أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
77474 103191

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > المنبر الإسلامي العام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-05-2009, 10:06 PM
أبو العباس أبو العباس غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 790
افتراضي بين منهجين (6) : التثبت من الأخبار الموجبة لنقد الأعيان

......


بين منهجين (6)

:
التثبت من الأخبار الموجبة لنقد الأعيان


.




التثبت مطلب شرعي وضرورة فطرية لا ينفك عنها طالب حق وقاصد تحقيق في مختلف الجوانب الدينية والدنيوية , وعلى قدر التفريط في اعتبار هذا المطلب يكون الخلل في النتائج المبنية على المقدمات التي لم يراع فيها جانب التثبت , ومن هذا القبيل التثبت في الأخبار الموجبة لنقد الأعيان , لا سيما ما كان منها مخرجا للمسلم من عدالته الثابتة بتزكيات العلماء له , وشهادة المعتبرين منهم عليه بالصلاح والاستقامة وسلامة المنهج .

وعلى الضد من ذلك من حكم عليه أهل العلم المعتبرين المعتدلين بالانحراف والزيغ عن الجادة _للابتداع_ فلا ينبغي المسارعة بإخراجه عن هذا الأصل بمجرد موجب خبر الثقة .

وفي كلتا الحالتين لا بد من التثبت من الخبر الموجب لتغيير الحكم الثابت بيقين كما قال شيخ الاسلام في بيان ضابط اعتبار ما يصح نسبته لأئمة الإسلام كما في منهاج السنة النبوية () : "وأما الصحابة والتابعون وأئمة السنة والحديث فلا هو ولا أمثاله يعرفون أقوالهم بل ولا سمعوها على وجهها بنقل أهل العلم لها بالأسانيد المعروفة وإنما سمعوا جملا تشتمل على حق وباطل ولهذا إذا اعتبرت مقالاتهم الموجودة في مصنفاتهم الثابتة بالنقل عنهم وجد من ذلك ما يخالف تلك النقول عنهم وهذا من جنس نقل التواريخ والسير ونحو ذلك من المرسلات والمقاطيع وغيرهما مما فيه صحيح وضعيف وإذا كان كذلك فنقول ما علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر من محاسن الصحابة وفضائلهم لا يجوز أن يدفع بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف وبعضها لا يقدح فيما علم فإن اليقين لا يزول بالشك".

ولأجل ضبط هذا الموضوع لا بد من اعتبار التالي :

أولا : أن الأصل في خبر الثقة وجوب الأخذ به في الجوانب الدينية _علما وعملا_ كما قال ابن حزم -رحمه الله- في الأحكام (1\108) : "فصح بهذا إجماع الأمة على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي (صلى الله عليه وسلّم) وأيضاً فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي (صلى الله عليه وسلّم)".

ومن تذرع بالتثبت لرد أخبار الثقات في الأمور الدينية –من غير قيام موجب التثبت- فهو من جنس أهل الأهواء والبدع الذين ردوا أخبار الآحاد الصحيحة في العقائد أو الأحكام بدعوى ظنيتها المحرم الأخذ بها في الشرع , ورحم الله ابن القيم حيث يقول كما في مختصر الصواعق المرسلة () : "ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك ولولا وضوح الأمر في ذلك لذكرنا أكثر من مائة موضع فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع التابعين وإجماع أئمة الإسلام ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء , وإلا فلا يعرف لهم سلف من الأئمة بذلك".

ثانيا : الأصل في خبر الثقة القبول إلا إذا قامت القرائن الدالة على انتفاء هذه الصفة عنه بما يقدح بهذا الوصف -قدحا مطلقا أو مقيدا- بما يوجب التوقف في خبر قبول خبر الثقة أو رده أحيانا , والأمثلة على ذلك كثيرة منها :

ما قاله ابن حزم في الإحكام (1\128) : "ولا يصح الخطأ في خبر الثقة إلا بأحد ثلاثة أوجه : إما تثبت الراوي واعترافه بأنه أخطأ فيه .

وإما شهادة عدل على أنه سمع الخبر مع راويه فوهم فيه فلان .

وإما بأن توجب المشاهدة بأنه أخطأ".

ومنها _أيضا_ : الشذوذ : كأن يخبر الثقة مخالفا خبر غيره من الثقات .

أو تفرد الثقة تفردا يغلب معه حصول الوهم في الخبر فعند ذلك يرد خبر الثقة لعلة الوهم , كما في مسألة رد الخبر الشاذ , ورد زيادة الثقة حال قيام القرائن الدالة على الوهم .

ومنها _كذلك_ : رد أخبار الثقات في غيرهم من أقرانهم و غيرهم لقيام قرائن التحامل بسبب الحسد أو المنافسة الدينية بل والدنيوية حتى كما قال العلامة ابن السبكي –كما في توضيح الأفكار (2\163) : "إن الجارح لا يقبل جرحه ولو فسره فيمن غلبت طاعته على معاصيه ومادحوه على ذاميه ومزكوه على جارحيه إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن مثلها حامل على الوقيعة في الذي جرحه من تعصب مذهبي ومنافسة دنيوية كما يكون من النظراء أوغير ذلك فتقول مثلا لا يلتفت إلى كلام ابن أبي ذؤيب في مالك وابن معين في الشافعي والنسائي في أحمد بن صالح فإن هؤلاء أئمة صالحون صار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب لو صح لتوفرت لدواعي على نقله وكان القاطع قائما على كذبه فيما قاله" .

وقال السرخسي في أصوله (2\11) : "وأما الطعن المفسر بما يكون موجبا للجرح فإن حصل ممن هو معروف بالتعصب أو متهم به لظهور سبب باعث له على العداوة فإنه لا يوجب الجرح وذلك نحو طعن الملحدين والمتهمين ببعض الأهواء المضلة في أهل السنة وطعن بعض من ينتحل مذهب الشافعي رحمه الله في بعض المتقدمين من كبار أصحابنا فإنه لا يوجب الجرح لعلمنا أنه كان عن تعصب وعداوة" .

وقال الإمام ابن جرير الطبري بواسطة توجيه النظر (ص\266) : "لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ، ثبت عليه ما ادعي عليه -وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك-: للزم ترك أكثر محدثي الأمصار، لأنه ما منهم أحد إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه , ومن ثبتت عدالته لم يقبل فيه الجرح , وما تسقط العدالة بالظن" .

ومن أمثلة عدم اعتبار أهل العلم لبعض أخبار الثقات في غيرهم :
عدم اعتبارهم لخبر حماد في الانتقاص من عطاء وطاوسا ومجاهدا كما في قوله : (لقيت عطاء وطاوسا ومجاهدا فصبيانكم اعلم منهم بل صبيان صبيانكم) .

ومنه : عدم اعتبارهم لخبر ابراهيم النخعي في الشعبي , وخبر الشعبي في النخعي فعن الأعمش قال : (ذكر ابراهيم النخعي عند الشعبي فقال : ذاك الأعور الذي يستفتيني بالليل ويجلس يفتي الناس بالنهار , قال : فذكرت ذلك لابراهيم فقال ذاك الكذاب لم يسمع من مسروق شيئا) .

ومنه رد خبر أبي حنيفة في الأعمش أنه لم يصم رمضان قط ولم يغتسل من جنابة , فيما رواه علي بن خشرم قال : (سمعت الفضل بن موسى يقول دخلت مع أبي حنيفة على الأعمش نعوده فقال أبو حنيفة يا أبا محمد لولا التثقيل عليك الزدت في عيادتك أو قال لعدتك أكثر مما أعودك فقال له الأعمش والله إنك علي لثقيل وأنت في بيتك فكيف إذا دخلت علي قال الفضل فما خرجنا من عنده قال أبو حنيفة أن الأعمش لم يصم رمضان قط ولم يغتسل من جنابة فقلت للفضل ما يعني بذلك قال كان الأعمش يرى الماء من الماء ويتسحر على حديث حذيفة).

ولأجل ما تقدم قال الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2\1901-1903) –مختصرا- : "لهذا فقد أمر السلف بأخذ العلم من العلماء الموثوق بعلمهم ودينهم , وترك أقوال بعضهم في البعض الآخر , فعن ابن عباس قال : (استمعوا علم العلماء ولا تصدقوا بعضهم على بعض فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في زربها) .

وعن الحسن بن أبي جعفر قال سمعت مالك بن دينار يقول : (يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فإنهم أشد تحاسدا من التيوس تنصب لهم الشاة الضارب فينب هذا من ههنا وهذا من ههنا) .

وقال سعيد في حديثه : (فإني وجدتهم أشد تحاسدا من التيوس بعضها على بعض).

وعن عبد العزيز ابن حازم قال سمعت أبي يقول : (العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقى العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم غنيمة وإذا لقى من هو مثله ذاكره و إذا لقى من هو دونه لم يزه عليه حتى كان هذا الزمان فصار الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة إليه ولا يذاكر من هو مثله ويزهى على من هو دونه فهلك الناس)".

ثالثا : إن من صحت عدالته وثبتت في العلم أمانته وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد –ولو كان ثقة- إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة , كما قال الحافظ ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2\1093-1094) مبينا ضابط قبول النقد فيمن صحت عدالته وثبت في العلم أمانته وتقدمه , ما نصه : "هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك والصحيح في هذا الباب :

أن من صحت عدالته وثبتت في العلم أمانته وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر .

وأما من لم تثبت إمامته ولا عرفت عدالته ولا صحت لعدم الحفظ والاتقان روايته فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه .

والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماما في الدين قول أحد من الطاعنين أن السلف رضوان الله عليهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير في حال الغضب ومنه ما حمل عليه الحسد كما قال ابن عباس ومالك بن دينار وابن حازم , ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان ولا حجة توجبه".

رابعا : ليس كل من كان ثقة عند إمام ما يكون ثقة عند غيره , فكم من ثقة عند إمام لما محص حاله بان كذبه أو تدليسه أو سوء حفظه وتخليطه , ولهذا فلا يلزم من توثيق عالم ما لراو ما أن يوثقه الجميع , ولا يلزم من قبول عالم ما لخبر من وثقه أن يقبل خبره غيره ممن لا يراه ثقة بله يطعن فيه ؛ فكم من معين وثقه طائفة من العلماء ضعفه غيرهم وكان الحق معهم , ولهذا كان مذهب جماهير العلماء عدم قبول توثيق الأئمة للمبهمين , كما قال ابن الصلاح في مقدمته (ص\110) : "لا يجزئ التعديل على الإبهام من غير تسمية المعدل ، فإذا قال : حدثني الثقة , أو نحو ذلك مقتصرا عليه لم يكتف به ، فيما ذكره الخطيب الحافظ والصيرفي الفقيه وغيرهما ، خلافا لمن اكتفى بذلك ، وذلك لأنه قد يكون ثقة عنده ، وغيره قد اطلع على جرحه بما هو جارح عنده أو بالإجماع ، فيحتاج إلى أن يسميه حتى يعرف ، بل إضرابه عن تسميته مريب يوقع في القلوب فيه ترددا ، فإن كان القائل لذلك عالما أجزأ ذلك في حق من يوافقه في مذهبه ، على ما اختاره بعض المحققين".

وقال الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي (ص\557) : "وقول من قبل مراسيل من لا يرسل إلا عن ثقة يدل على أن مذهبه أن الراوي إذا قال: حدثني الثقة، أنه يقبل حديثه ويحتج به، وإن لم يسم عين ذلك الرجل، وهو خلاف ما ذكره المتأخرون من المحدثين كالخطيب وغيره.

وذكره أيضاً طائفة من أهل الأصول كأبي بكر الصيرفي وغيره، وقالوا قد يوثق الرجل من يجرحه غيره، فلا بد من تسميته لنعرف هل هو ثقة أم لا". وقال العلائي في جامع التحصيل (ص\94) :"والذي عليه أكثر المحققين أنه لا يكتفي بقول الراوي حدثني الثقة من غير ذكر صرح باسمه وعرفناه زال ذلك الاحتمال إذا لم يظهر فيه جرح بعد البحث".

ويا الله ! كم من حكم جائر أطلق على أفاضل المسلمين جراء توثيق من لا يتثبت من أخبار من يثق بهم , فأعملت سكاكين التجريح في أعراض خيارات الأمة بسبب نقل عن كاذب أو عن مدلس بتار للنصوص محرف للمعاني ؛وثق بخبره الجارح فعمّ الفساد وطمّ الخلاف , وشاعت الفرقة والاختلاف .

خامسا : فرق بين قبول خبر الواحد الثقة المخبر عن المسائل الشرعية العلمية والعملية المستلزم لحفظ الشريعة , وبين خبره القائم على تتبع زلات أهل العلم ومعايبهم , وإشاعتها بالغيبة والنميمة بقصد الطعن فيهم وإسقاطهم وهدم الشريعة التي جاءت من طريقهم –لفظا أو معنى- .

فالأول : مأمور به ممدوح فاعله داخل في باب حفظ الشريعة .
والثاني : منهي عنه مذموم المتلبس به داخل في باب الطعن في حملة الدين .

والثاني يتنافى تماما مع النصوص الشرعية والآثار السلفية القاضية بوجوب ستر العورات وعدم تتبع الزلات لا قبولها بذريعة قبول خبر الواحد الثقة الناقل , وهذا هو الأصل الأصيل في هذا الباب وهو ما دل عليه حديث ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال [يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورات المسلمين يتتبع الله عورته ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحل].

ولهذا كان الأصل هو حرمة ذكر مثالب المسلمين إلا على وجه الحاجة الشرعية المعتبرة وبالقدر الذي يتحقق به المقصد الشرعي , وممن له أهلية تقدير هذه الحاجة والمصلحة وهم أهل المعتبرون من أهل العلم .

فإن انتفت الحاجة الشرعية كان هذا التتبع من قبيل التشهير بالأخطاء والمثالب , كما قال الخطيب البغدادي في الكفاية (ص\40) : "ذكر العيوب الكامنة في بعض نقلة السنن التي يؤدى السكوت عن اظهارها عنهم وكشفها عليهم الى تحريم الحلال وتحليل الحرام والى الفساد في شريعة الإسلام أولى بالجواز وأحق بالاظهار .

واما الغيبة التي نهى الله تعالى عنها بقوله عز و جل ولا يغتب بعضكم بعضا وزجر رسول الله صلى الله عليه و سلم عنها بقوله [يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم] فهى ذكر الرجل عيوب أخيه يقصد بها الوضع منه والتنقيص له والازراء به فيما لا يعود الى حكم النصيحة وايجاب الديانة من التحذير عن ائتمان الخائن وقبول خبر الفاسق واستماع شهادة الكاذب .

وقد تكون الكلمة الواحدة لها معنيان مختلفان على حسب اختلاف حال قائلها في بعض الأحوال يأثم قائلها وفى حالة أخرى لا يأثم".
والأعراض عن هذا الخلق النبوي الكريم يفضي بلا شك إلى الوقوع في خلق ذميم مضاد له وهو خلق التشهير , كما قال الشيخ محمد بن صالح العثمين في مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (26\421-422) : "وما ذكر فضيلتكم من أنكم لا تحبون التشهير بين طلبة العلم براد ومردود عليه وأنك نصحت من ردوا عليّ في مسألة المعية، فلا ريب أن هذا من محاسن خلقك، وتمام نصيحتك لإخوانك وأمتك، فإن انشغال الإخوان بتتبع بعضهم بعضًا فيما يظنونه خطأ، ونشر الردود بينهم فيما هو من مسائل النزاع ومواقع الاجتهاد يحصل به ضرر كبير خاص وعام، وإضعاف لجبهة العلماء الراد والمردود عليه، حتى إنه قد يحصل التندر من بعض السفهاء في هذه الأمور والنزاعات".

سادسا : فرق كبير بين خبر الثقة وحكم الثقة ؛ فالثقة خبره موجب القبول , وحكمه أعلى رتبة من مجرد خبره , فليس كل صادق في خبره متقن له يكون فقيها في دلالة خبره , فرب حامل فقه ليس بفقيه كما في حديث زيد بن ثابت أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال [نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فرب حامل فقه إلى من هو أفقه و رب حامل فقه ليس بفقيه] .

وهذا التفريق من بدهيات العلم , ومن ضروريات صحة التصور كما مثل له شيخنا في كتابه الفذ منهج السلف الصالح (ص\) بالقول : "هل يستوي خبر الثقة عن (فلان) أنه: (موجود)؛ كالحكم على هذا الـ (موجود) بأنه (مبتدع)!!

فكيف إذا تعارض (حكم الثقة) مع (حكم ثقة) -آخر-؟!

وما السبيل إذا تعارض (حكم الثقة) مع ما يعرفه المتلقي عنه الحكم من حكم يخالفه؟! هل كل ذلك سواء؟! لا يستويان مثلا...
ومن أعجب ما رأيت -قريبا-: رد كتبه بعض الصغار - هداهم الله العلي الجبار- في هذه المسألة -وغيرها!-مشرقا ومغربا!-، حاشدا -من ضمن ذلك- الأدلة (!) على (وجوب قبول خبر الثقة)!

ويعلم (المسكين!) -والجزاء من جنس العمل!- وقد لا يعلم!- أن هذا مما لا يخفى على صبيان الكتاتيب، ولا يحتاج مثل هذا الحشد العجيب!! ؛ فأهل السنة -في هذا- على قول مؤتلف -غير مختلف- لكنه لم يدرك -وأرجو أن يدرك!- مناط المسألة، وبعد غورها!!!".

سابعا : لا يستلزم التثبت من خبر الثقة -عند قيام موجبه- الطعن والتشكيك فيه ؛ فدوافع التثبت أعم من مجرد التشكيك والتكذيب ؛ ومنها الطمأنينة , كما في قوله سبحانه [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] .

ومنه ذلك قوله تعالى [قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ].

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في مجموع الفتاوى والرسائل (15\46) : "يقين القلب يتفاضل والدليل قول الله تبارك وتعالى :{إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)} , ولما بشر الله ذكريا بالود آمن بذلك ولكن قال : {رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} ليطمئن قلبه".


[التثبت معناه وأهميته]

التثبت –معناه- : التأني وعدم الاستعجال , والمراد به في باب الرواية هو التأني وعدم الاستعجال في التحمل عن كل من هب ودب , إذ ينبغي للراوي الاحتياط والتأني في انتقائه الشيوخَ أو ما يتحمله منهم , أو يؤديه إلى المتلقين .

والتثبت مطلب شرعي معتبر دلت عليه نصوص عديدة حسبك منها قوله (صلى الله عليه وسلم) من حديث [التأني من الله , والعجلة من الشيطان] .

والتأني : هو التثبت من الأمور , كما قال المناوي في فيض القدير (3\277) : "التأني أي التثبت في الأمور".

وقال ابن القيم في الفرق بين المبادرة المحمودة والعجلة المذمومة كما في الروح (ص\258) : "والفرق بين بالمبادرة والعجلة : أن المبادرة انتهاز الفرصة في وقتها ولا يتركها حتى إذا فاتت طلبها فهو لا يطلب الأمور في أدبارها ولا قبل وقتها بل إذا حضر وقتها بادر إليها ووثب عليها وثوب الأسد على فريسته فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت كمال نضلها وإدراكها .

والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها كلها فالمبادرة وسط بين خلقين مذمومين أحدهما التفريط والإضاعة والثاني الاستعجال قبل الوقت ولهذا كانت العجلة من الشيطان فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها وتجلب عليه أنواعا من الشرور وتمنعه أنواعا من الخير وهي قرين الندامة فقل من استعجل إلا ندم كما أن الكسل قرين الفوت والإضاعة".

ومنها قوله (صلى الله عليه وسلم) من حديث الأشج عبد قيس [إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله : الحلم والأناة] .

قال النووي في شرح مسلم (1\189): "وأما الحلم فهو العقل , وأما الأناة فهي التثبت وترك العجلة".

وقال ابن القيم في طريق الهجرتين (214) مبينا جهة أمره سبحانه عباده بالتثبت : "ولمحبته لأسمائه وصفاته أمر عباده بموجبها ومقتضاها فأمرهم بالعدل والإحسان والبر والعفو الجود والصبر والمغفرة والرحمة والصدق والعلم والشكر والحلم والأناة والتثبت , ولما كان سبحانه يحب أسماءه وصفاته كان أحب الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبها وأبغضهم إليه من اتصف بالصفات التي يكرهها".


[أدلة لزوم التثبت في قبول الأخبار عموما , والموجبة منها لنقد الأعيان خصوصا]

والتثبت في باب قبول الأخبار فهو أصل أصيل من أصول الشريعة دلت عليه نصوص شرعية عدة , فمن ذلك :
أولا : إن التثبت في قبول الأخبار هو منهج قراني , كما دل عليه قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] , وفي قراءة {فتثبتوا} ؛ فدل قوله تعالى على وجوب التثبت في قبول خبر من لم تثبت عدالته وعدم بناء الأحكام عليه , كما قال القرطبي في تفسيره (16\313) : "وفي الآية دليل على فساد قول من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لان الله تعالى أمر بالتثبت قبل القبول، ولا معنى للتثبت بعد إنفاذ الحكم، فإن حكم الحاكم قبل التثبت فقد أصاب المحكوم عليه بجهالة .. ؛ فإن قضى بما يغلب على الظن لم يكن ذلك عملا بجهالة، كالقضاء بالشاهدين العدلين، وقبول قول العالم المجتهد , وإنما العمل بالجهالة قبول قول من لا يحصل غلبة الظن بقبوله".

ويتأكد لزوم التثبت في الأخبار إن استلزم الخبر الطعن بمن عرف فضله وعلت منزلته , كما دل على هذا المعنى قوله تعالى ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ , قال ابن العربي في أحكام هذه الآية (3\364-365) : "هذا أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان ومنزلة الصلاح التي حلها المرء ولبسة العفاف التي تستر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسداً أو مجهولاً".

ومن ذلك أيضا أن الشرع أوجب في الأمور الموجبة للطعن في عدالة المسلمين وترتيب الآثار العظيمة عليهم التثبت وعدم الاكتفاء بخبر العدل الواحد مع أنه يوجب العلم , ومن ذلك اشتراط الإتيان بأربع شهادات لعدول في باب القذف بالزنا وعدم الاكتفاء بخبر العدل الواحد كما في قوله سبحانه [لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الكَاذِبُونَ].

ومنه –أيضا- الإتيان بشهادة عدلين اثنين في سائر أنواع الشهادات الأخرى , مع أن خبر الثقة بنفسه موجب للعلم , لكن التثبت منه مطلوب وبخاصة في الأمور العظيمة المتعلقة بحقوق المسلمين بخاصة وأعراضهم على وجه أخص ولو كان حقا كما بين وجه هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (7\177) بقوله : "الكلام المذموم بالذات وهو الكلام الكاذب الباطل وأما الكلام الذي هو حق وصدق فهذا لا يذم بالذات وإنما يذم المتكلم به أحيانا لاشتمال ذلك على مضرة عارضة مثل ما يحرم القذف وإن كان القاذف صادقا إذا لم يكن له أربعة شهداء ومثل ما تحرم الغيبة والنميمة ونحو ذلك مما هو صدق لكن فيه ظلم للغير".

ثانيا : إن التثبت في قبول الخبر الموجب للطعن في الأعيان –عند قيام موجبه- منهج سني نبوي ذلك أن النبي (صلى الله عليه وسلم) استثبت من ماعز عندما أخبره عن حال نفسه بما يوجب جرحه , كما صح من حديث عن أبي سعيد : أن رجلا من أسلم يقال له ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال إني أصبت فاحشة فأقمه علي فرده النبي صلى الله عليه و سلم مرارا قال ثم سأل قومه ؟ فقالوا ما نعلم به بأسا إلا أنه أصاب شيئا يرى أنه لا يخرجه منه إلا أن يقام فيه الحد قال فرجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأمرنا أن نرجمه].

وفي الحديث دلالة على لزوم التثبت في الخبر الموجب للقدح والطعن في معين من المسلمين , كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (12\126) : "وفيه : أن الامام لا يشترط أن يبدأ بالرجم فيمن أقر وإن كان ذلك مستحبا لأن الامام إذا بدأ مع كونه مأمورا بالتثبت والاحتياط فيه كان ذلك أدعى إلى الزجر عن التساهل في الحكم والى الحض على التثبت في الحكم".

وقال العلامة المباركفوري في تحفة الأحوذي (4\580): "وظاهر السياقات مشعر بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) إنما فعل ذلك في قصة ماعز لقصد التثبت كما يشعر بذلك قوله له [أبك جنون] ثم سؤاله بعد ذلك لقومه ,فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في ثبوت العقل واختلاله والصحو والسكر ونحو ذلك".
وكذلك مما يدلل على أن من المنهج السني النبوي التثبت قبل الحكم على الأعيان ولو بما أخبروا به عن أنفسهم إن كان مخرجا لهم عن أصل البراءة ما رواه البخاري من حديث ابن عمر قال : [بعث النبي خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره فأمر كل رجل منا أن يقتل أسيره فقلت والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره فذكرنا ذلك للنبي فقال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد مرتين] .

قال العلامة بدر الدين العيني في عمدة القاري () : "قوله [مما صنع خالد] أي من العجلة في قتلهم وترك التثبت في أمورهم", وانظر : مرقاة المفاتيح (7\476) .

ثالثا : إن التثبت في قبول الأخبار هو منهج الصحابة (رضي الله عنهم) فعن أبي سعيد قال : (استأذن أبو موسى على عمر فقال السلام عليكم أأدخل ؟ قال عمر واحدة ثم سكت ساعة ثم قال السلام عليكم أأدخل ؟ قال عمر اثنتان ثم سكت ساعة فقال السلام عليكم أأدخل ؟ فقال عمر ثلاث ثم رجع فقال عمر للبواب ما صنع ؟ قال رجع قال علي به فلما جاءه قال ما هذا الذي صنعت ؟ قال السنة قال السنة ؟ والله لتأتيني على هذا ببرهان أو بينة أو لأفعلن بك قال فأتانا ونحن رفقة من الأنصار فقال يا معشر الأنصار ألستم أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم الاستئذان ثلاث فإن إذن لك وإلا فارجع فجعل القوم يمازحونه قال أبو سعيد ثم رفعت رأسي إليه فقلت فما أصابك في هذا من العقوبة فأنا شريكك قال فأتى عمر فأخبره بذلك فقال عمر ما كنت علمت بهذا) .

وفي هذا الأثر دليل على أن منهج الصحابة كان قائما على التثبت في قبول الخبر , كما قال ابن بطال كما في فتح الباري (11\30) في فوائد هذا الأثر : "فيؤخذ منه التثبت في خبر الواحد لما يجوز عليه من السهو وغيره" .

وقال ابن عبد البر في التمهيد (3\200): " أراد عمر أن يريهم أن من فعل شيئا ينكر عليه ففزع الى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -ليثبت له بذلك فعله- ؛ وجب التثبت فيما جاء به إذا لم تعرف حاله حتى يصح قوله ؛ فاراهم ذلك -ووافق أبا موسى وان كان عنده معروفا بالعدالة غير متهم- ليكون ذلك أصلا عندهم" .

وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ (1\6) : "وأين مثل أبي حفص فما دار الفلك على مثل شكل عمر وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب [ثم كرر الأثر السابق وقال : ] أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم إذا الواحد يجوز عليه النسيان والوهم ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد" .

وقال السيوطي في تدريب الراوي () : "وأما قصة عمر فإن أبا موسى أخبره بذلك الحديث عقب إنكاره عليه رجوعه فأراد التثبت من ذلك وقد قبل خبر ابن عوف وحده في أخذ الجزية".

رابعا : وعلى هذا النهج سار التابعون ومن بعدهم , كما روى مسلم في مقدمة صحيحه عن محمد بن سيرين قال : (لم يكونوا يسألون عن الإسناد ؛ فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم ؛ فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم , وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم) .

وقال –أيضا- كما في الكفاية في علم الرواية (ص\166) : (التثبت نصف العلم) .

وقال الحسن البصري فيما حكاه عنه شيخ الاسلام في مجموع الفتاوى (10\382): (فإن المؤمن وقاف متبين).

وقال علي بن المديني كما في المحدث الفاصل (ص\320) : (التفقة في معاني الحديث نصف العلم , ومعرفة الرجال نصف العلم).

فكيف بمن لا ينظر في حال من نقل إليه , ولا يتفكر في معاني ما نقل إليه , ويبني على النقل المجرد عن الاستفصال أحكاما يسقط بها عدالة أهل العلم . وقال الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي (1\355) : "وابن سيرين - رضي الله عنه - هو أول من انتقد الرجال وميز الثقات من غيرهم، وقد روى عنه من غير وجه أنه قال:

(إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) , وفي رواية عنه أنه قال: (إن هذا الحديث دين فلينظر الرجل عمن يأخذ دينه).
قال يعقوب بن شيبة: قلت ليحيى بن معين: تعرف أحداً من التابعين كان ينتقي الرجال كما كان ابن سيرين ينتقيهم ؟ فقال برأسه، أي: لا.
قال يعقوب:" وسمعت علي بن المديني يقول:" كان ممن ينظر في الحديث ويفتش عن الإسناد ولا نعلم أحداً أول منه،محمد بن سيرين، ثم كان أيوب، وابن عون، ثم كان شعبة، ثم كان يحيى بن سعيد وعبد الرحمن.

قلت لعلي: فمالك بن أنس ؟
فقال: أخبرني سفيان بن عيينة قال: (ما كان أشد انتقاء مالك الرجال) " .

ويرى الترمذي –رحمه الله- أن تفاضل المحدثين يكون بأمور , من أهمها التثبت عند السماع : حيث قال في العلل الصغير (ص\746) : "وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم" .



[أقوال العلماء في باب التثبت من الأخبار الموجبة لنقد الأعيان]

جرى صنيع العلماء على اعتبار التثبت في الأخبار الموجبة لنقد الأعيان , حيث أوجبوا التثبت والتأني على من يتكلم في نقلة الأخبار جرحا وتعديلا , فلا يستعجل في التعديل , كما أنه لا ينبغي أن يتسرع في النقد والتجريح , ومن ذلك ما قاله :

ابن جماعة في المنهل الروي (ص\137) : "وجوز الجرح والتعديل صيانة للشريعة , ويجب على المتكلم فيه التثبت فقد أخطأ غير واحد بجرحهم بما لا يجرح".

وقال الجرجاني كما في المختصر في أصول الحديث (ص\17) : " معرفة أوصاف الرواة ومن تقبل روايته ومن لا تقبل روايته في الجرح والتعديل، وجُوِّز ذلك صيانة للشريعة وبهما يتميز صحيح الحديث وضعيفه فيجب على المتكلم التثبت فيهما. قد أخطأ غير واحد في تجريحهم بما لا يجرح" .

وقال النووي في التقريب (ص\63) : " وجوز الجرح والتعديل صيانة للشريعة، ويجب على المتكلم فيه التثبت فقد أخطأ غير واحد بجرحهم بما لا يجرح".

وقال –أيضا- في شرحه على صحيح مسلم (1\124) : "ثم على الجارح تقوى الله تعالى في ذلك والتثبت فيه والحذر من التساهل بجرح سليم من الجرح أو بنقص من لم يظهر نقصه , فان مفسدة الجرح عظيمة فإنها غيبة مؤبدة , مبطلة لأحاديثه , مسقطة لسنة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) , ورادة لحكم من أحكام الدين .

ثم إنما يجوز الجرح لعارف به مقبول القول فيه أما اذا لم يكن الجارح من أهل المعرفة أو لم يكن ممن يقبل قوله فيه فلا يجوز له الكلام فى أحد فان تكلم كان كلامه غيبة محرمة".

ولهذا ما كان ينبغي لكل أحد أن يتصدى لهذا الشأن فيتكلم في الأعيان جرحا وتعديلا , كما قال الذهبي في تذكرة الحفاظ (1\4) : "ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن , وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى العلماء والإتقان , وإلا تفعل فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد ؛ فان آنست من نفسك فهما وصدقا ودينا وورعا وإلا فلا تفعل , وان غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب فبالله لا تتعب وان عرفت انك مخلط مخبط مهمل لحدود الله فأرحنا منك" .

وقال اللكنوي في الرفع والتكميل (ص\78) مبينا متى يرد قول الناقد في الأعيان : "الحاصل : انه إذا علم بالقرائن المقالية أو الحالية أن الجارح طعن على احد بسبب تعصب منه عليه لا يقبل منه ذلك الجرح .

وان علم انه ذو تعصب على جمع من الأكابر ارتفع الأمان عن جرحه وعد من أصحاب القرح" .

ثم فصل –رحمه الله- في موطن آخر ما أجمله هنا فقال (ص\264-281) –مختصرا- : "إيقاظ في لزوم التروي والنظر في قبول جرحهم للراوي : يجب عليك أن لا تبادر إلى الحكم بجرح الراوي بوجود حكمه من بعض أهل الجرح والتعديل , بل يلزم عليك أن تنقح الأمر فيه ؛ فان الأمر ذو خطر وتهويل , ولا يحل لك أن تأخذ بقول كل جارح في أي راو كان وان كان ذلك الجارح من الأئمة أاو من مشهوري علماء الأمة ؛ فكثيرا ما يوجد أمر يكون مانعا من قبول جرحه وحينئذ يحكم برد جرحه , وله صور كثيرة لا تخفى على مهرة كتب الشريعة :
فمنها : أن يكون الجارح في نفسه مجروحا فحينئذ لا يبادر إلى قبول جرحه وكذا تعديله ما لم يوافقه غيره وهذا كما قال الذهبي في ميزانه في ترجمة أبان بن إسحاق المدني بعد ما نقل عن أبي الفتح الأزدي : متروك , قلت : لا يترك فقد وثقه احمد العجلي , وأبو الفتح يسرف في الجرح , وله مصنف كبير إلى الغاية في المجروحين جمع فأوعى , وجرح خلقا بنفسه لم يسبقه احد الى التكلم فيهم , وهو متكلم فيه وساذكره في المحمدين ... .

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة احمد بن شبيب الحبطي البصري بعدما نقل عن الأزدي فيه غير مرضي قلت : لم يلتفت احد الى هذا القول بل الأزدي غير مرضي .

ومنها : أن يكون الجارح من المتعنتين المشددين , فإن هناك جمعا من أئمة الجرح والتعديل لهم تشدد في هذا الباب فيجرحون الراوي بأدنى جرح ويطلقون عليه ما لا ينبغي إطلاقه عند أولي الألباب فمثل هذا الجارح توثيقه معتبر وجرحه لا يعتبر إلا إذا وافقه غيره ممن ينصف ويعتبر.

فمنهم أبو حاتم والنسائي وابن معين وابن القطان ويحيى القطان وابن حبان وغيرهم فإنهم معروفون بالإسراف في الجرح والتعنت فيه , فليثبت العاقل في الرواة الذين تفردوا بجرحهم وليتفكر فيه .
قال الذهبي في ميزانه في ترجمة سفيان بن عيينه يحيى بن سعيد القطان : متعنت في الرجال.

وقال ايضا في ترجمة سيف ابن سليمان المكي: حدث يحيى القطان مع تعنته عن سيف انتهى

وقال ايضا في ترجمة سويد بن عمرو الكلبي بعد نقل توثيقه عن ابن معين وغيرهم : اما ابن حبان فأسرف واجترأ , فقال : كان يقلب الأسانيد ويضع على الأسانيد الصحيحة المتون الواهية . انتهى

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب في ترجمة الحارث بن عبد الله الهمداني الأعور : حديث الحارث في السنن الأربعة والنسائي مع تعنته في الرجال فقد احتج به وقوى أمره انتهى

وقال الذهبي في ميزانه في ترجمة عثمان بن عبدالرحمن الطرائفي : واما ابن حبان فانه تقعقع كعادته فقال فيه يروي عن الضعفاء أشياء ويدلسها عن الثقات حتى إذا سمعها المستمع لم يشك في وضعها , فلما كثر ذلك في أخباره الزقت به تلك الموضوعات وحمل الناس عليه في الجرح فلا يجوز عندي الاحتجاج برواياته بحال" انتهى

وقال ابن حجر في القول المسدد في الذب عن مسند احمد : ابن حبان ربما جرح الثقة حتى كأنه لا يدري ما خرج من راسه.

ونحوه قال الذهبي في ترجمة افلح بن سعيد المدني ... .
وقال الذهبي في ميزانه في ترجمة محمد بن الفضل السدوسي عارم شيخ البخاري بعد ذكر توثيقه نقلا عن الدارقطني , قلت : فهذا قول حافظ العصر الذي لم يأت بعد النسائي مثله فأين هذا القول من قول ابن حبان الخساف المتهور في عارم فقال اختلط في اخر عمره وتغير .. .

وقال الذهبي في تذكرة الحافظ في ترجمة ابن القطان الذي أكثر عنه النقل في ميزانه وهو أبو الحسن علي بن محمد بعد ما حكى مدحه , قلت : طالعت كتابه المسمى بالوهم والإيهام الذي وضعه على الأحكام الكبرى لعبد الحق يدل على حفظه وقوة فهمه لكنه تعنت في أحوال الرجال فما انصف بحيث انه اخذ يلين هشام ابن عروة ونحوه انتهى

وقال الذهبي في ميزانه في ترجمة هشام بن عروة بعد ذكر توثيقه : لا عبرة بما قاله أبو الحسن ابن القطان من انه وسهيل بن أبي صالح اختلطا وتغيرا نعم الرجال تغير قليلا ولم يبق حفظه كهو في حال الشباب فنسي بعض محفوظه أو وهم فكان ماذا أهو معصوم من النسيان؟.

ولما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم في غضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها , ومثل هذا يقع لمالك ولشعبة ولوكيع والكبار الثقات ؛ فدع عنك الخبط وذر خلط الأئمة الأثبات بالضعفاء والمخلطين فهو شيخ الاسلام ولكن احسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطان".

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- في مجموع الفتاوى والمقالات (28\434) مؤصلا لوجوب التثبت قبل الحكم على الناس : "وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [من دعا رجلا بالكفر أو قال يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه] فهذا الحديث وما جاء في معناه يوجب على المسلم التثبت في الحكم على الناس والحذر من رمي أخيه بصفة ذميمة وهو بريء منها بمجرد الظن أو تقليد من لا يعتمد عليه".

وقال –أيضا- في مجموع الفتاوى والمقالات (8\247-248) مؤكدا على لزوم التثبت في الأخبار المتعلقة بالانتقاص من العلماء وغيرهم : "وأنصح إخواني جميعا بالتثبت فيما يشيعه الناس عن العلماء أو غيرهم ؛ لأن كثيرا من الناس يشيعون عن العلماء وطلبة العلم أشياء كثيرة لا أصل لها , فإذا لم يتثبت المؤمن في الأمور التي يتحدث فيها أوقع الناس في الغلط وهذا ليس من النصح في الدين , وقد أنكر الله سبحانه على من لم يتثبت في الأخبار ولم يردها إلى أهلها بقوله سبحانه : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} , وقوله سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وقال صلى الله عليه وسلم : [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت] متفق عليه , وقال صلى الله عليه وسلم : [كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع]خرجه الإمام مسلم في صحيحه .

والإنسان مسئول عن كل قول وعمل كما قال عز وجل : {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} , وقال سبحانه : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ , عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

فاحذر أيها المؤمن أن يستزلك الشيطان ويغريك بعدم التثبت في الأمور والأخبار فتقع فيما لا تحمد عقباه , وتندم حين لا ينفع الندم , واعلم يا أخي أن الشيطان يحرص على إيقاع الفتن والشحناء بين المؤمنين , وعلى إشغال المؤمن بكل ما ينقص من حسناته إن لم يستطع إيقاعه في البدعة والمعصية كما قال الله سبحانه : {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}".

وقال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله- في شأن كتاب صنف في الرد عليه , غلب على ظن الشيخ أن مؤلفه هو الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي بناء على توارد الأخبار بذلك , ومع ذلك لم يتكلم فيه الشيخ وينسب إليه هذا الرد حتى يتثبت على جهة التمام , كما اخبر هو عن نفسه في السلسلة الضعيفة (10\2\771-772) فقال : "لقد اطلعت منذ ثلاث سنين على الجزء الأول من كتاب بعنوان : "الألباني شذوذه وأخطاؤه" ؛ بقلم أرشد السلفي ، طبع المطبعة العلمية - ماليكاؤن (ناسك) الهند ، ثم على الجزء الثاني منه ؛ فتصفحتهما ، فتبين لي أن مؤلفه من متعصبة الحنفية ، وله اطلاع لا بأس به على كتب الحديث ورجاله ، ولم نعرف شخصه ، بل غلب على الظن أن هذا الاسم مزور لا حقيقة له ! ولذلك دارت الظنون حول بعض المشهورين بعدائهم الشديد للسنة وأهلها ، ولكن لما كان لا يجوز الحكم بالظن ؛ أمسكنا عن الجزم بهويته ، ثم بدأت الأخبار تتوارد من هنا وهناك أنه هو الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي المذكور !.

فإذا ثبت هذا ؛ فإنه يؤسفني أن يحشر نفسه في زمرة أعداء السنة ، في الوقت الذي يتظاهر بخدمتها وتحقيق كتبها ، ولا يظهر لي شخصياً إلا كل ود واحترام حينما كنا نلتقي به في المكتب الإسلامي في بيروت ، وكان يومئذ على تصحيح تجارب كتاب "مصنف عبد الرزاق" !!.

وإلى أن نتيقن أنه هو ؛ فإنه لا بد لي من أن أشير إلى أن الرد المذكور محشو بالبهت والافتراء علي ، وبالجهل بعلم الحديث ومصطلحه ، والطعن في أهله ؛ كالإمام أحمد وابن تيمية وغيرهما ، مع التعصب الشديد للمذهب الحنفي .

وهذا - بالطبع - لا يعني أنه لم يصب في شيء مطلقاً مما انتقدني فيه ! فما منا من أحد إلا رد ورد عليه ؛ إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال الإمام مالك رحمه الله .

ولدي الآن مسودة الرد على الجزءين المذكورين ؛ فإذا انكشف الغطاء وتيقنا أنهما للشيخ الأعظمي ؛ استخرنا الله في تبييضهما ، عسى الله أن ييسر لنا نشرهما" .

وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- مبينا وجوب التثبت من صحة ما ينسب إلى المعينين قبل الحكم عليهم , حيث قال –رحمه الله- في كتاب العلم (50-52) : "ومن أهم الآداب التي يجب أن يتحلى بها طالب العلم التثبت فيما ينقل من الأخبار والتثبت فيما يصدر من الأحكام، فالأخبار إذا نقلت فلابد أن تتثبت أولاً هل صحت عمن نقلت إليه أو لا، ثم إذا صحت فتثبت في الحكم ربما يكون الحكم الذي سمعته مبنياً على أصل تجهله أنت، فتحكم أنه خطأ، والواقع أنه ليس بخطأ , ولكن كيف العلاج في هذه الحال ؟

العلاج: أن تتصل بمن نُسب إليه الخبر وتقول نقل عنك كذا وكذا فهل هذا صحيح؟ , ثم تناقشه فقد يكون استنكارك ونفور نفسك منه أول وهلة سمعته لأنك لا تدري ما سبب هذا المنقول، ويقال إذا علم السبب بطل العجب، فلابد أولاً من التثبت في الخبر والحكم، ثم بعد ذلك تتصل بمن نقل عنه وتسأله هل صح ذلك أم لا؟ ثم تناقشه: إما أن يكون هو على حق وصواب فترجع إليه أو يكون الصواب معك فيرجع إليه.... .

أيضاً التثبت أمر مهم؛ لأن الناقلين تارة تكون لهم نوايا سيئة، ينقلون ما يشوه سمعته المنقول عنه قصداً وعمداً ، وتارة لا يكون عندهم نوايا سيئة ولكنهم يفهمون الشيء على خلاف معناه الذي أريد به، ولهذا يجب التثبت، فإذا ثبت بالسند ما نٌقل أتى دور المناقشة مع صاحبه الذي نقل عنه قبل أن تحكم على القول بأنه خطأ أو غير خطأ، وذلك لأنه ربما يظهر لك بالمناقشة أن الصواب مع هذا الذي نٌقل عنه الكلام.

والخلاصة أنه إذا نقل عن شخص ما ترى أنه خطأ فاسلك طرقا ثلاثة على التريب:

الأول : التثبت في صحة الخبر.

الثاني: النظر في صواب الحكم، فإن كان صواباً فأيده ودافع عنه، وإن رأيته خطأ فاسلك : الطريق الثالث وهو : الاتصال بمن نسب إليه لمناقشته فيه وليكن ذلك بهدوء واحترام".

وقال الشيخ عبد المحسن العباد –وفقه الله- في شرحه على سنن أبي داود (ش\512) في معرض جوابه على السؤال التالي : " السؤال: هل يقبل خبر الثقة مطلقاً دون تثبت، كأن يقول أحد المشايخ: إن فلاناً سب وطعن في الصحابة، فهل يجب علي أن آخذ بهذا القول وأحكم عليه، أم لا بد من التثبت؟ .

الجواب: لا بد من التثبت, ولو كان القائل من أهل العلم، إلا إذا عزاه إلى كتاب له، والكتاب موجود وبإمكان الناس أن يرجعوا إليه، أما مجرد كلام من غير أن يذكر له أساساً، لا سيما إذا كان الشخص من الموجودين، أما إذا كان من المتقدمين، وهو معروف بالبدعة، أو من أئمة أهل البدع وكل الناس يعرفه، مثل: الجهم بن صفوان فلو قال: إنه مبتدع فإن كلامه صحيح، أما من يحصل منهم خطأ وزلة، وعندهم جهود عظمية في خدمة الدين، فتجد بعض الناس يقضي عليهم بمجرد هذه الزلة وهذا الخطأ، فهذا غير صحيح" .

وقال الشيخ صالح الفوزان –حفظه الله- : "ولا شك أن الحكم على الناس يحتاج إلى روية وتثبت . . فالإنسان لا يعتمد على ظنه، والله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا }.
كذلك يجب على الإنسان ألا يعتمد في هذا الموضوع على خبر فاسق . . فالله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } ، ولهذا على المرء أن يتجنب الظنون السيئة ولا يحكم لمجرد ظنونه . وعليه ألا يقبل الأخبار ممن جاء بها بدون تمحيص وبدون تثبت، ولا يحكم على الناس إلا بموجب العلم الشرعي، فإذا كان عنده علم شرعي فإنه يحكم بموجب ما ثبت لديه، أما إذا كان جاهلاً بالأحكام الشرعية فلا يجوز له الحكم على تصرفات الناس .

وعلى المرء ألا يخوض في هذه المجالات التي ليس له بها علم { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } , وقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }.

فالذي ليس عنده علم لا يصدر الأحكام بمجرد ظنه أو مجرد رأيه أو ما تمليه عليه نفسه، بل عليه أن يتوقف لأن الأمر خطير جدًّا، ومن رمى مؤمنًا بما ليس فيه أو وصفه بصفة لا تنطبق عليه فإن ذلك يرجع وباله عليه، كما جاء في الحديث أن الإنسان إذا لعن من لا يستحق اللعنة فإن اللعنة ترجع على من قالها، وكذلك لا يجوز للمسلم أن يقول لأخيه : يا فاسق، أو يا كافر، أو يا خبيث أو ما شابه ذلك من الألقاب السيئة، يقول الله تعالى : { وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ }.
فالمسلم يجب عليه أن يتحفظ من هذه المجالات وأن يكون عنده علم وبصيرة يستطيع الحكم بها على نفسه أولاً، وعلى الناس ثانيًا، كما أنه يجب أن تكون عنده تؤدة وتثبت وبُعد نظر وعدم تسرع في الأمور" .

ومن خلال ما تقدم من أدلة وأقوال علماء في لزوم التثبت من الأخبار المتعلقة بنقد المعينين علمنا فساد زعم (بعض الناس) : "أن المتكلم فيه إذا كان مثل فلان وأمثاله [من المطعونين والمجروحين عنده] فيقبل فيه الكلام بدون سؤال" .


[شبهة ودفعها]

استشكل أمر التثبت في باب النقد والحكم على المخالفين على (بعض الناس) من المعاصرين المتوسعين في باب نقد المشايخ والدعاة وطلبة العلم السلفيين , فزعم –مؤصلا- أن : التثبت موضعه غير الاستفتاء , وأن العالم إذا جاءه سؤال عن معين بأي صيغة من السائل لا يلزمه أن يتثبت ويقول : من قال هذا الكلام ؟ وأين قائل هذا ؟ وأين قيل هذا الكلام ؟ ومتى قال هذا الكلام ؟ لا يلزمه هذا ؛ فوظيفة العالم أن يجيب على السؤال الذي طُرح فيه هذا الكلام المعين , يجيب لا يشترط أن يتثبت : أهذا الكلام قاله فلان أو ما قاله فلان ، ولا يجب أن يعرف السائل.

وهذا الزعم بهذا الإطلاق والتعميم باطل مردود على صاحبه , والصواب التفصيل فيقال :

التحقيق أن هذه القاعدة (التثبت موضعه غير الاستفتاء) مجملة محتملة عند تفصيل المقال فيها للحق والباطل , وبيان ذلك بمناقشة احتماليها :

الاحتمال الأول : إن كان المقصود من الاستفتاء معرفة حكم الواقعة المتعلقة بالعين لا معرفة حال العين الذي تلبس بالواقعة , فهنا المسالة لها صورتان :

الأولى : عدم قيام الحاجة للاستفصال , فهنا لا يشترط على المفتي أن يتثبت ويقول : من قال هذا الكلام ؟ وأين قائل هذا ؟ وأين قيل هذا الكلام ؟ ومتى قال هذا الكلام ؟ ومن الذي نقل هذا الكلام , وهذا ما دلت عليه النصوص الشرعية الكثيرة المتضافرة –كما قال الشيخ ربيع في دفع بغي عدنان على علماء السنة والإيمان : "فهذا الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) يُسأل في كثير من المناسبات ، فلا يأتي هنا بمبدأ التثبت ، مبدأ التثبت في غير هذه المواطن ولكل مقام مقال . تسأل امرأة : إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخاً كبيرا أفأحج عنه ؟ ,قال : نعم .
المرأة خثعمية لا يعرفها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا يعرف أباها ، هل هو فعلاً لا يستطيع الحج ولا يثبت على الراحلة أولا يثبت ولا شيء لم يستفصلها .

أجابها يعني على مقدار سؤالها (عليه الصلاة والسلام) , ما قال : من أنت ؟ تعرفون هذه المرأة ؟ تعرفون أباها ؟ هل أبوها صحيح يعني أنه مريض لا يستطيع أن يثبت ؟ ما قال هذا الكلام كله .

ويأتيه الأعرابي يسأله ، ويأتيه الناس في حجة الوداع وفي غيرها ، وتنهال عليه الأسئلة من هنا وهناك ؛ بشأن قضايا المناسك . أفعلُ قدمتُ وأخرتُ .

الصحابة يُسألون ، يسألهم الأعراب ، يسألهم الناس من مشارق الأرض ومغاربها في أيام الحج ، فيجيبون السائل ويحلون مشكلته ، وقد يكون السائل مغالطاً ، وقد يكون يكذب ، وقد يفترض أشياء غير موجودة ، وهذا لا يهمهم وإنما يجيبون على هذا السؤال ويحلون للسائل فيما يظهر لهم من إشكال".

الصورة الثانية : أن تقوم الحاجة للاستفصال كما في كثير من الحالات التي يكون المفتي مطالبا فيها بنوع تثبت وتأني قبل إصدار الحكم , وبيان هذا بالأوجه التالية :

الوجه الأول : وهو ما قرره ابن القيم –رحمه الله- في إعلام الموقعين (4\187-188) بقوله : "ليس للمفتي أن يطلق الجواب في مسالة فيها تفصيل إلا إذا علم أن السائل إنما سأل عن أحد تلك الأنواع ؛ بل إذا كانت المسالة تحتاج إلى التفصيل استفصله كما استفصل النبي (صلى الله عليه وسلم) ماعزا -لما أقر بالزنا- : هل وجد منه مقدماته أو حقيقته ؟ , فلما أجابه عن الحقيقة ؛ استفصله : هل به جنون -فيكون إقراره غير معتبر- أم هو عاقل ؟ ؛ فلما علم عقله استفصله : بأن أمر باستنكاهه ليعلم هل هو سكران أم صاح ؟ , فلما علم انه صاح ؛ استفصله : هل أحصن أم لا؟ ؛ فلما علم انه قد أحصن أقام عليه الحد .

ومن هذا : قوله لمن سألته [هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؛ فقال : نعم إذا رأت الماء] فتضمن هذا الجواب الاستفصال بأنها يجب عليها الغسل في حال ولا يجب عليها في حال.

ومن ذلك : أن أبا النعمان بن بشير سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يشهد على غلام نحله ابنه فاستفصله وقال : [أكل ولدك نحلته كذلك؟ , فقال : لا ؛ فأبى ان يشهد] , وتحت هذا الاستفصال : أن ولدك إن كانوا اشتركوا في النحل صح ذلك وإلا لم يصح .

ومن ذلك : أن ابن أم مكتوم استفتاه : [هل يجد له رخصة أن يصلي في بيته ؟ , فقال : هل تسمع النداء , قال : نعم , قال : فأوجب] ؛ فاستفصله بين أن يسمع النداء أو لا يسمعه .
ومن ذلك : أنه لما [استفتى عن رجل وقع على جارية امرأته ؛ فقال : إن كان استكرهها فهي حرة وعليه مثلها , وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها] وهذا كثير في فتاويه (صلى الله عليه وسلم)" .

ويزيده وضوحا :
الوجه الثاني : وهو –أيضا مما قاله ابن القيم –رحمه الله- في إعلام الموقعين (4\255-256) : "إذا كان السؤال محتملا محملا لصور عديدة ؛ فإن لم يعلم المفتي الصورة المسئول عنها لم يجب عن صورة واحدة منها .

وإن علم الصورة المسئول عنها فله أن يخصها بالجواب , ولكن يقيد لئلا يتوهم أن الجواب عن غيرها ؛ فيقول : إن كان الأمر كيت وكيت , أو كان المسئول عنه كذا وكذا ؛ فالجواب : كذا وكذا , وله أن يفرد كل صورة بجواب ؛ فيفصل الأقسام المحتملة ويذكر حكم كل قسم.

ومنع بعضهم من ذلك لوجهين :
أحدهما : أنه ذريعة إلى تعليم الحيل وفتح باب لدخول المستفتي وخروجه من حيث شاء .

الثاني : أنه سبب لازدحام أحكام تلك الأقسام على فهم العامي فيضيع مقصوده .

والحق : التفصيل ؛ فيكره حيث استلزم ذلك , ولا يكره بل يستحب إذا كان فيه زيادة إيضاح وبيان وإزالة لبس , وقد فصل النبي (صلى الله عليه وسلم) في كثير من أجوبته بقوله : إن كان كذا فالأمر كذا , كقوله في الذي وقع على جارية امرأته [إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها , وإن كانت مطاوعة فهي له وعليه لسيدتها مثلها] , وهذا كثير في فتاويه (صلى الله عليه وسلم) ".

الوجه الثالث : أن المفتي لا ينبغي ان ينصب نفسه للفتيا إلا إن جمع أمورا منها معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم , كما قال ابن القيم في إعلام الموقعين (4\199-205) –مختصرا- : " ذكر أبو عبد الله بن بطة في كتابه في الخلع عن الإمام احمد انه قال : (لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:

أولها : أن تكون له نية , فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور .

والثانية : أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة .

الثالثة : أن يكون قويا على ما هو فيه وعلى معرفتة .

الرابعة : الكفاية وإلا مضغه الناس .

الخامسة : معرفة الناس .

وهذا مما يدل على جلالة احمد ومحله من العلم والمعرفة ؛ فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه ........ .

وأما قوله : الخامسة معرفة الناس فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم ؛ فإن لم يكن فقيها فيه فقيها في الأمر والنهي ثم يطبق احدهما على الآخر وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح ؛ فإنه إذا لم يكن فقيها في الأمر له معرفة بالناس تصور له الظالم بصوره المظلوم وعكسه والمحق بصورة المبطل وعكسه , وراج عليه المكر والخداع والاحتيال وتصور له الزنديق في صورة الصديق والكاذب في صورة الصادق , ولبس كل مبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور , وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا , بل ينبغي له أن يكون فقيها في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم".

الاحتمال الثاني : أن يكون المقصود من الاستفتاء معرفة حال العين المتلبس بالواقعة , فهاهنا لا بد من أمور قبل إصدار الحكم على المعين من عوام المسلمين فكيف بعلمائهم , وهي :

أولا : السماع منه –إن أمكن- من غير الاكتفاء بالنقل عنه .

ثانيا : سماع أدلته وحججه على ما قاله .

ثالثا : تقديم الأعذار له وسماع حجته عن الأدلة المعارضة .

كما أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (27\299) وذلك في معرض رده على حكم عليه من علماء وقضاة زمانه بناءً على نقل مغلوط عنه : "لو كان لهم فيها الحكم وقد حكموا بالكتاب والسنة والإجماع لم يكن لهم الحكم حتى يسمعوا كلام المحكوم عليه , وحجته , ويعذروا إليه وهل له جواب أم لا ؟ .

فإن العلماء تنازعوا في الحقوق كالأموال هل يحكم فيها على غائب ؟ على قولين ؛ ومن جوز الحكم عليه قال : هو باق على حجته تسمع إذا حضر .

فأما العقوبات والحدود فلا يحكم فيها على غائب .
وهؤلاء حكموا على غائب في ذلك , ولم يمكنوه من سماع كلامه والإدلاء بحجته , وهذا لو كان على يهودي كان حكما باطلا بالإجماع .

ولهذا كان جميع الناس أهل العلم والدين والعقل ينكرون مثل هذا الحكم ويعلمون أنه حكم بغير حق".

وقال ابن الوزير –رحمه الله- في "العواصم" (1/238) مبينا خطأ بعض خصومه ممن حكم عليه من غير سماع منه لحججه وأدلته : "والعجب أن السيد -أيده الله- مع ماله من جلالة القدر والخطر، ومع قطع عمره في علوم الجدل والنظر؛أهمل هذا المهم الجليل، وغفل عن هذا الأصل العظيم، فظلمني حظي، ولم يأت بلفظي، حتى أحامِىَ عنه، وأبين فساد ما أخذه منه، وإنما تُقَرَّر الأمور على مبانيها، وتُفَرَّع العلوم على مباديها، والفرع من غير أصل؛ كالبناء من غير أساس، والجواب من غير مبتدأ؛ كالطُّنب من غير عمود.

أيها السيد: كم جمعت عليّ في هذه الدعاوي مظالم، ادعيت عليّ وأنا غائب، ولم تأت ببينة، وحكمت لنفسك، ولم تنصب لي وكيلاً، ولم تجعل بيني وبينك حكمًا، فضربت ضمير الد عاوي على غير عمود ولا طُنُب، ورفعت سقف الحكومة على غير أساس ولا خُشُب..".

فهاهنا ضوابط لا بد من اعتبارها قبل إصدار الحكم على المعين , من أهمها :

الضابط الأول : التثبت من قيام موجب الطعن والقدح في المخالف .
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (22\329) : "إن الحكم معلق بوصف يحتاج في الحكم على المعين إلى أن يعلم ثبوت ذلك الوصف فيه كما يعلم أن الله أمرنا بإشهاد ذوي عدل منا وممن نرضى من الشهداء ولكن لا يمكن تعيين كل شاهد فيحتاج أن يعلم في الشهود المعينين : هل هم من ذوي العدل المرضيين أم لا" .
وقال –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (27\290-291) رادا على من أصدر عليه حكما بناء على نقل باطل عنه : " أنه نقل عن الجواب ما ليس فيه ورتب الحكم على ذلك النقل الباطل , ومثل هذا باطل بالإجماع .... , وهؤلاء نقلوا عنه ما لم يقله واستدلوا بما لا ينازع فيه وأخطئوا فيما نقلوه وفهموه من كلام من نقل الإجماع وفيما استدلوا به عليه وذلك من وجوه كثيرة جدا ولكن مقصود هذا الوجه : أن الذي كتب على الجواب نقل عنه أنه هو القائل وأنه قال : إن زيارة الأنبياء بدعة وهذا باطل عنه . والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع".

وقال –أيضا- في مجموع الفتاوى (3\254-255) مبينا أهمية التثبت من قيام موجب الطعن قبل الحكم على المعين : "وقلت له -في ضمن الكلام- : أنت لو ادعى عليك رجل بعشرة دراهم وأنت حاضر في البلد ، غير ممتنع من حضور مجلس الحاكم لم يكن للحاكم أن يحكم عليك في غيبتك هذا في الحقوق فكيف بالعقوبات التي يحرم فيها ذلك بإجماع المسلمين . ثم هذا الرجل قد ظهر كذبه غير مرة . ذلك اليوم كذب علي في أكثر ما قاله وهذه الورقة التي أمر بكتابتها أكثرها كذب والكتاب السلطاني الذي كتب بأمره مخالف للشريعة من نحو عشرة أوجه وفيه من الكذب على المجلس الذي عقد أمور عظيمة قد علمها الخاص والعام . فإذا كان الكتاب الذي كتب على لسان السلطان وقرئ على منابر الإسلام أخبر فيه عن أهل المجلس : من الأمراء والقضاة بما هو من أظهر الكذب والبهتان ، فكيف فيما غاب عنهم . قلت وهو دائما يقول عني : إني أقول إن الله في زاوية ولد ولدا وهذا كله كذب . وشهرته بالكذب والفجور يعلمه الخاص والعام . فهل يصلح مثل هذا أن يحكم في أصول الدين ومعاني الكتاب والسنة وهو لا يعرف ذلك" .

الضابط الثاني : سماع حجة المخالف والرد عليها وانقطاعه قبل الحكم عليه , وإلا إن كان معه حجة ومع مخالفه حجة لم يجز تعيين الصواب مع أحدهما إلا بمرجح كما قال شيخ الاسلام في مجموع الفتاوى (27\307) : "لو قدر أن المفتي أفتى بالخطأ فالعقوبة لا تجوز إلا بعد إقامة الحجة ؛ فالواجب أن تبين دلالة الكتاب والسنة على خطئه ويجاب عما احتج به ؛ فإنه لا بد من ذكر الدليل والجواب عن المعارض ؛ وإلا فإذا كان مع هذا حجة ومع هذا حجة لم يجز تعيين الصواب مع أحدهما إلا بمرجح وهؤلاء لم يفعلوا شيئا من ذلك فلو كان المفتي مخطئا لم يقيموا عليه فكيف إذا كان هو المصيب وهم المخطئون فحكم مثل هؤلاء الحكام باطل بالإجماع".

الضابط الثالث : أن لا يكون الحاكم خصما في مسائل الخلاف العلمية والعملية , كما قال شيخ الإسلام –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (27\299-300) : " أنه لو كان الحاكم خصما لشخص في حق من الحقوق لم يجز أن يحكم الحاكم على خصمه بإجماع المسلمين , وكذلك " المسائل العلمية " إذا تنازع حاكم وغيره من العلماء في تفسير آية أو حديث أو بعض مسائل العلم لم يكن للحاكم أن يحكم عليه بالإجماع فإنهما خصمان فيما تنازعا فيه ؛ والحاكم لا يحكم على خصمه بالإجماع".

الضابط الرابع : أن لا يكون الحكم مثيرا للفتن والتفريق بين قلوب الأمة .
كما بين شيخ الإسلام –رحمه الله- من أن الأحكام التي يصدرها القضاة والمفتون في الأعيان إن تسببت بإثارة الفتن والتفريق بين قلوب الأمة وجب إبطالها بالإجماع , كما قال الإسلام في مجموع الفتاوى (27\302) : "أن هذه الأحكام مع أنها باطلة بالإجماع فإنها مثيرة للفتن مفرقة بين قلوب الأمة متضمنة للعدوان على المسلمين وعلى ولاة أمورهم مؤذية لهم جالبة للفتن بين المسلمين , والحكم بما أنزل الله فيه صلاح الدنيا والآخرة والحكم بغير ما أنزل الله فيه فساد الدنيا والآخرة . فيجب نقضه بالإجماع".

أقول : وبعد بيان ضوابط الحكم على المعين , يتبين لنا مدى فساد إطلاق القول بأن التثبت موطنه غير الاستفتاء ومفارقته لجانب الصواب , وتحقيقه لجانب البغي والعدوان .
__________________

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرد على البكري (2\705) :
"فغير الرسول -صلى الله وعليه وسلم- إذا عبر بعبارة موهمة مقرونة بما يزيل الإيهام كان هذا سائغا باتفاق أهل الإسلام .
وأيضا : فالوهم إذا كان لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلمين لم يكن على المتكلم بذلك بأس ولا يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا يتوهم متوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم؛ بل ما زال الناس يتوهمون من أقوال الناس خلاف مرادهم ولا يقدح ذلك في المتكلمين بالحق
".
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-05-2009, 10:37 PM
عماد عبد القادر عماد عبد القادر غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: المملكة الأردنية الهاشمية
المشاركات: 3,334
افتراضي

جُزيتم خيرا
__________________


كما أننا أبرياء من التكفير المنفلت وكذلك أبرياء من التبديع المنفلت
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 09-06-2009, 01:01 AM
أبوالأشبال الجنيدي الأثري أبوالأشبال الجنيدي الأثري غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 3,472
افتراضي

جزاك الله خيرا أخانا الحبيب على هذا البحث الماتع ,
فقد كفيت ووفيت , وأتيت على غوامض هذه المسألة فكشفتها .
ثبتك الله وزادك الله من فضله .
__________________

دَعْوَتُنَا دَعْوَةُ أَدِلَّةٍ وَنُصُوصٍ وليْسَت دَعْوَةَ أسْمَاءٍ وَشُخُوصٍ .

دَعْوَتُنَا دَعْوَةُ ثَوَابِتٍ وَأصَالَةٍ وليْسَت دَعْوَةَ حَمَاسَةٍ بجَهَالِةٍ .

دَعْوَتُنَا دَعْوَةُ أُخُوَّةٍ صَادِقَةٍ وليْسَت دَعْوَةَ حِزْبٍيَّة مَاحِقَة ٍ .

وَالحَقُّ مَقْبُولٌ مِنْ كُلِّ أحَدٍ والبَاطِلُ مَردُودٌ على كُلِّ أحَدٍ .
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 09-06-2009, 03:05 AM
أبو عبد الرحمن الوهراني أبو عبد الرحمن الوهراني غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
المشاركات: 678
افتراضي

ما شاء الله
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 09-06-2009, 01:56 PM
مجدي أبو لبدة مجدي أبو لبدة غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 410
افتراضي

جزاكم الله خيرا على هذا الموضوع القيم
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 09-06-2009, 02:41 PM
عمربن محمد بدير عمربن محمد بدير غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 12,045
افتراضي

بوركت أبا العبّــــــــــــــــــــاس ..على ما كشفت وبينت من التباس ..
__________________
قال ابن تيمية:"و أما قول القائل ؛إنه يجب على [العامة] تقليد فلان أو فلان'فهذا لا يقوله [مسلم]#الفتاوى22_/249
قال شيخ الإسلام في أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 21) :
(وَالْمَقْصُود أَن الْحَسَد مرض من أمراض النَّفس وَهُوَ مرض غَالب فَلَا يخلص مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيل من النَّاس وَلِهَذَا يُقَال مَا خلا جَسَد من حسد لَكِن اللَّئِيم يبديه والكريم يخفيه).
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 09-07-2009, 01:11 PM
ياسين نزال
زائر
 
المشاركات: n/a
افتراضي

أحسن الله إليكم أخي أبا العباس على هذا التفصيل الماتع ...
أود فقط أن أستسمحكم؛ فأقول:
بأن المعادلة واضحة لمن أراد الحق وبكل إنصاف ولكن القوم -وللأسف- لم يتمكنوا من التفريق بين أبواب المسائل كالرواية والشهادة والحكم على الأعيان أو نقد الأعيان؛ وهذا الأخير هو محل اجتهاد إذ هو ليس من باب الخبر؛ فهو أحرى أن يعد؛ بل لا بدّ أن يعدَّ من باب الإنشاء وبذلك يكون قد خرج مِنْ باب الأخبار، ومن مسألة خبر الثقة؛ وبذلك من النزاع!!
فعلام ينازعون إذًا؟!
والله الموفق ...
بوركتم أخي أبا العباس ...
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 09-11-2009, 11:28 PM
عماد عبد القادر عماد عبد القادر غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: المملكة الأردنية الهاشمية
المشاركات: 3,334
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسين نزال مشاهدة المشاركة
أحسن الله إليكم أخي أبا العباس على هذا التفصيل الماتع ...
أود فقط أن أستسمحكم؛ فأقول:
بأن المعادلة واضحة لمن أراد الحق وبكل إنصاف ولكن القوم -وللأسف- ..

أخي أبا العباس
جُزيتم خيراً
__________________


كما أننا أبرياء من التكفير المنفلت وكذلك أبرياء من التبديع المنفلت
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 03-23-2012, 08:12 PM
ابو صالح الفلسطيني ابو صالح الفلسطيني غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2011
المشاركات: 1,403
افتراضي


جوزيت كل الخير وأطعمك الله في الجنان لحم طير .

وشكرا جزيلا لكم .
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 03-23-2012, 10:41 PM
أبو عبد العزيز الأثري أبو عبد العزيز الأثري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Mar 2009
الدولة: العراق
المشاركات: 2,568
افتراضي

جزاك الله خير
موضوع مفيد
__________________
قال الله سبحانه تعالى :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

قال الشيخ ربيع بن هادي سدده الله :
( الحدادية لهم أصل خبيث وهو أنهم إذا ألصقوا بإنسان قولاً هو بريء منه ويعلن براءته منه، فإنهم يصرون على الاستمرار على رمي ذلك المظلوم بما ألصقوه به، فهم بهذا الأصل الخبيث يفوقون الخوارج )

اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:57 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.