أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
92218 103720

العودة   {منتديات كل السلفيين} > منابر الأخوات - للنساء فقط > منبر الصوتيات والمرئيات والكتب و التفريغات - للنساء فقط

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-27-2009, 01:13 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي [ تفريغ ] سلسلة دروس ( أصول في المنهج ) - علي الحلبي

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمد الله تعالى أن يسر لي تفريغ مجموعة دروس ( أصول في المنهج ) لفضيلة الشيخ علي بن حسن الحلبي -حفظه الله ونفع به وجزاه عنا خيرًا-، والتي كانت ضمن الدورة العاشرة لمركز الإمام الألباني -رحمه الله-، والتي رأيت عظيم نفعها، وشدة الحاجة إليها هذه الأيام.
فأحببت إتحافكم بها مفرغة، أسأل أن ينفع بها.

والدروس مسجلة على الرابط التالي لمن أراد الاستماع:
http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/showthread.php?t=282


إليكم تفريغ الدرس الأول:

أُصُول في المَنْهَجِ


(1)


إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أما بعدُ:
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها،وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ، أمَّا بعدُ:
فهذا -إخواني!- مجلسنا الأول -في هذه الدورةِ العلميَّة المباركة-، في مادةٍ حيويَّة عملية تطبيقيَّة، تشحَذُ الأذهان، وتضبِطُ الإيمان؛ وهي مادةُ »أُصولِ المنهجِ«، أو »أصُولٌ في المنهج«. ودائمًا -في مثلِ هذا المَقام- يُعرَّف العنوانُ المركَّب بِجُزأيْه: »أُصول المنهَج« -مُضاف ومُضاف إليه-، أو »أُصولٌ في المنهج«. فما الأُصول؟ وما المنهَج؟ قبل أن ندخلَ هذا البابَ -بِتفصيلاتِه-؛ لا بُدَّ أن نتطرقَ إلى المعنى الحرفيِّ لهذا الذي نريدُ، أو نتكلَّمُ فيه.
وإني على مثلِ اليَقين؛ أنَّه قد يكونُ عددٌ -لا بَأسَ به- مِن النَّاس يُكرِّر كلمةَ (المنهجِ) ولا يَعرفُ حقيقةَ مَعناها! أو قد يكونُ عدمُ إدراكِه لِحقيقةِ معناها سَببًا في أن يَضعَ الأمورَ في غيرِ مَواضِعِها، أو أن يُعطيَها أكبرَ مِن حَجمِها؛ وكلُّ ذلك خَلَل، وكلُّ ذلك نَقصٌ وزَغَل! فإذا ضُبطت البِداياتُ؛ صحَّت النِّهايات, أمَّا إذا لم تَكن البداياتُ مُنضبِطةً؛ فما بُني على فاسِد فلا بُدَّ أن يكونَ أمرُه -مِن بعدُ- فاسِدًا.
عندما نقول (أُصول): أُصولٌ؛ جمعٌ، مُفردُه (أصْلٌ)، و(الأصلُ): هو الأساسُ التي تُبنَى عليه الأشياءُ، ومِنه قولُه -تعالى-: {أصْلُهَا ثَابِتٌ}؛ أصلُها: أي أساسُها وركيزتُها الأصليَّة التي يُبنَى عليها ما بعدَها؛ لتكونَ هي الأسَاس، وتكونَ هي الأصْل.
وحقيقةً: أنَّ كلمةَ (الأصل) حتى في معناها العُرفيِّ؛ ليس بالمعنى الدَّقيق، حتى في معناها العُرفي إذا أُطلقتْ؛ فإنها لا تحتاجُ إلى تَفسير. نعم؛ هنالك كلماتٌ -في اللغةِ- إذا أُطلقت؛ فإنَّ مجردَ سِياق إطلاقِها دالٌّ على معناها، ومُبيِّن لحقيقتِها والُمرادِ منها، ومِن ذلك: كلمة (أصْل) التي جمعُها (أصول).
ومِن تمام البيانِ: أن نشيرَ إلى ما يُقابل كلمةَ (الأُصولِ) وهو كلمة (الفُروعِ)، واستعمالُ لفظِ (الأُصُول) و(الفُروع) -في كتبِ الفُقهاء والعُلماء- مشهورٌ ومُتداوَل؛ لكنَّ لشيخِ الإسلام ابنِ تيمية -رحمه اللهُ- إنكارًا -في بعضِ الأمرِ، وفي بعضِ القَول- لهذا التفريقِ وتقسيمِ الشريعةِ إلى أصولٍ وفُروع. ولِهذا بحثُه -مما سنذكُرُه-.
وأشير إلى أنَّ هذه الجزئيَّةَ المتعلقةَ بقولِنا: (أُصول وفُروع)؛ قد كُتبت فيها رسالةٌ عِلمية في مُجلدَيْن بعنوان: »الأُصُول والفُرُوع«؛ لأنَّ فيها كثيرًا -وأنا أعْني مَا أقولُ- مِن التأصيلاتِ والتَّفريعاتِ؛ في هذه الرسالةِ كثيرٌ مِن التأصيلاتِ العِلمية والتفرِيعات العِلمية التي تَضبِط المسألةَ مِن كلِّ الوُجوه -أو مِن كثيرٍ مِن الوُجوه، أو أكثرِ الوُجوه-.
شيخُ الإسلام ابن تيميةَ -رَحمه اللهُ- وإن كان مِنه نكيرٌ على تقسيمِ الدِّين إلى أصولٍ وفُروعٍ-؛ لكنَّه ورَد مِنه استعمالُ لفظِ (الأصُولِ) و(الفُروع)؛ حينَئِذٍ نقولُ: لا مُشاحَّةَ في الاصطلاحِ؛ إذا كان هذا الاصطلاحُ مُستعمَلًا على وجهٍ ينضبطُ فيه استعمالُه؛ أما إذا استُعمِل اصطلاحٌ ما على وجهٍ لا ينضبطُ استعمالُه؛ فالواجبُ رَدُّه، والواجبُ نقدُه؛ بل الواجبُ نقضُه.
فشيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ -رحمهُ الله- عندما تكلَّم عن مصطلحِ (الأُصول) و(الفُروع) -على وجهِ الإنكارِ-؛ أراد الردَّ على طوائف: على طائفةٍ عظَّمت الأصولَ على حِساب إهمالِ الفُروع! وقد يكون -هنالك- طائفةٌ تعكس؛ أنها جعلتْ لِلفُروع منزلةً كالأُصول! أو رَدًّا -أيضًا- على طائفةٍ أُخرى جعلتْ أدلةَ الشـريعةِ مُقسَّمةً على حَسبِ الأصول والفُروع؛ لتُجوِّزَ هذا وتمنعَ ذاك! كما يقولُ مَن قال -مِن أهلِ الأهواء-: بأنَّ الحديثَ الصحيح يُستدلُّ به في الأحكامِ والآدابِ؛ بينما لا يُستدلُّ به في العقائد!! وعبَّروا عن ذلك بطريقةٍ أخرى قائِلين: يُستدلُّ به في الفُروع، ولا يُستدلُّ به في الأصُول!! حِينئذٍ نقولُ: ما الدليلُ -أصلًا- على هذا التقسيمِ الذي جعلنا فيه الأدلةَ الشـرعيَّة قِسمَيْن؟ ولا شَكَّ أن الأدلةَ الشـرعية تُسْتَقَى منها مسائلُ العلمِ التفصيليَّة -سواءٌ منها ما كان عقيدةً، أو أحكامًا، أو سلوكًا، أو معامَلاتٍ، . . أو غيرَ هذا وذاك-. فمِن ها هُنا كان الإنكارُ على هذا الأصلِ.
لكن؛ مَن انضطبت عنده قضيةُ تقديرِ الأُصول قدرَها، وتقديرِ الفُروع قدْرَها، وأنَّ النصوصَ الشـرعيَّةَ الثابتةَ من الكتابِ -بداهةً-، ومِن السُّنَّة -تحقيقًا- أنها يُستدلُّ بها على الفُروع والأُصول، مِن غيرِ تفريقٍ بين ما يُسمَّى عقائدَ أو أحكامًا. . وغير هذا وذاك.
حينئذٍ: إذا قلنا: (الأُصول) هي العقائد، و(الفُروع) هي الأحكامُ والمَسائِل، والنَّص الشّـَرعي يَستوعب هذا ويستوعِبُ ذاك، والنَّص الشـرعيُّ يُستدلُّ به على هذا ويُستدلُّ به على ذاك -دونَ هذا التفريق؛ بل دون هذا التمزِيق-؛ فحينئذٍ: لا إِشكال. فمِن ها هنا جاء قبولُ شيخِ الإسلامِ لمصطَلَحِ (الفُروع والأُصولِ) واستعمالُه لها. ووجهُ الإنكارِ هو عَلى الصورةِ التي أشرنا إليها: أن تُمزَّق الأحكام، أو أنْ لا تُضبَط، وأن تؤخذَ على وفقِ الأهواءِ والآراءِ دون البيِّنات والحُجَج.
هذا ما يتعلَّق بكلمة (الأصْل) أو (الأصُول) وما يتَّصل حولَها.
الآن: عندما نقول: (أصولُ المنهج)، أو (أصولٌ في الَمنهجِ)؛ وأنا أعتقد أنَّ كلمة (أصولٌ في المنهج) أضبط؛ لماذا؟ لأننا لو قُلنا (أصولٌ في الَمنهجِ)؛ فجَعلْنا ما يُفهِمُ الحصـرَ أنَّ هذه الأصولَ، وليس سِواها غَيرُها، وهذا -في الحقيقة- صعبٌ ومُتعذِّر؛ بل مُتعسِّـر! لماذا؟ لأنَّ ضبط الأُصول يَشملُ العقائد، ويَشملُ السُّنَن، ويَشملُ أركانَ الإيمان، إذا قُلنا: (أصولُ المنهج)؛ فهذا شامِل كامِل مُتكامل؛ بينما إذا قُلنا: (أصولٌ في المنهج) نعنِي أشياءَ نراها لازِمةَ التَّنبيهِ، وواجبةَ التنبُّه، وأرَى -لِزامًا- أن يُذكَّر بها الإخوة وطلبةُ العلم؛ لِما لها مِن أهمية.
وأنا على مثلِ اليقين أنَّ مثلَ هذا المسائلِ المنهجيَّة المُنتقاة تختلف مقاديرُ قِيَمِها ومكانتِها في الزمانِ والمكان. فقد يكونُ في بِلادنا وفي هذا الزَّمان التقريرُ والتوكيدُ والتركيزُ على مسألة كذا وكذا؛ بينما هذه المسألة -في بلادٍ أُخرى- مسألة مُقرَّرة، لا خلاف فيها، ولا شُبهةَ تَعتريها؛ وبالتالي: فلا يَحتاج أهلُ العلم -هنالِك- إلى التركيزِ عليها، أو التذكيرِ بها، أو إلى جعلِها فتنةً مما يُفتَن به الناس.
وإذ قد ذكَرْنا هذا -ولعلَّ هذا مما يَنبغي أن يكونَ فَصلًا هامًّا-: موضوع امتِحانِ النَّاس. وألَّف بعضُ أهلِ العلم كتابًا سمَّاه: »امتِحان السُّنِّي مِن البِدعِيِّ«. إذا رأيتُم ما يُمتحَن به في ذلك الزمان؛ تَرَوا أمورًا لا توجَد -أو لا تَكادُ تُذكَر- في هذا الزمانِ! وهذا أصلُ ما أشرنا إليه مِن أنَّ اختيارَ مَسائل المنهجِ قد تَختلف قيمتُها، وقد تختلفُ مقاديرُها باختلاف الزمان والمكان؛ بل والأعيان.
كلمة (المنهج) تُقابِلُها كلمةٌ مِثلُها وهي: (المِنهَاج)، فالمنهج والمنهاج سَواء، ووَرَد استعمالُ كلمةِ (المنهَج) في السُّنة؛ كما ورد استعمالُ كلمة (المِنهاج) في كتاب الله -تباركَ وتعالَى-؛ لكن: الكلمة واحدة، والمعنى واحد، وهذا مما يُسمَّى في اللغةِ: (الُمترادِف)؛ أي الذي يكونُ فيه كلامٌ مختلِفٌ لفظُه؛ لكنْ حقيقتُه واحدة.
وأنا لا أريد أن أدخلَ في جُزئيةِ الترادف، وأن الترادفَ في اللغة قليل -كما قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ-، وأنَّ هذا الترادفَ -إذا وُجِد- لا بُدَّ أن يحملَ معنًى ولو إضافيًّا -زائدًا قليلًا-؛ هذا ليس بحثَنا. لكن؛ إذا رأينا بنيةَ الكلمة، وأصلها اللُّغوي؛ نراهُما شيئًا قريبًا جدًّا يكاد أن يكونَ واحدًا، فإذا قلنا (منهج) وقلنا (منهاج)؛ كان ذلك شيئًا واحدًا.
علينا أن ننظر إلى أصل كلمة (المنهج). يُقال في اللغة، كما في »القاموسِ« وفي »لسان العرب«، وفي »صحاح الجوهريِّ«. . وغيرها مِن الكُتب والمعاجِم. . ولا أقولُ و(القواميس)؛ لأن (القاموسَ) اسمُ كتابٍ، وليس صِفة كتاب. الفيروز أبادي عندما ألف كتابَه المعجميَّ اللغويَّ مُسميًّا إيَّاه: »القاموسَ المُحيط، والقابُوس الوَسيط، في جَمعِ ما تَفرَّق مِن كلامِ العَربِ شَماطيط«؛ هذا اسمُ الكتاب، وليس صفةَ الكتاب. صفةُ الكتاب: (معجم). لكن -الآن-: مِن الكلمات التي تأخذُ مدًى أوسعَ مِن لفظِها وحقيقةِ مَدلولها: هذه الكلمة! صِرنا نسمع: (القواميس)، ونقصد إيش؟ المعاجم أو المُعْجَمَات! يجوز أن نقولَ (مَعاجِم) و(مُعجَمات) و(مَعاجِيم)؛ بينما هي اسم كتاب، اسم معجم؛ وليست هي صفةً لِكتابٍ هذه حالتُه.
ففي الكُتب والمعاجمِ المؤلفةِ في اللغة: يُقال: (نَهجَ الطريقَ نَهجًا ونُهوجًا) و(أنهجَ الطريقُ)؛ (نَهَجَ) تتعدَّى بمفعولٍ؛ يعني مُتعدِّيَة، (أنهَجَ) لازِمة؛ (أنهجَ الطريقُ)؛ (نَهجَ الطريقَ)؛ بينما (أنهجَ الطريقُ) لازِمة؛ بِمعنى: الوُضوح. قال: (أي وَضَحَ واستَبانَ، وصار نَهْجًا بيِّنًا)؛ هذا أصْلُ مَعنى (المنهج)، وأصلُ اشتِقاقه. قال: و(طريقٌ نَهِجٌ)؛ أي بَيِّنٌ واضحُ. و(مَنْهَجُ الطريقِ): وَضَحُهُ، يُقال: (وَضَحُ النَّهار) يعني: انتشارُه وظهورُه، و(المِنهاجُ)؛ كالمنهج؛ هذا كلام -أيضًا- أئمةِ اللغة يؤكِّد ما أشرنا إليه -ابتداءً-.
وفي التنزيلِ الحكيمِ في سُورةِ المائدةِ: {لكلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}. في »صحيحِ البُخاريِّ« -في مُعلَّقاتِه-: قال ابنُ عباسٍ: »{شِرعةً ومِنهاجًا}؛ أي: سَبيلًا وسُنَّةً«. فـ (المنهاجُ) -إذًا-: الطريقُ الواضحُ، ويُقالُ: (استَنْهَجَ الطريقُ) -كما قُلنا (أنهجَ الطريقُ)؛ لازِمَة- و(استَنْهَجَ الطريقُ)؛ لازِمة؛ أي: صارَ نهجًا. ورَوَى الإمامُ الدارِمِيُّ: عن العَباسِ -رضيَ اللهُ عنه- قال: »وَاللهِ؛ ما ماتَ رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- حتَّى تَركَ السَّبيلَ نَهْجًا واضِحًا«.
ونُقل هذا في كتب اللُّغةِ وشَرحِ الغَريبِ بلفظِ: »حتى تَركَكُم على طريقٍ ناهجةٍ«. والحقيقة: عندما راجعتُ النصَّ في الكُتبِ؛ لم أجِدْ هذا اللَّفظَ مُسنَدًا؛ وإنما كأنما هو بالرِّوايةِ بِالمعنى لِلَفظِ رِوايةِ الدَّارِمي -الذي أشرتُ إليهِ-.
ومِن بابِ الفائدةِ نقولُ: أثرُ العباسِ -المرويُّ في سُننِ الدارِميِّ- (مُرسَلٌ)؛ بمعنى: أن فيه انقطاعًا بين التابعيِّ والصَّحابيِّ.
قال: (ونهجتُ الطريقَ): أبنْتُه وأوضحتُه، و(نهجتُ الطريقَ): سَلكْتُه، و(فلانٌ يَستنهِجُ سبيلَ فُلانٍ): أي يَسلكُ مَسلَكَهُ، و(النهجُ): الطريقُ المُستقيمُ. هذا ما ذُكِر في »لِسانِ العَرَب« وفي »مُختارِ الصِّحاح« للرَّازي، و-حتى- في الكُتبِ المعجَميَّة المُعاصرة؛ ككِتاب: »المعجم الوَسيط«.
وبعضُ الناسِ قد يَستقلُّ قدرَ كِتابِ »المُعجم الوَسِيط«!
وهذا مما يُتظرَّف به: أنني كنتُ في مكتبَةِ شيخِنا الإمامِ أبي عبدِ الرَّحمنِ الألبانيِّ؛ فطَلب مُراجعةَ مسألةٍ لُغَويَّة، فكان أحدُ الإخوةِ الجالِسينَ مَوجُودًا؛ فمَدَّ يدَه على كتابِ »المعجَم الوسِيط«! فقُلتُ: له: هُنالِكَ ما هُو آصَل: »القاموسُ المُحيطُ«، و »الصِّحاحُ« للجوهَريِّ، حتى لو قُلنا: »تاج العروس« للزَّبيديِّ، وهو مِن أعظمِ الكُتب -وإنْ كان متأخرًا-. فقال شيخُنا -رَحِمهُ اللهُ -مستدرِكًا-: (لا؛ بل قد يكونُ لهذا فائدةٌ متميِّزة عن تلكَ الكُتب)؛ لماذا؟ لأنَّ الذِين ألَّفوه عُلماء لُغويُّون متخصِّصون، اطَّلعوا على تلك الكتب، وجَمعوا ألفاظَها؛ وسهَّلوا سردَها، أو طرحَها، أو معناها.
وأنا أقول: هذا كلامٌ صَحيح، لكن؛ الجمعُ بينهما هو الأفضل؛ أنْ تنظرَ إلى طرائقِ اللُّغويِّين القدماء، ثم تجمع إليها كلام اللُّغويِّين المعاصِرين.
كتابُ »المعجم الوسِيط« في مجلَّدين، اختصَـروه في مُجيليدٍ صغيرٍ سمَّوه: »المعجَم الوَجِيز«، وهنالك أصلٌ لهذا »المعجمِ الوَسيـط« الذي اختُصِر مِنه »المعجَمُ الوَجيز« بعنوانِ: »المعجمِ الكَبيرِ« -أيضًا- ألَّفَه -كما ألَّف الكِتابَين الآخَرَيْن- مَجمع اللغة العربية في مصـر؛ ثلاث مُجلَّدات ضِخام في (حَرفِ الألف) -فقط-!! في (حرفِ الألف) -فقط- ثلاث مجلَّدات!!
يجـوزُ أن نقـولَ: (ثلاث مجلَّدات)، ويجوزُ أن نقولَ: (ثلاثَة مُجلَّداتٍ). إذا قُلنا: (ثلاثة مجلَّداتٍ)؛ على اعتبـارِ أنَّ المُفرَد (مُجلَّد)، وإذا قُلنا: (ثَلاث مُجلَّدات)؛ على اعتبارِ أنَّ المُفرَد (مُجلَّدة) -أي بالتأنيث-، وكلاهُما جائزٌ -إن شاء الله-. إذًا: هذا ما ذكرَتْه -حولَ كلمةِ (مَنهَج)، وأصلِها اللُّغَويِّ- كتبُ اللُّغةِ؛ كـ »لسان العرب«. . وغيرِه -مِما أشرنا إليه-.
خلاصةُ القَولِ: أن أصلَ كلمةِ (المنهَج): تُطلَقُ -في لُغةِ العَربِ- على الطريقِ، أو السُّلوكِ، لكن هذا الطريقُ، وهذا السُّلوك -أو المسلَكُ- له صِفاتٌ: أنَّها واضِحة. . أنَّها ظاهِرةٌ. . أنَّها مُستقيمةٌ. . أنَّها بيِّنة. لا يمكن أن يُقال: (منهَج) -في أصلِ الأمْر-؛ إلا إذا كان هذا مَعناه، وهذا حقيقَتَه.
أمَّا -كما قُلنا- (المنهج) في القُرآنِ؛ فقد ذكَرْنا معناه، حتى ذَكرَ الإمامُ الطبريُّ قولَه: {لكلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} قال: »أي: سَبيلًا بيِّنًا«؛ كلام الإمامِ الطَّبري في تفسيرِه: »جامعِ البَيانِ في تأويلِ القُرآن«-. والإمامُ ابنُ كثيرٍ في »تفسيرِه« ذكرَ (المنهاجَ) وقال: »هو الطريقُ الواضِحُ السَّهلُ، والسُّننُ الطرائقُ« أي: البيِّنةُ والواضحةُ.
وأما لفظُ: (السُّنَّة) ففي »صحيحِ مُسلمٍ« ضِمن حديثٍ طويلٍ فيه قصُّ رُؤيةِ بعضِ الصحابةِ على رسولِ الله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، فقال رسولُ الله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: »رأيْتَ خَيْرًا« وهذا مِن بابِ التَّفاؤل؛ هو يُريدُ أن يُعبِّرَ له رُؤياه؛ فصدَّر له كلمةَ: »رأيْتَ خَيْرًا« قبل أن يبدأَ بالتَّفصيلِ والشـرحِ والتَّفسير والتأويل. قال: »رأيْتَ خَيْرًا، أمَّا (المنْهَجُ العَظيمُ)؛ فالمَحْشـَر«؛ لأنَّ كلمةَ (المنهَج) وردت في الرِّواية، وهي: عن عبدِ اللهِ بنِ سَلَّامٍ -رضيَ اللهُ عنه- قال: »رأيتُ -على عَهدِ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- رُؤيا؛ رأيتُ كأنَّ رجلًا أتَاني فقالَ لي: انْطَلِقْ. فذهبتُ مَعهُ؛ فسَلكَ بي (مَنهجًا عَظيمًا)«؛ فالمنهجُ -هنا- بالاسْتعمالِ اللغوي الصِّـرف والمحْض؛ وهو: الطريقُ الكبيرُ الواضحُ البَيِّن، قال: » أمَّا (المنْهَجُ العَظيمُ)؛ فالمَحْشـَر«. . إلى آخِرِ الحديثِ، وهُو في »صحيحِ الإمامِ مُسلمٍ«. وهُنا وَرد اللَّفظ: (المنهج).
هنالك روايةٌ في »مُسند الإمامِ أحمد«: أنَّ النبيَّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قال: »تكونُ النبوةُ فيكُم -ما شاء اللهُ أنْ تكونَ-، ثمَّ يرفعُها اللهُ -إذا شاءَ أنْ يَرفَعَها-، ثم تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ النُّبوة، فَتكونُ -ما شاءَ اللهُ أنْ تكونَ-، ثم يرفَعُها -إذا شَاء اللهُ أنْ يرفَعَها-، ثم تكونُ مُلكًا عَاضًّا [وفي رواية: عَضوضًا]، فَيكونُ -ما شاءَ اللهُ أنْ يكونَ-، ثم يَرفَعُها -إذا شاءَ أنْ يرفَعَها-، ثم تَكونُ مُلكًا جَبْرِيًّا [أو: جَبريَّةً]، فتكون -ما شاء الله أن تكونَ-، ثم يرفعُها اللهُ -إذا شاءَ أنْ يرفَعَها-، ثم تكون خلافةٌ« طبعًا »تكون« -هنا- تامَّةً، ليست ناقصة -ترفع الأول وتنصب الثاني-. »ثم تكون« أي: تقع »ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوة«، ثم سكت. طبعًا؛ يجوز أن نجعلها -على اعتبار ما قبلها مما ورد-أيضًا- ناقصة، لو قُلنا: »ثم تكون (خلافةً) على منهاج النبوة« أي: (هذه خلافةً على منهاج النبوة)؛ أيضًا هذا جائز في اللغة -إن شاء الله-تعالى-.
هذا المعنى اللغوي واستعمال بعض نصوص القرآن والسُّنة في هذا المعنى.
الآن؛ هنالك استعمالاتٌ لأهلِ العلم لكملةِ: (مَنهج) أو (مِنهاج):
مثلًا: الإمام الباجي -أبو الوليد سُليمان الباجي- ألف كتابًا سمَّاه: »المِنهاج في ترتيبِ الحِجَاج« أي: الاحتجاج والمناظرة. شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّةَ ألَّف كتابَ »مِنهاج السُّنةِ النبويَّة«، كتابُه »الاستقامة« ذُكر -في بعض الكتبِ والمصادر- أنه بعنوان: »مِنهاج الاستِقامة«، وهكذا في كتب كثيرة.
حتى في العصـر الحديث: الشيخ الشنقيطي له كتابٌ اسمُه: »منهجُ التشـريعِ الإسلاميِّ وحِكمَتُه«. الشيخ ابن سَحمان ألف كتابًا سمَّاه: »منهاجُ أهلِ الحقِّ والاتِّباع«. أخونا الفاضل الشيخُ عبدُ العظيم بدوي له كتابٌ اسمُه: »منهجُ التلقِّي بين السَّلفِ والخَلَف«. الدُّكتور مُصطفى حِلمي المصري له كتابٌ اسمُه: »قواعدُ المنهجِ السَّلفيِّ عند ابنِ تيميَّةَ«. هنالك رسالةُ دكتوراه طُبِعت -قريبًا-في مجلدٍ- بعنوانِ: »المنهج السَّلفيِّ: تَعريفُه، تاريخُه، مَجالاتُه، قواعدُه، خصائصُه«.
العبدُ الفقير ألَّف كتابًا بعنوان: »إنَّها سلفيَّةُ العَقيدةِ والمنهَج«. وهذا الكتاب مما تفضل الله -تعالى- به علينا وتكرَّم -سُبحانه-، وهو ذو الفضل والكرم؛ بأن قرَّضه وراجعَه وقدَّم له: الشيخُ عبدُ العزيز بنُ باز -رحمه الله- وكانَ ردًّا على سلسلةِ مقالاتٍ كتبها رجلٌ كان حاقدًا -وأعني ما أقول-، كانت السلسلة بعنوانِ: »ما هي السَّلفيَّةُ التي يُريدُها الألبانيُّ؟« (!) -في جرائد سيَّارة!-؛ فكان عنوان الكتابِ هُو الجواب: ما هي السَّلفية؟ »إنَّها سَلفيَّةُ العقيدةِ والمنهَج«.
ولكن -مِن باب الإنصاف-: هذا الرجل -الذي كتب هذه المقالات السَّيِّئة- يبدو أنه كان مدفوعًا، ثم استيقظ وتنبَّه -بعد وفاةِ الشيخ الألباني-، وقرأتُ لهُ مقالًا -وإن كانَ صغيرًا، في زاويةٍ مِن صحيفةٍ لا يَكاد يَبينُ- يقولُ مُعلِنًا فيها التَّراجعَ عما كتب، واستغفارَه ربَّه عما فرَّط.
وأهلُ السُّنَّة يَفرحُون بعودةِ العائدِ ممن غابَ وذهب وانحرف، بل يَفتحون له الأبواب، ويهيِّئون له الأسباب، ويكونون عونًا له على الشيطانِ، لا أن يكونُوا عونًا للشيطانِ عليه؛ بأن يُغلِّقوا أمامَه الأبواب، وأن يُشكِّكُوا في نيَّتِه، وأن يَطعَنُوا في توبتِه، مَن فتح لكَ بابًا فأعنْه على أنْ يفتحَ الباب على مصـراعيْه، فإن كان ذا نيَّةٍ خبيثة؛ فسيفضحُه الله، عامِله أنت على النيَّة الطيبة.
وهذا الذي كان، و-فعلًا- منذ ذلك الحين؛ لم نرَ من الرجلِ إساءةً؛ لا لشيخِنا الإمام، ولا لإخوانِه العلماء الأعلام، ولا لتلاميذِه، ولا لِشـيءٍ مِن دعوته. هذا الذي نرغب، وهذا الذي نَطلب. فكان هذا الكتاب: »إنَّها سلفيَّةُ العَقيدةِ والمنهَج«.
والمقصود: أن مصطلح (الَمنهج)، أو (المِنهاج) أصلُه كلمة لُغوية وردت في القرآن، وردت في السُّنَّة، ووردت في استعمال أهلِ العلم -القُدماءِ والمعاصِرين منهم-على وجهِ السَّواء.
حتى كلمة (الَمنهج) في اللُّغات الأخرى. في اللغة الإنجليزية -أيضًا- توجَد كلمة (الَمنهج)، ولهم فيها تعاريف قريبة جدًّا مِن المَعنى الاصطِلاحي الذي نذكره.
مثلًا: في »المعجم الفلسفي« وقد ألَّفه طائفةٌ كبيرةٌ من العلماء المتخصِّصين -مُسلمين وغير مسلمين، عَربًا وأعاجِم-: (المنهج) هو الطريق الواضح في التَّعبير عن شيءٍ، أو في عَملِ شيءٍ، أو في تعليمِ شيءٍ، طِبقًا لمِبادئَ مُعيَّنة. طبعًا نحن لا نتكلم -هُنا-عن مبادئَ مُعينة؛ نتكلم عن الإسلامِ، وعن كتابِ الله، وعن سُنَّـة رسول الله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، لكن هم بصفتهم يتكلمون في ألفاظٍ اصطلاحية عامَّة، ليست مُتعلقةً بمنهجٍ مُعيَّن، أو بِدِينٍ مُعيَّن، أو بمبدأ مُعيَّن؛ ذَكروا هذا الشَّـيء.
حتى (مَجمع اللغةِ العربيَّة) ألَّف مُعجمًا فلسَفيًّا -أيضًا-؛ فذكروا: أن (المنهجَ) هو -بوجهٍ عام- وسيلةٌ محدَّدة توصِّل إلى غايةٍ مُعيَّنة.
طبعًا؛ هنالك تفسيراتٌ أخرى ذَكَرتْها بعضُ الكتب: كعبد الرحمن بدوي في »مَناهج البحث العِلمِيِّ« ذَكَر له تعريفًا، ويوسف خيَّاط في »مُعجَمِ المصطلحات العلميَّة والفنيَّة« ذكر -أيضًا- تعريفًا. . وهكذا.
إن عرفنا اللفظ مِن حيث أصلُ وُرودِه، ومن حيث اشتقاقُه اللغوي، ومن حيث مَعناه الاصطلاحي، ومِن حيث -أيضًا- تطبيقاتُ أهل العلم في استعمالِه؛ لا بُدَّ أن نذكرَ التفريقَ بين (المنهجِ) و(العقيدة) بالاصْطِلاحِ الإسلامي الشـرعيِّ.
فإذا ذكرنا (العقيدة)؛ فهي ما يجبُ اعتقادُه؛ مِن أصول الإيمان، وأركانِه، وواجباتِه. إذًا: العقيدةُ أمرٌ مُتعلِّق بأركانِ الإيمانِ الغيبيَّة، وما لها مِن صِلة واقعيَّة في حياة المسلمين. هذا إذا ذكرنا العقيدة.
وإذا ذكرنا (الَمنهج) -الآن لنربط (الَمنهَج) بالمعنى اللغوي، و(الَمنْهَج) بالتطبيق الاصطلاحي الشرعي-: (الَمنهج) -على ما أشرنا إليه-: هو الطريقُ الذي يقرِّر به المسلمُ أصولَ الدِّين وفروعَه، وما فيه مِن سُلوكٍ ومُعاملات وعباداتٍ وأخلاقٍ وغير هذا وذاك. إذًا: كأننا نقول: المنهج هو الطريق المنضبِط الذي نُطبِّق -مِن خلالِه- دينَ الله؛ في عقيدتِه، في أحكامِه، في سلوكِه، في معاملاتِه.
وعَليه: فبِقَدرِ ما يصيبُ الخللُ المنهجَ؛ بقدرِ ما يكونُ ذلك مؤثِّرًا في العقيدة، وفي الدِّين، وفي الأحكام، وفي العباداتِ.
هذ التفريق من حيث العلمُ.
أقول: هذا يبيِّن لنا أمرًا ثانيًا وهو: أنَّ (المنهجَ) أعمُّ مِن العقيدة. كلمة (المنهج) أعمُّ مِن العقيدة؛ لأن كلمةَ (العقيدة) متعلِّقة بأصول الإيمان، بينما (المنهج) مُتعلِّق في الإيمانِ والأحكام والأخلاقِ والسُّلوكِ والمعاملات.
ما فائدةُ إنسان -وهذه نقطة أخرى- أن يكون ذا عقيدةٍ -كما يقولون، أو كما يزعمون، أو يزعم البعضُ- صاحب عقيدة سلفيَّة، لكنَّ سُلوك هذا المنهج على غيرِ طريق السَّلف! وهذه آفةٌ أخرى: يُقال: فلان سلفي العقيدة، لكنه؛ تبليغيُّ المنهج، أو تحريريُّ المنهج، أو إخوانيُّ المنهج. .! أنا أقول: تلك إذًا قسمةٌ ضيزى! لأنَّ المنهج هو السِّتار الحامي، والجدار الواقي لهذه العقيدة، ولا بُدَّ أن يغلبَ أحدُهما الآخر؛ فإما أن يُصبِح منهجُك كعقيدتِك سَلفيًّا -وذلك ما نبغي-، أو أن [تنقل] وتتقهقرَ في عقيدتِك لتصبحَ خلفيًّا، حزبيًّا، تحريريًّا، تبليغيًّا، أو غير هذا وذاك.
لكن هذا الواقع في الحقيقة نر ى أناسًا كذلك. . ولو شئتُ لسمَّيتُ: (فلان الفلاني)؛ له كتب في العقيدة؛ إذا نظرت في كُتبه العقائديَّة؛ لا تكادُ تَلمس عليه خَللًا، لكنْ؛ ما فائدة هذه العقيدةِ التي قيَّدت صاحبَها بآصارِ الحِزبية؟! والتي كبَّلت صاحبَها بأغلالِ العصبيَّة؟! مما سيؤثر -ولا بُد- على هذه العقيدة التي -فِعلًا- موجودة، لكنها تتأثر كالكُوبِ = الكأس. إذا كـان الكأس نظيفًا، ووُضعتْ فيه مادة وسِخة؛ سَيتوسَّخ -لا شكَّ-. والعَكس: إذا كان الكأسُ وسِخًا، ووضعتْ فيه مادةٌ نظيفةٌ ستتوسَّخ، إذًا: لا بُدَّ أن يكونَ هنالك تأثير -سلبيًّا كان أم إيجابيًّا-، فإما أن يغلبَ المنهجُ العقيدةَ لتصبحَ منحرفةً مثلَه، أو أن تغلبَ العقيدةُ المنهجَ ليُصبحَ على الطريقِ السَّداد المستقيم كذلك -سواءً بسَواء-.
هذه أيضًا نقطةٌ أخرى: مِن الكلمات التي تُذكرُ وقرأناها في كتب الحرَكيين المعاصِرين قولُهم: (سَلفيَّةُ المنهَج، وعَصـريَّة المواجَهة). هنا استعمال (المنهج) في غير موضِعه! هنا استعمال (المنهج) بمعنى: العقيدة، واستعمال (المواجهة) بمعنى المنهج والسُّلوك، وهذا من باب التلاعب بالألفاظ والمصطلحات! فكأن هؤلاء رأوا في علمائِنا، ورأوا في أئمتِنا ما يُسمُّونه بـ (الرَّجعيَّة).
وأنا قرأتُ بأمِّ عَيني، بخَط يدِ الشيخِ الأستاذِ (محمد بهجت الأثري) [وقد تُوفي قبل سنواتٍ قليلة، وهو مِن علماء العراق، وهو مِن تلاميذ محمود شكري الألوسي، عُمِّر عما يكاد يكون إلى مائة سَنةٍ أو قريبًا مِن ذلك]، قرأتُ بخطِّ يدِه على كلمةٍ كتَبها بعضُ الكُتَّاب المعاصِرين يقول: »تأثُّر الإمام الِمزِّي بالفِكر السَّلفيِّ« فكتب عند كلمة »الفِكر السَّلفي« تعليقًا قال فيه -وأنا أنقلُ مِن خطِّه فيما أحفظ -بالحرْف-، وقرأتُها منذ خمس وعشـرين سَنة- يقول: »أرى لو أنكَ كتبتَ: (فِكرَ الأصالة)؛ [يخاطبُ المؤلِّف والكاتب] لأن بعضَ مَن تعرفُ نبزَ (السلفيَّةَ)، أو جعلَ (السلفيَّة) نبزًا مُرادِفًا للرجعِيَّة«!
إذًا: كلمة السلفية -وهذا قد يكون له بابٌ آخر- قد يستعملها البعضُ -الآن-؛ الشُّيوعيون والماركسيُّون. . وهؤلاء، إذا استَعمَلوا كلمة (السلفيَّة) يقصدون بها (الرجعيَّة)! لا يَقصدون بها الرجوعَ إلى أصول الدِّين التي فيها الثَّبات، وفيها الاستقرار؛ لذلك يَجعلون هنالك سَلفيَّة في التصوُّف! ويجعلون سلفيَّة في النصـرانيَّة! ويجعلون سلفيَّة في المِلل والنِّحل الكثيرة! لماذا؟ لأنهم يعتبرون هذا نوعًا مِن الرجعيَّة، ولا يعتبرونَه على الأصل العِلمي الذي نحن نؤصِّله ونقرِّره.
إذًا: هذا مِن باب التلاعب بالألفاظ والمصطلحاتِ والذي ينبغي رَدُّه وكبتُه.
قرأت -في هذا اليومِ- كلمةً لأول مرةٍ تَطرقُ سَمعي، أو تراها عَيني، رأيتُ بعضَ الحاقِدين على دُعاةِ منهج السَّلفِ، وعلى أئمَّته عندما ذكر الدعوةَ السَّلفيَّة، وعندما ذَكَر اهتمامَهم بالمنهجِ والعَقيدة؛ قال: (هؤلاء ينبغي أن يُطلقَ عليهم: المَناهِجَة)! وهذا مِن أقبح التنابزِ بالألقابِ، الذي لا حقَّ فيه ولا صوابَ! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
آخر نقطة أذكرُها -مِن باب أمانةِ العِلم-: أنني قرأتُ في »الفتاوى المكيَّة« للشيخ مُقبل بن هادي الوادِعي أنَّه دخل على إحدى المكتباتِ، فوَجد مكتوبًا على بعضٍ من جوانبِها: (كتب المنهج)، ووضعوا في المكتبةِ -نفسِها- جانبًا آخرَ، أو في جانبٍ آخر بطاقةً كُتِب عليها: (كتب القُرآن والسُّنَّة)؛ فقال: (ارفعوا هذه الكلمةَ = (المنهج)؛ لأن (المنهج) هو القُرآن والسُّنة، لا يوجد مَنهج بغيرِ قُرآن وسُنَّة)، فلم يرتضِ الشيخُ مُقبل -رحمه الله-تعالى- استعمالَ كلمةِ (المنهج) على المعنى الذي قد يُؤدِّي إلى التفريقِ بين العلمِ وسُلوكِه -مِن جهة-، وبين تطبيقِ الكِتاب والسُّنة -مِن جهة أخرى-. حتى قيل: إنه جاءه طلبتُه يقولون له: نريدُ أن تُدرِّسَنا المنهج؛ فقال: وماذا نُدرِّس نحن إلا »البخاري« و»مسلم« و»ابن كثير« و»ابن جرير«؟! هذه علومُ القرآن والسُّنة، هذا هو المنهج.
لكن الأمر -كما ذكرنا- نَحمِلُه على أحسن مَحامِلِه، ونأخذه على أكرمِ وُجوهِه، فالشيخ مقبل -لا شكَّ ولا رَيب- مِن علماء هذا الزمان الأكابر الذين نفع اللهُ بهم اليمنَ، قد كانت بيئتُه -كلُّها- شيعيةً حتى الآن انقلبَ أكثرُها إلى السُّنة، وليس -فقط- إلى السُّنة؛ بل إلى العِلم والتعلُّم والتَّعليم ونشـرِ السُّنَّة ومُناصرتِها. واللهُ المُستعان، ولا حولَ ولا قُوةَ إلا باللهِ -سبحانه وتعالى-.
فإذا أحد مِن الإخوة عنده سؤال مُتعلِّق فيما نذكره -الآن- مِن كلمةِ (المنهج) وما يتصل؛ بها فلا بأس أن نأخذ سؤالًا أو سؤالين في هذا الأمر. وأما الأصول المنهجية التي سنطرحها؛ فسيكون في كل مجلسٍ -مما سيأتينا-إن شاء الله- بابٌ في قضيةٍ ذات أثرٍ ونفعٍ -إن شاء الله- لنا ولإخوانِنا -جميعًا-. والله المستعان، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من عنده سؤال -أيها الإخوة!-فيما سمعتُم-. تفضل.
س/ [غير واضح].
ج/ قد يُقال. فحينئذٍ: يكون الاستعمال لُغويًّا. قد يُقال. لكنْ؛ إذا قلنا: (منهج)؛ فنقصد -بذلك- السلوك الذي تَبعتْه هذه الجماعة أو تلك، وهو سُلوك واضح فيه انحرافُهم، ليس بالضـرورة، لكن استعمال القُرآن: {لكلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، (مِنْهَاجًا) حقًّا -لا شكَّ، ولا رَيب-؛ إذًا: الأصلُ في استعمال كلمة (المنهج) إذا أُطلق ؛ أنه يُرادُ به: (المنهج الحق). ولكن؛ إذا استُعمِل بما تتوضحُ فيه صِفتُه، أو بما يُضاف إليه مِن بيان يَكشف انحرافَ هذا الشـيء أو ذاك؛ فهذا كما يُقال: (مِنهاج الضلالة)، أو (مِنهاجٌ ضالٌّ)؛ حينئذٍ: لا نحتاج إلى أن نأخذَ (المنهج) -هنا- على ذاك المعنى؛ وإنما هو على المعنى اللغوي. والله -تعالى- أعلم. نعم؛ تفضل!
س/ [غير واضح].
ج/ بالعكس. الذي ذكرتُه فيه تطبيقٌ تامٌّ -تمامَ المعنى- لما تُشيرُ إليه مما تقول إنه أشكل عليك. بمعنى: الآن أنت ذكرتَ زيدًا وعَمْرًا. واقع زيدٍ وعمرو هذا -في الحقيقة-، ولو كانت عقيدتُه -في نفسِه- في باب الأسماء والصفات، أو الألوهية، أو الإيمان، أو ما أشبه؛ سَلفيًّا، لكن؛ انحرافُه المنهجيُّ، وخللُه المنهجي أثَّر على هذه العقيدة! لم تَعد معاملاتُه وولاؤه وبراؤه على العقيدة، لم يعُدْ مُقدِّمًا لأهلِ السُّنَّةِ بسببِ عقيدتِهم؛ وإنما صارتْ نظرتُه وتطبيقاتُه مرتبطةً بمنهجِه المنحرفِ أكثرَ مِن ارتباطِه بعقيدتِه -في نفسِه- التي أصابَها الخللُ والوهَن بسببِ ذلك المنهج. وهذا تطبيقٌ حَسن لنفس الذي ذكرت إليه، وهو -في الحقيقة- تأييد وتوكيد، وليس هو إشكالًا -إنْ شاءَ اللهُ-. نعم؛ تفضل!
س/نحن نقول في بعض اللقاءاتِ: (ننهجُ منهَج السلف)؟
ج/(ننهَج) -هنا-: بمعنى (نتَّبع ونسلك)، وهذا في المعنى اللغوي.
س/ ونقول -أيضًا-: (نتَّبع)؛ أيهما [..]؟
ج/لا فرق. المعنى لغوي، واللغة فيها اتِّساع -واللهُ -تَعالَى- أعلَم-. تفضل.
س/(المنهج) -بالمعنى العام- [هل يجوز لنا] أن نقول: يشمل الإسلام كلَّه، لكن [...] كلمة (المنهج) في عصرنا هذا: هل يُقصد به: منهج سلفنا، وفهم سلفنا للكتاب والسنة في كيفية تعاملهم مع أهل البدع، ومع ...
ج/ ليس شرطًا قضية التعامُل، المنهج يشملُ الفَهم. الفَهم شيءٌ مُتأصِّلٌ في الذَّات؛ بينما التعامل شيء مُتعدٍّ إلى الآخرِين. فالمنهج -بالاصطلاح العام- ونحن ذكرنا هذا، ذكرنا: كلمة المنهج أشمل مِن العقيدةِ؛ لأنها تشمل العقيدة والأحكام والعباداتِ والسُّلوك. لكن؛ عندما نقول: (أصول في المنهج)؛ لا نقصد بها الدِّين الذي يشمل العقيدة ويشمل كذا، ولكن؛ نقصد بها أصول الفَهم المنقول عن السلفِ الصالح في التفهُّم للدِّين، وفي التعامل في مسائل العِلم مع الآخَرِين -سواءٌ مِن المبتدِعين أو مِن أهلِ السُّنة وغيرِهم-. نعم؛ تفضَّل!
س/( غير واضح )
ج/ نحن ذكرنا -بارك الله فيك- أن المعاني اللغوية قد تتداخل، وبالتالي: الذي ذكر أن (العقيدة) أشمل مِن (المنهج)؛ جعل المنهج -هنا- بالمعنى الاصطلاحي الضيِّق -الذي أشرتُ إليه أنا والأخ الكريم-قبل قليل-. أما المصطلح الأوسع للمنهج؛ فهو شامل للدِّينِ -كلِّه-، {لكلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، فهذا أشمل؛ لا يشمل -فقط العقيدة- حتى نقول بأنه عقيدة؛ بل هو يشمل العقيدة والأخلاقَ والأحكام والمعاملات والسُّلوك. . وغير ذلك...
س/ هل كل مَن خالف شيئًا مِن المنهج يَكونُ مُبتدِعًا؟
ج/ هذا بابٌ مستقلٌّ يجب بحثُه وطرقُه.
س/يقول: أيهما أهمُّ: المنهج أم العقيدة؟
ج/ أظنُّ أننا ذَكرنا ذلك، وأشرنا إلى الصِّلة بين المنهجِ والعقيدة، وأنَّ العقيدةَ الصالحةَ إذا لم يكنْ لصاحبِها منهجٌ صالِح؛ فإنه سيؤثِّر عليه، وبالتالي: فأنا أعتقدُ أنَّ المنهج بالمعنى الدقيق -الذي ذكرناه- أهم مِن العقيدة؛ لأنَّك لا تتخيل صاحبَ منهجٍ صحيحٍ تكون عقيدتُه باطلة، واللهُ المستعان.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 07-27-2009, 07:08 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

للطباعة:

أصول في المنهج - 1
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 07-28-2009, 03:59 PM
ابو يوسف ابو يوسف غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: الجزائر(بشار)
المشاركات: 105
افتراضي

برك الله فيك
__________________
وما من كاتبٍ إلا سيفنى ويبقي الدهر ماكتبت يداه


فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه

D:\abouzid\مؤثر النص.html
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 07-31-2009, 01:43 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

(2)
فِقْــهُ الائْتِــلافِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.

أمَّا بعدُ:

فهذا -أيُّها الإخوة!- اللقاءُ الثاني من دُروسِنا في المنهج، التي كانتْ فاتِحتُها ذِكرَ تعريفاتٍ ومصطلحاتٍ، مع تفصيلِها وشرحِها وذِكر أقوالِ أهلِ العلم فيها.

ومِن بابِ التلخيصِ والإضافةِ والإفاضة: أذكُر أنَّ كلمةَ (المنهج) -على ما فصَّلنا وبيَّنا-: لها ثلاثةُ اعتِبارات: الأول: الاعتبارُ اللغويُّ؛ فهي بمعنى: (السَّبيل والطريق)، والاعتبار الثاني: الاعتبار بالتعريف العام؛ فإذا ذُكر التعريفُ العام؛ فهو -كما أشرنا- أعمُّ من المنهجِ بالتعريفِ الخاص؛ فحينئذٍ: التعريفُ العام يشملُ معنى الدِّين ومعنى عُمومِ الشـريعة، أما التعريفُ الخاص -وهو الذي استقرَّتْ عليه كلمة أهلِ السنة، وعلمائِهم، وطلبَتِهم في العصورِ الأخيرةِ-: أنه طريقةُ أهلِ السُّنة في نشـرِ العقيدةِ والسُّنة، وردِّ البدعةِ والشِّـِرك، وما يَنبني على هذا وذاك مِن أصولٍ ومواقف؛ كالردِّ على أهل البدع وكَشفِهم، وما أشبه.

وعليه: فإنَّ كلَّ مَن كان على منهجِ السلفِ بالمعنى الخاص؛ فهو مِن بابِ أولَى أنْ يكونَ كمثلِه أو عليهِ في المعنى العامِّ، ولكنْ: هل يلزمُ العكس: أن كل مَن كان على منهجِ السلفِ بالمعنى العامِّ أنه على المعنى الخاص؟ نقول: لا يلزمُ.
وها هنا تنبيهٌ مهمٌّ: أن بعضًا مِن علماء الدعوةِ السلفيَّة، وكثيرًا من أبناءِ الدَّعوةِ السلفيَّة يحصُرون المنهج -سواءٌ بِلسان الحال أو بلسان المقال- يحصُـرون المنهجَ في الرَّدِّ على المبتدِعة، وتناوُلِ الجرحِ والتعديل، وما أشبهَ هذا وذاك. وهذا حصْـرٌ باطل؛ فالردُّ على المبتدِعة من حيث هو، والجرح والتعديل مِن حيث هو؛ هذا له أعلامُه، وله أئمتُه، وله أهل الاختصاص فيه، وسيأتي ذلك في المحاضرة الأخيرةِ، وهي بعنوان: (الجرح والتعديل) -كما سنذكر بعد قليل-إن شاء الله-تعالى-.

ولكني أذكرُ -الآن- مثالًا واحدًا: وهو الإمامُ أبو بكرٍ بن أبي الدنيا -رحمه الله-تعالى-. فهذا الإمام مِن أئمة العلم -بغير مبالغة- له مئات الأجزاء الحديثية، والكتب التي تَروي بالسَّنَد، حتى إن بيتَ الشِّعر الذي يَستدلُّ به ابنُ أبي الدنيا تراهُ يَرويهِ بسَندِه، أحيانًا الكلمة في تعريفِ غريبِ الحديثِ؛ تراهُ يَرويها بالسَّنَد، وكتبُه -كلُّها- في بابِ الرَّقائق والوعظ والزُّهد: كتاب: (الصمت)، كتاب: (الغِيبة)، كتاب: (مكارم الأخلاق)، كتاب: (إصلاح المال)، كتاب: (الإخوان). . وهكذا في لائحةٍ طويلةٍ -وطويلةٍ جدًّا- من الكتب. ولا نعلم له كتابًا -فيما أذكر-حتى لا أنفيَ ما لا علمَ لي به- لا أعلم كتابًا له في الردِّ على أهل البِدع، ولا أعلمُ له كلامًا في الجرح والتعديل؛ ومع ذلك هو ثقةٌ من ثقاتِ أئمة العلم، وكبير من كبراء أئمة الدِّين، لم يكن سُكوتُه عن هذا موقِفًا يُضعف ثقتَه، أو يُلجلجُ حُجتَه.

هذا أمرٌ أول أذكرُه كمقدِّمة لمجلِسِنا هذا.

الأمرُ الثاني؛ المحاضرات الباقية: أوَّلها: هذه المحاضرة -اليومَ- وهي بعنوانِ: "فِقهُ الائتِلاف"، والمحاضرةُ الثانية -إن شاء الله- ستكون بعنوان: "فِقه الاختِلاف"، والثالثة ستكون: "الرَّد على المُخالف"، والخامسة ستكون -إن شاء الله- بعنوان: "الجَرح والتَّعديل".

وعندما أشرنا -في المجلسِ الماضي- إلى أنَّ عنوانَ مجالِسِنا: "أُصولٌ في الَمنهجِ"، وليستْ بعنوان: "أصول المنهج". لو قلنا: "أصول المنهج"؛ فهذا يُلزِمنا أن نحصـرَ كل أفرادِ ودقائق وأصول المنهج؛ وهذا يكاد يكونُ مستحيلًا، حتى يعني نبالغ فنقول: لو كان ذلك على وجهِ السـردِ! فكيف إذا شرحنا وفصَّلنا وأصَّلنا؟! فما ذكرتُه أظن أن الحاجةَ إليه ماسَّةٌ -جدًّا-، وأظن أن كثيرًا مِن الخللِ والخلافِ والزَّغَل الذي يقعُ والذي وقعَ، وأقولُ -وأعني ما أقول- والذي سيقعُ -والله تعالى-أعلم- بين أهلِ السُّنة وبين السلفيين، بين هؤلاءِ وهم هم أنفسُهم؛ أقول: قد يكونُ عدمُ وُضوحِ هذه التأصيلاتِ مِن أعظمِ أسبابِ هذا الخللِ وهذا الزَّلل وهذا الخلاف. ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.
كلمةُ "فِقْه الائتِلاف": الفِقْه: هو الفهم، "مَن يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيرًا؛ يُفَقِّههُ في الدِّين" أي: يُفهمه ويعرِّفه، وهكذا. و(الائتلاف): مصدر مِن الفِعل )ائْتَلَفَ)، وأصلُ هذا الفِعل )ائْتَلَفَ): (ألِفَ)، وكلُّها تدور على معنى: الاجتماع، والمناصرة، والتوافق، والالتِئام، والاعتصام. هذا المصدر وما ينبني عليه، ونقول: (الائتِلاف) مصدر، وأيضًا- مِن مصادر: (الألَفَان)، يُقال: (ائتِلاف وأَلَفَان)، ويُقال: (أُلْفَة)، ويُقال: (إِلْف). كل هذه مصادر للفعل الثلاثي، وما انبنى عليه مِن الفعل الخماسي: )ائْتَلَفَ)، وهما -كما قلتُ- ذَوُو جَذرٍ واحد.

"الائتِلاف": -بهذا المعنى- ضد "الاختلاف". إذا ذكرنا (الائتلاف) يكون ضدُّه (الاختلاف)، كما إذا ذكرنا النهار يكون ضدُّه الليل . . وهكذا؛ فهما نقيضان، لا يجتمعان. و(الائتِلاف) فيه معنى الثَّبات، وفيه معنى الاستِقرار، بَيْنا (الاختلاف) فيه معنى التذبذُب، والتردُّد؛ لذلك جاءت نصوص الشـريعةِ -كما سيتبيَّنُ مَعنا- في الحضِّ على الائتلاف، وفي نقضِ الاختلاف.

أما نصوصُ الشـَّريعةِ في ذلك؛ فهي كثيرةٌ في كتابِ الله، وفي سُنَّة رسولِ الله -صلى الله عليه وآله وسلَّم-: مِن ذلك قولُه -تعالى-: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118-119]. {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}: أي: لِما هُو ضِد الاختِلاف، وهم أهلُ الاستِثناء: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}؛ هم أهل الاستثناء، هم أهل الائتلاف، فالمَرحومون هم المُؤْتَلِفُون، والمغضُوب عليهم هم المُختَلِفون -عياذًا بالله-.

وأيضًا: قولُ النبي -صلى الله عليه وآلِه وسلم-: "سألتُ ربِّي ثلاثًا؛ فأعطانِي اثنَتَين، ومَنَعَنِي الثالثة"؛ ما الثالثة التي مُنِعَها رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-؟ قال: "سألتُه أن لا يجعلَ بأسَ أمتي بينها شديدًا؛ فمَنَعَنِيهِ". فهذا حُكم قَدَري -فضلًا عن الحُكم الواقعِي- في الأمة، والتي لا يجوزُ لها أن تسكنَ إليه، وأن تَرضَى به؛ تقول: نحنُ في اختِلاف؛ إذًا نرضَى بهذا الاختلاف! هذا غير صحيح، وليس جاريًا على نسَق عقيدةِ أهل السُّنَّة النبويَّة.

والنصُّ في "سورة آلِ عمران" -في آياتٍ متعدِّدة، جاءت لتُسلسِل معانيَ الائتلاف، والوِحدة، والاعتصام، ونَبذ الفُرقة، والردِّ على الاختلاف في هذه الأمة-، وهو قولُه -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ - وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 100-101]. الاعتصام: هو الائتلاف، ونقيضُ هذا نقيضُ ذاك. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، كلما جاء النص بالخِطاب للمؤمنين؛ هذا فيه بيانٌ لحُكمٍ، كما قال ابن مسعود -رضي اللهُ عنه-:"إذا سمعتَ اللهَ يقولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} فأرعِه -أو: فأوْعِه- سمعَك؛ فإنما هو أمر يأمرُك الله به، أو نهيٌ يَنهاك الله عنه". ثم في الخطاب للجماعة المؤمنة بالنص القرآني إشارةٌ -أيضًا- إلى الائتلاف والاعتصام والتعاضُد والتناصُر. كم من آيةٍ في القرآن: {وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ}، {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}؟ هذا موجودٌ، وهذا موجود. {وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا}؛ كلُّها خطابات يُستفادُ منها -سَماعًا، وحقيقةً، وشرعًا، ولُغةً- هذا التعاضُد، وهذا الائتلاف، وهذا التناصُر الذي رضِيَ الله -تباركَ وتَعالى- لنا.

ثم ماذا قال بعد هذهِ الآيةِ -مباشرةً-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} {وَاعْتَصِمُوا}: لم يكتفِ بهذا الأمرِ، {بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}: توكيدٌ، ثم لم يكتَفِ بذِكر التوكيدِ لهذا الاعتصامِ حتى نقضَ ما يُخالِفه: {وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} أيضًا: {فَأَلَّفَ} من الائتلاف والأُلفة، {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}: هذا دليل أن ما يُخالف الائتلاف والأُلفة والاعتصام -مِن التدابرِ والتناحُر والاختلاف-؛ إنما يكون أصحابُه على شَفا حُفرةٍ من النار -أعاذنا اللهُ وإيَّاكم مِن النَّار-. قال: {عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} أنقذكم منها بماذا؟ بهذا الائتلاف، وهذه المحبَّة، وهذا الاعتصام، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ}: أرجح الأقوالِ -في هذه الآيةِ- أنَّ {مِنْ} ها هُنا لِبيان الِجنس، وإذا قُلنا هي للتَّبعيض؛ فالمقصود بها أهل العلم -خاصَّة-.

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَلَا تَكُونُوا}: انظروا بعد كل هذا التركيز على الاعتصامِ، وعلى الوِحدة، وعلى الأُلفة، وعلى النهي عن الفُرقة؛ قال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}.

ورد في كتب التفسيرِ: عن ابن عباسٍ -رضيَ اللهُ عنه- أنه قال: "يَوم تبيضُّ وُجوهُ أهلِ السُّنَّة، وتَسْوَدُّ وُجوهُ أهلِ البِدعة". وهذا مَرضيٌّ -وإن كان سندُه ضعيفًا-. مِن باب الأمانةِ العِلميَّة؛ نقول: الأثرُ المرويُّ عن ابنِ عباسٍ في تفسيرِ هذه الآية على هذا المعنى؛ إسنادُه لا يَثبُت، لا يَصحُّ، وإن كان هذا مِن حيث العُموم اللُّغوي لتفسيرِ النصِّ القرآني مقبولًا، ولا يُقال الآية تتكلَّم عن الكفَّار؛ بدَليل: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}؛ نقول: نعم، كما أن الإيمانَ درجاتٌ؛ فإنَّ المعصيةَ درَجات، كما أنَّ الإيمانَ -أيضًا- مَراتب؛ فإن الفِسقَ مَراتب: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] الفِسْقُ: يطلقُ على الكُفر، ويُطلَقُ على المعصية. وكذلك هذا السَّواد والاسوِدادُ -نسأل الله أن يُبيِّض وُجوهَنا وإيَّاكم والمسلمين دُنيا وأُخرى- كما قد يُطلقُ على أهلِ الكُفر؛ يُطلق على أهل البِدع؛ بل قيل -من كلام أئمةِ السلف-: "البِدعةُ بريدُ الكُفر" هذا مِن كلام أئمةِ السَّلفِ.

قال: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ - وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ - كُنْتُمْ}: أيضًا كرَّر ذِكر الأمر بالمعروفِ -الذي ذُكر، وسردناه في وسطِ الآية- ذَكَرَه في آخِر هذه الجملةِ القرآنية -المجموعة مِن هذه الآيات-: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} -نسأل الله-تعالى- أن نكونَ وإياكُم أن نكونَ مِن أهلِ الطاعة والسُّنةِ والجماعة-.

أذكر أمورًا مهمةً -وهي أمور واقعية نعيشُها ونَحياها، ونلمسها بأيدِينا، ونراها رَأيَ العَين، ونسمعها آناءَ الليل وأطرافَ النهار-، أقول -وللأسف-:

صار حالُنا -اليومَ- إذا ذُكر الاختلافُ والمختلِفون -وللأسف-أقولها-: صار يُذكر معها الدَّعوةُ السلفيَّة! وهذا -أنا أقول- شيءٌ يوجَد منه قَدْرٌ لا بأسَ به مِن الواقع. وأنا سافرتُ وذهبتُ ورحلتُ ورأيتُ؛ فلا أكاد أذهبُ إلى مكانٍ إلا وأَرى فيه الاختلاف! وهذا شيء مُؤسِف!

ومِن هنا جاءَت رغبتي الكبيرةُ في أنْ يكونَ أوَّل مجلسٍ في بيان الائتلاف؛ لنبيِّن نصوصَ الشـريعة، وأقوالَ أئمةِ العلم -مِن أئمة الكتاب والسُّنة، ومِن علماء الدعوة السلفيَّة- كم هو عظيم قدْرُ الائتلاف، وليكونَ -في المجلسِ الثاني؛ وهو: »فِقهُ الاختلاف«- بيانًا لتلكمُ السَّوأة العظيمة التي يتلبَّس بها أهلُ الاختلاف، والتي يَرتكس في أَتونِها المختَلِفون على ما نعرفُ وتعرفون.
نقطةٌ أخرى: بالعكس -أيضًا- ومِن جهة مقابِلة؛ صار الذي يَذكُر الائتلاف، ويُحبِّب الناسَ فيه، ويعظِّمه في قلوبِهم وعُيونِهم، ويحضُّ عليه، ويَذكُر مَمادِحَه؛ صار يُنبَزُ -ولو مِن فئةٍ قليلة قد تكثُر وقد تَقِل-، صار يُنبَزُ بالتمييعِ، والتميُّع! هذا الذي يتكلمُ في الائتلاف؛ هذا ليس ناصرًا للسُّنَّة! هذا الذي لا يتكلَّم في كذا؛ مائعٌ وضائع! . . إلى غير هذا وذاك من ألفاظٍ؛ إذا بحثتَ عن أصولِها، ونظرتَ إلى أُسسِها؛ لا تجدُها مبنيَّةً على أساسٍ؛ وإنما هي على شفَا البُعدِ عن الهُدى، ومُجانبةِ الصوابِ، ومواقعةِ الرَّدَى.

ولئن استدلوا على هذه النقطة بأنَّ القرآنَ الكريمَ اسمُه الفُرقان. القرآنُ الكريمُ اسمُه الفُرقان، و(الفُرقانُ) مقصودٌ لذاتِه؛ ليكونَ فيصلًا بين الكُفر والإيمان، بين الحقِّ والباطِل، بين الهُدى والضَّلال، نحن لا نتكلَّمُ عن هذا الذي يجبُ أن تكونَ القلوبُ والعقولُ مُتناصرةً عليه؛ ولكن نتكلمُ عن ائتلافٍ نكادُ نفقِدُه في بيوتِنا، نكادُ نفقدُه في مساجدِنا، نكاد نفقدُه مع تلاميذِنا وأبنائِنا، نكادُ نفقدُه مع أساتِذتِنا وشُيوخِنا، فلا يُستدل على هذا بِذاك؛ فهذا استدلالٌ قَبيحٌ -بل قبيحٌ جدًّا-.

ولا يُستدل -أيضًا-ويكون الرَّد هو الرَّد- بحديث البخاريِّ الذي وصفَت الملائكةُ فيه رسولَنا الكريمَ سيدَنا محمدًا -عليه أفضلُ الصلاةِ، وأتم التسليم- بأنه فَرْق بين الناس، أو فَرَّق بين الناس؛ فليس المقصودُ بالتفريقِ هذا الذي ننعاهُ ونتكلم عليه؛ وإنما المقصودُ بالتفريقِ هو ذلك المعنى القرآني لاسم القرآن: (الفُرقان) الوارِد في كتابِ الله -تبارَك وتَعالى-.

وكذلك -أيضًا- قد يُستدل -والرَّدُّ هو الرَّد، والجوابُ هو الجَواب- بأثرِ ابنِ مسعودٍ -رضي الله-تعالى-عنه- لما قال: "الجماعةُ ما وَافقَ الحقَّ؛ وإنْ كُنتَ وحْدَك"؛ فهل هذا يعني أن تنفِّر الناسَ مِن حولك؟! وهل هذا يعني: أن لا تُبقيَ حولكَ أحدًا؟! فأيُّ خلافٌ وقع فيه غيرُك -ولا تقبلُه، ولا تَرتضيه-؛ تنفِّر الناسَ عنه، وتستأصلُه، وتُسقِطه، وتُضلِّلُه، ومِن أهل السُّنة تُخرِجُه؟!! هل هذا هو المُراد؟ لا؛ لكن المُراد: الثباتُ على الحقِّ إذا انفضَّ الناس عن أهلِ الحق.
لكن؛ لو لم يكن هنالك حضٌّ لتكثيرِ جماعة المسلمين بالحقِّ المُبين، والصوابِ المُستَبين؛ لما كان هنالك فائدةٌ مِن النصوصِ القُرآنية، ومن الأحاديثِ النبويةِ التي فيها الحضُّ على الدَّعوة، الدَّعوة إلى ماذا؟ الدعوة إلى الله، الدعوة إلى سُنَّة رسولِ الله، إذا كنتَ تبقى على الحقِّ -وَحدَك-، دون أن تلتفتَ إلى الآخَرِين، ودون أن تُقيمَ وزنًا للآخَرِين؛ فحينئذٍ: ابْقَ وَحدَك لِتفهمَ الدِّينَ على غيرِ ما يُريدُه ربُّ العالمين، وعلى غيرِ ما يريدُه نبيُّنا الأمينُ -صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه أجمَعين-!

ولا يجوز أن يفهمَ أحدٌ أنَّ في هذا الكلامِ -أيضًا- شيئًا من ذلك التمييعِ -أو التضييعِ- الذي نَرُدُّه، وننقدُه، وننتقدُه، وننقضُه؛ وإنما نريدُ وضعَ الأمور في نصابِها، كما ستسْمَعون -قريبًا- مِن كلامِ شَيخِ الإسلامِ وعَلمِ الأعلام: الإمام ابنِ تيميَّة -رحمهُ الله-تعالى-.

وإذ نَذكر ابنَ تيمية -على وجهِ الخُصوص-؛ لأنه إمامُ هُدى، ولأنه إمامُ سُنَّة، ولأنه مقدَّمٌ ومعظَّمٌ عند كلِّ المختَلِفين؛ بل حتى عند بعضِ المُخالِفين الذين يستدِلون عل أهلِ السُّنة بكلام هذا الإمامِ العظيم؛ لكنهم يَحمِلونَه على غيرِ وجهِه، ويَطيرون به على غيرِ مَحمَلِه.

أقول -أيها الإخوة!- لقد وجدتُ لشيخ الإسلامِ ابن تيميةَ -رحمهُ الله- كلامًا في أهميةِ الائتلاف، وعظَمتِه، وأنه مِن أهم وأبرزِ علاماتِ السُّنَّة وأهل السُّنة، أقول: لقد رأيتُ شيئًا كثيرًا مِن ذلك، حتى لو أن أحدًا من طلابِ العلم أراد أن يجمَع كلامَ شيخ الإسلام ابنِ تيميةَ في موضوع الائتلافِ؛ ممكن أن يخرجَ معه مجلدٌ ضخم في باب الائتلاف!

وعليه: فلا يجوز لأحدٍ أن يخدعَ نفسَه -فضلًا عن أن يخدعَ غيرَه- ليزعمَ ويدَّعيَ أن شيخَ الإسلامِ ابنَ تيمية -رحمه الله- مِن أهل التَّمييع، أو مِن أهل التميُّع، أو مِن غير أهلِ الثَّباتِ والاستقرار! هذا كلام باطل، وأيُّ باطل -والعياذ باللهِ -تبارك وتعالى-.

يقول شيخُ الإسلام ابنُ تيمية-رحمه الله- في (المجلد الثامن والعشـرين) مِن "فَتاوِيهِ" -ويجوز أن نقول: (فتاواه)- قال:
"وتعلمونَ أن من القواعدِ العظيمةِ التي هي مِن جِماعِ الدِّين [ويجوزُ أن نقولَ: (مِن جُمَّاع الدِّين)] تأليفَ القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاحَ ذاتِ البَيْن، فإن الله -تعالى- يقول: {فاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}، ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، ويقول: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}".

قال: "وأمثال ذلك مِن النصوصِ التي تأمُر بالجماعةِ والائتلاف، وتنهى عن الفُرقة والاختلاف".

إذًا: نحن لا نسعَى سَعيًا، ولا نستحثُّ أقدامَنا، ونغذُّ سيرَنا لنوقِع فينا -أهلَ السُّنة- الفُرقة، أو لِنُوجِدَ بيننا -أهلَ السُّنة- الاختلاف، ولكنْ؛ نحن عندنا التواصي بالحقِّ، والتواصي بالصَّبر، وعندنا التَّناصح، وعندنا إقامةُ الحُجَّة، وعندنا المَعذرة، ولا نزعُم أنَّ ما قالَه البَعضُ يلتقي مع هذا التأصيل. ما قال البعضُ مِن أننا: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويَعذُر بعضُنا بعضًا فيما اختَلَفْنا فيه)؛ هذا باطلٌ، لا يلتقِي هذا التأصيل.

تأصيلُنا عِلميٌّ؛ مَبنيٌّ على الحُب في الله، وعلى الوَلاء لله، وعلى الطاعة لِسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أما تلك؛ فقاعدةٌ باطلة، وما بُني عليها -مما أُريدَ تحريفُه، وأريدَ تغييرُه-؛ فيُلحق به؛ فلا حَقَّ ولا صَواب.

قال: "وأهلُ هذا الأصلِ هم أهلُ الجماعةِ، كما أنَّ الخارجِين عنه هُم أهلُ الفُرقة، وجِماعُ السُّنَّة طاعةُ الرَّسول -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-؛ ولهذا قال النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في الحديثِ الصحيحِ الذي رواه مسلم في "صحيحِه" عن أبي هريرةَ: "اللهَ يرضى لكم ثلاثًا: أن تَعْبُدوهُ وَلا تُشـرِكوا به شيئًا، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَميعًا ولا تَفَرَّقُوا، وأن تُناصِحوا مَن وَلَّاه اللهُ أمورَكم".

ثم ذكر حديث زيدِ بن ثابت وابن مسعود -فقيهَي الصحابة- هذا كلام ابن تيمية- عن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: "نضَّـر اللهُ امرَءًا" [(امرءًا): إذا فُتِحتْ؛ يُفتَح راؤُها، وإذا كُسِـرتْ (امرِئٍ) يُكسَـرُ راؤُها، وإذا كانت على الرَّفع؛ يُرفَع رَاؤها (امرُؤٌ)؛ إذًا: الرَّاء تتبعُ الحركةَ الإعرابية] "نضَّـر الله امرَءًا سمِعَ مِنَّا حديثًا فبَلَّغَهُ إلى مَن لم يَسمَعْه؛ فرُبَّ حامِلِ فِقهٍ غير فَقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فِقهٍ إلى مَن هو أفْقَهُ مِنه. ثلاثٌ لا يُغَلُّ عليهِنَّ قلبُ مُسلمٍ: إخلاصُ العملِ لله، ومُناصحةُ ولاةِ الأمر، ولُزومُ جماعةِ المسلمين؛ فإنَّ دَعوتَهم تُحيطُ مَن وَراءَهُم".

قال شيخُ الإسلام: "وقولُه: "لا يُغَلُّ" أي: لا يُحقَد عليهن؛ فلا يُبغِض هذه الخِصالَ قلبُ المسلمُ؛ بل يُحبهُنَّ ويَرضاهن".

قال: "وأول ما أبدأ مِن هذا الأصلِ: ما يتعلقُ بي [لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحب لنفسِه] وأولُ ما أبدأُ مِن هذا الأصلِ ما يتعلقُ بي [كلامُ شيخ الإسلام]؛ فتعلمون -رَضيَ اللهُ عَنكُم- أنِّي لا أحبُّ أنْ يُؤذَى أحدٌ مِن عمومِ المسلمين -فضلًا عن أصحابِنا- بشـيءٍ -أصلًا- لا باطنًا، ولا ظاهرًا، ولا عندي عَتَبٌ على أحدٍ منهم، ولا لَومٌ -أصلًا-؛ بل لهم عندي مِن الكرامةِ والإجلالِ والمحبةِ والتَّعظيم أضعافُ أضعافِ ما كان، كلٌّ بِحَسَبِه".

أين مثل هذه القلوب؟! أين مثل هذه النُّفوس؟! أين مثل هذه العُقول؟! أين مثل هذه المسالكِ التي لا يتجنَّبُها إلا هالك؟ نسأل الله أن يعافيَنا وإياكم.

يقول -أيضًا-في المجلدِ نفسِه-: "وتعلمون أنَّا -جميعًا- مُتعاونون على البِرِّ والتقوى، واجبٌ علينا نصـرُ بعضِنا بعضًا -أعظمَ مما كان، وأشدَّ-، فمَن رام أن يُؤذيَ بعضَ الأصحابِ -أو الإخوان- لمِا قد يظنُّه مِن نوعِ تخشينٍ" انتبهوا: حتى كلمة (تَخشين)؛ قال: "مِن نوعِ تَخشين«يعني: أنه تخشينٌ فيه رحمة، ليس [تخشينًا] فيه تضليل، ليس تخشينًا فيه إسقاطٌ، أو فيه استِئصال، أو فيه تضلِيل، أو فيه إخراجٌ لمَن كان مِن أهلِ السُّنة مِن دائرةِ أهلِ السُّنة. هذا ليس نوعَ تخشين؛ هذا تخشينُ التخشين -أعاذنا الله وإياكم-.

قال: "فمَن رامَ أن يؤذيَ بعضَ الأصحابِ -أو الإخوان- لِما قد يظنُّه مِن نوعِ تخشينٍ -عومِل به بِدمشقَ أو بمصـرَ-الساعةَ-أو غير ذلك-؛ فهو الغالِط".
إذًا: هل إذا وقع شيء من المخاشنة؛ انتبهوا: »نوع تَخشين«؛ بمعنى أن يكون هنالك نصيحة فيها شيء مِن القوة، أن يكونَ -هنالك- شيء من الزَّجر -بحسبِه ومِن أهلِه- لمن أخطأ، ولمن غلط؛ فهذا لا يُستدل به على غيرِ ما وُجد له، وبالتالي: فمَن استدل به على غيرِ ما وُجد له؛ فهو الغالِط -كما يقول شيخ الإسلام-.

قال: "وكذلك مَن ظن أن المؤمنين يبخلونَ عما أُمروا بهِ من التعاوُن والتَّناصرِ؛ فقد ظنَّ ظنَّ سَوءٍ، {وإنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحق شيئًا}، وما غاب عنا أحدٌ مِن الجماعة، أو قدِم إلينا الساعة، أو قبل الساعة [يعني الساعة: أي الوقت، هذا الوقت]؛ إلا ومنزلته عندنا -اليوم- أعظمُ مما كانت وأجلُّ وأرفع".

ويقول -رحمه الله- في المجلد الثامن والعشـرين: "فاللهَ الله! اللهَ الله! عليكم بالجماعةِ والائتلافِ على طاعةِ اللهِ ورسولِه، والجهادِ في سبيلِه؛ يجمعِ الله قلوبَكم، ويُكفِّر عنكم سيئاتِكم، ويَحصُلْ لكم خيرُ الدنيا والآخرة. أعاننا الله وإيَّاكم على طاعتِه وعبادته، وصـَرَف عنا وعنكم سبيلَ معصيَتِه . . . ". وأتمها بأدعيةٍ طيبة ومباركة منه -رحمه الله-تعالى-.

وقال في "المجلد الثالثِ"، قال: "إن الله -تعالى- أمرنا بالائتلاف، ونهانا عن الفُرقة والاختلاف، وقال لنا -في القرآن-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}".

وقال -رحمه الله- في "المجلد التاسع عشـر": "إذا كان الله -تعالى- قد أمرنا بطاعة الله، وطاعة رسوله وأولي الأمْر مِنا، وأمرَنا عند التنازعِ في شيءٍ أن نردَّه إلى الله وإلى الرسولِ، وأمرَنا بالجماعةِ والائتِلاف، ونهانا عن التفرُّق والاختِلاف، وأمرَنا أن نستغفرَ لمن سبَقَنا بالإيمان، وسمَّانا المسلمين، وأمرَنا أن ندومَ عليه إلى الممات: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. فهذه النصوص -وما كان في معناها- توجبُ علينا الاجتماعَ في الدِّين كاجتماع الأنبياءِ قبلنا في الدِّين، وولاةُ الأمور فينا هم خلفاءُ الرَّسول، ومَن هم خلفاءُ الرَّسول؟ »العُلماء وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ«، هؤلاء هم خلفاء الرَّسول؛ بمعنى: خلافة العلم، ووراثة الدِّين؛ لذلك قولُه -تعالى-: {وأولي الأمرِ مِنْكُمْ}؛ حَمَلَه أهل العلم على الدِّين والدنيا. فحكَّام العدل، وحُكام المسلمين -وإن جارُوا، أو وقع شيءٌ مِن الجَور منهم-ما داموا مُسلمين-؛ هم أولوا الأمر في الدُّنيا، وعلماء الأمة -مِن أهل السُّنة- هم أولوا الأمر في الدِّين.

قال: "قال النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-في الحديث الصحيح-: "إنَّ بَنِي إسْرائيلَ كانت تَسُوسُهُم الأنبياءُ" تسوسُهم أي: تقودهم وترعاهم، ومِن هنا أُخذت كلمةُ (السِّياسة) بمعناها اللغوي والشـرعي، وليس بمعناها الإغْريقي، أو اليُوناني -فضلًا عن المعنى المُعاصر-.

قال: "إن بني إسرائيل كانت تسوسُهُمُ الأنبياءُ، كلَّما هَلَكَ نَبِي؛ قامَ نبِي، وإنه لا نَبِيَّ بعدي، وسيكون خلفاءُ، ويَكثُرون" قالوا: فما تأمرنا -يا رسولَ الله!-؟ قال: "أَوْفُوا بيعةَ الأولِ فالأوَّل، وأدُّوا لهم الذي لهم؛ فإن اللهَ سائلُهم عما استَرعاهم"، وقال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "العلماءُ ورثةُ الأنبياء".

فهولاء هم ولاة الأمر بعده، وهم الأمراء والعلماء، وبذلك فسَّـرها السلفُ ومَن تبعهم من الأئمة -كالإمام أحمد وغيره-. فالأصول الثابتةُ بالكتاب والسُّنة والإجماع؛ هي بمنزلة الدِّين المشترَك بين الأنبياء، كما قال النبي -عليه الصلاةُ والسلام-: "الأنبياءُ إِخْوَة، أُمَّهاتُهُمْ شَتَّى، ودَعْوَتُهم واحِدة".

قال: "لَيس لأحدٍ خروجٌ عنها، ومَن دخل فيها كان مِن أهل الإسلامِ المَحْضِ؛ وهم أهلُ السُّنَّة والجَماعة، وما تنوَّعوا فيه مِن الأعمال والأقوال المشروعة؛ فهو بمنزلة ما تنوَّعت فيه الأنبياء".

ويقول -رحمه الله-تعالى- في (المجلد الثالث): "وفي الصِّحاح: عن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أنه قال: "مَثَلُ المُؤمِنِينَ في تَوادِّهِم وتراحمِهم وتعاطفِهم؛ كمثل الجسدِ الواحِد إذا اشتكى مِنهُ عُضوٌ؛ تَداعَى له سائرُ الجَسَدِ بِالحُمَّى والسَّهَر".
وفي الصِّحاح -أيضًا-: أنه قال -عليه الصلاة والسلام-: "المؤمنُ لِلمُؤْمِنِ كَالبُنْيان"؛ زيادة: (المرصُوص) لا أصل لها. كثير مِن الناس تسمعهم يقولون: (كالبُنيانِ المَرصُوص)؛ زيادة (المرصوص) لا أصلَ لها؛ إنما في النَّص القرآني: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] هذه في الآية وليست في الحديث، ولا يجوز أن نخلطَ ما هنا هنالك، وأن نضعَ ما هنا هنالك!
قال: "قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "الُمؤمِنُ لِلمُؤْمِنِ كَالبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا" وشبَّك بين أصابِعِه. وفي الصِّحاح -أيضًا- أنه قال -عليه الصلاة والسلام-: "والذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لا يُؤْمِنُ أحَدُكُم؛ حتَّى يُحبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِه"، وقال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: "المُسلِمُ أخُو المُسلِمِ: لا يُسْلِمُه، ولا يَظْلِمُه". "لا يُسْلِمُه"؛ أي: لا يخذلُه ويَجعلُه سَلَمًا للآخَرين. وأمثال هذه النصوص في الكتاب والسُّنة كثيرة، وقد جعل اللهُ فيها [أي: في هذه النصوص] عبادَه المؤمنين بعضَهم أولياءَ بعض، وجعلهم إخوةً، وجعلهم مُتناصِرين مُتراحِمين، مُتعاطِفين، وأمرهم -سبحانه- بالائتلاف، ونهاهُم عن الافتِراق والاختِلاف، فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، وقال: {إنَّ الذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعًا لستَ منهمْ في شيءٍ إنَّما أمرُهم إلى اللهِ...} إلى آخر الآية". قال: »فكيف يجوز -مع هذا- لأمة محمدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أن تفترقَ وتختلفَ؟!"!!

واللهِ، وتاللهِ، وبالله؛ أرى -بل نَرى- بعضَ الناسِ كأنهُم يَحلُمُون بالاختِلاف! ويَعشقُون الاختلاف! ويتمنَّون الاختلاف! ولا يَرَون شيئًا أعزَّ -عندهم- من الاختلاف!! فما يجدون فئةً مُسلمةً على دعوةٍ خيِّرةٍ إلى الكتابِ والسُّنةِ ومنهجِ سَلفِ الأمة؛ إلا ويُوَجِّهون إليها عقاربَ الاختلاف، والأصابع التي تَبذُر بذورَ الفُرقَةِ والتفرُّق -عياذًا باللهِ -تبارك وتعالى-.

الحقيقة: الكلام كثير، والوقتُ قليل، وأظن أنه لم يبق إلا دقيقتان أو ثلاث. .
أنا أذكر -أيضًا- كلامًا للإمام الشَّوكاني، وأذكرُه بدقائق، نقرَؤه قراءةً؛ لبَيان أهميَّتهِ، وهو: (أسبابُ الخروجِ عن دَائرةِ الإنصافِ والتي تكونُ مُناقِضةً للائتِلاف).

ذكر الشَّوكاني في كتابِه: "أَدَب الطَّلَب، ومُنْتَهَى الأَرَب"، وهو مِن أجمل الكتب في آداب العِلم، يقولُ:

"اعلم؛ أنَّ سببَ الخروج عن دائرةِ الإنصاف، والوُقوع في موبِقات التعصُّب كثيرةٌ جِدًّا".

تأملوا هذه الأسباب، وانظروها -مُتأمِّلينَها- ناقضةً ومُناقضَةً لأصولِ الائتِلاف والاعتصام والمناصرة والتعاضُد التي سمِعنا كلامَ شيخِ الإسلام فيها، وله في ذلك -أيضًا- فيها كلامٌ كثيرٌ كالدُّرِّ النثير.

يقول: "أولًا: نشأةُ طالبِ العلم في بيئةٍ تَمذْهَبَ أهلُها بمذهبٍ مُعين، أو تلقَّوا عن عالِم مَخصوصٍ؛ فيتعصَّبُ ولا يُنصِف".

الكلام مِن وضوحِه، ومن صراحتِه، ومن واقعيَّته؛ لا يحتاج إلى تعليق، ولا
يحتاج إلى تحقيق؛ بل لا يحتاج إلى شَرح؛ لأنه يُمثِّل واقعًا ملموسًا محسوسًا -كما قلتُ: (نراهُ ونَسمعُه)-.

"ثانيًا: حُب الشرَفِ والمالِ، ومُداراةُ أهلِ الوَجاهة والسُّلطان، والتماسُ ما عندهم؛ فيُقوِّي ما يُناسِبُهم، ولا يُنصِف".

يغيِّر أحكامَ الشـريعة، ويُداهِن في الدِّين بغيرِ أمرٍ ولا حقٍّ، ولا هُدى ولا يقين؛ فيقع منه الذي وقَع.

"ثالثًا: الخوضُ في الجدال والمِراءِ مع أهل العِلم، والتعرُّض للمناظراتِ، وطلب الظُّهور والغَلبة؛ فيَقْوَى تعصُّبه لِما أيَّده، ولا يُنصِف".

إذا وُجد هذا فيه؛ أين الائتلاف؟ وهو يريد الغَلبة، وهو يريد الظُّهور، وهو يُريد الانتصار!

"رابِعًا: الميلُ لمذهَبِ الأقرباء"، ويقصد: القَريبين، وليس المقصود قرابة النَّسب. "الميْلُ لمذهبِ الأقرباء، والبحثُ عن الحجج المؤيِّدة له؛ لِلمباهاةِ بعلمِ أقربائِه؛ فيتعصَّب حتى لخطئِهم، ولا يُنصِف.

خامسًا: الحرجُ مِن الناس في الرجوع عن فتوى قالَها، أو قولٍ أيَّده واشتهر عنه، ثم تبيَّن بطلانُه؛ فيتعصَّب -دفعًا للحَرج-، ولا يُنصِف".

إذا وُجد هذا؛ هل يوجَد معه ائتلاف، أم لا يكونُ معه إلا الاختلاف؟!

قال: "سادسًا: الزَّلة في المناظرة مع مَن هو أصغر سِنًّا، أو أقل عِلمًا وشُهرةً، تجعله يتعصَّب للخطأ؛ ولا يُنصِف.

سابعًا: التعلُّق بقواعدَ معينة، يصححُ ما وافقَها، ويُخَطِّئ ما خالفها، وهي -نفسُها- غيرُ مسلَّمةٍ على الإطلاق، فيتعصَّب بالبِناء عليها، ولا يُنصِف"!

نرى -الآن- قواعد وأصولًا توضَع -هنا وهناك-، ثم يُبنَى عليها تبديعٌ وتضليل وإسقاطٌ واستئصال، وليس هي عليها -أصلًا- دليلٌ؛ بل هي قواعد قد تكون مخرومةً في نفسِها، وساقطةً في ذاتِها وبُنيانِها.

"ثامنًا: اعتماد أدلةِ الأحكام مِن كتب المذاهب، لأنه سيجِدُ ما يؤيِّد المذهب باستبعادِ دليلِ المُخالف، فيتعصَّب، ولا يُنصِف".

أين الائتلاف مِن حالٍ كهذا؟!

"تاسِعًا: الاعتماد في (الجرح والتَّعديل) على كتبِ المتعصِّبين".

إذًا: في (الجرح والتعديل) منهم مَن هو أهل تعصُّب، منهم مَن هو أهلُ تَشدد، منهم من هو أهلُ تَساهل، وهذا -كلُّه- مذكور، وسنشير إليه في مجلسِ: (الجَرح والتَّعديل)-.

قال: "الاعتمادُ في (الجرح والتَّعديل) على كتبِ المتعصِّبين؛ إذ يعدِّلون الموافِق، ويُجرِّحون المخالف؛ فمَن بَنى على كُتبِهم؛ يتعصَّب، ولا يُنصِف.

عاشِرًا: التنافسُ بين المتقارِبَين في الفضيلة أو المنزلة؛ قد يدفع أحدَهما لتخطئةِ صوابِ الآخر؛ تعصُّبًا ومجانبة للإنصاف"

فأين هو الائتلاف؟

"الحادي عشر [وبه أختم]: الاعتماد على الآراء والأقوال من عِلم الرَّأي [المُخالِف والمناقِض لعلم الأثر] المخلوطة بعلوم الاجتهاد -كأصول الفقه-؛ مما يترتب عليه تعصبٌ للرأي، وخروجٌ عن الإنصاف".

هذه أحدَ عشـرَ سببًا من أسباب المخالَفة للحق، المؤدية للخروج عن الإنصاف، والمناقِضة -أصلًا وفَصلًا، بدءًا وانتهاءً- للائتلاف الذي يجب أن نفقهَه، ويجب أن نفهمَه، والذي يجبُ أن نعرفَ كيف نُحِب حتى نعرف كيف نبغِض، يجب أن نعرف كيف نأتَلِف حتى نعرف كيف نختَلِف.

وفي هذا القدر كفاية.

وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 07-31-2009, 03:04 PM
عماد عبد القادر عماد عبد القادر غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: المملكة الأردنية الهاشمية
المشاركات: 3,334
افتراضي

جُزيتم خيرا على التفريغ
__________________


كما أننا أبرياء من التكفير المنفلت وكذلك أبرياء من التبديع المنفلت
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 07-31-2009, 07:13 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

وفيكم بارك الله وجزاكم خيرًا.

وهنا ملف لتحميل المادة:
http://www.salafishare.com/arabic/300ZYI0Q3866/O2GKJRY.pdf
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 08-01-2009, 06:09 PM
أم سلمة السلفية أم سلمة السلفية غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jun 2009
المشاركات: 1,772
افتراضي

جزاك الله خيرا أختي الكريمة أم زيد على ما سطرت وأسأله تعالى أن يبارك فيك
__________________
أمُّ سَلَمَةَ السَّلَفِيَّةُ
زَوْجَـةُ
أَبِـي الأَشْبَـالِ الْجُنَيْـدِيِّ الأَثَـرِيِّ
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 08-04-2009, 01:47 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

(3)
فِقْهُ الاخْتِلافِ
(ضوابِطُ الاختِلافِ)

إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.

أما بعدُ:

فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ، وبعدُ:

فعطفًا على مجلسِنا السابِق الذي كان عنوانُه: »ضوابطَ الائتِلاف«؛ كان درسُنا هذا بعنوان: »ضوابِط الاختِلافِ«.

وقبل أن نبدأ بموضوعِ هذا اليومِ؛ أذكر أمورًا متعلقةً بموضوع المجلسِ السَّابق:

فقد أشرنا إلى قاعدةٍ اتخذها بعضُ الناسِ -اليومَ- دينًا وطريقًا، وهي قولُهم: (نتعاونُ فيما اتفقنا عليه، ويعذُر بعضُنا بعضًا فيما اختلفنا فيه)، وبينَّا بُطلانَها، وبيَّنَّا فسادَها.

ولمَّا كان موضوعُ هذه الدروسِ منهجيًّا، وفيه مِن دِقةِ المسائلِ وحساسيَّتِها الشيءُ الكثيرُ الكثيرُ؛ كان لا بُدَّ مِن مَزيدٍ من البَيان.

فقد خرج علينا بعضُ الدُّعاةِ بقاعدةٍ أخرى، وصارُوا يُكرِّرونها، ويُردِّدونها؛ وهي قولُهم: (نُصحِّحُ ولا نجرِّح)! وهذه القاعدةُ -على هذا الإطلاقِ- ملتَحِقةٌ بالقاعدةِ السابقة التي هي قاعدةُ المَعذِرة والتعاون -المزعومة تلك-: (ويَعذُر بعضُنا بعضًا فيما اختلفْنا فيه) -على هذا الإطلاقِ-؛ هذا باطِل، و(نُصحِّحُ ولا نُجرِّح) -على هذا الإطلاقِ-؛ باطل. فالتصحيحُ له شُروطُه، كما التجريحُ له شُروطُه. كما أن التصحيحَ له أهلُه؛ فإن التجريحَ له أهلُه. أمَّا أن نصحِّح -هكذا- على الإطلاق، ولا نجرِّح -هكذا- على الإطلاق؛ فهذا يُناقض أصولًا علميةً كثيرةً من أصولِ أهلِ السُّنة.

نقطة أخرى: سألني سائلٌ -مِن إخوانِنا الحاضِرين- وأنا في طريق الخروج -في المجلس السَّابق-، فقال: ما الموقفُ من أهلِ البِدع في ضوءِ (فِقه الائتِلاف)؟

فأجبتُه بِكلمَتين:

الكلمة الأولى: أن الموقفَ مِن أهلِ البِدع مَبنيٌّ على الاختِلاف، وليس على الائتِلاف؛ فموضِعُه ليس في هذا المقام.

أما النقطةُ الثانية: فلا بُد للمُسلمِ -طالبِ العلم- أن يتعلَّم كيف يأتَلِف حتى يعرِفَ كيف يختلف، أن يتعلَّم كيف يُحبُّ حتى يتعلمَ كيف يُبغِض. وبالتالي فإن الموقفَ مِن أهل البِدعِ -وأحكامَ ذلك- مَنوطةٌ بفِقهِ الاختلافِ -ما كان سائغًا منه، وما كان غيرَ سائغ. . وما أشبه ذلك-، مَنوطةٌ بالردِّ على المُخالف، والجَرحِ والتَّعديل وأحكامِهما، وهما عنوانا المحاضرَتين الآتِيتَيْن -إن شاء الله- تعالى-.

النقطةُ الثالِثة: أن التقريبَ بين المذاهبِ بِدعةٌ قديمةٌ متجدِّدة، ومَن عاشوا -دَهْرَهم- على السَّب والضربِ والحربِ لأهل السُّنة؛ لن نستطيعَ أن نمُدَّ أيديَنا إليهم؛ لأننا إذا مددْنا إليهم أيديَنا؛ ستكون أيديهم الأخرى تَطعنُنا في الخَلفِ -شِئْنا أم أبَيْنا-.

فالواجب معرفةُ هذه الحقائقِ بأكثرِ الأُمور دِقةً، وأعظمِها تنبُّهًا، أمَّا الخلطُ بين الائتِلافِ الواجبِ وجودُه بين أهلِ السُّنَّة، وبين الموقفِ من أهلِ البدع، أو النَّظرِ إلى التقريبِ بين المذاهبِ وبين الفِرَق والطوائف؛ فهذا كلُّه خلطٌ قبيح، وإنما نحنُ نتكلم -ها هُنا- عن ضوابط الائتِلاف بين أهلِ السُّنة، نتكلم -ها هُنا- عن ضوابط الاختِلاف بين أهلِ السُّنة. أما أن نخلطَ بين هذا -كلِّه-، وأن نجعلَ ذلك -كلَّه- سواءً؛ فلا، بل ألْفُ لا.

النقطةُ الرَّابعة: تذكرتُ حديثًا -قبل قَليلٍ- عن رسولِ الإسلام -عليه الصلاةُ والسَّلام- يلتقي ما نحنُ فيه، وينبِّهُنا إلى أمورٍ يجبُ أن تكونَ -فينا- بيِّنةً واضحة، وهو قولُه -عليه الصلاة والسـلام-: »المُؤْمِنُ يَألَفُ وَيُؤْلَفُ«، و(الائتِلاف): أصلُه -كما قُلنا- الأُلفة. هل تَرَون ائتِلافًا بغير أُلفَة؟ قد نرى أُلفةً بِغيرِ ائتلافٍ -وللأسف-؛ لكن لا يمكن أن نَرى ائتلافًا بغير أُلفة. »المُؤْمِنُ يَألَفُ وَيُؤْلَف، وَلا خَيرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ« هذا حديثُ رسولِ اللهِ -عليه الصلاة والسلام-، فَلْنَجعلْه نُصبَ أعينِنا، وأمامَ نواظرِنا، وقِبلةَ قلوبِنا وعقولِنا؛ حتى -كما قلتُ- نفهمَ كيف نأتَلف؛ لِنعرفَ كيف نَختلف.

أما (الخِلاف) في اللغة، أو عنوان مُحاضرتنا: »ضَوابط الاختِلاف«. أولًا: أبدأ بمعنى (الضَّابط).

(الضابِط): هو الذي تنضبط به الأمورُ، ويُميِّز بعضَها عن الآخَر، فإذا لم نضبِطْ؛ فسيصبحُ -هنالك- اختلاط، بدلًا مِن الانضباطِ بالضَّوابِط؛ سيكون -هنالك- اختلافٌ واختلاط.

فـ (ضَوابطُ الاختِلاف): هي الوُجوهُ التي يتميَّزُ مِنها -أو بِها- هذا الاختلافُ، وتُعرَفُ حقائقُه.

أما معنى (الخِلاف): فالخِلافُ -في لُغةِ العَرب-: المُضادَّة، ومصدرُه: إما أن يُقال: خالَف خِلافًا، أو مُخالَفةً.

الآن: هل الخِلاف والاختِلافُ شيءٌ واحِد؟

اختلف أهلُ العلم -حتى في حدِّ الخِلاف والاختِلاف-. فقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمهُ الله- -في رِسالتِه »الفرقان«-: »لفظُ (الاختِلافِ) -في القرآن- يُرادُ به التضادُّ والتَّعارُض، ولا يُراد به مُجرد عدمِ التَّماثل«.

يعني الآن- عندنا -كما وصف اللهُ -عزَّ وجلَّ- الثمارَ وما تُنبت الأرض: {مُخْتَلِفٌ أكُلُهُ}؛ لكن مِن غيرِ تَضادٍّ، الاختلاف -ها هُنا- بمعنى عدمِ التَّماثُل؛ لكن لا تَرى شيئًا فيه قُبحٌ وشيئًا فيه سَلاسة وسلامَة؛ هذا يكونُ اختلافًا بمعنى التَّضادِّ، والتَّهاتر، والتضارُب، والبُعد عن ذلك الاختِلافِ الذي هو مجرَّدُ عدمِ التماثُل الذي نَفاهُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمه اللهُ-تعالى-.

ثم؛ بعضُ أهلِ العلمِ يَرى أنهُ لا فرقَ بين الخِلاف والاختِلاف -ويبدو أنَّ هذا هو الأرجح-، وما ذُكرت مِن وُجوه الخِلاف والاختِلاف هي أقرب أن تكونَ اصطلاحيةً، أو لها ظُروفُها وأوضاعُها الخاصَّة. فمَن رأى فرقًا بين الخِلاف والاختلاف؛ جعل الاختلافَ ما كان مَبنيًّا عن دَليلٍ واجتِهاد؛ بينما الخِلاف -عندَه- ما لا دليلَ عليه، وما كان مَبنيًّا على هوًى. هذا أحد وجوه الفَرقِ بين الخِلاف والاختِلاف -عند القائِلين بذلك-.

وذكروا فَرْقًا آخرَ بين الاختِلاف والخِلاف. فقالوا: (الاختِلافُ) المقصودُ فيه واحِد -وإن كانَ الطريقُ إليه مُختَلِفًا-؛ بينما (الخِلاف) الطريقُ إليه مختلِفٌ، كما المقصودُ منه مُختلف، أو المقصود فيه مختَلِف. فهذا وجهٌ، أو مِن وجوه الفَرقِ بين الخِلاف والاختلاف -عند مَن يُريده-.

إذًا -على هذا التفريقِ-؛ نقول -باختصار-: كل خِلافٍ اختِلاف؛ لكن هل كل اختِلاف خلاف؟ لا؛ لأن الاختلافَ منه ما هو سائد، بينما الخِلاف -على هذا الرَّأي- كلُّه شَر؛ لذلك صحَّ عن ابنِ مسعودٍ أنه قال: »الخلافُ شَرٌّ«، هذا ثبت عن ابن مسعودٍ -رضي الله-تعالى-عنه-.

وإذْ قد ذكرنا الوجهَ بين الخِلاف والاختِلاف؛ لا بُدَّ أن نذكرَ الفَرقَ بين الاختِلاف والافتِراق.

أولًا: (الافتِراق) جزءٌ من الاختِلاف، أو نوعٌ من الاختِلاف، ولكنه أشدُّ أنواعِه؛ لما يَترتَّب على الافتِراق مِن تَقاطُع، وتدابُر، وخُصومة. وعندما قال الرَّسول -عليه الصلاة والسلام-: »وسَتَفْتَرِقُ أمَّتِي«؛ كان ذلك الغايةَ في الاختلافِ المؤدِّي بأصحابِه إلى الافتراقِ الموقِع لهم في التدابُر، والتنافُر، والتَّعارُض. . وما أشبَه ذاك.

الأمرُ الثَّاني: كلُّ افتراقٍ اختِلاف، وليس كل اختلافٍ افتِراقًا. يعني: عندما يحكم بعضُ أهل العلم في وجوبِ شيء، وبعضُهم الآخر يحكُم في سنيَّتِه، هذا اختِلاف أم افتِراق؟ اختلاف، وليس افتراقًا. بينما عندما نرى فئاتٍ مِن الناس يختَلِفون، فيُوقِعهم الاختلافُ إلى التَّبديع، والتَّضليل، والحُكم بالنَّار -وبِئس القَرار-؛ هذا اختِلافٌ؛ لكنَّه -في حقيقتِه- افتراق؛ لما له مِن تِلكُم الآثار المُشار إليها.

الوجهُ الثَّالِثُ: أن الافتراقَ يكونُ على أصولِ الدِّين، أو ما يُلحَق بها. ونقول: أو ما يُلحق بها؛ لأننا نرى بعضَ علماءِ الإسلام في كتبِهم العقائِدية، وفيما ألَّفوه من الأصول الدينية -كعقيدةِ الإمام أبي جعفرٍ الطَّحاوي وغيرِه، كمثلِ -أيضًا- عقيدةِ الإمام الإسماعيليِّ، وعقيدةِ الإمام أبي عثمانَ الصَّابوني-؛ نراهم ذكروا مَسائل فِقهية في أُصولهم الدِّينيَّة، لماذا؟ لأنَّ هذه المسائلَ -في عُصورِهم- كانت تُلحَق، أو كانت ملحَقةً بأصولِ الدِّين، وكان الوَلاءُ والبَراءُ عليها بين أهلِ السُّنة وأهلِ البِدعة. وهذه نقطةٌ تَحتاج إلى شيءٍ مِن التركيزِ لعلَّنا نذكرُها في درسٍ قادم -إن شاء الله-.

بينما (الاختلافُ) مُعظم مَسائلِه اجتهادية؛ تحتملُ القولَ والقَولَين، تحتمل النَّظرَ والفِكَر، والاجتهادَ السائغ؛ »إذا اجتهدَ الحاكِمُ وأصابَ؛ فَلَهُ أجْرَانِ، وإذا اجْتَهَدَ وأخطأَ؛ فَلَهُ أجْرٌ واحِد«.

ولعلِّي قد ذكرتُ للإخوة ما صدَّر به الإمامُ ابنُ كثيرٍ -رَحمهُ الله- كتابَه: »طبقات الشافعيَّة«. الإمامُ ابن كثيرٍ له كتابٌ -في مُجلدين- اسمُه: "طبقات الشافعيَّة"، لمَّا صدَّر كتابَه بترجمةِ الإمام الشافعي -رحمه الله-، ثم قال: "وهذا فصلٌ فيه المسائلُ الفِقهيَّة التي خالفَ فيها الإمامُ الشافعيُّ إخوانَه الأئمةَ الثَّلاثة". فهذه مسائل -إذًا- خالف فيها الإمامُ الشافعيُّ الأئمةَ الثلاثة، وسترى عندَ أحمدَ ما خالَف فيه السَّابِقِين لَه، وتَرى عند مالكٍ وأبي حَنيفةَ ما تفرَّدُوا به عن الإِمامَيْن أحمدَ والشَّافعيِّ -رحمَ اللهُ الجميع-. ولم يكنْ هذا -قطُّ- بابًا من أبوابِ الافتراق؛ وإنما هو لا يَخرج عن أبوابِ الاختِلاف. نعم.

إذًا: النقطةُ الرَّابِعة: أن الاختلافَ مَبنيٌّ على الاجتهادِ وحُسنِ النيَّة؛ بينا الافتراقُ فيه شُعبَةُ هَوًى، وبابُ رأيٍ، والنبي -عليه الصلاة و السلام- ماذا يقولُ؟ "الجماعةُ رَحمة، والفُرقةُ عَذاب".

إذًا: هذا هو الموضوعُ الأوَّل، وهو الخِلافُ بِمعناهُ اللُّغوي، والفَرق بينَه وبين الاختلافِ -مِن جِهة-، والفَرق بين الاختلافِ والافتِراق -من جهةٍ أخرى-.

أما نُصوصُ الشَّريعةِ -في كتابِ الله، وسُنَّة رسولِه-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في ذمِّ الاختلاف؛ فكثيرة. نقتبس بعضًا منها:

منها قولُه -تعالى-: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19]؛ فرَبَط الاختلافَ والبَغيَ -معًا-. ومنها قولُه -تعالى-: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } [الأنفال: 46]، ولا يكونُ التنازعُ إلا مِن الاختِلاف. ومنها قولُه -تعالى-: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118-119] أي: للرَّحمة. بعض الناسِ يفهمُ الآيةَ على عَكس المراد: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}؛ أي: للاختِلاف؛ وإنَّما الصوابُ أنَّ الضميرَ يَرجع إلى أقربِ مَذكورٍ -في غالبِ النُّصوص-، وقولُه -تعالى-: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}؛ أي: للرَّحمة، وإنْ كانوا هُم القِلَّة. ومنها -أيضًا-: قولُه -تعالى-: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وإن كانت هذه المخالفةُ قد تكونُ فَرديةً؛ فإنها قد تكونُ جَماعيَّة، وهذا مَبناهُ على المناقَضةِ لأصلِ الاعتصامِ الشَّرعي.

ونَذكُرُ تفسيرًا لبعضِ عُلماءِ الإسلام، وهو العلَّامة القاسِمي جَمال الدِّين القاسمي -المُتوفَّى سَنة 1914- في كتابه: "مَحاسِن التأويل" -وهو مِن أحسنِ كُتبِ التَّفسير-. ذكر قولَه -تعالى-: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].

قال: "{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: وُجِدوا أمَّةً واحدةً، تتحِّدُ مَقاصدُها ومَطالِبُها ووجهَتُها؛ لتُصلِح ولا تُفسِد، وتُحسِنَ ولا تُسيء، وتعدلَ ولا تَظلم، أي ما وُجدوا؛ إلا لِيكونوا كذلك، كما قال -تعالى-في الآيةِ الأخرى-: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19] أي: انحرفُوا عن الاتحادِ والاتفاقِ الذي يُثمر كلَّ خيرٍ لهم وسعادةٍ إلى الاختلافِ والشِّقاقِ المُسْتَتْبِعِ للفَسادِ وهَلاكِ الحَرثِ والنَّسْل".

وقال -في قوله -تعالى-: {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}-، قال: "أي: مِن الاعتقاداتِ والأعمالِ التي كانُوا عليها -قبلَ ذلك- أمةً واحدةً، فسَلكوا بهم -بعد جهدٍ- السَّبيلَ الأقوم، ثم ضَلُّوا -على عِلمٍ- بعد موتِ الرُّسُلِ؛ فاختَلفُوا في الدِّين؛ لاختلافِهم في الكتابِ. {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} أي: الكتاب الهادي الذي لا لَبس فيه، المنزَّل لإزالةِ الاختِلاف. {إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ} أي: عَلِمُوه؛ [فبدَّلُوا نعمةَ الله بأنْ أوقَعُوا الخِلاف فيما أُنزل لِرفعِ الخِلاف، ولم يكنْ اختِلافُهم لالتِباسٍ] عليهم مِن جِهتِه؛ بل {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} أي: الدَّلائل الواضحة، {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي: حسَدًا وقعَ بينهم، {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا} بالكتاب" بالكتاب؛ مِن تفسيرِه، "{لِمَا اخْتَلَفُوا} أي: أهلُ الضَّلالة"؛ فهناك أهلُ هِداية، وهنالك أهلُ اختلافٍ؛ وهم أهْل الضَّلالة، {لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ} "أي: للحقِّ الذي اختلفُوا فيه". هذا بعضٌ مِن آيِ القُرآن الكَريم، وشيءٌ مِن تفسيرِها مِن بعضِ أئمةِ العِلم الذي يُبيِّن قولُه هذا الحُكمَ ويَشرحُه.

وهنالِك كلمةٌ لشيخِ الإسلامِ ابن تيميةَ -رحمه الله- تلتقي ما ذكرناه في موضوعِ البَغي في العِلم وصِلَتِه بالاختلاف. يقول -رحمه الله-في "مجموع الفَتاوى"-: "وأنتَ إذا تأمَّلتَ ما يقعُ مِن الاختلافِ بين هذهِ الأمةِ -عُلمائِها، وعُبَّادِها، وأُمرائِها، ورُؤسائِها-؛ وجدتَ أكثرَه مِن هذا الضَّربِ الذي هو البَغي" مِن هذا الضَّرب: أي الصِّنف. "بتأويلٍ أو بغيرِ تأويلٍ، كما بَغتِ الجهميةُ على المتسنِّنةِ في محنةِ الصفاتِ والقرآن، وكما بغتِ الناصِبةُ على عليٍّ وأهلِ بَيتِه، وكما قد تَبغي المشبِّهةُ على المنزِّهة، وكما قد يَبغي بعضُ المُتسنِّنةِ؛ إمَّا على بعضِهم، وإمَّا على نوعٍ مِن المُبتدِعة بزيادةٍ على ما أَمرَ اللهُ به".

إذًا: البغـيُ لا يكونُ دائمًا -بالضَّـرورة- مِن أهـلِ البدعِ على أهلِ السُّنة؛ بل قد يقعُ البغـيُ -وللأسف الشديد-، وهذا كلامُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّة، الذي يقولُ فيه الإمامُ الذَّهبيُّ: "وكان أعرفَ الناسِ بالمِلل والنِّحَل والفِرَق والطوائِف". هذا شيخُ الإسلام ابن تيميَّة -رحمه الله- يُقرِّر أن مِن البغي بغيًا يقعُ مِن أهل السُّنة على الآخَرين. ولكن مَن هم الآخرون؟ هم -أحيانًا- مِن أهل السُّنةِ -أنفسِهم-، وهم -في أحيانٍ أُخَر- مِن أهل البِدَع.

إذًا: كونُ هذا مبتدعًا؛ لا يجعلني أظلمه بما لم يَقُله، أو أنْ أتكلمَ فيه بزيادةٍ عن حقِّ اللهِ فيه؛ لذلك شيخُ الإسلام يقول: "بزيادةٍ على أمَر الله به". إذًا: نقف عند حدودِنا؛ فلا نبغي على سُنِّي بتحميلِه ما لا يستطيعُ حملَه، ولا على مبتدِع بتقويلِه شيئًا مما لم يقُل به، أو لم يَفُه به. هذا هو العدل، وهذا هو أعظمُ بيانٍ لسببٍ أساسٍ مِن أسبابِ الاختلاف، وهو ماذا؟ البغي؛ والبغيُ هو الظلم.

إذًا: ليس الظلم -دائمًا- مِن أهل البدعِ والأهواء على أهلِ السُّنة؛ بل أقول، وأكررُ، وأقرِّرُ: بإن مِن البغي بغيًا يمارَس مِن أهل السُّنة على بعضِهم البعض، ومن البغي بغيٌ قد يكونُ مِن أهل السُّنة على أهل البِدع؛ بِظلمهم، والحُكم عليهم أكثر مما يكونُ فيهم، وبِتقويلِهم ما لم يَقولوا. فليست مِن قواعدِ السُّنة، ولا مِن أصولِ أهل السُّنة أن الغايةَ تبرِّر الوسيلة. هذا مبتدِع؛ فلنَقُلْ فيه ما نستطيعُ أن نقول(!) لا؛ هذا مبتدِع؛ نحكم فيه حُكم الشَّرع -مِن غير بغي، ومِن غير ظُلم-، وننظرُ ما حَكَم في أمثالِه أهلُ العلم -من قبلُ ومن بعدُ-.

هذه -إخواني!- نقطة مهمَّة؛ بل مهمَّة جِدًّا.

النقطةُ الأُخرَى -التي لا تَقلُّ أهميةً عن ذلك-وهي بابٌ آخَر-: أنواع الاختلاف.

هل الاختلاف -كلُّه- نوعٌ واحد؟ أم هو أَنواع؟ لا شكَّ، ولا ريبَ؛ أنه أنواع.

مِن أنواع الاختلاف ما أُسمِّيه: (الاختلافَ الفارِغ). أن يختلفَ بعضُ الناسِ -مثلًا- على حَجمِ بقرةِ بني إسرائيل -(كبيرة؟ صغيرة؟)!!- هذا اختلاف فارِغ؛ لا وَزن له. أو على نوعِ شجرةِ آدَم، ما نوعُها؟ هل هي شجرةُ التُّوت، أو شجرةُ التُّفَّاح؟(!) ربُّنا ذكَرَ شجرةً، كما ذكر -هنالك- بَقرة! أو على لَون، أو صِفة هُدهُد سُليمان، أو طول عَصاه -عليه الصلاة والسلام-! هذا -للأسفِ- يحدُث، لكن هذا اختلافٌ فارِغ، نذكُرُه؛ لِنحذِّر منه، والوقتُ أغلى مِن أن يَضيعَ بمِثلِه، وبخاصة أنه بغيرِ بيِّنة. فهذا -كما يُقال- قد يكون مِن (تَرفِ الأقوال)، ونحن أنزَهُ وأجَلُّ وأبعدُ عن أن ننشغِل بمثلِ هذا الأمر.

لكن؛ بالمقابلِ يَنبغي أن نستفيدَ من هذا فائدةً أُخرى؛ وهي: أنَّ ما أبهمه النصُّ الشرعيُّ؛ لا يجوز أن ندخلَ فيه بِمحضِ العُقول. أما إذا جاء مُوضَّحًا في النصِّ الشرعيِّ ومُبينًا؛ فحينئذٍ لهذا منزلتُه، وله مكانتُه. نعم.

النوعُ الثَّاني: اختلافُ التنوُّع. و(اختِلافُ التنوُّع) -كمصطلحٍ- يختلف عن (الاختلافِ السَّائغ)؛ فالاختلافُ السائغُ نوعٌ -وهو الآتي-، بينا (اختلافُ التنوُّع)؛ شيءٌ ثانٍ ومُستقلٌّ. (اختلافُ التنوُّع) يذكره أهلُ العلم فيما ورد من أمورٍ متعلقةٍ ببعضِ العباداتِ؛ كلُّها وردتْ عن رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-؛ كصيغ الصلاةِ الإبراهيميَّةِ، كصيغِ التَّسبيحِ في السجودِ والركوع، كصيغ دعاءِ التوجُّه والاستِفتاح. . وما أشبَهها؛ فهذا -كلُّه- اختلافُ تنوُّع، لا يجوز أن نأخذَ واحدًا وأن ننكِرَ غيرَه، أو أن نبكِّتَ على مَن لم يأخذْ ما أخذناه وقد أخذَ بِمِثله، فإنكارُ المُنكِر على غيرِه بسببِ عدم أخذِه ما أخَذَه؛ هو بابٌ لإنكارِ غيرِه عليه بمثلِ ما هو أنكرَ على غيرِه -سواءً بِسَواء-؛ لأن هذا -كلَّه-كما قلنا- اختلاف تنوُّع، وكلُّه واردٌ في سُنَّة رسول اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم-.

النوعُ الثَّالثُ: (الاختلاف السَّائغ)، أو (الاختلاف المُعتَبَر). وهو الاختلافُ الذي له وجهةُ نَظَر باللغة، أو في العِلم، أو في أصولِ الفِقه. . أو غير ذلك. وشيخُ الإسلام ابن تيميةَ -رحمهُ الله- ذكر عشرةَ أوجهٍ من أسبابِ (الاختلافِ السَّائغ) التي جعلتْ هذا الاختلاف موجودًا بين أئمةِ العلم، وأئمة الدِّين -رحمهم الله-تعالى-أجمعين-، وذلك في كتابِه: "رفع المَلام عن الأئمةِ الأَعلام". رفع الملام عن الأئمة الأعلام؛ في ماذا؟ في ماذا يُرفَع عنهم المَلام؟ في اختلافِهم -من جِهة-، وفيما قد يقع لهم مِن مخالفةِ النصِّ الشرعي، أو ما يُشبِهُه -من جهةٍ أخرى-سَواءً بِسَواء-.

لذلك قال مَن قال -مِن أهل العلم-:


وليس كلُّ خِلاف جاءَ معتَبَرًا ... إلا خِلافٌ له حظٌّ مِن النَّظرِ

فالخلافُ الذي له حظٌّ مِن النَّظر هو (الخِلاف المعتبَر)، وهو (الخلافُ السَّائغ)، الذي عليه سائرُ أئمةِ العِلم المُختلِفين -مِن أهلِ السُّنة-قديمًا وحديثًا-.

والرَّسول -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- عندما قال: " إذا اجْتَهَدَ الحاكِمُ وأصابَ؛ فَلَهُ أجْرَانِ، وإذا اجْتَهَدَ وأخطأَ؛ فَلَهُ أجْرٌ وَاحِد" أي أنواع الخلافِ يُريد؟ الخلاف السَّائغ. لا يَقصد (خلافَ التَّضاد)، ولا يُريد (خِلاف التنوُّع)؛ فضلًا -ومِن بابٍ أولى- ما سمَّيناه بـ (الخلاف الفارِغ) -أو (خلافِ التَّرف)-نسأل الله العافية-.

أضربُ على ذلك أمثلةً: عندما قال النبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- للصحابةِ: "لا يُصَلِّيَنَّ أحَدُكُمُ الْعَصْرَ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَة". الصحابةُ اختلفُوا: بعضُهم قال: نفهمُ الحديثَ على ظاهرِه؛ فنصلِّي العصرَ في بني قُريظةَ حتى لو خرج الوقتُ. وبعضُهم قال: المقصودُ مِن قولِ رسولِنا؛ هو الحثُّ، وبالتالي مِن أجل الحث نضيِّع الصلاة؟! فنصلِّي في الطريق -ولو لم نصلْ إلى بني قريظة-؛ فنحن اجتهدنا و-يعني- أسرَعنا.

هنالك في الحديث كلمةٌ كثيرٌ مِن الذين يَستدِلون بهذا الحديث على تجويزِ الخلافِ وتَوسيعِه؛ لا يَذكُرونها، ولا يتفقَّهون بِمعناها، وهي قولُ الرَّاوي عن حالِ النبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قال: "فلم يُعنِّف إحدى الطَّائفَتَين". "فلم يعنِّفْ"؛ إذًا: الأمر فيه بيان أن إحدى الطائفتين صَواب، وأن الأخرى خَطأ، وليس فيه أنَّ كِلتا الطائفتَيْن صَواب! لذلك: مَن يستدلُّ بهذا الحديثِ على زعمٍ يُزعَم، وعلى دَعوى تُدَّعى، وهي قولُهم: (كلُّ مُجتهدٍ مُصيب)؛ فهذا خطأ، يَنقدُه الحديث، وينقضُه هذا النصُّ الدقيقُ الذي لا يَذكُره، ولا يريدُه أصحابُ هذه الدَّعاوى. ولكنْ نحنُ نعدِّل العبارة؛ فنقول: لا يجوزُ أن نقولَ: (كلُّ مُجتهدٍ مُصيب)؛ ولكن يَجوز أن نقولَ: (لكلِّ مُجتَهِدٍ نصيبٌ)، لكلِّ مُجتَهِدٍ نصيبٌ مِن الأجر. أما الصَّواب؛ فلا بُد أن يكونَ مع واحد.

الرسول -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- عندما قال: "لا يُصلينَّ أحدُكم العصرَ إلا في بَنِي قُريظة" هل أراد كِلا الرَّأيَين اللَّذَين قد فهمهما الصحابةُ المفتَرِقون؟ أم أرادَ وجهًا واحدًا؟ أراد وجهًا واحدًا بِاليَقين. لكن؛ لما حَصل ما حصل -ولكلٍّ اجتهادُه، ولكلٍّ نَظْرَتُه-، ولا مجالَ للتَّرجيح -فقد فاتَ الفَوتُ، ومَضى الشَّوطُ-؛ فحينئذٍٍ لم يعنِّف، قال الراوي: "فلم يُعنِّف إحدى الطائفَتَين". نفيُ التَّعنيف فيه دِلالة على وجودِ خطأ؛ لكن هذا الخطأ انتفى ما يَعقُبه مِن أثر؛ وهو تعنيفُ المُخطِئ، ومُباركة ،أو مُوافقة المُصيب. وهذه -أيضًا- نقطة دقيقةٌ يجب أن نفهَمَها.

أيضًا من الاختلافِ السَّائغ: الاختلافُ في الجَرح والتَّعديل. وهذه المسألة سَنُوسِّعُ القولَ فيها في الدَّرس الذي سيكون عنوانُه -في هذه الدورة-: "ضوابط الجرحِ والتَّعديل"، أو "الخلاف في الجرح والتعديل"، أو "الجرح والتعديل". وإن كانت مسألة الجَرح والتعديل -في الحقيقةِ- تحتاج إلى سلسلةِ محاضراتٍ ولقاءاتٍ؛ لكن نحنُ نُشيرُ -هنا- إلى أهمِّ ما تنقدح له -وبه- الأذهان، وبخاصةٍ فيما يُسببُ فِتَنًا بين دعاة أهلِ السُّنة، أو خللًا بين أهل السُّنة وغيرِهم -من جهةٍ أخرى-. فهذه قيمةُ العلم: النَّظر في آثارِه، ومآلاتِه، وهذا مِن أهم أنواعِ الفِقهِ الدَّقيق؛ النظرُ في مآلاتِ الأمور. وطالما أن علم الجرحِ والتَّعديل علمٌ له مآلاتٌ -بعضُها سيِّئ؛ لكن أكثرُها جيد، من خلال الاستعمالات التي تكون من بعضِ المنتسبين إليه-؛ لهذا جعلنا له محاضرةً خاصة.

خلاصةُ القَول: أن الاختلافَ في الجرحِ والتَّعديل مِن الاختلافِ السَّائغ. ولو نظرنا وتأملنا أي ترجمةٍ -هكذا نأخذُها لا على الترتيب والنَّظر- في كتاب "تهذيب الكمال"، أو في "ميزانِ الاعتِدال"، أو في "تَهذيبِ التَّهذيب" -فضلًا عن "الجَرح والتعديل" لابنِ أبي حاتم-. . وهي الكتب الجامعة؛ فإننا سنرى اختلافَ عليِّ بنِ المديني عن قولِ أبي حاتِم، واختلافَ قولِ أبي حاتِم عن قولِ ابنِ مَعِين، واختلافَ ابنِ مَعين عن قَول البُخاري، واختلاف البُخاري عن قولِ السَّاجي. . وهكذا مِن أئمة العِلمِ وأهلِ الدِّين.

وأما أن نجعلَ اختلافَ العلماء في الجرحِ والتعديل مِن اختلاف التَّضاد، وبالتالي مُؤديًا للفُرقة بينهم والطَّعن فيهم؛ فلا، وألف لا! فهذا اختلافٌ سائغ بين أهل العِلم -وإن كانت أقوالُهم في المسائلِ مُتضادَّة-. انتبِهوا! هو اختلافٌ سائغٌ لاجتِهاد العلماءِ فيما بينَهم -وإن كانَ الواقعُ مِن أحكامِهم على الرُّواةِ فيها نوعٌ مِن التَّضاد-. حتى إننا نرى ابنَ معين؛ كم من راوٍ اختلف فيه قولُ ابنِ معين؟ أكاد أجزم أن الرُّواةَ الذين اختلفَ فيهم قولُ ابنِ مَعين -توثيقًا، وتضعيفًا-؛ فإنهم قد يكونون أكثر -أقول (قد)؛ لأن هذا يحتاج إلى استقراءٍ وسَبرٍ وتتبُّع، أقول: (قد)-، قد يكون أكبر وأكثرَ ممن اتفقتْ كلمةُ الإمام ابنِ مَعين عليه. إذًا: هذا مِن الاختلافِ السَّائغ -وإن كانت أقوالُ أهلِ العِلم مُتضادَّة-؛ لكنه -لاجتهادِهم- هو سائغٌ ومَقبولٌ.

النَّوع الرَّابعُ: هو (اختلافُ التضادِّ والمُناقَضة). (اختلاف التضادِّ): وهو الاختلافُ الذي يكونُ فيه التعارُض المباشِر، وهذا الاختلافُ هو عكسٌ لـ (الاختلافِ السَّائغ).

فـ (الاختلافُ السائغ) مِن شروط المختلِفين فيه: الاجتهادُ والسُّنَّة. لا يجوزُ أن نُدخِلَ في فئة أهل الاجتِهاد السَّائغ أهلَ البدعة، كما لا يجوز أن نُدخلَ في فئة (الاختلافِ السائغ) أهلَ التقليدِ الجهل. بينما اختلافُ التَّضاد: إذا انتقضَ عنصرٌ مِن هَذيْن العُنصرَين المُهمَّين -إما اجتهادًا أو سُنَّة-؛ فإنه -حينئذٍ- يكون اختلافًا مِن باب (اختلاف التضادِّ)، فضلًا عما قد يكونُ فيه مخالفةٌ للنَّص بصورةٍ واضحةٍ وظاهرة؛ فهذا -حتى لو وقع من مجتهد سُنِّي-؛ فإنه -أيضًا- لا يكونُ مقبولًا، ولا يكونُ سائغًا؛ وإنما يَجبُ ردُّه-. وكلام شيخ الإسلام في "رفع الملام" فيه شيءٌ مِن التَّوجيه إلى هذه الفئة. وكم مِن صَحابي وتابعيٍّ فاتَهُ نصٌّ ودَلَّه عليه غيرُه، وهذا لو جُمع؛ لكان مادةً كبيرةً. والله المستعان.

مثالٌ على الاختلاف السائغِ واعتِبار مصلحة الائتِلاف عليه، وفيه، ومِن خلالِه. وذلك في كلام شيخ الإسلامِ ابن تيمية -في (المجلدِ الثاني والعِشرين)-، لمَّا ذَكر مسألة الجَهر بالبَسملة، وهي مسألةٌ خِلافية، حتى ورد شيءٌ مِن الخلاف فيها بين الصحابةِ -رضي اللهُ عنهم-.

قال: "ومع هذا: فالصواب. ." -بعد أن قال: قيل كذا، وقيل كذا، ثم مع قراءتها يُسن أو لا يُسَن.. أقوال مختلفة كثيرة- قال: "ومع هذا: فالصَّواب أنَّ ما لا يُجهَر به؛ قد يُشرَع الجهرُ به لمصحلةٍ راجحةٍ؛ فيُشرَع للإمامِ -أحيانًا- لمِثل تعليمِ المأمومِين، ويجوزُ للمُصلِّين أن يجهروا بالكلماتِ اليسيرةِ -أحيانًا-، ويَسوغ -أيضًا- أن يتركَ الإنسانُ الأفضلَ لِتأليفِ القُلوب، واجتماعِ الكلمة؛ خوفًا من التَّنفير عما يَصلُح؛ كما تَرك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِناءَ البيت على قواعدِ إبراهيم؛ لِكَونِ قريش كانوا حديثي عهدٍ بالجاهلية، وخشيَ تَنفيرهم بذلك، ورأى -عليه الصلاة والسلام- أنَّ مَصلحةَ الاجتماعِ والائتلافِ مُقدَّمةٌ على مَصلحة البِناء على قواعدِ إبراهيم" لماذا؟ لما قد يترتَّبُ عليها مِن اختلاف يُؤَدِّي إلى التَّنفير، والدِّين لا يزالُ غضًّا طريًّا، والنفوس لا تزال متعلقةً بالجاهلية وآثارِها وإرثِها.

هذا كلامُ شيخ الإسلام. له تتمة؛ لكن -قبل ذلك- أقولُ مِن بابِ الإفادة: أنَّ الإمامَ ابنَ عبدِ البَرِّ الأندلسي له رسالةٌ اسمُها: "الإنصافُ أأي

فيما بين العلماءِ مِن الاختلاف". مَن يستطيع أن يقولَ لنا هذه الرسالة في أيِّ مَوضوع؟ والرِّسالة مطبوعة في الرَّسائل المنيرية -قبل سَبعين سَنة-، وطُبعتْ -قبل سَنتين مَضتا- بِكتابٍ مُستقلٍّ. أنا أقولُ: في مسألةِ الجهرِ بالبسملةِ! التي يَذكرُها شيخُ الإسلام ابنُ تيمية. "الإنصافُ فيما بين العلماء مِن الاختلاف"؛ لماذا؟ ليُشيرَ إلى هذا المَلحظ. نعم، نحن نرجِّح، قد نرجِّح هذا القول، وقد نرجِّح ذلك القول؛ لكن لا أجعلُ تَرجيحي فِتنةً أمتحنُ به الناس وأضلِّلُهم في شيءٍ لي سلَفٌ فيه معتَبَرًا بالحُجة والبيِّنة، وإن كان خالَف فهو يراني مخالِفًا، أنا أراهُ مُخالِفًا وهو يراني -بالمقابل- مخالِفًا -أيضًا-، فمِثلُ هذا؛ طالما أنه حصل بحثٌ، وحصل نَظر، وحصل تناصُحٌ.. والمسألة ليست مِن المسائل الكبرى المَبنيَّة على أصولِ الدِّين؛ وإنما مِن مسائلِ الفِقه والاختِلاف؛ فهذا -كما قيل قديمًا، ونُكررُه حديثًا- لا يفسِد للوُدِّ قضية -مع التناصُح، والتَّواصي بالحقِّ، والتواصي بالصَّبر-، ولا مجالَ لأن يبدِّع -فيه- المُخالِفُ مُخالفَه؛ لأنه سيفتح -بذلك- لِمُخالِفِه بابًا ليُبدِّعَ به المخالِفَ نفسَه -وهو ذاك المبدِّع الأول-؛ وهذا -لا شكَّ، ولا ريبَ- ليس من مصلحةِ الدِّين، ولا مِن مَصلحة المسلمين، ولا مِن مصلحةِ الدعوةِ إلى سُنَّة سيدِ المرسَلين -عليه أفضل الصلاة، وأتمُّ التسليم-.

يُكمل شيخُ الإسلام ابنُ تيمية السياقَ -نفسَه- يقول: "وقال ابنُ مسعودٍ لما أكمل الصلاةَ خَلف عثمان، وأنْكِر عليه" كيف تُكمل الصلاةَ خلف عثمان؟ "فقيل له في ذلك؛ فقال: (الخلافُ شَرٌّ)". إذًا: هو أكمل الصلاةَ خلفَ عثمانَ -مع أنه يَعتقد أن الأمرَ على خِلاف ما يَرى مِن السُّنة-؛ تَجنُّبًا لماذا؟ للمُخالفة التي هي شَرٌّ مَحض، وبخاصة أنَّ هذا الذي خالفَه -أو يُفترض أن يكونَ قد خالفَه- مَن هو؟ إمامُ المسلمين! مُخالفةُ إمام المسلمين ليستْ كأيِّ مخالفةٍ أُخرى.

قال: "ولهذا نصَّ الأئمةُ -كأحمد وغيره- على ذلك" في مسألةِ مُراعاةِ الخلاف، ومُراعاة الائتلافِ. قال: "ولهذا نص الأئمة -كأحمدَ وغيرِه- على ذلك بالبَسملة، وفي وَصل الوِتر -وغيرِ ذلك- مما فيه العُدول" العدول: أي التَّرك، "مما فيه العُدولُ عن الأفضلِ إلى الجائزِ المَفضولِ؛ مُراعاةً لائتلافِ المأمُومين، أو لِتعريفِهم السُّنَّة".

إذًا: أنت قد تُخالف شيئًا مِن السُّنة -من بابِ المصلحة-؛ لتعريفِ الناس بالسُّنَّة الأعظم. يعني أنا آتي لإنسانٍ خالف السُّنةَ في وضع اليَدين على الصَّدر -أو دون الصَّدر-، وآتي أتكلمُ معه؛ فإذا به يَنفر مِن أن يسمعَ قولي في التَّوحِيد، يَنفِر مِن أن يسمعَ قولي في اتِّباعِ الرسول -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-! إذًا: مِن الممكِن أن أؤخرَ هذا البيانَ، وأن أعدِل عنه إلى ما هو أقل منه؛ حرصًا على أن يكونَ قابِلًا للسُّنَّة، وأن يكونَ مُتجاوِبًا مع السُّنَّة.

أمَّا (ضوابطُ الاختلافِ)؛ فنذكُر منها وجوهًا -على وجه السُّرعة-؛ لأن الوقتَ يَمضي.

أولُها: البُعدُ عن العصبيَّة.

عند الاختلافِ والنظرِ في التَّرجيح بين أقوالِ المختلِفِين، أو المختَلِفَين؛ فواجبٌ البُعد عن العصبيَّة؛ لِما في العصبيةِ مِن بُعدٍ عن الحق، ومِن مُجافاةٍ للهُدى، ومِن ركوبٍ للهَوَى؛ فالبُعدُ عنها هو الأصل. ونصوصُ أهلِ العلم كثيرة، لكن أبتدئُ بكلمةٍ لطيفةٍ للإمامِ الماوردِي. الماوَردي مِن كبار علماءِ المسلمين في التفسيرِ، وفي الأصولِ، وفي الفِقه، وحتى في الأخلاقِ والتَّزكية؛ له كتابٌ اسمُه: "أدب الدنيا والدِّين" لطيف -وإن كان يؤخَذ عليه فيه شيءٌ في الأحاديث الضعيفة-.

يقول -في كتابه "أدب الدنيا والدين"-: لقد رأيتُ رجلًا يُناظرُ في مجلسٍ حافِل، وقد استدلَّ عليه الخصمُ بدِلالةٍ صحيحة؛ فكان جوابُه عنها أن قال: إنَّ هذه دِلالة فاسدة، ووجهُ فسادِها:. ." ماذا تتصور؟ ماذا نتصور أن يقول؟ ووجهُ فسادِها: بحجةِ كذا، بدليل كذا. . قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. . قال: "قال: إن هذه دِلالة فاسدة؛ ووجهُ فسادِها: أنَّ شيخي لم يذكُرها، وما لم يذكرْه الشيخُ فليس فيه خير!". هل تَرون تعصُّبًا أشدَّ من هذا التعصُّب؟! هذا التعصُّب في أصولِ الاستدلال -فضلًا أن يكون في الأقوالِ والأفعال-.

أيضًا؛ شيخُ الإسلام ابن تيميةَ -رحمه الله-تعالى- يقول -في هذا البابِ -نفسِه-؛ (باب مجانبة التعصُّب والعَصبيَّة)-، يقول -في (المجلدِ العِشرين) مِن "الفَتاوى"-، يقول: "لا يجوزُ لأحدٍ أن يجعلَ الأصلَ في الدِّين لشخصٍ إلا لرسولِ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، ولا لقولٍ إلا لِكتاب الله -عزَّ وجلَّ-، ومَن نصَّب شخصًا -كائنًا مَن كان-"، انتبهوا -أيها الإخوة!-، وتفهَّموا وتفقَّهوا هذا دِين الله، كما كان بعضُ السَّلف يُوصي إخوانَه وأبناءَه: "دينَك دينَك! إنه لحمُك ودمُك"، "إن هذا العِلمَ دين؛ فانظروا عمَّن تأخذون دينَكم" -كما قال ابنُ سيرين-.

". . إلا لرسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، ولا لقولٍ إلا لِكتاب الله -عزَّ وجلَّ-، ومن نصَّب شخصًا -كائنًا مَن كان-، فَوالى وعادَى على موافقتِه في القولِ والفِعل؛ فهو {مِن الذين فرَّقوا دينَهم وكانوا شيَعًا}، وفي قِراءة: {مِنَ الذين فارقُوا دينَهم وكانُوا شيَعًا}". ليس مجرد التَّفريق؛ بل المفارَقة، وأيهما أشد؟ المفارقة.

قال: "وإذا تفقَّه الرجلُ وتأدَّب بطريقةِ قومٍ مِن المؤمنين -مثل اتِّباع الأئمةِ والمشايخ-؛ فليس له أن يجعلَ قدوتَه وأصحابه"؛ قدوته وقدوةَ أصحابِه "هم العِيار؛ فيوالي مَن وافَقهم، ويُعادِي مَن خالَفَهم"، وليس لأحدٍ أن يدعوَ إلى مَقالةٍ -أو يعتقدَها- لكونِها قول أصحابِه؛ طالما أنَّ هذا قول الشيخ؛ إذًا هي الصواب؛ نُوالي ونعادي عليه! "ولا يُناجز عليها" يُجادل، ويُنافح، ويكافح، "بل لأجلِ أنها مما أمرَ اللهُ به ورسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، أو أخبر الله به ورسولُه؛ لكون ذلك طاعةً لله ورسولِه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-".

قال -في موضع آخر- بعد أن ذكرَ ما يحدُث مِن بعضِ المِلَل، أو بعضِ أهلِ الأهواء، مِن أنه يجعلُ شخصًا، أو مذهبًا مِعيارًا للحق، مُبيِّنًا أن هذا كشأنِ اليهود الذين قالوا: {نُؤمِنُ بِما أُنزلَ عَلَيْنا ويَكفُرُون بِما وَراءَه}، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-تعالى- في "اقتضاء الصِّراط المستقيم": "وهذا يُبتلَى به كثيرٌ مِن المنتسبين إلى طائفةٍ مُعيَّنةٍ في العِلم أو الدِّين، أو إلى رئيسٍ مُعظَّم -عندهم- في الدِّين؛ فإنهم لا يَقبلون مِن الدِّين رأيًا وروايةً إلا ما جاءت به طائِفَتُهم". هذا -أقولُها بوضوحٍ وصراحةٍ وبغيرِ التِباسٍ-؛ هذا قد يقعُ بهِ بعضُ إخوانِنا القَريبين مِنا -وللأسفِ الشديد-.

ثم قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما المتعصِّبُ الذي جعل قولَ مَتبوعِه عيارًا على الكِتاب والسُّنَّة وأقوالِ الصَّحابة يزِنُها به" انظروا انعكاسَ الأخلاقِ والقلوبِ والعُقول، "فما وافق قولَ مَتبوعه منها؛ قَبِلَه، وما خالف رَدَّه؛ فهذا إلى الذمِّ والعقاب أقرب مِنه إلى الأجرِ والصَّواب".

وأيضًا؛ نُقطةٌ أخرى في ضوابطِ الاختِلاف، وهي: (مسألةُ عدمِ الإلزام بترجيحِ قولٍ اجتهادي). هذه فرعٌ عن تلك، التعصُّب فيه إلزام، وعدم التعصُّب لا إلزام فيه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وما من الأئمة إلا وله أقوال وأفعالٌ لا يُتَّبع عليها، مع أنه لا يُذَم عليها" ليش؟ لأنه مجتهد؛ بل يُؤجَر؛ إذا فعل ذلك عن اجتهادٍ؛ يُؤجر. "وأما الأقوال والأفعال التي لم يُعلم -قَطعًا- مخالَفتُها للكتابِ والسُّنة" يعني: أنها مسائل غير قطعية، "بل هي من مواردِ الاجتهاد" هذا هو الشَّرح "التي تنازعَ فيها أهلُ العلم والإيمان؛ فهذه الأمور قد تكونُ قَطعيةً عند بعض مَن بيَّن اللهُ له الحقَّ فيها؛ لكنَّه لا يُمكِنه أن يُلزِمَ الناسَ بما بانَ له، ولم يَبِن لهم".

لا تُلزِم! كلما كنتَ عالمًا، وكلما كنتَ طالبَ عِلم، وكلما كنتَ إمامًا -وليس فينا إمامٌ، وليس بيننا إمام-، أقول: كلما كان ذلك كذلك؛ كلما كان عن الإلزامِ أبعد، وكلما كان إلى البَيانِ أقْرَب. أما الإلزام؛ فهذا الإلزامُ يكونُ في الوظائف العَسكرية، أما الإلزام؛ فهذا الإلزام يكون عند الطرائقِ الحزبيَّة. أما سلفيَّة وإلزام -في مسائلِ الخِلاف السَّائغ-؛ فلا وألف لا. هذا وجهٌ ثانٍ.

الوجهُ الثالث: هو (مجانبةُ المفاضلةِ بين الشيوخ). شيخُنا أفضلُ من شيخِكم، أستاذُنا خيرٌ من أستاذِكم، احضروا لهذا ولا تحضروا لذاك!! هذا مما ينبغي أن يجتنبَه أهلُ الاختلاف؛ حتى يكونوا في ضِمن الضوابط المشروعة.

يقول شيخ الإسلام -في (المجلد العشرين)- بعد أن ذَكر شيئًا مِن هذه المفاضلةِ والمُراجَحة، قال: "فهذا البابُ أكثرُ الناس يتكلَّمون فيه بالظنِّ وما تَهوَى الأنفُس؛ بل كلُّ إنسانٍ تهوَى نفسُه أن يُرجِّح مَتبوعَه، وقد يُفضي ذلك إلى تَحاجِّهم وقِتالهم وتفرُّقِهم! وهذا مما حرَّم اللهُ ورسولُه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-".

ثم قال -في (المجلد العشرين)-: "لأنه مِن المعلوم أن كلَّ طائفةٍ ترجِّح متبوعَها، فلا تقبلُ جوابَ مَن يجيبُ بما يخالِفُها فيه، كما أن مَن يرجِّح قولًا أو عملًا؛ لا يَقبَل قولَ مَن يُفتي بخلافِ ذلك، لكن؛ إن كان الرجلُ مقلِّدًا؛ فليكنْ مقلِّدًا لمن يترجَّح -عنده- أنه أولى بالحقِّ". هذه وظيفة المقلِّد، أما أن يصبحَ مقلدًا ومجتهِدًا في آنٍ؛ ينافح ويكافِح!؛ فهذا يُقال له: (ليس هذا بِعشِّكِ فادرُجي)، يُقال له: (مجتهِد ومقلِّد في آنٍ؛ لا يجتمعان!)، و(اجتماع ضِدَّين معًا في حالِ .. مِن أقبحِ ما يَأتِي مِن المُحالِ).

قال: "فإن كان مجتهدًا؛ اجتهد واتَّبع ما يترجَّح -عنده- أنه الحقّ، لكنْ؛ عليه أن لا يتَّبع هَواه، ولا يتكلمَ بغيرِ عِلم، وما مِن إمامٍ إلا وله مسائلٌ يَترجَّح فيها قولُه على قولِ غيرِه".

الرابع: (العَدل في الأحكامِ في علماءِ الإسلامِ). بعضُ الناسِ عندما يَنظرون إلى أقوالِ أهلِ العلم؛ بعضُهم يرفضُ رفضًا باتًّا، ويُسقط ويَستأصِل، وبعضُهم يغلو في القبولِ حتى يَنعميَ، أو يَعمي بصرَه عن أنَّ هذا خطأ وهذا صَواب!

قال شيخُ الإسلام -عندما ذكرَ الأئمة، وعندما ذَكَر تفرُّق الناسِ فيهم-، قال: "فمَن ذمَّهم. ." أي: العلماء؛ فمَن ذمَّ العلماء، "فمَن ذمَّهم ولامَهُم على ما لم يُؤاخذهم اللهُ عليه؛ فقد اعتَدَى، ومَن أرادَ أن يجعلَ أقوالَهم وأفعالَهم بمنزلةِ قولِ المعصومِ وفِعله، ويَنتصِر لها بغيرِ هُدًى مِن الله؛ فقد اعتدى واتَّبع هَواه بغيرِ هُدى مِن الله، ومَن فَعل ما أُمر به -بِحَسبِ حالِه؛ مِن اجتهادٍ يقدرُ عليه، أو تقليدٍ إذا لم يَقدِر على الاجتهاد، وسَلك في تقليدِه مَسلَكَ العَدل-؛ فهو مُقتصِد". هذه الرَّابعة.

وأما الخامسة: (مجانبةُ التفرُّق وأبوابِه). وذكرنا لها وُجوهًا متعددةً، وهنالك كلام لشيخِ الإسلام -في (المجلد الحادي عشر)-.

وأما السادس: فهو (منابذة الغلو، ومجانبة الحدِّ في تقدير حَجمِ الاختلاف). بعضُ الناسِ يَنظر إلى مسألةٍ؛ فينفخ فيها ويعظِّمُها! يقولُ شيخُ الإسلام ابن تيمية: "حتى يُفضي الأمرُ ببعضِهم إلى الطعن واللَّعن، والهمز واللَّمز، وببعضهم إلى الاقتتالِ بالأيدي والسِّلاح، وببعضِهم إلى المهاجرةِ والمُقاطعة؛ حتى لا يُصليَ بعضُهم خلفَ بعض". وهذا كلُّه مِن أعظم الأمور التي حرَّمها اللهُ ورسوله. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وآخر ذلك من ضوابط الاختلاف: (لزوم الوضوحِ والحُجة والبيِّنة التي هي مِن أسبابِ الثباتِ والاستقرار). يقول شيخُ الإسلام -رحمه الله-في (المجلدِ الرَّابع)-: "وبالجملة فالثباتُ والاستقرارُ في أهلِ الحديثِ والسُّنة أضعافُ أضعافِ أضعاف ما هو عند أهلِ الكَلام والفَلسفة".

ونقول نحن -اليومَ-: ما ينبغي أن يكون -ولا أقول ما يكون-وللأسف-، أقول: ما ينبغي أن يكونَ مِن الثباتِ والاستقرارِ في أهلِ السُّنة ودعاة منهجِ السلفِ؛ يجب أن يكونَ أضعاف أضعافِ أضعاف ما في أهل التحزُّب، وما في أهلِ التَّعصُّب، ولكن؛ ليس لها من دون اللهِ كاشِفة.

وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه وسلَّم.
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 08-07-2009, 05:33 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

(4)
الردُّ على المُخالِف




إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.

أما بعدُ:

فهذا -أيها الإخوةُ!- لقاءٌ يتجدَّدُ بالخير -إن شاء الله- في محاضراتِنا المنهجيَّةِ -عمومًا-، وفي محاضرتِنا لهذه الأُمسِية -خصوصًا-، وهي بعنوان: »الرَّد على المُخالف«.

وإذ نتكلم في (الردِّ على المخالف)؛ فإننا نتكلم عن موضوع دقيق، اشتط فيه طَرفان -بل أطراف-؛ فبعضُها ميَّع وضيَّع ولم يجعل للرَّد على المخالِف قيمةً، وبعضُها جعل دأبَه -كلَّه-، وحياتَه -جميعَها- في (الردِّ على المُخالِف) -وكأنَّ الدِّينَ كلَّه في ذلك!-، وهذا إنما نذكرُه لبيانِ منزلة (الردِّ على المخالِف) وأنه أصلٌ مِن أصولِ أهل السُّنة، ولكنه ليس الأصلَ الأوحَد، بل أصولُ أهلِ السُّنةِ متعددة، فمَن جعل منهجَه، ودأبَه، وطريقَتَه، و(هِجِّيراهُ) -كما يقولون- في هذا الباب؛ فقد اشتطَّ. ومنهم مَن سوَّى بين أهلِ السُّنة وأهلِ البدعة في (الردِّ على المُخالِف)؛ وهذا -أيضًا- بابٌ غيرُ مَسلوك، وطريقٌ لا ينبغي دُخولُه.

فمِن أجلِ هذا؛ كانت هذه المحاضرة؛ لتُلقيَ الضوءَ على كثير من الأمور -فيما يُتاحُ لنا من الوقتِ-؛ لعل اللهَ -عز وجلَّ- يشرحُ صدورَنا، ويهدينا إلى سواءِ السبيل.

ومما ينبغي ذِكرُه -أيضًا- في هذه المقدمةِ -بين يَدَي المحاضرة-: أنَّ موضوع (الردِّ على المُخالف) مُتداخل في موضوعِ (الجَرحِ والتعديل)؛ فهما مَوضوعان متقارِبان مُتداخلان؛ في هذا شيءٌ له صِلةٌ بذاك، وفي ذاك شيءٌ له صِلة بهذا. ونحنُ نحاولُ الفَصْلَ -ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا-.

ومِن الكُتب المؤلَّفةِ في الردِّ على المُخالِف -وهي كثيرة-؛ أنصحُ الإخوةَ بمراجَعةِ أربعةٍ منها: أولُها: كتابُ "الردِّ على المخالِف" للشيخ بَكر أبو زيدٍ -رحمهُ الله-تعالى-. ثانيها: كتاب "مَنهج أهلِ السُّنة في نقدِ الفِرَق والطوائفِ والجماعاتِ" للشيخ ربيع بنِ هادِي -حفظه الله-تعالى-. ومنها: كتاب "أصولِ نَقدِ المُخالِف" لأخينا الشيخ فَتحي سُلطان. ومنها: كتاب "أُصول الشيخِ عبدِ العزيز ابنِ بازٍ في الرَّدِّ على المُخالِف" -أو " على المُخالِفين"- للأخ فيصل الجاسِم -وهو مِن إخوانِنا في الكُويت-. هذه كُتب مهمَّةٌ -في هذا الباب الذي نحنُ فيه-؛ ننصح بمراجعَتها والنظرِ فيها.

والحقيقة: أنني منذ الصباحِ إلى الظهر -أو إلى قريبٍ مِن الظهر- وأنا أدرُس، وأتأمَّل، وأنظرُ، وأراجعُ، وألخِّص، وأدوِّن -في هذا الموضوع-. وفي آخرِ لحظات ودَقائق؛ وقفتُ على كلمةٍ مُطوَّلة للشيخ ابنِ بازٍ -رحمهُ الله- في "فَتاويه"؛ -يعني- أقول: تكادُ تكونُ جعلتْني أُلملِمُ أوراقي، وأطْوِي صُحُفي؛ لما حَوتْ هذه الكلمة مِن إمامٍ فذٍّ كبيرٍ، يحترمُ له الجميعُ، ويخضعُ له الكثيرُ-مِن الصغير والكبير-؛ لِما عُرف عنه مِن سعةِ علمٍ، ومِن قوة منهج، ومن سلامةِ اعتقادٍ، ومِن إمامةٍ في الدِّين، ومِن رأيٍ حسَن، ومِن احترامٍ لإخوانِه الكِبار مِن أهلِ العِلم، ولأبنائِه الصِّغار مِن طلبةِ العلم؛ بحيث لا تكادُ تجدُ هذه الصفاتِ مجموعةً لغيرِه، أقول: (لا تكادُ تَجِد)، الخير لم ينقطِع، ولن ينقطِع،
ولا نعتقد أنه سَينقطع -طالما أن هنالك دعوةً- إلى أن تقومَ الساعة، وكما قال النبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "لا تقومُ السَّاعة إلا على شِرارِ الخَلْقِ" -نسأل الله العافية-.
فهذه الكلمة -في الحقيقة- جعلتني أقدِّمُها على غيرِها، وأبدأُ بها، غاضًّا الطرفَ عن كثيرٍ من التقاسيمِ والأنواع التي حضَّرتُها وهيَّأتُها، وسأجعلُ ما ذكرتُه -مِن ذلك التَّحضير والترتيب والتقسيم- في آخر المحاضرةِ -إذا سمَح الوقتُ، وسنَح الظرْفُ-. وأبتدئ بها؛ لأني أعتقدُ أنها أهمُّ وأولَى، فإذا بَقِيَ وقتٌ؛ ننقلُ شيئًا مما ذكرناه. ولو أننا تأملنا هذه الكلمةَ بدِقةٍ؛ لاستطعنا أن نستنبِطَ منها سائرَ ضوابِطِ ووُجوهِ وآدابِ وتفاريقِ (الردِّ على المُخالِف).

نبدأ بها -بعد الصلاةِ والسلامِ على رسولِ الله-اللهم صلِّ وسلم وبارك على رسول الله-، وهي في (الجزء السابع والعشرين)، في (الصفحة التاسعةَ عشرةَ) فما بعدُ، يقولُ -رحمه الله-:

"فالواجبُ على الداعي إلى اللهِ أن يُرغِّب الناس في العلمِ، في حضور دعوة علماءِ أهلِ السُّنة، ويدعوَهم إلى القَبول منهم".

هذا أصلٌ أوَّل، كما قلت؛ لو أننا أردنا أن نقسِّم كلماتِه -أو كلمتَه- إلى فقرات، وكل فقرة إلى أصلٍ -أو أساسٍ-؛ لاستطعنا أن نجعلَ كلَّ سَطر -أو سَطرَين- أساسًا خاصًّا. فهذا هو الأصل الأول: أن الواجب والمُهم في مهمة طالبِ العلم هو: ترغيبُ الناسِ في العلم. إذا رغَّبتَ الناسَ في العلم؛ تجعلهم يسلُكون سُبُله، فإذا سلكوا سبُلَه؛ تجعل لغتَك ولغتهم واحدة؛ فيَقِلُّ الخلاف. إذا وُجدت لغةُ العِلم بين المُختلِفِين، بين الدَّاعي والمَدعُو؛ أصبح الطريقُ مَسلوكًا، وأصبح المنهجُ واضحًا. ولا نريدُ أن نقولَ -في مثلِ هذا المقام- إذا لم نسلكْ سبيلَ العِلم مع المدعوِّين، ولم نرغِّبهم في العلم؛ ماذا سيحدُث بين الدَّاعي والمَدعو؟!

شَكَوْنا إليهم خَرابَ العِراق .. فَعابُوا عَلَيْنا شُحُومَ البَقَرْ!

اللغة مختلفة، لكن؛ إذا كانت اللُّغة واحدة -وهي لغةُ العلم-؛ حينئذٍ لو رددتَ عليه، أو ردَّ عليك؛ ضمن الأصولِ والضَّوابط المَرعيَّة والمرجُوَّة.

يقولُ: "ويَحذَر" ["أن يرغِّب" أولًا، الآن: ثانيًا:] "ويَحذَر" أي: فالواجبُ على الداعي إلى اللهِ أن يحذرَ "التنفيرَ من أهلِ العلمِ المعرُوفين بالعقيدةِ الصحيحةِ والدعوةِ إلى الله -عزَّ وجل-".

هذا هو الأصلُ الثاني: أن العالِم، أو الداعي، أو الطالبَ للعلم، يُعرف صوابُ منهجِه وخَطؤُه مِن أصْلَيْن اثنَيْن: الأَصل الأوَّل: هو دعوتُه إلى العقيدةِ الصحيحة. والأَصل الثَّاني: دعوته إلى الله -سبحانه وتعالى-على العُموم- بتعظيمِ الكتاب والسُّنة ومنهجِ سلَف الأمَّة. فمَن كان على هذا الحال؛ لا ينبغي أن يُحذَّر مِنهُ، نقول: (مِنْهُ). قضيةُ الأخطاء التي تقعُ (مِنه) قضيةٌ أخرى، فالخطأ مِن الدَّاعي إلى الكتابِ والسُّنة، المعظِّمِ للحقِّ الجَليل شيءٌ، والتحذيرُ منه (نفسِه) شيءٌ آخَر، والخلطُ بينهما قبيحٌ قبيح.
قال -وهذا هو الأصلُ الثالِث-، أنا بالمناسبة غير مرتِّب للكلامِ أنه على أقسَام، كلامُ الشيخِ سَرْد، لكن؛ لأنَّه كلامُ العالِم المتضلِّع والقَديرِ في معرفةِ أصولِ السُّنَّة والعلم والمنهج؛ فإن هذه الكلماتِ -كما قلتُ وأكرِّرُ- تكاد تكون منهجًا متكامِلًا.

النُّقطة الثالثة: يقول: "وكلُّ واحدٍ له أخطاء، لا أحدَ يَسلَم".

إذًا: التَّأصيلُ الثَّالث: أن كلَّ بني آدمَ خطَّاء -كما قال النبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، إذا كان هذا الخطأُ مِن هذا السُّنِّي الكبيرِ في السُّنة -أو المعروف بالسُّنة-؛ فهذا لا يُسقِطُه، ولا يجعلُنا نحذِّرُ منه، ومن شَخصِه، وإنما نعامِلُ أخطاءَه بِحَسبِها.

وهذه هي النقطةُ الرَّابعة: يقول: "فالواجبُ أن يُنبَّه" أي: المُخَطِّئُ المخطَّأ "فالواجبُ أن يُنبَّه على أخطائِه بالأسلوبِ الحسَن".

شيخُنا -رحمه الله-الشيخ الألباني- كثيرًا جدًّا ما كان يقولُ: (دعوةُ الكتابِ والسُّنة دعوةُ الحق، والحقُّ ثَقيل). وكلمةُ: (الحقِّ ثَقيلٌ) أصلُها مَرويٌّ عن حذيفةَ بنِ اليَمان -رضي الله-تعالى-عنه- قال: "الحقُّ ثَقيلٌ، وهو -مع ثِقلِه- مَريء، والباطلُ خفيفٌ، وهو -مع خِفَّتِه- وَبيء"؛ هكذا منهجُ أهل السُّنَّة؛ سلاسةُ الأمر مرتبطةٌ بالحق -ولو كان في نفسِه ثقيلًا-؛ فهو مقبولٌ على النَّفس. فكان شيخُنا يقولُ: (دَعوتُنا دعوة الكِتابِ والسُّنة هي دعوةُ الحَق، والحق ثَقيل؛ فكيف إذا أضفْنا إلى ثِقل الحقِّ ثقلَ الأسلوب؟!). حتى لو كان هذا المخطَّأ أخاك، أو تلميذَك، أو شيخَك، مِن الصعبِ أن تقبَل الشدَّةَ والعُنفَ والأسلوبَ السيِّئ الشَّديد الغَليظ، {فَبِما رحمةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لهم ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِن حَولِكَ} فالخطابُ ممن؟ لمن؟ فيمَن؟ مِن الله، لرَسولِه -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، في أصحابِه الأكرَمِين -رضي الله-تعالى- عنهم أجمعين-.
قال: "فالواجبُ أن يُنبَّه على أخطائِه بالأسلوبِ الحَسَن، ولكن لا يُنفَّر منه، وهو مِن أهلِ السُّنة، بل يوجَّه إلى الخير، ويُعلَّم الخير".

إذًا: إذا وجدنا أخطاء عن داعيةٍ يعظِّم الكتابَ والسُّنة، عند عالِم يعظِّم الكتابَ والسُّنة؛ نناصحُه فيها، ونذكِّرُه بها.

وها هُنا نقطة مهمَّة جدًّا، وهي: أنه ليس مِن شرطِ الناصِح أن يشترطَ قَبولَ نُصحِه، لماذا؟ لاحتِمال أن يكونَ مُخطئًا في نُصحِه، ليس كلُّ ردٍّ لكلِّ نصيحةٍ يُبنَى على أن هذا الرادَّ رافضٌ للنَّصيحة؛ هذا خللٌ مَنهجيٌّ كبير. وإنما الواجبُ أنْ نحسِّنَ الظنَّ بالمردودِ -ما دامَ أنه في إطارِ أهلِ السُّنة، وفي دائرة أهل السُّنة-، وأن نرجوَ له الخير، وأن نطلبَ له الخير، وأن ندعوَ اللهَ له بالخير، فإذا قبِل؛ فالحمدُ لله، فإذا لم يقبَل نستمر في المناصَحة، ونأخذ أبوابًا أخرى، وطرائقَ متعددة، ولا نقول إنه تكبَّر على النصيحة. لماذا لا تتهِم نفسَك بأنك قصَّرت في النَّصيحة -قبل أن تتهِم أخاك بأنه استَكبَرَ على النَّصيحة-؟! هذا ممكن أو غير ممكن؟ ممكن جدًّا. إذا: لماذا نفرضُ الصورةَ الأقبح؛ مُحسِّنين الظنَّ بأنفسِنا، مُسيئين الظنَّ بالآخَرين مِنا؟!

لذلك قال الشَّيخُ: "ولكنْ لا ينفَّر منه، وهو مِن أهل السُّنة؛ بل يوجَّه إلى الخير، ويعلَّم الخير، ويُنصَح بالرِّفقِ في دعوتِه إلى الله -عز وجل-"، أي فيما أخطأ في دعوتِه إلى الله -عز وجلَّ-، يُنصح بالرِّفق.

عندما مرَّ أولئِك اليهودُ على رسولِ الله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- وهو جالسٌ، فسلَّموا عليه، فقال رسولُ الله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "وعَليكم"؛ قالت عائشةُ -وقد استغربت-: "يا رسولَ الله! لماذا قلتَ "وَعَلَيْكُم" وهم قد سلَّموا؟"؛ فقال -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "إنما قالُوا (السَّامُ عَلَيْكُم)؛ والسَّام الموتُ؛ فقلتُ (وعَلَيْكُم)"؛ فغضبتْ غضبةً للهِ -رضي الله عنها وأرضاها، وقاتَل اللهُ مَن انتقصها وغمزَ بها- قالت: "عليكم السَّام، والموتُ، واللَّعنة، إخوانَ القردةِ والخنازير!". تسبُّ مَن؟ تسُبُّ الذي سبُّوا رسولَ الله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، وهم كفَّار؛ ماذا كان جواب رسول الله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قال: "يا عائشة! ما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَهُ، وما نُزعَ مِن شيءٍ إلا شانَهُ؛ إنَّ اللهَ رفيقٌ يحبُّ الرِّفقَ في الأمر -كلِّه-، وإن الله لَيُعطِي على الرِّفق ما لا يُعطِي على العُنفِ".

نقولُ: هذا -كلُّهُ- في إطارِ السُّنةِ وأهلِ السُّنة، ولا أريدُ أن أستعجل، لكن أعجِّلُ بشيءٍ مِن الخير؛ فأقولُ: الشدَّةُ في موضِعِها مَرضيَّةٌ، لكنْ؛ فيمَن كان مُكابرًا. مَن غلب على الظنِّ، وتمَّ التشاوُر بشأنِه أنه مُكابرٌ، ومُستكبِرٌ -ولو كان مِن أهلِ السُّنة-؛ فهذا يُغلَظ عليه، لكن؛ لا يُغلَظ عليه بأن نبدِّعَه، وأن نُخرجَه من أهلِ السُّنة، لا؛ قد نُغلظ عليه في شيءٍ من الأسلوبِ، كما قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية: "المؤمنُ للمؤمنِ كاليدَيْن تَغسل إحداهُما الأخرى، وقد تستدعي النظافةُ شيئًا مِن الشدةِ لإزالةِ الوسَخ، ولكنْ يُرجَى بعدها ما تُحمَد عُقباه" -أو كما قال -رحمهُ الله -تعالى-.

إذًا: المسلمُ عندما يَشُد -أو يشتدُّ- على أهلِ السُّنة -في بعضِ أمرِهم-؛ إنما يشتدُّ عليهم مِن أجلِهم؛ حتى ينصَحَهم، لكن هذا استثناء وليس أصلًا؛ فلننتَبِهْ: (هذا استثناء وليس أصلًا).

أمَّا مَن كانوا مِن أهلِ البِدع والضَّلال، مُفارِقين لأهلِ السُّنة والجماعةِ وأهلِ منهجِ السلفِ الصالِح؛ فهؤلاء -أصلًا- خارجُون عن الحِسبةِ -كما يُقال-، فهؤلاء لو أنه قد أُغلِظ عليهم بالأسلوبِ العِلمي، والحجةِ والبيِّنة، وليس بِمجردِ السَّب والشَّتم -كما قد يُفعل-؛ فهذا أمر لا نكارةَ فيه.

واليومَ أقرأ كلمةً لبعضِ العُلماء قال: "إنما أنا شديدٌ على الجهميَّة؛ لأني كنتُ مِنهم"؛ يعني: لأنه يَعرفُهم ويخبرهم. وشيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ نُقل عنه أنه قال: "لو كنتُ جهميًّا؛ لكفَّرتُ نفسي"! قال: لأني أعرفُ باطلَهم وضلالَهم؛ فكأنه يقول: هم لا يَعرِفون ما عليه مِن باطلٍ، ولا ما عليه مِن ضلال!

قال الشيخُ ابنُ باز -رحمهُ الله-: "ويُنصَح بالرِّفق في دعوتِه إلى الله -عز وجل-، ويُنبَّه على خَطئِه، ويُدعَى الناسُ إلى أن يَطلبوا منه العِلم، ويتفقَّهوا عليه -ما دام مِن أهل السُّنة والجماعة-".

إذًا: وقوعُ العالِم السُّني -أو الدَّاعية السُّنِّي- في خطأٍ وخطأَيْن وثلاثة، وهو لا يَزال يعظِّم الكتابَ والسُّنة، وهو لا يَزال يدعو إلى العقيدةِ الصَّحيحة، وهو لا يزال يَدعو إلى المنهجِ السَّلفي الصحيحِ الواضِح الصَّريح؛ فهذا لا يَجوزُ أن نجعلَ أخطاءَه سبيلًا ننفِّر الناسَ عنه، ولا طريقًا نحذِّرُهم منه؛ هذا خلافُ منهج أئمتِنا الكبار. وها نحن بين يدي كلامِ إمامٍ جليلٍ؛ بل مِن أجلِّ أئمةِ هذا العَصر، وهو سماحةُ الشيخِ عَبد العَزيزِ بن باز -رحمه الله-تعالى-.

أما ما نسمعُه -مِن البعض- حتى لو كان مِن الشيوخ الكبار. . ولكن هو باليقين -باعترافِه واعترافِ كل ذي نظرٍ؛ هو دون الشيخ ابنِ باز، ودون الشيخِ ابنِ عُثيمين، ودون الشيخِ الألباني، دون هؤلاءِ المشايخِ الثلاثة الذين هُم -في هذا الزَّمان- طبقةٌ مُنفصِلة. نقولها -بوضوحٍ وصراحةٍ-: هؤلاء الأئمةُ طبقةٌ مُستقلَّة، وكلُّ مَن [...]؛ طبقةٌ دونهم. وإذا أُلحِق بعضٌ بهم؛ فهذا مِن بابِ يعني الإلحاقِ، ومِن بابِ: (أحِبُّ الصالِحين ولستُ مِنهُم)، وليس مِن بابِ أنَّه مُساوٍ لهم، أو أنه مُماثِلٌ لِدرجتِهم؛ فليُفهم هذا جيِّدًا.

فما يحصل مِن أنه فلان أخطأ في قَول، وهذا القولُ؛ قولٌ عِلمِي، قولٌ في الجرح والتعدِيل، قولٌ في الرَّدِّ على بعضِ البِدع والانحرافات؛ ثم إذا بهذا القول يكونُ فيه إسقاط واستئصالٌ لهذا الإنسان! (لا تسمعوا مِنه. . لا تجلسوا له. . لا تَنشُروا له. .)! هذا أمر يُخالف ما عليه أئمتُنا، والكلامُ حاضر، والحُجةُ ظاهرة.

قال: "فالخطأ لا يُوجِبُ التنفيرَ منه، ولكن يُنبَّه على الخطأ الذي وقَع منه، فكلُّ إنسانٍ له أخطاء، ولكنَّ الاعتبار بما غلبَ عليهِ".

هذه قاعدة مهمة -يا إِخواني!-؛ فلنقفْ عندها كثيرًا -ولا أقولُ قليلًا-: "ولكنَّ الاعتبار بما غلبَ عليهِ".

الآن: فلننظرْ إلى بعضٍ ممن اختُلف في الكلامِ عليهم (مِن أهلِ السُّنة) -في هذا الزَّمان-، ولا نريد أن نسمِّي أسماءً، ولكن؛ لنطبق هذه القاعدةَ العِلمية الصحيحةَ الصريحة على هذا الواقعِ المُعاش -في زمانِنا هذا-.

عندما نقولُ: (فلانٌ ورد عنه أنه يُكفِّر)؛ هل هذا التكفيرُ الذي وَرد عنه هو كلمةٌ في سِياق مُبهَم حمَلنا عليه هذه الكلمةَ؟ أم هذا منهجٌ له في طريقِه، وفي سُلوكِه، وفي دعوتِه؟! هذا واحِد.

اثنَان: فلانٌ ورد عنه أنه يُثني على بعضِ أهلِ البِدَع؛ هل هذا الذي يُثني عليهم شيء مرَّ عَنه، ونُقِل عنه مَرَّة فمرَّ؟ أم أنه شيءٌ مُستقرٌّ عنده، يَنفخ فيه، ويعظِّمه، ويُعلي شأنَه، ويرفعُه؟ أنا أسأل: هل يَستوِيان؟ لا يَستوِيان. إذا كانا لا يَستويان؛ هل يُقال: إنَّ جَعْلَهما في مرتبةٍ واحدةٍ حقٌّ وعدلٌ؟ أم ظُلم؟ أنا أقول -لا شكَّ، ولا ريبَ -أقولُها مرتاحًا-: إنَّ جعلَ هذا كمثلِ ذاك في مَرتبةٍ واحدة؛ ظلمٌ وأيُّ ظُلم! ولكن؛ لا نسكُتُ عن خطأِ الأول التي مرَّت فيه كلمة التَّكفير هذه، والتي قُلنا بأنه لم يَجعلْها دَيدَنًا له، وطريقًا له، وبخاصة أننا نَعرِفه أنه ليس مُكفِّرًا، لكنَّنا؛ نُنبِّهُه على خطئِه، ونُحذِّره مِن خطئِه؛ بل أقول: بل قد نحذِّر مِن خطئِه هذا؛ نقول: أخطأ فلانٌ في كذا وكذا. لكن -كما قال الشيخُ ابنُ باز-: لا نُنفِّر منه لهذا الخطأ. حتى لو تنوَّعت الأخطاءُ، لكن هي واحدة هُنا. . وواحدة هنا. . مَن ذا الذي لا يُخطِئ؟! كما قال الإمامُ الذهبيُّ في "الميزان": "مَن ذا الذي لا يُخطئ؛ أ(شُعبةُ)؟ أ(مالِك)؟" (شعبةُ) مِن أجلِّ أئمةِ الحديث، و(مالِك) مِن أجلِّ أئمةِ الفِقه. إذا كان هؤلاء الأئمة. . (ابنُ خزيمةَ) ألَم يُؤخذ عنهُ بعضُ الخطأ في العقيدةِ؟ (ابنُ قُتيبة) ألَم يُؤخذ عنهُ بعضُ الخطأ في العقيدةِ؟ أئمةُ السَّلفِ. . ألَم يَنتقد شيخُ الإسلام ابنُ تيمية، وبعضُ مشايخِنا المعاصِرين (عثمانَ بنَ سعيدٍ الدارِمي) في أنَّه غَلا في بعضِ الإثباتِ في بابِ الصِّفات؟ ألَم يَنتقدوا الإمام (أبا يَعلَى) في بعض مسائلِ الصِّفات وبعض مسائلِ الإيمان؟ ولم نَعلم أنهم قالوا: إنَّ هذا خارجٌ عن منهجِ أهل السُّنة! وإن هذا مُبتدع! وهذا يُستأصَل! وهذا يُسقط! وهذا لا وَزن له! وهذا لا حقيقةَ له! {إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}. مِن الأصولِ التي -إذا تيسَّر لنا الوقتُ- سنذكُرها: (العَدل)-، وقد أشرنا في مجلس الأمس -أو في مجلسِ أمسِ- إلى كلمةِ شيخ الإسلام ابن تيميَّةَ في الإنصافِ، وأنَّ الواجبَ عدم ظلمِ المُنتَقد والمردود عليه، حتى لو كان مُبتدِعًا. يعني مبتدِع؛ بدِّعه، لكن؛ لا تُقوِّله ما لم يَقُل، لا تَظلِمْه في الحُكْم، تَكلَّم عليه بِمقدارِ الواجبِ، أمَّا أن نُعطي الأمورَ أكبرَ مِن حجمِها، ونُقوِّل هذا وذاك أكثرَ مِن قولِه؛ فهذا فيه ما فيه.
سُبحان الله! لا زِلنا في الصَّفحة الأولى!! وبقي وقتٌ قليل. أنا كنت أظنُّ سنقرأ -كلَّها- وننتهي. . على كل نعجِّل بالخير -إن شاء الله-.

قال: "فكلُّ إنسانٍ له أخطاءٌ، ولكنَّ الاعتبار بما غَلب عليه، وبما عُرِف عنه مِن العقيدة الطيبةِ... فالواجبُ على علماءِ السُّنة التَّعاوُن على البِرِّ والتَّقوى". أين هذا الواجِب؟ أين وُجودُه؟ أين صُوَرُه؟ أين مجالاتُه؟ يكادُ يكونُ قليلًا! ولا أريدُ أن أقولَ (نادرًا)!
قال: "فالواجبُ التعاونُ على البرِّ والتَّقوى، والتَّناسي عما يقعُ -مِن زلةٍ وهفوةٍ-". لا نقول -نحن- (التَّناسي)؛ -يعني- هذه قد نفسِّرها للشيخِ -رحمه الله- بأجمل. . لا نقول: (التَّناسي)، لكن نقول: (التَّناصُح). إذا قلنا: (فلانٌ أخطأ؛ ننسَى - أو نتناسَى- خطأَه)؛ قد نُنتَقد! بل أنا أقول: لو هذه الكلمة قالَها غيرُ الشيخ ابنِ باز؛ لحُملت عليه، وأُخذت عليه، و(قد) يُبدَّع بسببِها! أقول: (قد)! ولكن نحنُ نفهمُ هذه الكلمة: (التَّناسي)=بمعنى (التَّناصح)، وعدم تضخيمِ الأمورِ؛ هذا مِن بابِ حُسنِ الظنِّ بأهلِ العِلم، وأهلِ السُّنَّة، ويُروَى -في ذلك- أثرٌ عن عُمرَ -رضي الله عنه- أنه قال: "إذا سَمعتَ مِن أخيك كلمةً؛ فاحْمِلْها على أحسنِ ما تُحمل عليه" أو بهذا المعنى -رضي الله عنه-.
قال: "فالواجب ... التَّناسي عما قد يقعُ -من زلةٍ وهفوةٍ-. مَن ذا الذي يسلَم؟ المُهمُّ أن تكونَ الدعوةُ سَلفيَّةً" الكلام للشيخ ابن باز "المُهمُّ أن تكونَ الدعوةُ سَلفيَّةً على طريق الصحابة -رضي اللهُ عنهم وأرضاهُم-، وأتباعِهم بإحسان". قال: "فالداعي إلى الله، والعالِم الموجِّه إلى الخيرِ إذا أخطأ؛ فلَهُ أجرُ الاجتهاد، وإذا أصابَ؛ لَه أجْران، ما دام على الطريقةِ السَّلفية، طريقةِ أهلِ السُّنَّة، ما دام مُوَحِّدًا قاصِدًا الخير".

ومع ذلك -أُكررُ وأقول-: ننصحُه ونصبرُ عليه، ولا نأخذُه بهذا الخطأ -وإن كنَّا نؤاخذُه به-، (لا نأخذُه به -وإن كنَّا نُؤاخذُه به-). فيه فَرْق، ولا ما فيه فَرق؟ فيه فَرق. (لا نَأخذُه به)= إسقاطًا واستِئصالًا، وتبديعًا، وتَضليلًا. ولكنْ (نُؤاخذُه به)= مُناصحةً، وتذكيرًا، وبيانًا، وتعليمًا -وإنْ كان مِن الأدنَى إلى الأعْلى، ومِن الأقلِّ إلى الأكْثَر، ومِن الأصْغَرِ إلى الأكبَرِ-؛ فالحقُّ هو الأعظم، والحقُّ هو الذي تُوجَّه إليهِ القُلوب والعُقول، وكلٌّ له مَكانته، وكلٌّ له منزلتُه.

قال: "وأوصيكم بالتعاونِ و... الرِّفق بالدَّعوة، وحُسن الظنِّ بإخوانِكم -أهلِ السُّنة-، وعدم نشرِ ما يُشوِّه سُمعتَهم -مِن أغلاط-؛ بل عالِجوها بالطُّرق القيِّمة؛ بالمحادثةِ بينكم، بالاتِّصال الهاتفيِّ، بالزيارِة، بالمكاتبةِ الطَّيبة؛ حتى تزولَ الوَحشة، وحتى يتضِّحَ الحق، وحتى يَزولَ الخطأ، والهدفُ هو طاعةُ اللهِ ورسولِه" -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- . هذا كلام الشيخ ابنِ باز في (الجزءِ السابعِ والعشرينَ)، في (الصفحةِ التاسعةَ عَشرة).
ويقول -في الجزء (السابِع)، في الصفحة (السادسةَ عشرةَ بعد الثلاثِمئة)- يقول: "وقد شاعَ -في هذا العَصرِ- أنَّ كثيرًا من المنتسِبين إلى العلمِ والدعوةِ إلى الخيرِ يَقعُون في أعراضِ كثيرٍ مِن إخوانِهم الدُّعاةِ المشهُورِين، ويتكلَّمون في أعراضِ طلبةِ العلم والدُّعاة والمُحاضِرين، يفعلون ذلك سِرًّا في مجالِسهم، وربما سجَّلوه في أشرطةٍ تنشر على النَّاس، وقد يفعلونَه علانيةً في محاضراتٍ عامةٍ في المساجِد".

وأقول -الآن- بعد كلِّ هذه السَّنوات مِن وفاةِ الشيخ-رحمه الله-؛ بل منذ توجِيهِه هذا -رحمةُ الله عليه-، أقول: والآن وُجدت في الأمةِ فتنةٌ يُنشَر بها هذا البلاءُ وهذا السُّوء أكثر مِن الأشرطة والمحاضرات -فضلًا عن السِّرِّ-؛ وهو: (الإنترنت)!

الآن ترى أسماءً في (الإنترنت)، وكلماتٍ وردودًا لأناسٍ لم يُعرفوا بِعلمٍ، ولم يُعرفوا بِحُجةٍ، ولم يُعرَفوا بطلبِ عِلم، ولا بتزكيةِ علماء، يقول: فلانٌ (سَيفُ السُّنة)! -ما شاء الله!!-، فلان (صخرةُ الإسلام)!! هذه ألقابُهم، ذكَّرونا بقولِ القائل:

أَلقابُ مَملَكَةٍ في غيرِ مَوضِعِها .. كالهِرِّ يَحكِي انتِفاخًا صَولةَ الأَسَدِ

هذا حالُ هؤلاء!! وفي الحقيقة: كثرتُهم وتوافرُهم وتعاضدُهم -على ما فيهم مِن باطل- يؤثِّر في نفوسِ أهلِ السُّنة، ويؤثِّر في نفوس بعضِ أهلِ العِلم، والواجبُ أن يكونَ العالِم مُؤثِّرًا لا مُتأثرًا، حتى قرأتُ لبعضِ أهلِ العِلم -مِن كلامِهم- أنهم كانوا يَقولون: لو أنَّ هذا الكلامَ صحيحٌ -كلام مُعين، كلامٌ ما-؛ لنُقل في الإنترنت!! أو لتناقَله الناسُ فيما بينهم!! متى كان هذا النَّقل -على هذه الصفة- حُجة في الناس؟! حُجة في دينِ اللهِ ربِّ العالمين -سبحانه وتعالى-؟! إذًا: هذا الوَجه، وهذا النَّشر؛ هو مِن السُّوء، ومِن نشرِ السُّوءِ -كما يقول سماحةُ الشيخ -رحمه الله-تعالى-.

قال: "وهذا المسلك مخالفٌ لما أمر اللهُ به ورسولُه مِن جهاتٍ عدة منها:

أولًا: أنه تعدٍّ على حقوقِ الناسِ؛ مِن المسلمين؛ بل مِن خاصة الناس؛ مِن طلبةِ العلم...".

الآن سنختصر شيئًا فشيئًا.

"ثانيًا: أنه تفريقٌ لوحدةِ المسلمين وتمزيقٌ لصفِّهم، وهم أحوجُ ما يكونُون إلى الوِحدةِ، والبُعدِ عن الشَّتاتِ والفُرقةِ، وكثرةِ القِيل والقالِ -فيما بينهم-، وبخاصةً أن الدُّعاة الذين نِيل منهم هُم مِن أهل السُّنَّة والجماعة المعروفين بِمحاربةِ البِدعِ والخُرافات، والوُقوفِ في وجهِ الدُّعاةِ إليها، وكشفِ خُططِهِم وألاعِيبِهم".

كأن الشيخ -رحمه الله-قبل كلِّ هذه السَّنوات- يَتكلَّم عن هذا الواقع، ويتكلَّم عن أناس مِن أهل السُّنة تُكلِّم فيهم بغير حقٍّ، -لا لأخطاء أخطؤوها؛ أقول (بغيرِ حقٍّ)-؛ لكنَّ الخطأ فيهم؛ لا يجوزُ أن يكونَ سببًا للتخلصِ منهم، أو لاستئصالِهم، أو إسقاطِهم.
وأذكِّر أن هذا الكلامَ يجب أن نضبطَه، وأن نربطَه بمحاضرة أمس، ومحاضرة أمسِ الأول: (فِقه، أو ضوابط الائتلاف)، و(ضوابط الاختلاف) ونفهم هذا في ضوء ذاك.

"ثالثا : أن هذا العملَ فيه مظاهرةٌ ومعاونةٌ للمُغرِضين -مِن العِلمانيين والمستغرِبين وغيرهم مِن المَلاحدة- الذين اشتهر عنهم الوقيعةُ في الدعاة، والكذب عليهم، والتحريض ضدَّهُم فيما كتَبوه...، وليس هذا مِن حقِّ الأخوة الإسلامية...
رابعًا : إنَّ في ذلك إفسادًا لقلوب العامَّة والخاصة، ونَشرًا وترويجًا للأكاذيبِ والإشاعاتِ الباطلة، وسببًا في كثرة الغيبةِ والنميمةِ، وفتح أبواب الشرِّ على مَصاريعِها [لضعفاء] النفوس...

خامسًا : أن كثيرًا مِن الكلام الذي قِيل؛ لا حقيقةَ له، وإنَّما هو مِن التوهُّمات التي زيَّنها الشيطانُ لأصحابِها، وأغراهُم بها، وقد قال اللهُ -تعالى- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}".

قال: "والمؤمنُ ينبغي أن يحملَ كلام أخيهِ المسلمِ على أحسنِ المحامِل ، وقد قال بعضُ السَّلف" وهذه هي الكلمة التي ذكرتُها، وأشرت إليها أنها عن عمرَ -رضي الله عنه-. قال: "وقد قال بعضُ السَّلف: (لا تظنَّ بكلمةٍ خَرجت مِن أخيكَ سوءًا، وأنت تجدُ لها في الخيرِ مَحملًا)".

الآن -وللأسَفِ- عند كثير مِن كَتبةِ (الإنترنت)، وعند كثير مِن دُعاة الإسقاطِ والاستِئصال والتَّجريحِ (بالباطلِ). . وهذا لا يَجوزُ أن يفهمَ منه أحدٌ-مِن هؤلاء المحمِّلة القولَ على غيرِ وجهِهِ-أنَّنا نُبطل الردَّ على المُخالف؛ (الرَّد على المُخالِف) أصلٌ، لكنْ؛ هذا الأصلُ له ضوابط، ولهُ وُجوهٌ تُراعَى فيه -أشرنا إلى بعضِها-، أو أنَّنا -بذلك- نُهوِّن مِن أمر (الجَرح والتَّعديل)؛ لا. وغدًا كلامُنا -إن شاء اللهُ- عن موضوعِ: (الجرحِ والتَّعديل) وما فيه مِن ضوابط، وما فيه مِن أصولٍ وقَواعد؛ حتى تنضبطَ الأمورُ -كلُّها- كأنها عِقدٌ مَنظوم -بإذن الله -تبارك وتعالى-.

قال: "سادسًا: وما وُجد مِن اجتهادٍ -لبعض العلماء وطلبةِ العلم-فيما يَسوغ الاجتهادُ فيه-؛ فإنَّ صاحبَه لا يؤاخَذُ به، ولا يُثرَّب عليه -إذا كان أهلًا للاجتهاد-؛ فإذا خالفَه غيرُه -في ذلك-؛ كان الأجدرُ أن يجادلَه بالتي هي أحسن؛ حرصًا على الوُصول إلى الحق -مِن أقرب طريق-، ودفعًا لوساوس الشيطان، وتحريشِه بين المؤمنين".

هذه أخلاق أهلِ الإيمان، هذه أخلاقُ أهلِ العَدل والإحسان، هذه الأخلاقُ الضائعةُ التي لا نكاد نجدُها -في أيامِنا هذه- إلا في نفرٍ قليل مِن خاصة مِن أهل العلم، ونرجو لهؤلاء الخاصة -مِن العُلماء- أن يكونوا مُؤثِّرين فيمَن حولهم، لا أن يكونوا مُتأثِّرين بهم-في كثرةِ القِيلِ والقَال-، وقد قيل -مِن قبلُ-: (جُبلتِ القُلوب على حُبِّ مَن أحسنَ إليها).

رأيْنا، وعَرفنا، وعاينَّا، وعايَشْنا أناسًا يلتفُّون حول بعضِ أهلِ العلم؛ يُحسنون إليهم، ويتودَّدون إليهم، ويتقرَّبون إليهم، ويُكرِمُونهم. . و.. و.. حتى يؤثِّروا في قلوبِهم، فإذا أثَّروا في قلوبِهم؛ صار قولُهم مقبولًا عندهم، صارُوا كأنَّما هم عُيونهم، صارُوا كأنما هُم الناطِقون بألسنَتِهم؛ وهذا يجبُ أن يكونَ فيه الحذرُ، وفيه التأنِّي، وفيه عدمُ العَجلة، وفيه التيقُّظ؛ بدلًا مِن أن نثقَ بِمَن ليس أهلًا للثِّقة.

ورضي اللهُ عن ابنِ مسعودٍ القائلِ: "السَّعيدُ مَن وُعظَ بِغَيرِه"، وأجلُّ مِن ذلك قولُ رسول الله -صلَّى اللهُ-تعالى-عليهِ، وعلى آلِه، وصحبِه-أجمعينَ-: "لا يُلدَغُ مؤمنٌ مِن جُحرٍ واحدٍ مَرَّتَينِ". أعرف -بالاسمِ- بعضًا مِن أهل العلمِ؛ كان حولَه بعضٌ مِن هذا النوع، ونفرٌ مِن هذا الجِنس، وكانت بينهم الثِّقة -في أوْجِها، وأعلاها، وذروَتِها-؛ فإذا به يكشفُ أنَّ هذا مُبطِل، وأن هذا مندسٌّ، وأنَّ هذا يتجسَّس عليه، وعلى أهلِ بيتِه. .! ومع ذلك؛ نَجد هذا العالِم -أو ذاك-لحُسنِ ظنِّه، ولسلامةِ قلبِه، ولطيبِ نفسِه- تتكررُ معه المشكلةُ -ذاتُها-، و الفتنةُ -نفسُها-! ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

هذا -إخواني!- أهمُّ ما ينبغي أن نذكُره، ولكن نذكُر نصًّا أخيرًا في آخرِ دقيقةٍ -أو دقيقتين-، في (المجلد الثامنِ والعشرين)، في الصفحة (الرابعةِ والخمسين بعد المئتَين) -أيضًا- مِن كلام سماحةِ الشيخ عبدِ العزيز بنِ باز.

قال: "وإذا كان" أي: المردود عليه "مِن أهلِ العَقيدةِ السَّلفيَّة، ووقع في بعضِ الأغلاطِ؛ فيُترَك الغَلَط، ولا يخرُج -بهذا- مِن العقيدةِ السَّلفيَّة، إذا كان معروفًا باتِّباع السَّلف، ولكن تقعُ منه بعضُ الأغلاطِ في بعضِ شُروحِ الحديث، أو في بعضِ الكلماتِ التي تَصدُر منه، فلا يُقبل الخطأ، ولا يُتَّبع فيه".

هذا كلام العِلم، هذا كلام العَدل، هذا كلامُ الحقِّ، هذا كلامُ الإنصاف، هذا هو الكَلام الذي يجبُ أن نطبِّقَه على غيرِنا -كما نحبُّ أن نطبقَه على أنفسِنا-؛ مِصداقًا لقولِ رسولِنا الكريم -صلَّى اللهُ عليهِ، وعلى آلهِ، وصحبِه-أجمعين-في "الصحيحين"-: "لا يُؤمِنُ أحدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".

والكلام لا يزالُ فيه الكثير، ولم أقرأ كلمةً واحدة مما حضَّرته، وتعبتُ عليه -أربعَ ساعاتٍ وأكثر-، واكتفيتُ بهذا الكلامِ الذَّهبيِّ، لهذا الإمامِ العالِم الجليلِ -رحمهُ الله-، وفيه خيرٌ -بألفِ مرةٍ ومرةٍ- مما قرأتُ، ومما حضَّرتُ.

ولا حول ولا قوة إلا بالله ...




---------------


وهذا رابط تحميل المادة
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 08-14-2009, 12:49 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

(5)
الجَرح والتعديل

إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.

أمَّا بعدُ:

فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وشرَن الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ، وبعدُ:

فهذا هو لِقاؤُنا الأخيرُ -في هذه الدَّورة العلميَّة المبارَكة-، وهو بعنوان: "الجَرح والتَّعدِيلُ"، وهو آخرُ أربعِ محاضراتٍ، أوَّلها بعنوان: "ضَوابط الائتِلاف"، والثانية بعنوان: »ضوابط الاختِلاف«، والثالثةُ بعنوان: "الرَّد على المخالفِ"، واليوم -آخرُ هذه المحاضرات- وهي بعنوان: "الجَرحُ والتَّعدِيل".

وهذه المحاضرات انتظمها عنوانٌ كبيرٌ؛ اسمُه: "أصولٌ في الَمنهَج"، وهذا العنوان يُبيِّن أن محاضرةَ "الجَرحِ والتَّعدِيل" ليست هي -نفسَها- تِلكُم المحاضَرات -التي يَعرفُها طلبةُ العِلم- في عِلم "الجَرحِ والتَّعدِيل" المعروفِ في كتبِ أهلِ الحديث، والتي له -أظن-في هذه الدَّورة- مكانٌ خاصٌّ، ومَوضِعٌ خاصٌّ، ومحاضَرات خاصَّة، وهي محاضراتُ فضيلةِ أخِينا الأستاذِ الدُّكتور باسِم فَيصل الجَوابرَة -حفظه الله-تعالى-ونفع به-.

أقولُ هذا؛ لأبيِّن مسألةً مُهمَّة؛ وهي: أن (الجَرح والتَّعدِيل) -الجاري استعمالُه حاضرًا- ليس هو (الجَرح والتَّعدِيل) الذي كان عندَ أهلِ العِلم بهذا الاسمِ -قديمًا-، وإن كانت الأصولُ جُلَّ الأُصول، والأسُسُ جُلَّ الأُسُس؛ لكنَّ علمَ (الجَرح والتَّعدِيل) عندما أُنشِئَ، وبُدِئَ به، وبُدئ في التَّصنيف فيه؛ كانت الغايةُ الأُولى مِنه: صِيانةَ الحديثِ النَّبوي، وحمايةَ المَرويَّات -مِن الوضَّاعين، والكذَّابين، والضعفاءِ، والمدلِّسين . . وغير ذلك-.
والدليلُ على هذا التَّفريق: أنَّ أهلَ العِلم -مِن أهلِ الحديث- كانوا يَقبلون روايةَ الثِّقاتِ (مِن أهلِ البِدع)، فيَجعلون بدعةَ الواحدِ عليه، وروايتَه لأهلِ السُّنة -ما دام أنه لم يُعرَف بِكذبٍ، لم يُعرف بِوَهَن، لم يُعرف بِسوءِ حِفظ، لم يُعرف بشديدِ ضَعف، لم يُعرَف بِتدلِيسٍ، لم يُعرَف باختلاطٍ .. إلى آخر ما هنالك مِن أسبابِ الضعفِ المشهورةِ والمعروفة -عند أهلِ العلم-.

بينما (الجَرح والتَّعدِيل) (المعاصِر)؛ إذا عُرف عن شخصٍ أنه مُبتدِع؛ فهذا أمرٌ يَكفيهِ لإسقاطِه، -ونحن مع هذا القولِ-حتى لا يُفهَم عنا غير ما نَقول! وبخاصةٍ أننا في زمانٍ الظلمُ والتَّقوُّل والتَّمحُّل فيه كثير -وللأسفِ الشديد!-.

فابتداءً نَقول -ونُذكِّر بهذا التَّفريق-أولًا-، ونذكِّر بهذا الواقِع -ثانيًا-: أن مَن ثبت أنه مُبتدِع؛ لا يجوز أن نأخذَ عنه -في هذا البابِ- مُطلقًا، بِخلاف صَنيع أهلِ العلم -مِن علماءِ الجَرح والتَّعدِيل-قديمًا-، الذين قَبِلوا مِن المبتدِع روايتَه؛ لأن رِوايتَه أعظمُ للأمَّة، وبِدعَتَه عليه؛ والأمرُ كان فيه تدوينٌ للسُّنَّة، وكان فيه جمعٌ للسُّنَّة، وكان فيه رِواية للسُّنَّة، وحِفظٌ للسُّنَّة؛ فلحِظوا هذا الملحَظ الدقيق -الذي يَعرفه كلُّ داخلٍ في هذا العِلم-.

نعم؛ هنالك بعضُ الشـروطِ الدَّقيقة -وليس بَحثُنا مُتعلقًا بها-. مثلًا: الرَّاوي المُتبدِع إذا روَى ما يُقَوِّي بِدعتَه؟ عند أهلِ العِلم -في ذلك- وقفة، ونظَر، وتَدقيق، وتَمحيص. وكما قلتُ: هذا ليس بابَنا؛ إنَّما البابُ الذي نتكلَّم فيه: (بابُ الجَرحِ والتَّعدِيلِ) فِيمَن وقع في بِدعةٍ، أو وقع في أخطاءٍ، ثم ننظُر؛ هل هذه الأخطاءُ تُبدِّعُه. . تُخرِجُه؟

وأظن أنني تكلمتُ -في محاضرةِ أمسِ- عن نقطةٍ مهمةٍ في موضوعِ (الرَّد على المُخالِف) -مُشيرًا إلى أن الموضوعَينِ مُتداخِلان-، وقد كانت الكلمات -أقول- الذَّهبية التي قرأنا مِن كلام سماحةِ أستاذِنا العلامة الشيخ عبدِ العزيز بن باز -رحمهُ اللهُ-تعالى- أمسِ- كانت مفيدةً جدًّا، ويجب أن تكونَ -أقول- مِيثاقًا بين دُعاةِ الكتابِ والسُّنَّة؛ لأنها كلماتٌ مَبنيَّة على التَّأصِيل الشـرعيِّ -أولًا-، وكلماتٌ مَبنيَّة على العِلم والحِلم-ثانيًا-، وكلماتٌ صادرةٌ مِن عالم فَحلٍ حَبْرٍ، مُعايشٍ لكثيرٍ مِن أهلِ الأهواء، ومُعايشٍ لأكثرَ مِن أهلِ السُّنَّة، ومُذكِّرٍ للمُخطئ منهم، بل مُتفاعل مع هذه التَّخطئةِ؛ فكان كالأبِ الحَاني الحَنون لكثيرٍ -بل لكلِّ أبنائِه- مِن أهلِ السُّنة؛ يضمُّ المخطئَ وينصحُه،
ويَزجُر المُكابرَ ويطعنُه .. وهكذا.

فالكلامُ يجب أن يُفهمَ على هذا الأصلِ.

ولكنْ؛ هنالك أصولٌ عامة نَذكرُها؛ لنربطَها بين هَذَيْن العِلمَين: (علم الجَرح والتَّعدِيل) بصورتِه القديمة، و(علم الجَرح والتَّعدِيل) بالصُّورة المُعاصِرة. فهنالك قضايا وأُصولٌ تُذْكَر (في العصـرِ الحديث) مَبنيَّةٌ على أصولِ أهلِ العلم (في العَصـرِ الماضي). ونحن مع هذا الرَّبطِ؛ لأننا -ونحنُ نذكرُ هذه التأصيلاتِ-في هذا العصـرِ، ونكرِّرُها، ونقرِّرها؛ ومع ذلك -يعني إنْ جازَ التَّعبير- فنحن في انفِلاتٍ، وعدم انضباطٍ في تطبيق هذه القواعدِ وتَنزيلِها! ونَرى التَّجريحَ (دون التَّعدِيل) -في أكثرِ الأحوالِ-، ونَرى التَّبديعَ والتَّضليلَ -في معظمِ الأحايِين-، في أمورٍ؛ لو قارَنْتَها في واقعِ عُلمائِنا الكبارِ: (الشيخ ابن باز -خاصَّة-وقد ذكرْنا كلامَه-، والشيخ ابنِ عُثيمين، والشيخِ الألباني)؛ لا نَرى أن هذه تكون كافيةً -لو عُرضتْ عليهم- لِتبديعِ هذا، أو ذاك!

إذًا: أولُ شيءٍ نذكرُه ونقرِّرُه: أنَّ علمَ "الجَرح والتَّعدِيل" عِلم مستمِرٌّ ومُستقِرٌّ؛ ليس عِلمًا مُذبذَبًا -وإن اختلف أهلُ العِلم في تطبيقِه-، وهذا ما سنشير إليه.

الأمرُ الثَّاني: أنَّ مِن قواعد الجَرح والتَّعدِيل قواعدَ مهمة جدًّا؛ يجبُ فهمُها ووعيُها والتركيزُ عليها -فيما نحنُ فيه-:

أولًا: عِلم الجَرح والتَّعدِيل؛ هل هو فَرضُ عينٍ، أم فرضُ كفاية؟ هو -باتِّفاق العلماء- فَرض كِفاية، وليس فَرض عَين. وعَليه: فإلزامُ كلِّ داعٍ إلى الكتابِ والسُّنَّة أنْ يكونَ له مَوقف، وأن تَكونَ له كلمةٌ في كلِّ مُحدِث، في كلِّ مُبتدِع، في كل مُخطِئ؛ هذا لا يُعرف في تاريخِ الإسلام!

ولعلَّنا قد ذكرْنا مثالًا على ذلك -في المجلسِ الأوَّل-: الإمامُ ابنُ أبي الدُّنيا، وهو مِن أئمةِ الحديثِ، وأئمةِ الرِّواية، له عَشـراتُ الكُتب؛ ولا يُعرف له كتابٌ واحدٌ في الجرحِ والتَّعديل! وهو مِن ثقاتِ أئمةِ المسلمين، ورُواتِهم، وحُفَّاظِهم! وقِس على ذلك أمثلةً كثيرة. . وسيأتينا تكرارٌ وتوكيدٌ لهذا المعنى -فيما بعدُ-.

الأمرُ الثَّاني: هل تطبيقاتُ علمِ الحديثِ تطبيقاتٌ مَبنية على الإجماعِ، أم أنَّ الخلافَ فيها كالخلافِ في غيرِها -مِن كلامِ أهلِ العِلم-؟ هي ليستْ على الإجماعِ؛ بدَليل ما نَراهُ في كُتب التَّراجم؛ إذا فتحتَ كتابَ: "تهذيبِ التَّهذيب"، "تهذيبِ الكَمال"، "مِيزانِ الاعتِدال"، "لِسان المِيزَان". .؛ فإنك واجدٌ -ولا بدَّ- أنَّ المختلَفَ فيهم قد يكونونَ أكثر مِن المتَّفَق عليهم! ومَع ذلك؛ لم نعلَمْ -وهذه هي الثَّمرة- أنَّ أحدًا -مِن أهل العلم- ممن بدَّع واحدًا- أنَّ أخاه الذي وثَّقه أنكرَ عليه، أو أن هذا أنْكَر على الموثِّق. نعم؛ قد يكونُ هُنالك تَواصُل، قد يكونُ هنالك مُناصَحَة، لكن؛ أن يكونَ هذا الأمرُ، أن يكونَ هذا الخلافُ سَببًا في المُفارَقة والتَّفرِيق-فضلًا عن المنازَعةِ، والمدابَرة، والمُشاحَنة. . فضلًا عن التَّبديع لهذا مِن ذاك، أو مِن ذاكَ لهذا في هذا الراوي المختَلَف فيه، أو ذاك-؛ فهذا -أيضًا- لا يُعرف في تاريخِ الإسلامِ.

الأمرُ الثاني: عندما نقول: (لا يُقبَل الجَرحُ على الإبهام)؛ هذه تحتاجُ إلى تَفصيلٍ: إذا وُجد عندنا راوٍ مُعدَّل -أو شَخصٌ مُعدَّل-؛ فلا يُقبَل الجرحُ على الإبْهام؛ يعني: الجَرحُ مُبهَم؛ أن لا يُقبَل. لكن؛ إذا عندنا رَاوٍ ليس فيه إلا هذا الجَرح الُمبْهم، وليس فيه تَعديل؛ فأرجحُ الأقوالِ أنَّ هذا الجرحَ مَقبُول؛ لأنَّه ليس يُقابلُه تعديلٌ يُضادُّه -حتى نجعلَ هنالك ممايزَة، أو مُقارنة، أو مُراجَحة بين الأقوال-.

عندما نقول: (لا يُقبَلُ الجَرحُ إلا مُفسَّـرًا)؛ نقول هذه قاعدةٌ صحيحة، لكن؛ هل كلُّ جَرحٍ مُفسَّر يجب قبولُه مِن كلِّ سامعٍ له؟ إذا ادَّعينا هذه الدَّعوى؛ فإننا سنظلمُ تاريخَ أهلِ الحديث، ونجعل اختلافَهم في الجَرح والتَّعدِيل على أمورٍ واضحة؛ هم أجلُّ مِن ذلك!
بمعنى: إذا قلنا بأنَّ كلِّ جَرحٍ مُفسَّـر مقبول؛ إذًا اختلاف أهلِ الحديثِ على أمورٍ يَسيرةٍ جدًّا، وهَيِّنة جدًّا، وإمامتُهم ومكانتُهم أعظم مِن ذلك. هل لم يختلفوا إلا على الجَرحِ المُبهَم؟ هل لم يختلفوا إلا في الرُّواة الذين ليسَ فيهم تَعديل؟ هذا غيرُ صحيح! وعندنا من نصوص أهلِ العلم في عدم قبولِ الجرحِ -حتى لو مُفسَّـرًا- ليس ردًّا للحُجَّة، ولا نقضًا للجارِح، ولا رفضًا لحُكمِه، ولكن؛ لِعدمِِ قَناعةِ الطَّرف الآخَر بأن هذا الجَرح مُفسَّـر.

إذًا: (الجَرح المفسَّـر) قد يكونُ عند صاحبِه مُفسَّـرًا، ولا يكونُ عند الآخَرين مُفسَّـرًا، قد يكونُ عند بعضِهم مُفسَّـرًا، ولا يكونُ عند البعضِ الآخرِ مُفسَّـرًا. فمَن لم يقبل الجرحَ المفسَّـر-في بعض الرواة، أو في بعض الأشخاص-؛ لا يُقال هذا ردَّ الجرحَ المفسَّـر؛ وإنَّما يقال: هذا ليس عنده هذا الجرح مُفسَّـرًا، ولم يَقبلْ هذا الجرحَ؛ لأنه يرى أنه غيرُ كافٍ في تجريحِ هذا الراوي -حتى لو كان مُفسَّـرًا-.
ممكن -الآن- عندما نقول: (الجَرح والتَّعدِيل)، وعندما نعتبر أنَّ الثقةَ هو العَدلُ الضَّابط؛ الآن عندما نقول: (العَدْل)؛ أليست (العَدالة) -أيها الإخوةُ في الله!- أمرًا يختلف باختلافِ الزَّمان والمكانِ والأعيانِ؟ هل (خَوارِمُ المروءة) التي كانت في زمن أئمةِ الجَرح والتَّعدِيل هي نفسُها (خَوارم المروءةِ) المعاصرة -التي في أزمانِنا هذه-؟ أنا أقولُ: لا؛ كثيرٌ منها لم يَعُد كذلك؛ لتغيُّر الأعراف، وتغيُّر الأديان في الناسِ -أعني: التدَيُّن فيهم-، ولتغيُّر (الثِّقة) وحُدودِها وضوابِطها. فإذا طبَّقنا أصولَ الجَرح والتَّعدِيل (الماضِية) -كما هِي- على العصورِ (الحاضرةِ) -كما هي-؛ فسَنخرُجُ بشـيءٍ آخَر؛ لا صلةَ له بالماضي، ولا صلةَ له بالحاضـر! وللأسف الشديد!

إذًا: يجبُ فهمُ وتفهُّم هذه الأصولِ على وجهِها.

الآن: نذكرُ أصولًا عامةً، في الحقيقة؛ هذه الأصول -يعني- كتبتُها على فَتراتٍ، وهي -جميعًا- تلتقي (علمَ الجَرح والتَّعدِيل) -كما ذكرتُ- في واقعِه الحالي، وكيف يجبُ أن نُنَزِّلَه. وبعضُ هذه الوجوهِ -وهي قريبٌ مِن ثلاثين وجهًا- بعضُ هذه الوُجوه قد يكونُ له صلةٌ ببعضِه، وقد يكونُ ما قبلهَ يَنبغي أن يُقدَّم عليه؛ لكن هي -إن شاءَ اللهُ- تحتاجُ إلى ترتيبٍ، وتهذيبٍ، وتَنسيقٍ، وتَصنيفٍ، وتَدليل؛ قد نتفرَّغ لها فيما نَستقبلُ مِن الزَّمان -إذا أعاننا ربُّنا الملِكُ العلَّام-.

أولُ ذلك: تغيُّر الزَّمانِ، وأثرُه في العِلم والعمَل.

طالما أن (الجَرح والتَّعدِيل) عِلم واقعيٌّ؛ كما قال بعضُ أئمتِه: "لولا حملةُ الدَّفاتِر، وأصحابُ المَحابِر؛ لخطبتِ الزَّنادقةُ على المنابِر"؛ يعني: أنَّ علماء (الجَرح والتَّعدِيل) هم حُماة الإسلام.

وللشيخ رَبيع بنِ هَادي -حفظَه اللهُ- رسالةٌ -بهذا المعنى- في بيان منزلةِ علماء (الجَرح والتَّعدِيل) ومكانتِهم -عبرَ العُصورِ-كلِّها-.

ولكنْ؛ عندما نذكُر تَغيُّرَ الزَّمان؛ نذكرُ فيه أمرًا مُهِمًّا جدًّا؛ وهو: قولُ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- : "إنَّكُمْ في زَمانٍ؛ كَثيرٍ عُلماؤُهُ، قَلِيلٍ خُطَبَاؤُهُ، مَنْ تَرَكَ فِيهِ مِعْشارَ مَا أُمِرَ بِهِ؛ فَقَدْ هَلَكَ" هذا في الأزمنةِ الأُولى.

ولا شكَّ ولا ريبَ؛ كما ذكر الإمامُ الذَّهبيُّ في"تَذكرة الحُفَّاظ" -أظنُّ في ترجمةِ أبي بكرٍ الصدِّيق-في أولِ الكتاب- ذَكر ما يُشير إلى: أنَّ عِلمَ (الجَرح والتَّعدِيل) ابتدأتْ خُيوطُه الأولى تتشابَكُ في عَصـرِ الصَّحابة -رضي الله-تعالى-عنهم-. إذًا: نَربطُ هذا بِذاك، ونَضبطُ هذا في ضوءِ ذَاك.

يقولُ النبيُّ -عليه الصلاة والسلام-مُتمِّمًا-: "وَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ"؛ "عليكم" -هنا-؛ أي: المسلمين، "وَسَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زمانٌ؛ كَثِيرٌ خُطَباؤُهُ، قَلِيلٌ علماؤُه، مَنْ عَمِلَ فِيهِ بِمِعْشارِ مَا أُمِرَ بِهِ؛ فَقَدْ نَجَا". الصُّورة الأولى: " كَثيرٍ عُلماؤُهُ، قَلِيلٍ خُطَبَاؤُهُ". الصُّورة الثانيَة: " كَثِيرٌ خُطَباؤُهُ، قَلِيلٌ علماؤُه". الصُّورة الأولى: "مَنْ تَرَكَ فِيهِ مِعْشارَ مَا أُمِرَ بِهِ؛ فَقَدْ هَلَكَ" . الصُّورة الثَّانِية: "مَنْ عَمِلَ فِيهِ بِمِعْشارِ مَا أُمِرَ بِهِ؛ فَقَدْ نَجَا".

هذا التغيُّر، وهذا الواقِع؛ هل هو تغيُّر في الجُدرانِ والأرضِ والهواءِ؟ أم هو تغيُّر متعلِّق بالأعلامِ، وبالأعيانِ، وبالنَّاس الذين يَعيشون هذا الزَّمان؟ وبالتَّالي: هل الأحكامُ -في صورتِها الأولى- كالأحكامِ -في صورتِها الثانيَة-؟ والواقع قد تغيَّر بنصِّ حديثِ رسولِ اللهِ في أسبابِ الهلاك، وأسبابِ النجاة؟

فهذا يجبُ أن يُراعيَه العالمُ -أو المتكلِّم- في باب الجَرح والتَّعدِيل.

ثم -أيضًا-: أثر ابنِ مسعود -رضي الله-تعالى-عنه-، عندما قال: "كَيفَ أنتُم إذا لَبِسَتْكُم فِتنةٌ؛ يَربُو فيها الصَّغيرُ، ويَهرَمُ فيها الكبيرُ، ويتخِذُها الناسُ سُنَّةً، حتى إذا تُركتْ؛ قِيل: (تُركَتْ السُّنَّة)"، قال: ومتى ذاكَ -يا ابنَ مسعودٍ!-؟ متى ذاك -يا أبا عبدِ الرَّحمـن!-؟ قال: "إذا كَثُرَتْ أُمراؤُكُم، وقلَّتْ فُقهاؤُكُم، وتُفُقِّهَ لِغيرِ الدِّينِ، وعُمل بِعملِ الدُّنيا عَمَلٌ للآخِرة" -أو كما قال -رضي الله-تعالى-عنه-. وحَكمَ شيخُنا على هذا الأثرِ الموقوفِ بأنَّه (حُكمه حُكم المَرفوع).

أنا أعتقد أنَّ هذا التأصيلَ مُهمٌّ جِدًّا -في هذا البابِ-.

الأمرُ الثَّاني: تنزيلُ آثارِ السَّلف على أزمانِنا هذه -بإطلاقٍ-؛ فيه شيءٌ مِن الخَلل! الزَّمان الأوَّل؛ كان السَّلفُ فيه مَنصورين، وكانت كلمتُهم هي النَّافذة، وكانت راياتُهم هي المرفُوعة، فأنْ نُنزِّل هذه الأحكامَ على هذه الوقائِع -بعدَ ألف ومِئتَين، أو ألف وثلاثمئة سنة-؛ هذا فيه خَلل!

بل أنا أذكُر أهمَّ مِن آثارِ السلفِ؛ ثم قِيسوا عليها: حديثُ النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في ذِكر اليَهود والنَّصارى: "إذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فِي طَريقٍ؛ فاضْطَرُّوهُمْ إلى أَضْيَقِهِ". مَن يستطيع مِنَّا-في أيِّ بلدٍ إسلامي، أو عَربي، أو غيرِ إسْلامي ولا عَربي- تطبيق هذا الحديثِ؟! مع أنه أصلٌ شَرعيٌّ، وحُكمٌ شَرعي، و متعلِّق في باب الهَجرِ والزَّجرِ والتَّشديدِ على المُخالِف؛ أليس كذلك؟ هذا أصلٌ؛ ومع ذلك لا نستطيعُ أن نتخذَ ذلك أصلًا وأساسًا؛ بسببِ تغيُّرِ الظروف، وتغيُّر الأزمان، وتغيُّر المكان، وتغيُّر الأعيان.

وكذلك الجَرح والتَّعدِيل: إذا نظرتُم في كثيرٍ مِن الأمورِ؛ لن تَستطيعوا أن تُطبِّقوها كما طبَّقها السلفُ الأوَّلُ -رضي الله عنهم-.

الأمرُ الثَّالثُ: النَّصيحةُ مَسؤوليَّةُ المُجتَمَع.

وهذا عنوانٌ لدَرسٍ وكتابٍ للشيخِ ربيعِ بنِ هادي -حفظهُ الله-. (النَّصيحةُ مَسؤُوليَّةُ المُجتمع)؛ قبل أن نجرِّحَ؛ ينبغي أن نفتحَ بابَ النَّصيحةِ، بابَ التَّواصي بالحقِّ، والتَّواصي بالصَّبر.

وما أجملَ كلمة شيخِ الإسلام ابن تيميةَ -رحمهُ اللهُ- عندما قال: "أهلُ السُّنة: أعرفُ الناسِ بالحقِّ، وأرحمُهم بالخَلقِ". انتبِهوا! قال: "بالخَلْقِ"؛ لم يَقُلْ بـ(الإنسانِ)، لم يَقلْ بِـ(أهلِ الإسلام)، لم يَقُل بـ(أهلِ السُّنَّة)، لم يَقُل بِـ(دعاةِ منهجِ السَّلف)، قال: "أرحمُهم بالخَلقِ"؛ حتى الحيوانات! "إذا ذَبَحْتُمْ؛ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وإذا قتلتُم؛ فَأَحْسِنُوا القِتْلةَ".

الآن: يُذبَح بالتجريحِ، والتَّضليلِ إخوانٌ لنا، وعُلماء -مِن علمائِنا- بهذا السَّيف بِغيرِ إحسانِ الذِّبحةِ! مَع أن إحسانَ الذِّبحةِ مَطلوبٌ لأنواع الخَلق؛ ومنها: الحَيوانات! وللأسَفِ الشَّديد!

أمرٌ آخَر: الحثُّ على الَمودَّةِ والائتِلافِ؛ أصلٌ مِن أُصولِ أهلِ السُّنَّة -في هذا الباب-.
وهذا عنوانُ محاضرةٍ -أيضًا- لِفضيلةِ الشيخِ ربيع -حفظه الله-تعالى-، وكانت أُولى مُحاضراتِنا -في هذه الدَّورةِ العلمية المبارَكة- (ضَوابط الائتِلاف)، وذكرْنا مِن كلامِ شيخِ الإسلام ابنِ تيميَّة ما يَشفِي، ويَكفِي، ويُوَفِّي -فرحمهُ اللهُ-تَعالى-.

فيجبُ أن ننظرَ -قبل أن نُباشرَ الجَرح والتَّعدِيل، أو الجَرح والتَّجريح، أو التَّبديعَ والتَّضليل-؛ يجبُ أن ننظرَ إلى أصلِ الائتِلاف، وإلى قاعدتِه، وأن ننظرَ إلى المصلحةِ والمفسدةِ المترتِّبةِ على هذا. أمَّا أنْ نُسقطَ علماءَ السُّنَّة -في بلدٍ مُعيَّن-؛ بحيث تبقَى السَّاحةُ -في هذا البَلدِ- لأهلِ البِدعِ، وأهلِ الضَّلال، وأهلِ الأحزابِ؛ بِحُجَّةِ أنَّ هذا السُّنَّيَّ أخطأَ في توثيقِ فُلانٍ؛ فَلَم يُجَرِّحْهُ! أو أخطأ في هذه الكلمةِ -التي لم نَفهَمها عنه-، أو زلَّ بها لسانُه، أو لم نَنصَحْهُ بها في أمرٍ؛ حَتى يُقال:

خَلا لكِ الجَوُّ فَبيضِـي واصْفُري .. ونَقِّري ما شِئتِ أنْ تُنَقِّري

وعندما سُئل الشيخُ عبدُ المحسنِ العبَّاد -حفظه الله- عن بعضُ أهلِ العِلم ممن تكلَّم فيهم بعضُ أهلِ العِلم -في بلدٍ إسلاميٍّ-؛ فماذا قال؟ قال: "إذا بدَّعنا هؤلاء؛ مَن يَبقى -في هذا البلدِ- مِن أهل السُّنَّة، ومِن دُعاة منهجِ السَّلف؟".

هذه نظرةُ العالِم البصيرِ، هذه نظرةُ التَّرجيحِ بين المصالحِ والمفاسِد؛ هذا على فَرضِ أنَّ هذا التجريحَ مُنطبِقٌ -بالتَّحقيق- على هذا المتكلَّم فيه؛ فكيف إذا كان -أصلًا- هذا ليس جرحًا؟! فكيف إذا كان هذا -أصلًا- ليس مِن أسبابِ الإسقاطِ والاستئصالِ المتكاثرةِ -في هذه الأزمان-؟!

وكم سمِعنا شيخَنا -في هذا الباب- يَذكُر لَنا، ويُذكِّرنا بِقَولِ ربِّنا: {سَنَشدُّ عَضدَكَ بِأخيكَ}، {اشدُد ِبه أزْرِي - وأشْرِكْهُ في أَمْري}؛ هذا المعْنَى -في التَّراص، وفي الأُخُوَّة، وفي المحبةِ، وفي الاجتِماع، وفي الائتِلافِ- مفقودٌ -عند كثيرٍ من الناسِ-! كأنَّه لا يحبُّ إلا أن يكونَ منفرِدًا، لا يحبُّ أن يَبقى أحدٌ معه -يَنصـرُه، ويُناصرُه، ويكونُ ذابًّا عن السُّنَّة معه-! فإذا أخطأ مُخطئٌ؛ فإذا به يَطعنُه، ويُجرِّحُه، ويُسقِطُه، ويَستأصِلُه! وقد يكونُ (بعضُهم) صابرًا على هذا الأمرِ؛ لكنَّه يوعِزُ لِغيرِه: تكلَّم في فلانٍ، واطعَنْ في فلان، وتعقَّبْ فلانًا، ورُدَّ على فلان (!!) وهذا كذاك؛ بل هذا أسوأ! {سَنَشدُّ عَضدَكَ بِأخيكَ}؛ مِنة الله؛ فما بالُنا نرفضُ مِنَّة الله؟ نحن نتكلَّم فيمَن أخطأ في إطارِ أهلِ السُّنة؛ أما أهلُ البدعة الذين ثَبتَتْ بِدعتُهم؛ فهؤلاء انتَهيْنا منهم -مِن اللحظة الأولى من المحاضَرة-؛ فنحن لا يجوزُ أنْ نخلطَ بين الأمرَيْن، أو أن يُحمَلَ كلامُنا على أسوأِ الحالَيْن والوَجْهَين.

الأمرُ الخامِسُ: أعظمُ ما دَعت إليه الدعوةُ السَّلفيةُ: (العقيدةُ والمنهج)؛ فهُما الأساس، مَن أخطأ دونَ عقيدتِه، أو منهجِه، أو في أمر يُحتَمل -حتى في بابِ العَقيدة-؛ فيجب أن يُناصحَ فيها، وأن لا نُسقطَه.

في "سِيَرِ أعلامِ النُّبلاء" عن الإمامِ الذهبي -في ترجمة الإمامِ التَّيْميِّ الملقَّب بـ(قِوام السُّنَّة)، وبعضُهم يقول: (قَوَّامُ السُّنة)، وأنا أرى أنَّ هذا خطأ؛ وإنما هو (قِوام السُّنَّة)-. قال أبو مُوسى المَدِينِي: "سمعتُ قِوامَ السُّنَّة يقول: أخطأَ ابنُ خُزيمةَ في حديثِ الصُّورة". أي: "خلقَ اللهُ آدمَ عَلى صُورَتِهِ" وفي لفظٍ: "على صُورَة الرَّحمنِ". فاختلف أهلُ العلم، وقد أثبتوا -جميعًا- الصورةَ لله -تباركَ وتعالى-، لكنْ؛ بعضُهم حَملَ هذا الحديثَ على مَحمَلٍ آخر، وبعضُهم صَحَّح الروايةَ الثانيَة، وبعضُهم ضعَّفها، وهذا موجود. قال: "سمعتُه يقول: (أخطأَ ابنُ خُزيمةَ في حديثِ الصُّورة)، ولا يُطعن عليهِ في ذلك؛ بل لا يُؤخَذ عنه هذا -فحَسْب-".

قال أبو موسى المَدِينِي [وأبو موسى المَدِيني إمامٌ عظيم مِن أئمةِ السُّنَّة، أيضًا؛ إمام عظيمٌ، له كتبٌ مَشهورة، وله رِواياتٌ كثيرة] قال: " أشار بهذا إلى أنه قَلَّ إمامٌ إلا ولَه زَلَّة، فإذا تُركَ لأجلِ زلتِه؛ تُرك كثيرٌ مِن الأئمة! وهذا لا يَنبغي أن يُفعلَ".

إذًا: الأصلُ في الدعوةِ أن يُعرفَ الإنسان بِسلفيَّته، وتَسَنُّنِه بما يُعرف مِن منهجِه، وعقيدتِه. إذا كان هذا الأصلُ ثابتًا؛ فإنَّ ما دونَه مما لا يَنقضُه -ولكن قد يُخالفُه -في واحدةٍ أو اثنتين-؛ بحيث لا تكونُ هذه المخالفةُ تُشكِّل أصلًا يَنتقضُ به منهجُه، أو تنتقضُ به عقيدتُه-؛ فالاعتِبار لا على الخطأ، مع التحذيرِ مِن الخطأ.

لا يجوز أن يُفهَمَ شيءٌ مِن قولِ أبي موسى المَديني، أو ما أذكُره -من شرحِ كلامِه- على أننا نَغُضُّ الطرفَ عن الخطأ! نُنبِّهُ على الخطأ، ونُحذِّر مِن الخطأ، ولكن؛ لا نحذِّر مِن المُخطِئ؛ ننصحُه، نَصبر عليه، نَتواصى بالحقِّ والصبرِ -معه-، نُرشِد إليه -كما في كلام الشيخِ ابنِ باز-أمس- الذي ذكرناه-، وهو كلام واضح.

نُقطةٌ أُخرى: أن الدعوةَ السَّلفية -بعقيدتها ومنهجها- أعظمُ مِن أن نختزلَها -فقط- في (عِلم الجَرح والتَّعدِيل)! عِلمُ (الجَرحِ والتعديلِ) له مكانتُه، وله مَنزلتُه، لكنْ؛ ليس هو العلامةَ الأكبر للدَّعوةِ السَّلفية؛ بل عِلم (الجَرح والتَّعدِيل) أُقيم، وأُنشئَ -في هذا العَصـر-؛ لحماية العقيدةِ والمَنهج؛ فكيف نجعلُه هو الأَصل، وهي الفَرع، وما أنشِئَ الفرعُ إلا لِحماية الأصل؟!

إذًا: مقايسَةُ الناس يجبُ أن تكونَ على العقيدةِ والمنهج. وعِلمُ (الجَرحِ والتعديلِ) لَه مكانتُه؛ لكنَّه دون مكانةِ العقيدةِ والمنهجِ؛ فهُما أصلُ اعتبارِ السُّنِّيِّ سُنِّيًّا، وأصلُ اعتبارِ البِدعيِّ بِدعيًّا.

أمرٌ آخَر: الجَرح والتَّعدِيل -في كلِّ زمانٍ ومكانٍ- له عُلماؤُه -وهُم قِلة-، ولا يجوزُ الدخولُ فيه لمَن ليس أهلًا له.

الآن: نسمعُ التجريحَ والتَّعديلَ والنقدَ والرَّدَّ مِن أناسٍ كما ذكرنا -في مجلسِ أمسِ-:
أَلقابُ مَملَكَةٍ في غيرِ مَوضِعِها .. كالهِرِّ يَحكِي انتِفاخًا صَولةَ الأَسَدِ

فإذا بهم يتجاوَزُون أهلَ العِلم، ويتجاوَزُون أهلَ [...]، ويتجاوَزُون أهلَ الاختصاص، ويتجاوَزُون أهلَ الفَنِّ، إذا بهم يتكلَّمون ويتجاوزونهم -جميعًا-! وهذا مِن الباطل.
الإمامُ الذهبيُّ ألَّف رسالةً صغيرةً فيها أسماءُ مَن يُعتمَد قولُه في (الجرحِ والتَّعديل). والإمام السَّخاوي له فصلٌ صغيرٌ -في هذا المعنى- في كتاب: "الإعلام بالتَّوبيخ لمن ذمَّ أهلَ التورِيخ": (أسماء المتكلِّمين في الرِّجال)، وإذا نظرنا في الحالَين؛ لا نَراهم بضعَ عشـراتٍ مِن أئمة الحديث -الذِين لا أقولُ: هُم أُلوف؛ بل أقول: هُم-قد يكون-عَشـرات الألوف-عبر التَّاريخ الإسلامِي الحَفيل-.

بينما -اليومَ- صار كلُّ متكلِّم يريدُ أن يكونَ متكلِّمًا في (الجَرح والتَّعدِيل)! وكلُّ ناقدٍ يُريد أن يكون من المتكلِّمين في (الجَرحِ والتَّعديل)، وهُم عبرَ الأزمانِ -جميعًا- قِلَّة، وإذا اختلفت هذه القِلَّة؛ يَعذُر بعضها بعضًا بالتَّناصُح، والتواصِي، والتخطئةِ -في بعضِ الأمرِ-؛ لكنْ بالاحترامِ، والتَّقدير، والتَّبجيل -في أصلِ الأمرِ-، والخلطُ بين هذه الحقائقِ خَلطٌ قبيح -وقَبيحٌ جدًّا-.

نُقطةٌ أُخرَى: المقلِّد في (الجَرح والتَّعدِيل) حَسبُه أن يكونَ مقلِّدًا -فقط-.

وقد ذَكرنا -أمسِ الأول، أو في المحاضرةِ قبل الماضية- كلامًا لشيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ -في هذا-: أنَّ المقلِّدَ حَسبُه أن يكونَ مُقلِّدًا، لكن؛ أن يكونَ مقلِّدًا، ومجتهدًا، ومُنتصِـرًا، ومُجادِلًا، ومُكافِحًا، ومُبدِّعًا، ومُضلِّلًا، ومُوالِيًا، ومُعاديًا على هذا الذي قلَّده؛ فهذا انحرافٌ عظيم! وهذا بُعدٌ عن الصـراطِ المُستقيم! وهذا يُقال فيه ما قال الشاعرُ -قديمًا-:

واجتماعُ ضِدَّينِ معًا في حالِ .. مِن أقبحِ ما يَأتي مِن المُحالِ

أن تكونَ مُقلِّدًا، وإذا بِك -في ليلةٍ لا قَمرَ فيها-خُسوفًا، أو غير خُسوف-؛ إذا بِك أصبحتَ مجتهدًا! أصبحت مكافحًا! مُنافحًا! مُنتصـرًا! مُواليًا! مُعاديًا! مُفرِّقًا! مُشتِّتًا!. . لا يَهُمُّ!! إلا أن تنتصـرَ لهذه القَولةِ، أو تلكَ القولة! وهذا ضلالٌ أي ضَلال!
نقطةٌ أُخرى: أن الاختلافَ في (الجَرح والتَّعدِيل) -ضمن إطار الدعوةِ السَّلفيةِ وعلمائِها، ودُعاتِها-؛ مقبولٌ -بحسبِ الاجتهادِ، وبَذلِ الوُسع في معرفةِ الحقِّ-.
وهذا أصَّلناه -ابتداءً-. إذا نظرتَ في كُتبِ (الجَرح والتَّعدِيل)، أو في كتاب "الجَرح والتَّعدِيل" لابنِ أبي حاتمٍ -فضلًا عن الكُتبِ الجامعة؛ كـ "التَّهذيبِ"، و"الميزان"، و"اللسانِ"-؛ ترى قولًا للبُخاريِّ يُخالف قولًا لابنِ مَعين، وقولًا لابنِ مَعين يُخالف قولًا لأبي زُرعة، وقولًا لأبي زُرعةَ يُخالف قولًا لأبي حاتِم، قولًا لأبي حاتمٍ يُخالف قولًا لابنِه -ابنِ أبي حاتِم-، قولًا للحافظِ ابنِ حجرٍ يُخالف الإمامَ الذَّهبي، قولًا للإمامِ الذَّهبي يُخالف الإمامَ الدَّارقطني... في كثيرٍ من الأمور.

وأنا رأيتُ بعضَ إخوانِنا -طلبة العِلمِ السُّودانِيِّين- كتب كتابًا -في مجلد-: "الرُّواةُ الذين خالفَ فيهم الشيخُ الألبانيُّ الحافظَ ابنَ حجرٍ العَسقلاني"، وهذا الكتابُ فيه فائدتانِ كُبريان:

الفائدةُ الأولى: ردٌّ على تلك المقولةِ القبيحةِ: (أن الألبانيَّ مُقلِّدٌ لابنِ حجرٍ، ومُتابع له)! فهذا في عشراتِ الأمثلة في نقضِ هذه القاعدةِ.

الأمرُ الثَّاني: فيه بَيان أنَّ خلافَ عُلماء أهلِ السُّنَّة في بعضِ الرُّواة؛ توثيقًا، أو تضعيفًا؛ بل تَسنُّنًا، أو تَبديعًا -طالما أنَّ هذا الخِلاف في إطارِ أهلِ السُّنة، وفي إطارِ عُلماء أهلِ السُّنة، وفي إطارِ منهجِ الحديثِ وأهلِه-؛ فإنَّ هذا مقبولٌ، مع التَّناصُح، مع التخطِئة؛ لكن لا مع الإسْقاط، لا مع الاستِئْصال، لا مع التَّضليل، لا مع المخالفةِ والتخذيل؛ وإنما مع التَّواصي بالحقِّ والتَّواصي بالصَّبر، مع البيِّنة، مع البَصيرة، مع الهُدى، مع الأُلفة، مع المحبَّة، مع الائتِلاف -على وفقِ ما سمعْنا في مجلسِ أمسِ مِن كلامِ سماحةِ الشيخِ ابنِ بازٍ -رحمهُ اللهُ-تعالى-.

أمرٌ آخَر: لا نجعلُ اختلافَنا في غيرِنا سببًا للخِلافِ بَيننا، فإذا وقعَ؛ فنحنُ الخاسِرون، وهُم المُستَفيدُون!

رأيتُ -قبلَ أيامٍ قليلةٍ- ردًّا على هذه الكلمةِ -في بعضِ مواقعِ الإنترنت- مِن بعضِ الشيوخِ الأفاضلِ -الذين نحترمُهم، ونقدِّرُهم-. ولكن -للأسَف- لم أرَ -فيها- كثيرًا من الصَّواب، وقد فرِح -في هذه الكلمةِ- بعضُ الزَّعانف! فطيَّروها، واستثمَروها، وثوَّرُوها -بغيرِ بصيرةٍ!-، المهمُّ أنها ترُدُّ على فلانٍ، وعلى منهجِ فلانٍ، وشَيخِه، وإخوانِه، وتلامِذتِه! وهذا بابٌ من أبوابِ القُلوب؛ لا ندخلُه، ولن ندخلَه -إن شاء اللهُ-.

أما هذه الكلمة: الآن؛ (إذا اختلَفْنا في غيرِنا)، إذا قُلنا: (اختلَفْنا)؛ مَن؟ أهلُ السُّنة، ودُعاةُ منهجِ السَّلف. (في غيرِنا)؛ مَن؟ إمَّا أن يكونَ مبتدِعًا، أو يكون مُتَسَنِّنًا وقع في بِدعة. وكلُّ هذا واقعٌ في عُلماء الجَرح والتَّعدِيل القُدماء، وفي عُلمائِه المُعاصِرين. ألَم يقع شيءٌ مِن الخلافِ في النَّسائي؛ هل هو شِيعي أم سُنِّي؟ ألَم يقع شيءٌ مِن الخلاف في الجوزجاني؛ أهو ناصِبي أم سُنِّي؟ وقِس على هذا كثيرًا مِن الرُّواة، ومع ذلك؛ لم يَطعنْ هذا في ذاك، ولم يَطعن ذاك في هذا.

ثم؛ هذا الاختلافُ في وجهاتِ الأنظارِ فينا -نحن أهلَ السُّنَّة-: هل نظنُّ أن أحدًا من أهلِ السُّنَّة -مِن المتكلِّمين في الرُّواة- يتكلَّم تَشهِّيًا، ومُناكدةً للحق، ومُناقضةً للصَّواب؟ أم يتكلَّم وهو يعتقدُ أنَّه على صوابٍ، كما أن مخالِفَه -مثلُه- يَعتقد أنه على صَواب؟ فإذا جعلنا هذا سَببًا للتَّبديع، ونقول: (لا؛ هذا خالَف الحقَّ؛ فيجبُ أن نبدِّعَه)! هل تأذنُ لِنفسِك أن تقولَ: (هذا مخالفٌ للحقِّ) فتبدِّعَه، دون أن تأذَن لمَن هو أمامَك -ممن هو مِثلُك؛ مِن أهلِ السُّنَّة- أن لا يُبدِّعك، وأن يستعملَ سِلاحَك معه ليكونَ سلاحُه معك‍‍‍! في الحقيقةِ؛ هذا هو الأصل؛ »لا يُؤمِنُ أحدُكُم حَتَّى يُحبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ (مِنَ الخَيْرِ)« -كما قال -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.

أمَّا أن أقولَ: نحن اختلَفْنا في راوٍ، وهذا الاختلافُ بين أهلِ السُّنَّة؛ أنا -لأنهُ لم يقتنِعْ بقَولي- أبدِّعُه! بالمقابِل؛ هو أنتَ لم تقتنِع بِقَولِه، فلماذا لا يبدِّعك؟! فإذا بدَّعتَه وبدَّعك؛ مَن المُستفيد؟ الخَصم! إن كان خصمًا! قد يكونُ سُنِّيًّا مَظلومًا، قد يكونُ مُخطئًا؛ ناصِحُوه، ترفَّقُوا به، أشفِقُوا عليه، تكلَّموا معه بالتِي هي أحسنُ للَّتِي هي أقْوَم، خُذُوا بِيَدِه. أمَّا هكذا: استِئصالًا، وإسقاطًا، وتَضليلًا، وتجريحًا -دونَ تِلكُم النَّظرة الشَّامِلة الواعِيَة المُستَوعِبة-؛ فهذا ظُلم -وأيُّ ظُلم-.

إذًا: عندما نقولُ: (لا نجعلُ اختلافَنا في غيرِنا؛ سببًا للاختلافِ بينَنا)؛ هذا يأمرُنا بتفعيلِ المناصحة، وبِتفعيلِ التَّواصي بالحقِّ والتَّواصي بالصَّبر، وبتفعيلِ حقوقِ الأُخوة، أمَّا أن نختلفَ في (ثالثٍ)؛ ليكونَ هذا الاختلافُ فيه سَببًا لِزرعِ الخلافِ بَيننا -مع وُجودِ النَّصيحة، ووُجودِ حُسنِ الظن-؛ فهذا منهجٌ غريب!! ونفَسٌ بعيدٌ عن أنفاس أهلِ السُّنَّة! ولا نقولُ: (مَن كابَر؛ نَصبر معهُ)، مَن ثبت أنه مُكابرٌ -مِن الطرفَين-؛ هذا نُسقطُه؛ لا مِن أجلِ أنه أخطأ؛ مِن أجلِ أنه كابَر، لا مِن أجل أنه خالفَ قولَنا في (الثالث)؛ مِن أجل أنه كابَر الحقَّ -سواء في هذا، أو في ذاك-؛ فلا يجوزُ أن نخلطَ بين الأمرَين.

نُقطةٌ أُخرَى: ليس مِن مصلحةِ الدَّعوة والدُّعاة أن نَنقلَ خلافاتِ عُلماء الجَرحِ والتَّعدِيل إلى العَوام؛ فإنَّ هذا (قد) يُفسِدهم. أقول: (قد يفسدُهم).

قرأتُ في مقدمةِ الإمام مُسلمٍ -قبل أيامٍ-: أنَّ أحدًا مِن الرُّواةِ يسألُ شَيخَه عن أهلِ الوَعظِ، فقال له: "لا تَستمِع إلى القُصَّاصِ إلا لأَبي الأَحوَص". إذًا: يوجَد مِن القُصاص مَن هم في إطارِ أهلِ السُّنَّة، و(الَقصص في القُرآن ثُلُثُه) -كما يقول أهلُ العلم-.
فنحنُ -بالمقابِل- لا يجوزُ أن ترتبطَ في أذهانِنا كلمةٌ (أنَّ كلَّ قاصٍّ ضالٌّ مُضِل)؛ القُصَّاص يَنفعون العَوام، ويَنتفعون بهم، لكن؛ إذا وجدتَ ما يُخالف؛ سَدِّد، وأعنْ.
بينما -الآن- لو جِئنا نحذِّر العَوام مِن كلِّ قاصٍّ، نحذِّر العوامَّ مِن الخَطأ الذي وقَع فيه فُلان، وفُلان -عندهم- مقدَّم، وكبير. لم يعرفْكَ! عَرف فلانًا -قبلَك-، فإذا بك تُحذِّره مِن فُلان؛ لِيكونَ تَحذيرُك مِن فُلان سَببًا للإعراضِ عَنك!!

أيهما أقرب: أن تصبرَ عليه، وتتلطَّف به، وتُعرِّفه الأصول، وتُحبِّبه إلى السُّنة وأهلِها، ثم تحذِّره مِن فلان؟ أم تَبدأ بِالتَّحذيرِ مِن فُلان؛ ثم إذا به يُعرِض عنك؛ لأنه لا يَعرفُك، إنما يعرفُ فلانًا؟

إذًا: نَقلُ خلافاتِ علماء الجَرح والتَّعدِيل إلى العَوام (قد) يُفسدهم. أقول: (قد)، وأنا أعنِي ما أقول؛ بمعنى: أننا لو رأيْنا مِن العَوام مَن هو أهلٌ للتَّحذير -لِكبَرِ عَقلِه، وكِبَر تَجربَتِه-؛ فهذا لا بأس. لكن هكذا التوسُّع، وهذا الإطلاق؛ في الحقيقةِ هذا مَذمومٌ، وهذا ليسَ فيه مراعاةٌ لأصولِ ومَصالح الدَّعوة، والتي يجبُ أن نعتبرَها.

نحن لا نقولُ بمقولةِ سيد قطب وأمثالِه في موضوعِ مَصلحة الدَّعوة، ولا نقولُ بِمقولة بعضِ الحِزبيِّين -بل كثير مِن الحِزبيِّين- الذين يَجعلون مصلحةَ الدَّعوة هي الأساس؛ نحنُ بين هؤلاءِ وأولئك. ليس كلُّ مصلحة للدعوة مَصلحةً شرعيَّة، ولا يجوزُ -بالمقابل- أن نهدُرَ كلَّ مصلحةٍ للدَّعوة؛ وإنما ننظرُ للأمور على حَسب المصلحةِ الأرجح؛ كما قال مَن قالَ -مِن علمائنا-: "ليس الفَقيهُ الذي يَعرفُ الخيرَ مِن الشَّـر". أكثر الناس يَعرفون أنَّ هذا خيرٌ، وأن هذا شَر. "لكنَّ الفقيهَ الذي يَعرف خيرَ الخَيرَيْن، وشرَّ الشَّـرَّيْن".

... أنا عندي بعضُ الأقوال عن بعضِ أهلِ العِلم، ثم إذا انتهينا؛ نَرجع إلى هذه الأصولِ التي جَمعناها -مِن خلال النَّظر المستوعِب لسِيَر العلماء، وتاريخ العلماء، وأصول الشريعةِ، وقواعدِها، ونصوصِها-.

في كتاب "سِير أعلامِ النُّبلاء": قال عبدُ الله بنُ محمدٍ الورَّاق: "كنتُ في مجلسِ أحمدَ بنِ حنبل، فقال: مِن أين أقْبَلْتُم؟ قُلنا: مِن مجلس أبي كُرَيب. فقال: "اكتُبوا عنه؛ فإنه شَيخٌ صالِح"، فقلنا: إنَّه يطعَنُ عليك!" شُوفوا أهل التَّحريض مَوجودون حتى في الأزمنةِ الأُولى! فقال أحمد: "فأيُّ شيءٍ حِيلتي! شيخٌ صالح بُلِيَ بنا" لم يَقل: (بُلِينا به)!؛ (بُلِي بنا)!

هذا العالِم الذي يُرجِّح المصلحةَ الشخصية -في أنه انتُقِد، أو لم يُنتَقد- في سبيلِ ترجيحِ المصلحةِ الكُبرى في ربطِ الناس بأهلِ العلم، بأهلِ الصَّلاح، بأهل الاستِقامة، بأهل السُّنة؛ حتى لو حصلت بيني وبينه مُنافرة؛ هذه المنافَرة شخصية؛ فلنضعْها في طرفِها، فلنضعْها في جانِبها؛ لا نوسِّعها، ولا نعمِّمها، ولا نجعل المسائلَ الشخصية حَكمًا على المسائلِ الدِّينية -كما هو حال الكثير مِن الناس-اليومَ-وللأسفِ الشَّديد-.

يقول الإمامُ ابنُ القيِّم في "إعلامِ الموقِّعين" -في معرض النُّصح والتَّوجيه -بعد التأصِيل-. وهذا مِن أعظم أساليبِ البَيان: أن يُؤصِّل، ويُفصِّل، ثم يُوجِّه [نُصحًا]؛ لِيجمعَ الأمورَ الأخلاقيَّة السُّلوكيَّة مع الأصولِ العِلميَّة الدِّينية.

يقول بعد كلامٍ طويلٍ في أبوابِ هذا الكتابِ العُجاب، الذي سمَّاه الشيخُ ابنُ بازٍ: "كتاب الإسلام"! وحُقَّ له أن يكونَ كذلك! وقلتُ -غيرَ مرةٍ-: "إنَّ هذا الكتابَ هو صِياغةُ عقلِ المسلمِ". المسلمُ بدون هذا الكتابِ لا يكونُ عقلُه مُنضبِطًا! لا أقول بمعنى: أنه من كان قبل هذا الكتاب -مِن المسلمين-؛ عقولُهم ليست منضبِطة! لا؛ كانوا أعلَم، وكانوا أهَمَّ؛ لكنْ في عَصـر ابنِ القيِّم حَصلت فِتنٌ غيَّرت العُقول، وغيَّرت الأهواء، وغيَّرت الأفكارَ والسُّلوكيات والتَّصـرُّفات؛ فكان منه هذا الكتاب العُجاب!

اسمع ماذا يقول! يقول: "إيَّاك أن تُهملَ قصدَ المتكلِّم، ونيَّتَه، وعُرفَهُ" كلمة (عُرْف) تذكِّرُنا بإيش؟ باختلاف الزَّمان والمكان -الذي أشرنا إليه-؛ بـ(اختِلاف الأعراف). "إيَّاك أن تُهملَ قصدَ المتكلِّم، ونيَّتَه، وعُرفَهُ؛ فتَجْنِيَ عليه، وعلى الشَّـريعة" مَن جنى على المتكلِّم، وعلى الشـريعةِ؛ ألا يكون -أيضًا- جانيًا على نفسِه؟! إذًا: هو جنَى على نفسِه، وجَنى على الُمتكلَّم به، وجنى على الشّـَريعة -كلِّها-! "فتجنيَ عليه، وعلى الشَّـريعة، وتنسبَ إليها ما هي بريئةٌ منه، ففقيهُ النَّفسِ يقول: (ماذا أَرَدْتَ؟)، ونِصف الفَقيهِ يقول: (ماذا قُلت؟)" لماذا؟ لأنَّه -أحيانًا- قد يُقال القَول ولا يُقصدُ به هذا المَفهوم. فأنا قَبل أن أُحاكمَ هذا الإنسانَ على قولِه -الذي قد يُريد به شيئًا آخر غيرَ الذي فَهمتُ-؛ أقولُ له: (ماذا أردتَ بهذا القَولِ؟)، مع تنبيهي على أنَّ هذا القولَ خَطأ، لكن؛ لا أؤاخذُه بِلازِم القَولِ الخطأ دون أن أعرفَ مُرادَهُ، فإذا بيَّن مُرادَه، وكان مُرادُه صحيحًا؛ وَجَبَ التَّنبيهُ على خطأِ اللَّفظِ -مع الأخذِ بِصوابِ المُراد-. وكما قيلَ -مِن قواعدِ أهلِ العِلم-: "الُمرادُ لا يَدفَعُ الإِيرادَ" يعني: مُرادُك صحيحٌ؛ قَبِلْناهُ، لكن؛ إيرادُنا عليك -بِسببِ لفظكَ- يجبُ أنْ تَقبَلَه؛ فتقبل مِنا شيئًا، ونَقبَلُ مِنك شيئًا، وتَخطئتُنا لِلَفظكَ بإيرادِنا عليك؛ أهونُ -بألفِ مرةٍ- مِن أن نقوِّلَك بِمُرادِك غيرَ ما تُريد مِن لفظِك. هذا أصلٌ يَجبُ أن يُفهَم، ويجبُ أن يُستوعبَ.

في "سِيَرِ أعلامِ النُّبلاء" للإمامِ الذَّهبي؛ في ترجمةِ عبدِ الرزاقِ الصَّنعاني: قال عبدُ الله ابن الإمامِ أحمدَ -ولد بارٌّ بأبيه؛ الوَلدُ عالِم، والأبُ عالِم- قال: "سَألتُ أبي: أكان عبدُ الرَّزاق يُفرِط في التشيُّع؟". عبد الرزَّاق بنُ همَّام الصَّنعاني -صاحبُ "المصنَّف" الذي هو مِن أعظم دَواوينِ الإسلامِ-؛ قال -الإمامُ أحمد يقول-: "أمَّا أنا؛ فلم أسمعْ مِنه -في هذا- شيئًا، ولكن؛ كان رجلًا يُعجبُه أخبارُ الناس -أو يُعجبُه الأخبار-". إذًا: يعني غَمَز غمزةً لطيفة: في موضوع أنه يُعجب بالأخبارِ، وينقلُ هذه الأخبارَ -التي أُعجِب بها-؛ أمَّا أنه مِن غُلاةِ التشيُّع؛ يقولُ الإمامُ أحمد -مُبرِّئًا ذمَّتَه-: "أمَّا أنا فلم أسمعْ مِنه -في هذا- شيئًا". مع أن أبا زُرعة الرَّازِي-كما في كتب الجَرح والتَّعدِيل- قال: حدَّثنا عبدُ الله بنُ محمدٍ المُسْنَدِيُّ قال: "ودَّعتَ ابنَ عُيينةَ، فقال: أتريدُ عبدَ الرَّزاق؟" قال: "أخافُ أن يكونَ مِن الذِين ضَلَّ سَعيُهم في الحياةِ الدنيا!" وهذا جَرحٌ، أم غير جَرح؟ هذا جَرح! ومع ذلك: الكلمة التي استقرَّت عليها كلماتُ أهلِ العلم في عبدِ الرزَّاق؛ أنه ثِقةٌ أم ضَعيف؟ ثِقة. إذًا: هذا وَجهٌ مُباشر، وطريقٌ عَمليُّ في أنَّ أهلَ العلم؛ ابنُ عُيَينة -من جِهة-، والإمام أحمد -مِن جِهة-، هذا يقولُ شيئًا، وهذا يقولُ شيئًا؛ ومع هذا: نرى أن ما استقرَّت عليه كلمةُ أهلِ العِلم أن الإمامَ عبدَ الرزاق الصَّنعاني ثقةٌ -مِن ثقاتِ عُلماءِ الإسلام-.

هذه كلمة أنا أخشى أنْ أَذكرَها -لا بُدَّ أن أذكرَها- لأنَّ الذين أمامي طلبةُ عِلم، ونفهمُها على الفَهم الجيِّد، ولا نفهمُها على الفَهم السَّقيم -الذي يجبُ أن نرفضَه-.

في "تَهذيبِ التَّهذيب" وفي "تارِيخِ الخَطيب" البغداديِّ؛ بل نقول في "تاريخ الخطيبِ"، و"تَهذيبِ التَّهذيب" -لأنَّ هذا هو الأصل-، في ترجمةِ عبدِ الرحمَن بنِ صالِح الأَزْدي، قال: قال يعقوبُ بنُ سُفيان المُطَّوِّعي: "كان عبدُ الرحمنِ بنُ صالحٍ (رافضيًّا)"، لم يقلْ: (شِيعيًّا)، لم يقلْ: (مُتشيِّعًا)؛ "كان (رافضيًّا)". (التشيُّع) -في العصور الأولى- كان متعلقًا بتقديمِ (علِيٍّ)، ليس متعلقًا بِرب، أو سَبٍّ، أو طعنٍ، أو تكفيرٍ-كما نبَّه الذهبيُّ في "الميزانِ"-، مع أنه خطأَ، ومخالفٌ لأصولِ أهلِ السُّنة؛ لكن كان قولًا ليس فيه تَبديع، وليس فيه تَضليل -في الزَّمان الأوَّل-، إذًا: لفظ (التشيُّع) كان يُراد به مَعنَيان.

قال: "كان عبدُ الرحمنِ بنُ صالحٍ (رافضيًّا)، وكان يَغشَى أحمدَ بنَ حنبل"، "كان يغشى": يعني يَـزوره ويأتيه، فيقـرِّبه ويُدنيه؛ مَن الذي يقرِّب مَن؟ الإمامُ أحمـد يقرِّب عبدَ الرحمنِ بنَ صالح! لو حصلتْ هذه في هذه الأيام، ماذا يحدُث؟ لو رُؤي رافضـيٌّ، أو خارجيٌّ عند رجل مِن أهلِ السُّنَّة؛ في اليومِ التالي -في صفحاتِ الإنترنت-: (فلانٌ ضالٌّ مُضِلٌّ؛ لأنه كذا...)!! يا أخي! ممكن هذا يُريد أن يُقرِّبَه، وأن يُدنِيَه؛ لإصلاحِه، لاستصلاحِه، لهدايتِه، لنصيحتِه! لماذا نُغلق هذا الباب؟! فقيل له فيه؛ يعني: كيف تقرِّب هذا وتُدنِيه، وهو رافضـي؟! فماذا كان جَواب الإمامِ أحمد: "سُبحان الله! رجلٌ أحَبَّ قومًا مِن أهلِ بيتِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وهو ثِقة"!

إذًا: الإمامُ أحمد راعَى المتكلِّمَ، وراعَى الواقع، وقد يكون له هدفٌ في إصلاحِه؛ وهذا يَستدعينا أن ننظرَ في ترجمةِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ صالح -بصورةٍ أوسع وأعمَق- لنعرفَ؛ قد يكون رافضيًّا في نفسِه؛ لكن لا يَنشُـر رفضَه، قد يكونُ مُبتدِعًا في نفسِه؛ لكن ليس من دُعاةِ البِدع.

هذه -كلُّها- أنظار ودَقائق يَفهمها أهلُ السُّنة، ويُتقِنونها؛ ليس كبعضِ أولئكَ الحَمقَى الذين سَمِعوا أنَّ بعضًا مِن أهل السُّنَّة دَعَوا رجلًا مِن أهلِ السُّنة -لكن عليهِ ملاحظة، واثنتان. . وعشـرة. .-فإذا بهم يُبَدِّعون الأولَ؛ بِناءً على تبديعِ الثاني!! وهم في الأولِ مُخطِئون، كما هُم في الثَّاني مُخطئون -وللأسف الشديد!-، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.

في "تاريخ الخطيبِ" البغدادي زيادة: أنه قال: "رجلٌ أحبَّ قومًا مِن أهلِ بيتِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- نقول له لا تُحبَّهم؟ هو ثِقة"، يعني: نَظر إلى موضوع -كما قُلنا- الرِّواية، وموضوع البِدعة؛ بِدعتُه إلى نفسِه، ورِوايتُه لنا.

النقطةُ الأخيرةُ -إخواني!-نقولُها، ونختِمُ، ونُوَدِّعُكم، ونَستودِعُكم الله-: قال ابنُ القيِّم في "زادِ المعاد":

"لا يَنبغي للعاقلِ أنْ يُقلِّدَ الناسَ في المدحِ والذَّم، ولا سيَّما تقليد مَن يَمدح بِهوًى". إذًا: عُموم التقليدِ في موضوع المدحِ والذَّم مذموم؛ فكيف إذا كان التقليدُ فيمَن يمدحُ بالهوى؟ طبعًا (الهَوى) -هنا-: المقصودُ به التَّمثيل، وإلا تقليد مَن يَحكُم، ومَن يَمدح بالظنِّ؛ هذا -أيضًا- مَذموم -مِن باب أولى-، هو التقليدُ -عمومًا- أنكرَه -في هذا البابِ-؛ فكيف التقليد إذا رافقهُ. . تقليد هذا الحاكِم إذا وافقه شيءٌ من المنغِّصات والأمور التي تَستَنقِصُه؟

قال: "فَكَمْ حَالَ هذا التقليدُ بين القُلوبِ وبين الهُدى، ولم يَنجُ منه إلا مَن سَبقت له مِن اللهِ الحُسنَى".

هنا قد يُعتَرَض علينا: أن الحُكم في المدحِ والذم، و الجَرح والتَّعدِيل؛ هذا مِن بابِ خبرِ الثِّقة. أنا أقولُ: يجب أن نفرِّق بين (خبرِ الثِّقة)، و(حُكم الثِّقة).

الآن؛ إذا قُلنا: (دخل فلانٌ)، قلتُ: (دخل فلانٌ)؛ هذا خبرٌ؛ هل هُو حُكم؟ هذا خبرٌ؛ يجب أن يُقبَل؛ لأنَّ المُخبِر ثِقة. فإذًا: يجبُ أن يُقبَل خبرُ الثِّقة. الآن؛ إذا أضفنا؛ فَقلنا: (هذا الذي دَخل؛ مُبتدِع)؛ هل قبولُ الثَّاني كقَبولِ الأوَّل؟ هذا حُكم. أنا لا أعلم أن هذا مُبتدع! أنا أعلم أنه سُنِّيٌّ؛ هل تُريدني أن أقبلَ حُكمَك بتبدِيعِه -هكذا- مُباشرة، أن أقلِّد مباشرةً؟! أم لا بدَّ من وجودِ الضَّوابط؟ فكيف إذا كان هذا المبتدِع؛ أنتَ تبدِّعه، وغيرُك يُوثِّقه؟!

إذًا: الخلطُ بين (خبرِ الثِّقة)، و(حُكم الثِّقة) -في هذا البابِ-؛ خَلطٌ قبيح؛ يجب أن نفهمَه، ويجب أن نحذَر منه.

وصلى الله وسلَّم وبارك على رسولِ اللهِ، وعلى آلِه، وصحبِه، ومَن والاهُ، واتَّبع هُداه -إلى يومِ نَلقاه-.

والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ.


---------------
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
تفريغات أم زيد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:52 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.