي في «سنن أبي داود» من حديث كعب بن عجرة -رضي الله تعالى عنه-: «إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءَه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد؛ فلا يُشبِّكنَّ بين أصابعه فهو في الصلاة» متى يبدأ الإنسان في الصلاة؟ من الوسيلة، مجرد ما تخرج من بيتك للمسجد ممنوع تشبك إيديك وأنت ماشي هذا التشبيك.
طيب؛ النبي عليه السلام في «البخاري» قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبَّك بين أصابعه، إيش حكم التشبيك بين الأصابع؟
أنبهكم على فائدة:
الناس يذكرون: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص» وكلمة (المرصوص) لم تَرِد ولا في أي رواية من روايات الحديث، أسقطها لما تستدل بالحديث لا تقل (المرصوص) لم ترد ولا في أي رواية من الروايات، لا تقل: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص» قُل كما قال رسول الله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبَّك بين أصابعه.
قال العلماء: التشبيك بين الأصابع بعد الصلاة غير حُكمه قبل الصلاة، النبي شبَّك بعد الصلاة نشبِّك بعد الصلاة، قبل الصلاة وفي الطريق للمسجد ممنوع، ما فعله النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- نستدل به على القيد الذي ورد فيه، النبي صلى وقام بعد الصلاة وقال: «المؤمن للمؤمن...» وشبَّك بين أصابعه، نشبِّك بعد الصلاة، وقبل الصلاة ما يُشبك، ليش؟ لأن الأصل في العبادات المنع، إذا شبكت أصابعك عبادة؟ [...].
طيب النبي نهاك، الأصل في الأشياء الحل حتى يأتي صارف، التشبيك بين الأصابع ممنوع في المسجد وممنوع أنت تمشي في الطريق، هذا ترفع ما يُفعل في المسجد، والنبي قال: «فإنه في صلاة» وأنت ماشي قال: «فلا يشبِّكنَّ بين أصابعه فإنه في الصلاة» من بيتك جعل النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- المشي للمسجد وهو وسيلة فأعطاه حكم المقصد وهو انتظار الصلاة، انتظار الصلاة وسيلة، فالنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال في انتظار الصلاة: «انتظار الصلاة للصلاة» قال: «فذلكم الرباط» فهو في صلاة، وسيلة الانتظار أجرها عند الله أجر من كان مصليًّا، فالوسائل لها حُكم المقاصد.
طيب؛ رجل كما علِمنا لا تُقبل صلاتُه إلا بالوضوء، ولم يجد ماء إلا بالشراء، فهل يجب عليه شراء الماء أو لا يجب؟ يُنظر: إذا كان سعر الماء سعر مثله يجب عليه أن يشتري، ولو يسيرا بنزر يسير يشتري، أما لو طُلب منه أن يدفع أموالا مضاعفة وبأسعار عالية فهذا ليس بقوام المشتري، هذا يدخل تحت {فإن لم يجِدوا} فصَّلنا {فإن لم يجِدوا} إيش معناه في الدرس الماضي.
فلما كان الوضوء وسيلة للصلاة، والصلاة لا تُقبَل إلا بالوضوء، والوضوء وسيلة لمقصد، وللوسيلة حُكم المقصد؛ فيجب شراء الماء على من يجده بسعره فيجب عليه أن يشتريه.
طيب؛ النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يَقوت»، «كفى بالمرء إثمًا أن يضيِّع من يَعول»، رجل مليان عنده أموال كثيرة يجب عليه العمل؟ ما يضيع من يعول.
طيب؛ إنسان لا يجد مالا، وإذا ما اشتغل؛ أولاده يضيعون، ويسألون الناس، وحتى لا يُضيع من يعول والنفقة على الأولاد واجبة، والوسيلة للنفقة السعي في العمل، فحُكم السعي في العمل حُكم النفقة.
فالذي يستطيع العمل ويجلس ولا يعمل، هذا ممدوح في الشرع ولا مذموم؟ مذموم وليس بممدوح إن ترتب على عدم عمله ضياع أهله.
يقول عمر: «إني لأرى الشاب فأرى تنسُّكه فيعجبني فأسأل عن مهنته فيُقال لي لا يعمل، فيسقط من عيني»! فالإنسان يحرم عليه أن يضيع من يعول.
فإذا كنت لا تستطيع أن تتجنب تضييع من تعول إلا بالكسب؛ فالكسب في حقك واجب، والوسائل لها حكم المقاصد، وهي شيء زائد عن المقاصد، فهي لا تُراد لذاتها؛ وإنما تراد لثمرتها، وتُراد للشيء الذي ينبني عليها.
طيب؛ أنت تبيع في السوق، تبيع فاكهة بما فيها العنب، وعندك بساتين عنب، فجاءك رجل يشتري منك 2 كيلو، 3 كيلو ويبيع خمرا، حلال تبيع له العنب ولا حرام؟ إيش الجواب؟ [حرام]، لا أنا أقول: حلال... طيب؛ هو مش له أولاد؟... يشتري 2 كيلو 3 كيلو يصنع خمرا؟!
فجاءك واحد بياع خمر جاي يشتري منك من البسطة 2، 3 كيلو، بناء على أي قاعدة؟ الأصل في الأشياء الحل.
طيب؛ جاء يتفق معك يشتري كل منتوجك وكل ما عندك في المزرعة من عنب، فيه أحد يشتري لأولاده مزرعة كاملة عنب؟ حلال تبيع له ولا حرام؟ حرام تبيع له، شو الفرق أنك تبيع 2 كيلو حلال، وتبيع له منتوج المزرعة حرام؟ هل حرام بيع العنب للذي يصنع الخمر حرام لذاته؟ لو كان حراما لذاته لَحَرم أن نبيع كيلو ونصف كيلو والحبة تصير حراما، لكن هو حرام لغيره، حرام أن تبيعه العنب على أن يكون وسيلة لصنع الخمر، فإن لم يكن وسيلة لصنع الخمر؛ لك أن تبيعه.
يعني: واحد عنده مصنع مربى، يعمل مُربَّى عنب، وجاء يشتري منك كل منتوجك من العنب، حلال ولا حرام؟ المربَّى حلال، الأصل في الأشياء الحل، فالوسيلة لصُنع الحِل، الوسيلة للحلال حلال، صنع المربى حلال، بيع العنب لمن يصنع المربى حلال، بيع العنب حلال، الوسيلة لصنع العنب حلال؛ فبيع العنب ثمرة البستان بتمامه لمن يصنع المربى حلال.
شخص يصنع خمرًا تبيعه [العنب] حرام.
طيب؛ رجل حداد يصنع علب زجاج أو علب حديد، يُنظر إيش يوضع في العلب، إذا هذه العلب يُصنع فيها الخمر تصنيعها حرام؛ لأن الوسيلة للحرام حرام، فالخمر لا تُباع بالزجاجات أو لا تُباع إلا بعلب، فالذي يريد أن يملأ هذه الزجاجات الفارغة خمرًا يحرم عليك أن تبيعه.
طيب، واحد عنده مصنع ماء، عنده مصنع عصير، عنده مُخلَّلات، فتبيعه الآنية التي توضع فيها هذه الأشياء، الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرم الله، والوسيلة للحلال حلال، والوسيلة للحرام حرام.
طيب؛ واحد أجَّر بيته، تأجير البيت حلال ولا حرام؟ حلال، لكن تؤجر بيتك -والعياذ بالله- لقوم أصحاب عُهر وأصحاب زنا، يجوز تؤجر بيتك لامرأة تأتي بالرجال بالحرام بالزنا في البيت؟ حرام، تأجير البيت، أو تأجير المحل، عندك مجموع محال، تؤجر لواحد يبيع خمرا، حرام، الوسيلة للحرام حرام.
طيب؛ عندك محال واحد أراد أن يتأجر منك بنكًا ربويًّا، يصير تؤجره المحل؟ ليش حرمة التأجير؟ الوسيلة للحرام حرام، البنك حرام، فيحرم عليك أن تؤجره.
وكذلك البيع، وكذلك الحداد، أو النجار، أو المواسرجي، أو الدهَّان، دخل يعمل محلا، فعلِم من قرائن الأحوال أن هذا محل خمر، فيحرم على الحداد أنه يصنع حديدا للخمارة، ويحرم على الدهَّان أن يصنع دهان الخمارة، ويحرم على النجار أن يعمل رفوفا.. لأن الوسيلة للحرام حرام، والوسيلة للمُباح مباح.. وهكذا.
والوسيلة للواجب واجب، إيش حكم السعي في حق الفقير؟ واجبة، لا يستطيع أن يتخلص من الإثم «كفى بالمرء إثما» إلا بالسعي، هو يسعى، الواجب عليه السعي، والله الرزاق، السعي لا يلزم منه الرزق، لكن هو يسعى يأخذ بالأسباب.
طيب؛ نتوسع شوية: امرأة متبرجة، وأنت تبيع ملابس، جاءتك تشتري منك اللباس الذي تلبسه وتتبرج فيه، حرام تبيعها ولا حلال؟ حرام تبيعها.
طيب؛ امرأة مستورة جاءت تشتري لباسا فاضحا لكن هي لا تظهر فيه، تتزين فيه لزوجها، إيش هذا الحكم؟ حلال، ليش حلال؟ الأصل في الأشياء الحل، الأصل في الملابس الحل، «البس ما شئت» النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول، البسي ما شئت، فالمرأة تلبس ما تتزين به لزوجها، وما تعفه ويعفها، وما يترتب على ذلك؛ هذا ليس بحرام، هذا أمر الأصل فيه الحل.. وهكذا.
فكل وسيلة للحرام حرام، وكل وسيلة للمباح مباح، وكل وسيلة واجب واجب، وكل وسيلة للمكروه مكروه.
فالناظم يقول في هذه القاعدة التي عبَّر الناظم بهذا البيت على قاعدة: (الوسائل لها حُكم المقاصد).
يقول الناظم: (وَسَـائِــلُ الْأُمـورِ) مضاف ومضاف إليه؛ يعني كأنه يقول: الوسائل..
وَسَـائِــلُ الْأُمـورِ كَـالمَقـاصِــدِ: الوسائل لها حكم المقاصد.
... وَاحْكُـمْ بِهَـذَا الحُـكْـمِ لِلـزَّوائِــدِ: [...] الوسيلة للحلال حلال، الوسيلة للواجب واجب، الوسيلة للحرام حرام، وهكذا.
ولذا: يمكن لنفس الفعل يكون حلالا وعبادة في بعض الأحايين، ويكون حراما في بعض الأحايين، يكون حلالا في حق بعض الأشخاص، حراما في بعض الأشخاص، هذا يلتقي مع موضوع النية.
يعني: إنسان يضع الطيب والعطر على بدنه، ويضع الطيب ويكون هذا الطيب وسيلة لأن يُميِّل النساء إليه، إيش حكم هذا؟ حرام.
طيب؛ يضع الطيب ويحضر الجماعة لأن الملائكة تشهد الصلوات وتشهد الجمعة، حتى يدخل الرائحة الطيبة على المسجد وعلى إخوانه المُصلين، إيش حكم الطيب هذا؟ هذا مندوب، مش حلال، هذا مندوب، النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: «فليُصب من طيبه ما شاء» فهذا المندوب، فأنا واضع طيب، وجاي للجماعة، والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، والنبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- رغَّبنا بالطيب في الجماعة والجمعة فوضعتُ الطيب؛ سُنة، أجر.
لكن: رجل فاجر -والعياذ بالله تعالى- يضع الطيب ليميِّل النساء، أو امرأة تضع الطيب لتميل الرجال، إيش حكم المرأة تضع الطيب؟ آثمة وزانية!
يقول النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في حديث عند ابن ماجه والنسائي في «الكبرى» عن أبي هريرة -والحديث خطير جدا-، يقول النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «أيما امرأةٍ استعطرت ليجد الرجالُ ريحها؛ فهي زانية، وعليها غُسل الجنابة».
أعيد الحديث.. الحديث مهم، وفيه أحكام، وبعض الناس يلعب بالحديث، وبعض الشياطين يسوِّلون لشيطانات باسم الدين فيتطيَّبنَ! وأدقق على الحديث قليلا وأختم مجلسي، لا أريد أن أطيل لعلي وصَّلت ما أريد من القاعدتين بالأمثلة.
الحديث: عن أبي هريرة -أخرجه النسائي في «الكبرى» وابن ماجة وغيرهما- يقول النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «أيما امرأةٍ استعطرت ليجد الرجالُ ريحها؛ فهي زانية، وعليها غُسل الجنابة».
«أيما امرأةٍ استعطرت»: أي وضعت عطرا طِيبا «ليجد الرجالُ ريحها؛ فهي زانية، وعليها غُسل الجنابة».
طيب؛ نتخيل الآن.. يجوز نتخيل المرأة؟! هب أن امرأة.. واحد يقول لي: الوسيلة للحرام حرام! هو محق لو قال!!
طيب؛ رجل يجامع أهله ويتخيل غيرها، حلال ولا حرام؟ هذا حرام.
هب أن امرأة قلنا لها: يا أختاه أنت خرجتِ متطيبة وحرام عليك هذا، والنبي يقول في الحديث: «أيما امرأةٍ استعطرت ليجد الرجالُ ريحها؛ فهي زانية، وعليها غُسل الجنابة»، فقالت: الحديث صحيح... والنبي يقول: «أيما امرأةٍ تعطرت ليجد الرجالُ ريحها» وأنا ما تعطرت ليجد الرجال ريحي، أنا تعطرت لأني أحب الفل أو أحب الورد أو أحب الياسمين، أنا الله يعلم من قلبي أني ما تعطرت حتى أميِّل الرجال إلي، ولا خاطر في بالي الرجال! والنبي يقول: «أيما امرأةٍ تعطرت ليجد الرجالُ ريحها»، وأنا لما تعطرت ولا خطر ببالي الرجال أبدا، وبالتالي كيف يسقط علي الحديث؟!
هذا كلام يظهر منه علم! صحيح؟ طيب؛ كيف نرد على هذه المرأة؟ [الوسائل لها حكم المقاصد]
نحن طلبة علم.. نقف شوي عند اللام، «أيما امرأةٍ تعطرت (ليجد) الرجالُ ريحها» استدلالها صحيح إذا كانت اللام للتعليل، اللام في العربية على ضروب لها عدة معانٍ، فاللام (لِ) -هذه- لها عدة معانٍ، فنقول لها: يا أختاه أنت فهمت الحديث: «أيما امرأةٍ تعطرت ليجد الرجالُ ريحها» فهمت أن هذه اللام لام التعليل، وأنت وضعتِ الطيب وليس قصدك، وليس العلة من وضعك للطِّيب أن يجد الرجال ريحَك، كلامُكِ صحيح، إذا كانت اللام للتعليل، لكن: ارجعي لمعنى النصوص، هل كُل لام في النصوص الشرعية للتعليل؟ الله يقول في «القصص» في اتخاذ فرعون موسى في أوائل «القصص» قال: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} آل فرعون التقطوا موسى، هل معقول آل فرعون التقطوا موسى حتى يُدخل عليهم الحُزن؟ لا، فيه لام في العربية تسمَّى (لام العاقبة)، يعني: فرعون التقط موسى وعاقبةُ أمرِ موسى أن يكون عدوًّا وأن يُدخل الحزَنَ على نفس فرعون، فمستحيل أن يلتقطه ليكون له عدوا، فهنالك لام تسمى (لام العاقبة)، وقد ورد في بعض الأحاديث -لكن الحديث لم يثبت ولم يصح بالزيادة- قال: «من كذَب عليَّ (ليضلَّ الناسَ) فليتبوأ مقعده في النار» زيادة: (ليضلَّ الناسَ) لم تثبت، ولو ثبتت فاللام هذه ليست لام التعليل؛ وإنما هذه لام العاقبة، فكل من يَكذب على رسول الله؛ لا محالة أن يضل الناس، اللام (ليضلَّ الناسَ) ليست لام التعليل؛ وإنما هي لام العاقبة.
فقول الله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ} اللام لام العاقبة.
وقول النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «أيما امرأة تعطرت ليجد الرجال ريحها» هذه اللام لام العاقبة، كل من يشم الرجالَ رائحته من النساء؛ فهذا يذكِّرهم بالنساء، معقول امرأة تمر أمامك وريحة الطيب تفيح منها، وأنت لا تتذكر النساء؟
عند أحمد في «المسند» من حديث عبد الله بن مسعود: أن النبي كان يسير في الطريق، فرأى امرأة تسير في الطريق فأتى أهله.
امرأة لابس العبي.. مجرد ما تنظر للمرأة تتذكر الشهوة، فالنبي كان يسير في الطريق فرأى امرأة فتذكر النساء فأتى أهله، وقال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «من رأى امرأة فليأت أهله» فيها زيادة لم تثبت: «فإن معها الذي معها» هذه زيادة لم تثبت.
فالمرأة تُذكَّر الرجل بالشهوة، تخيل امرأة تمر بك، وواضعة الطيب، إيش عاقبة أمرها هذه؟ يجد الرجال ريحها، فاللام هذه ليست لام التعليل، ليش ليست لام التعليل؟ لأن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: «طِيبُ النساء لونٌ لا رائحة فيه» المرأة إذا أرادت أن تتطيب تضع اللون وتغطي هذا اللون، لا تضع الرائحة، طِيبُ النساء لونٌ تمر أمام الرجال واللون على وجهها لا رائحة له وتغطي وجهها، طيب المرأة لون لا رائحة له، كانت المرأة تكتحل تضع أشياء على وجهها؛ فالأصل في طيبها أنه لون لا رائحة فيه.
أما إن وضعت الرائحة؛ فلا محالة أنها إن مرت بين الرجال؛ فعاقبة أمرها أن يشتهيها الرجال.
ولذا قول النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «أيما امرأة تعطرت ليجد الرجالُ ريحها» هذه اللام لام العاقبة، لام الصيرورة والعاقبة، يصير أمرها، عاقبة أمرها «ليجد الرجالُ ريحها؛ فهي زانية» وإذا أرادت أن تصلي بعد ما تخرج بالعطر في عملها -مدرِّسة، أو موظفة في بنك أو موظفة في شركة أو سكرتيرة-؛ يحرم عليها شرعًا أن تصلي حتى تغتسل؛ يعني: كأنها زنت على الحق والحقيقة، المرأة التي تخرج وتضع الطيب ويشم الرجال الطيب منها؛ فإنه لا يُقبل لها صلاة حتى تغتسل.
قال النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «فهي زانية، وعليها غُسل الجنابة»؛ فكأنها زانية على الحق والحقيقة.
وهذا من التدابير الوقائية لأن الوسيلة في التطيب زنا، فجعلها النبي زانية؛ فالوسائل لها حكم المقاصد.
قوله: «فهي زانية» وقوله: «أيما امرأة تطيبت» فجعل النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- الطيبَ زنا، فأن تضع المرأةُ الطيب وتخرج جعل حُكمها حُكم المرأة التي يُزنى بها، فلا يَقبل الله لها صلاةً حتى تغتسل من الجنابة.
وهذا الحديث دليل من أدلة قاعدة: (الوسائل لها حكم المقاصد).
بذا نكون قد وقفنا عند البيت الرابع والعشرين....
انتهى (الجزء الثاني).

تفريغ : أم زيد

من هنـا تجميع روابط الدروس المفرَّغة

الثامن الجزء الثاني
..
__________________
قال العلامة صالح آل الشيخ: " لو كان الفقه مراجعة الكتب لسهل الأمر من قديم، لكن الفقه ملكة تكون بطول ملازمة العلم، بطول ملازمة الفقه"
وقال: "ممكن أن تورد ما شئت من الأقوال، الموجودة في بطون الكتب، لكن الكلام في فقهها، وكيف تصوب الصواب وترد الخطأ"
"واعلم أن التبديع والتفسيق والتكفير حكم شرعي يقوم به الراسخون من أهل العلم والفتوى ، وتنزيله على الأعيان ليس لآحاد من عرف السنة ، إذ لا بد فيه من تحقق الشروط وانتفاء الموانع، حتى لا يصبح الأمر خبط عشواء ،والله المستعان"
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:27 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.