أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
107935 187381

العودة   {منتديات كل السلفيين} > منابر الأخوات - للنساء فقط > منبر الصوتيات والمرئيات والكتب و التفريغات - للنساء فقط

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-27-2011, 07:37 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي [ تفريغ ] أخلاق العلماء ( الأخلاق بين الحقيقة والادعاء ) - علي الحلبي

بسم الله الرحمن الرحيم
أَخـلاقُ العُلَمـاءِ
أو
(الأَخلاقُ بَينَ الحَقيقةِ وَالادِّعاءِ)


لِفَضيلةِ الشَّيخِ
علـيِّ بنِ حَسَنٍ الحَلَبـيِ
-حفظه اللهُ-


محاضرة ألقيت يوم الثلاثاء
6 صفر 1432 هـ / 11 يناير 2011 م
في مسجد الخلايلة - النزهة

إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُها، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
وبَعْدُ: فإن موضوعَ العلمِ موضوعٌ رائقٌ، ذو بحثٍ شائقٍ، يتطاوَلُ إليهِ الكثيرون، وتشرئبُّ إليهِ الأعناقُ إلى الأعماق؛ كلُّ ذلك: إمَّا حرصًا على الخيرِ العاجِلِ، وإمَّا رغبةً بما عندَ اللهِ مِن الثَّوابِ الآجلِ.
وكلٌّ بحسَبِه؛ ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾، والنبيُّ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- يقول: «بعثتُ بالحنيفيَّة السَّمْحَة» التي لا خللَ فيها، ولا شُبهةَ تعتريها -نقاءً في ذاتِها، وبقاءً في ثمرتِها-.
ولا يزالُ أهلُ العلم يتواصَون بالحقِّ، ويتواصَون بالصَّبر، ويتواصَون بالمرحمةِ، ويُلقِّنون ذلك أبناءَهم، ويتناصحونَ -في ذلك- فيما بينهم، ويُذكِّر بعضُهم بعضًا، ويقوم بعضُهم -في ذلك- بحقِّ بعضٍ.
ولكنَّ مُضيَّ السِّنين، وتعاقُب الأجيال، وتكاثُر الأدعياء، وتهافُت الأَتْباع؛ كلُّ ذلك قد يَخلِط الأوراق، ويُفسِد الأذواق؛ فلا يستطيعُ أحدٌ أن يَضبطَ المعنى الحقَّ على الوجهِ الحقِّ؛ فإذا به يختلطُ زَرعُه، ثم تختلطُ ثمرتُه!
ولقد أشار النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم- إلى هذا المعنى فيما ثبتَ عنه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- أنَّه قال -مُبيِّنًا ومُحذِّرًا-: «إنَّكُمْ في زَمانٍ كَثيرٍ عُلَماؤُه، كَثيرٍ خُطَباؤُه، وسيأتِي زَمانٌ على أمَّتي كثيرٍ خطباؤُه، قَليلٌ عُلماؤُهُ»..
ولا يزال الخلطُ مَوجودًا بين هذَين الأمرَين.
ولقد ورد التَّحذيرُ عن بعضِ الصَّحابةِ الأبرارِ -مِن الأئمَّة الكِبار-: وهو الإمامُ الجليلُ أبو عبدِ الرَّحمن عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ -رَضِيَ اللهُ-تَعالَى-عنهُ- لَـما قال -يُحذِّر أصحابَه-.. وأصحابُه: بين صحابيٍّ جليل، أو تابعيٍّ كبير -رضيَ الله-تَعالَى-عنهم-أجمعين-، ورحمهم الله-تَعالَى-جميعًا-..
قال: «كَيف أنتُم إذا لَبِسَتْكُم فِتنةٌ: يَكبر فيها الصَّغير، ويهرَم فيها الكبيرُ، ويتَّخذُها النَّاسُ سُنَّةً، حتى إذا تُركتْ؛ قيل: تُركت سُنَّة!»؛ قالوا: ومتى ذاك -يا أبا عبد الرَّحمن-؟! قال: «إذا كَثُرتْ أُمراؤُكم، وقلَّتْ أُمَناؤُكُم، وكثُرتْ خُطباؤُكم، وقَلَّت فُقهاؤُكم، وتُفُقِّه لِغَيرِ الدِّينِ، والتُمِسَتِ الدُّنيا بِعَمَلِ الآخرةِ».
هذا تحذيرٌ تَرتجِفُ منه قلوبُ المؤمنين، وترتعدُ له فرائصُ الصَّادِقين؛ فالأمرُ جَللٌ وخطير! إذا لم يتغمَّدْنا الله برحمتِه؛ ونُسدِّد على هذا المسار الذي هو صِراط اللهِ القَويم، وسبيلُه المستقيم؛ كما أمر الله -تَعالَى- نبيَّه الكريم -عليه أفضلُ الصَّلاة وأتمُّ التَّسليم-: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا:
أمرٌ ونهيٌ، فعلٌ وكفٌّ.. ولولا هذان؛ لما استقامتْ حياةُ إنسان.
فالمسلمُ يُصارِع هواهُ، ويُجاهِد شيطانَه فيما يَهواهُ؛ كلُّ ذلك في سبيل الله؛ طاعةً لله، واستقامةً على كتاب الله، واتِّباعًا لسُنَّة رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم-.
ولئن كان الإرشادُ النَّبويُّ موجَّهًا لحُسن الاختِيار -لعامَّة النَّاس ودَهمائِهم ورَعاعِهم أن يَتبيَّنوا الدِّين والخُلُق -مجتَمِعَيْن غير مُنفصِمَيْن، ومُلتصِقَيْن غير مُنفَصِلَيْن-؛ فمِن باب أولى أن يكون ذلك في طُلاب العِلم، وأَولى وأَوْلى وأَوْلى: أن يكون في أهلِ العِلم -إذا كانوا أهلَ علمٍ-حقًّا-، وذوي صِدقٍ-صدْقًا-.
فهذا إرشادُ نبيِّنا -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في الزَّواج الذي يقومُ بهِ النَّاسُ -كافَّةً-، حتى صارَ أمرًا مألوفًا، وحتى اضمحلَّتْ تِلكُم الشُّروط، وهاتيك المعايير التي تنضَبطُ بها العلاقة الزَّوجيَّة -من حيث الصِّفات والأخلاق-لكلٍّ من الزَّوجَين-.
وإذ نتكلَّم -فيما نتكلَّم فيه- عن الأخلاقِ -عُمومًا-، وأخلاقِ العلم وأهلِه -طلبةً ودُعاةً وعلماءَ-على وجهِ الخُصوص-؛ فلْننظُر ذلكم الإرشادَ النَّبويَّ كيف كان ليبنيَ به الإنسانُ:
قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «إذا جاءَكُم مَن تَرضَون دينَه وخُلُقَه؛ فزوِّجوه، إِلَّا تفعَلوا تَكُنْ فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ عرِيضٌ».
فذكر الدِّينَ والخُلُق؛ مع أن الخُلُق من الدِّين -لا ينفكُّ عنه، ولا ينفصِل منه-؛ لكنَّ الأفهامَ البليدةَ، والجهالاتِ الشَّديدة تسعى لأن تُفرِّق بين هذَين الأمرَين، وكأنَّ العلمَ محفوظاتٌ -فقط-! وكأن العلمَ طلاقةُ لسانٍ -حسبُ-!! فكلمَّا كنتَ ذا محفوظٍ، أو طليقَ لسانٍ؛ فأنتَ أنت!!
واللهِ، وتاللهِ، وباللهِ: ليس الأمرُ كذلك!
ولئنْ وُجد العلمُ القليلُ مع الخُلُق القَويم خيرٌ -بألفِ مرَّةٍ ومرَّة- مِن أن يوجَد محفوظٌ كثير، أو طلاقةُ لِسان ينبهِرُ بها الغُمْر والغِرُّ والصَّغير؛ فذاك خيرٌ مِن هذا.
ومِن ها هنا: نعرف تلكمُ القسمةَ الضِّيزى التي يتوهَّمُها بعضُ النَّاس -ظانِّين أنَّهم يُحسِنون صُنعًا-؛ إذ يتوجَّهون إلى مَن قد يتأثَّرون بطلاقةِ لِسانِه، أو حُسنِ بيانِه، دون أن يتأمَّلوا أخلاقَه، ودون أن يتوثَّقوا آدابَه؛ فهذا خللٌ -وأيُّ خلل!-!
ويُسوِّل الشَّيطانُ للواحدِ منهم أن يقولَ: إنَّما أريد عِلمَه؛ وكأنَّما العلمُ مُنقطعٌ إلا مِن هذا! أو مِن ذاك!! مع أن العلمَ والخُلُق متكامِلان؛ كما في هذا الحديثِ -على العُموم-: «إذا جاءكم مَن ترضَون دِينَه وخُلُقَه»، وكما في الحديثِ الآخَر -على وجهِ الخُصوص-: «خَصلتانِ لا تَجتَمِعان في مُنافِق: حُسن سمْتٍ، وفقهٌ في دِين».
إذا أردتَ المعرفةَ والمحفوظَ وطلاقةَ اللِّسان؛ واللهِ ستجدُها عند المستشرِقين، وعند كثيرٍ من الأكاديميِّين الذين نعرفُ بعضَهم يستظهِرُ من النُّصوصِ الشَّيءَ الكثيرَ الكبيرَ الوَفير!! لكنْ: لا تجدُ عنده الخُلُق القَويم، ولا الأدبَ الكريم؛ فيضرُّك ولا ينفعك، ويُسيئ إليكَ ولا يُحسن لك.
وقد تجدُ -بالمقابل- آدابًا فاضلةً، وأخلاقًا حَسنةً عند جاهلٍ قد لا يُحسن أن يتوضَّأ، وعند عاميٍّ لا يضبط أبجديَّات العلم والمعرفة!
أمَّا الذي هو أهلٌ للعلم والتعلُّم والتَّعليم، وحُسن التَّأسِّي وحُسن الاقتِداء والاهتِداء: فهو الذي جمع -بنصِّ حديثِ رسولِ الله-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- بين حُسن السَّمتِ والفِقهِ في الدِّين.
قد يسأل سائلٌ، أو يقولُ قائل:
لماذا قال النَّبيُّ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-: «إذا جاءكمْ مَن ترضَون دِينَه وخُلُقَه» مع أن الخُلُق من الدِّين، والنَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقولُ: «إنَّما بُعِثتُ لأُتمِّمَ مَكارمَ الأَخلاقِ»، وفي رواية: «صالِحَ»، وفي ثالثةٍ: «حَسَنَ الأخلاق».
فأخلاق الإسلام صالِحة وحَسَنة وكَريمة، لا يجوزُ أن تُبتَّ عن الدِّين، أو أن تُفصَل عن الهُدى والحقِّ واليقين.
ومِن هذه الحيثيَّة: جاء البيانُ النَّبويُّ؛ دفعًا لتوَهُّمٍ -قديمٍ مُتجدِّد، غابِرٍ وحاضِرٍ- أن يُظنَّ أنَّ الدِّينَ -فقط- هو صِلة العبدِ بربِّه.
الدِّين -في أصلِه-: صلةُ العبد بربه؛ نعم؛ لكنَّ الله -تَباركَ وتَعالَى- في هذه الصِّفة، وفي هذه الصِّلة أمر العبدَ بأن يُحسِن صِلتَه مع نفسِه، وأمرهُ أن يُحسِن صلتَه مع الآخرين.
فإذا لم يكنِ الدِّين باعثًا للأخلاق الفاضلةِ، والآدابِ الحَسَنةِ القويمةِ؛ فلن ينفعَ هذا الدِّينُ صاحبَه!
في هذا جوابٌ على مَن توهَّم هذا الفصلَ -بل: التَّمزيقَ والتَّفريقَ- بين الدِّينِ والخُلُق؛ فتوهَّم أن الخُلُق شيءٌ، والدِّينَ شيءٌ آخر!
الدِّين والخُلق يُتمِّم أحدُهما الآخر؛ كالعَين والضوء: فالعين مِن غير ضوءٍ لا تُبصِر، والضوء مِن غيرِ عينٍ لا يُبصَر.
وهكذا الحقُّ، وهكذا أهلُه، وهكذا دُعاتُه -دون أدعيائه، ودون مُدَّعيه، ودون المُتطاوِلين فيه، ودون المتَّخذِين له ذرائع شتى-هنا وهناك وهنالك-لأهواءٍ مذمومة، وبِذرائعَ مشؤُومة-بغيرِ حقٍّ ولا هُدًى ولا كتابٍ مُنير-.
هذه -كلُّها- مقدِّمةٌ لكلماتٍ ذهبيَّاتٍ لإمامٍ مِن أئمَّة العِلم والعقيدةِ والأخلاق الفاضِلة، وهو الإمامُ محمَّد بن الحُسَين الآجُريُّ، مِن أكبرِ أئمَّة العلم، ومِن متقدِّميهم، وهو مِن علماءِ القُرون المتقدِّمة، تُوفِّي سنةَ ستين وثلاثمائة -في القرن الرَّابع-، وله كتاب «الشَّريعة» -مِن أعظم كُتب العقيدة-، وله كتاب «أخلاقِ العُلماء» -مِن أعظم كُتب الآدابِ والسُّلوك-..
وفي هذا الكتاب مِن النُّصوص -من القرآن، ومن أحاديثِ نبيِّ الإسلام-عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- الشيءُ الكثير..
بعد أن ذكرَعددًا من النُّصوص -كتابًا وسُنَّةً-في هذا الكتاب-؛ تساءَل سؤالًا، وطرحَ إشكالًا؛ فقال:
«قد اختصرتُ من فضلِ العلماء وما خصَّهم الله -عزَّ وجلَّ- على سائرِ المؤمِنين ما فيهِ بلاغٌ لمَن تدبَّرهُ، فأَلزَمَ نفسَه الطَّلب للعلم ليكون معهم؛ وذلك بتوفيق الله -عزَّ وجلَّ-...».
مَن عرف فضلَ العِلم؛ سعَى أن يكونَ من أهلِه؛ لكنَّ سعيَه يكون شتَّى إذا لم يضبِطْهُ بالخُلُق -وهو الذي بنَى عليه كتابَه-؛ لم يقلْ: (العلماء)، ولم يقل: (فضائل العلماء)؛ وإنما قال: (أخلاق العلماء)؛ هذا عُنوان كتابه.
قال: «وذلك بتوفيقِ الله -عزَّ وجلَّ-»..
واللهِ؛ لو حويتَ علمَ الأوَّلين والآخِرين، ولم تَكُن مسدَّدًا -بإخلاصِك، وأخلاقِك، وآدابِك، وسَيْرك وحُسن سَمتِك-؛ لن ينفعَك عِلمُك، ولن تنفعَك فصاحتُك، ولن ينفعَك تأثيرُك! سيكون تأثيرُك اغترارًا، وسيكون أثرُك -إن لم تَتُب وتَؤُب- شَنارًا وعارًا!! نسأل الله العافية.
قال: «وذلك بتوفيق الله -عزَّ وجلَّ-» على معنى قولِ الشَّاعر:
إذا لم يكنْ عونٌ مِن اللهِ للفتَى .. فأوَّل ما يَقضِي عليه اجتِهادُهُ
العبدُ يجبُ أن يستحضِر -آناءَ الليل وأطرافَ النَّهار- توفيقَ الله، وأن يستمدَّ سببَ وُجودِه من ربِّه العليِّ القهَّار، العظيمِ الجبَّار -جلَّ في عُلاه، وعَظُم في عالي سماهُ-.
أمَّا أن يعتمدَ على نفسِه، وأمَّا أن يتَّكئ على ذاتِه، وأمَّا أن يتوهَّم أنَّه ذو قُدرةٍ على التَّميُّز -من غيرِ كبيرِ صِلةٍ بالله-اعتِمادًا على حُسنِ بيانِه، أو انطِلاق لسانِه، أو عددِ معلوماتِه-؛ فيُقال له: (ليس هذا بِعُشِّك فادرُجي)!
ليس هذا هو الطريق.. وليس هذا هو المَسار..روليس هذا هو المِعيار.. المعيارُ: إخلاصٌ لله، ومُتابَعةٌ لسُنَّة رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
ومِمَّا ذكرَه هذا العالِم في كتابِه -في بعضِ المواضِع منه-: حديثُ النَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-: «مَن تعلَّم العلمَ ليُماريَ به السُّفهاءَ، أو يُجاريَ به العُلماءَ، أو يَجلِبَ أنظارَ النَّاسِ إليه؛ فالنَّارَ النَّارَ»!
عنده عِلم، وعندهُ معرفة، وعندَه معلوماتٌ، وعنده محفوظٌ، وعنده لِسان، وحُسن بيان؛ لكنْ: ليس عندَه الإخلاصُ للمَلِك الدَّيَّان؛ فليس ذلك بنافعِه!!
قال: «فإن قال قائلٌ: مَن علَّمَ العلمَ وحَفِظَه وناظَر فيه؛ يَدخلُ في هذا الفضلِ الذي ذكرتَ؟» مِن فضل العلم وفضائل أهلِه -في القُرآن والسُّنة-..
«قيلَ له: أرجو أن لا يُخلِيَ اللهُ كلَّ مسلم -طلبَ الخيرَ والعلمَ- مِن خيرِه الذي وعدَ به العلماءَ؛ ولكنْ:.. » وما أدراكَ ما (لكن)! «قد ذُكرتْ لهم أوصافٌ وأخلاقٌ.. »..
إذن: ليس الأمرُ لمجرَّد الحِفظ والاطِّلاع والتَّأليفِ والخُطبة والنَّشاط والتَّأثير..
العلمُ أعظمُ وأجلُّ وأكبرُ!
«ذُكرتْ لهم أوصافٌ وأخلاقٌ فنحنُ نذكرُها، فمَن تدبَّرها مِن أهل العلم؛ رجع إلى نفسِه»؛ كما قال الله -تَعالَى-: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ - وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ.
والله؛ لو حوطَ مجلسَك، وأحاط بك، ولحِقَك لا أقول: عشرات، ولا أقول مئات؛ بل أقول: آلاف مؤلَّفة! وأنتَ تعلمُ من نفسِك أنك لستَ بصادِق، ولست بِمُحقٍّ ولا واثق، ولا بالحقِّ والهُدى ناطِق؛ فلن يُفيدك هذا -كلُّه-لا في قليلٍ ولا في كثير، لا في قَبيل ولا في دَبير!-؛ فأنتَ تعلم مِن نفسِك ما يَعلمُه الله مِنكَ، وبِما قد لا تعلمُه أنتَ مِن نفسك مما يعلمُه الله -جَلَّ في عُلاه، وعظُم في عالي سَماهُ-.
قال: «فمَن تدبَّرها مِن أهل العِلم»؛ أي: هذه الأوصاف، وهذه الأخلاق؛ «رجع إلى نفسِه: فإن كان مِنهم» بأوصافِه، وأخلاقه؛ «شَكَر اللهَ -عزَّ وجلَّ- على ما خصَّه به»؛ ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا، ﴿لِئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ؛ لأزيدنَّكم: بالخُلُق، لأزيدنَّكم بالدِّين، لأزيدنَّكم بالدُّنيا والتَّوسِعة فيها.
أمَّا أن يكونَ السَّعي -كلُّه- لِلذَّات، وللنَّفس، وللشَّخص -بعيدًا عن شُكرِ الله، والعمل بما يُرضِي مَولاه-؛ فهذه آفةٌ! وهذه مُصيبةٌ وطامَّة!!
نسأل الله العافية.
قال: «وإنْ لم تكنْ أوصافُه منهم، وكان مِمَّن عِلمُه حُجَّة عليه؛ استغْفَر اللهَ -عزَّ وجلَّ- ورجعَ إلى الحقِّ من قريب، واللهُ وليُّ التَّوفيق».
هذه دعوةٌ -لا دعوى!-، ونداءٌ فيه الصَّدعُ بالحقِّ -لمَن هو مِن أهل العلم-: أن يُراجعَ نفسَه، وأن يستغفرَ ربَّه، وأن يُبيِّض صفحتَه؛ بأن يرجعَ إلى مولاهُ، وأن يستغفرَ اللهَ، وأن يعودَ عن قريبٍ، وبابُ التَّوبةِ ليس بِيَدِ العِباد؛ إنَّما هو بيدِ ربِّ العِباد، وباب التَّوبة لا يوصَد اليوم، ولا في الغد؛ باب التَّوبةِ يوصَد عندما تطلعُ الشَّمسُ من مغربِها.
لكن: ما أدْرانا مَتى يَفجؤنا الموتُ؟!
يأتي الموتُ واحدَنا مِن غير استِئذان، ولا إِمهال، ولا إهمال، وعلى وجهِ الاستِعجال.. وهو يظنُّ أنَّه -أو يكادُ الشَّيطانُ يوهِمُه- كأنَّه مِن الخالِدين!!
فلا يستعمِلُ هذا الدِّين، ولا يَهتدي بالهُدى والحقِّ واليقين -بدليل سُلوكيَّاته، وتصرُّفاتِه، وصِفاتِه!-التي يَبرأ منها دينُ الله، ويتبرَّأ منها عبادُ الله!-.
ثم قال: «باب: أوصاف العلماء الذين نفعهمُ الله بالعلمِ في الدُّنيا والآخِرة».
هذه إشارة إلى أنَّ بعضًا ممَّن قد يُقال فيهم عُلماء -إن كانوا
حقًّا كذلك-؛ وإلا: فبعضُ مَن يُظنُّ أنَّهم علماء؛ أصلًا: ليسوا كذلك!!
فالكلامُ عمَّن يُقال إنَّهم علماء -إن كانُوا كذلك-؛ فهو صِنفان:
- صِنف ينفعُهم الله بالعِلم في الدُّنيا والآخرة.
- وصِنفٌ قد يَنتفِعون بالعلمِ في الدُّنيا دون أن يَنتفِعوا به في الآخرةِ!
ينتفعون بالدُّنيا بكثرةِ الأتباع! أو بِجمعِ الأموال! أو بالكذبِ والافتِراء والتَّغرير! أو بالظُّلم والتَّحقير.. وغير هذا وذاك مِن أمرٍ مريرٍ وخطير! نسأل الله العافية.
أمَّا مَن ينفعُه الله بِعِلمه -دُنيا وآخرة-؛ فهو المُسدَّد على أمرِ الله، والمُستقيم على طاعةِ الله، بِعِلمٍ -ولو كان قليلًا-، وبمعرفةٍ -ولو كانت يسيرة-؛ لكنَّه مسدَّد بأخلاقِه، وإخلاصِه، وحُسن سَمتِه، وحُسن أدبِه، وصِدقِه في تعامُله. فشتَّان شتَّان بين الأوَّل والآخَر!!
فحسْبُكمُ هذا التَّفاوت بيننا .. وكُلُّ إناءٍ بالذي فيه يَنضَحُ
قال: «لهذا العالِم» الذي ينفعُه الله بالعلمِ في الدُّنيا والآخرةِ «لهذا العالِم صِفاتٌ وأحوالٌ شتَّى، ومقاماتٌ لا بُدَّ له مِن استِعمالِها؛ فهو مُستعمِلٌ -في كلِّ حالٍ- ما يجبُ عليه» وليس مستعمِلًا -في كلِّ حالٍ- ما يُخرجُه من مأزق، وليس مستعمِلًا -في كلِّ حالٍ- ما يُنجيه مِن مَلامٍ، وليس مستعمِلًا -في كلِّ حالٍ- ما يُزيِّن به ظاهرَه..
ليست هذه أخلاقَ العلماء، ولا مَسلكيَّاتهم العصماء، ولا آدابَهم البيضاء..
قال: «فلهُ صفةٌ في طلبِه للعلم كيف يطلبُه»: يطلبُه بالإخلاص.. يطلبه بالسُّنَّة.. يطلبه بالتَّواضع.. يطلبُه بصِدق التَّوجُّه..
هذه أوَّل صفات هذا العالِم الرَّبَّاني الذي نفعهُ اللهُ بِعلمِه في الدنيا والآخرة.
قال: «وله صِفةٌ في كثرةِ العلم -إذا كثُر عنده- ما الذي يجبُ عليه فيه؛ فيلزِمه نفسَه».
ففرقٌ بين طلبِ العلم في أوَّل الدَّرجات، وبين مَن رقيَ وترقَّى فيما هو أعلى، متجنِّبًا للبلايا والآفات.
فكلما كثُر العلمُ عند صاحبِه؛ كلما كانت الواجبات أولى وأعظم، وكلما كثُر العلمُ عند صاحبِه؛ كلَّما كان قائمًا بحقِّه -على ما يَرضَى عليه به ربُّه-.
ليس العلم بالتَّكاثُر ولا بالتَّفاخُر.
ذكرَ بعضُ أهل العلم أنَّه انشغلَ في تخريجِ حديثٍ، وتتبُّعه، وتجميع ما يتعلَّق به، وإحسان القول فيه؛ فرأى في المنام هاتفًا يقرأ عليه قولَ الله: ﴿أَلْـهَاكُمُ التَّكَاثُرُ!
إذا لم يكنْ -ثمَّة- الإخلاص والصِّدق فيما تقولُ، وفيما تَكتبُ، وفيما عنه تسكُت، وفيما به تتكلَّم -ولو ظننتَ أنَّك على شيءٍ!-؛ فسيُقال لك: ﴿أَلْـهَاكُمُ التَّكَاثُرُ!
ليس الأمر بكثرةِ الخُطَب أو المؤلَّفات، أو التَّصدُّر في المجالِس والمقامات..
ولكنَّ الأمر بحُسن العُبوديَّة لله ربِّ البريَّات -جلَّ في عُلاه وعَظُم في عالي سَماه-.
قال: «وله صِفةٌ إذا جالس العُلماءَ كيف يُجالِسُهم».
بالأدبِ، والصِّدق، والأخلاق الفاضلة، وحُسن الأداء، والكلمة الطيِّبة؛ لا بالاستِهزاء، والتَّحقير، والتَّنقيص.. لا بأن يكونَ ذا وجهَين بِلَونَين!! ضحكٌ بوجهي طعنةٌ عند القفا!!
ليس هكذا أخلاق العلماء؛ بل ليست هكذا أخلاقَ طُلاب العِلم؛ بل -والله- ليست هكذا أخلاق مَن هو مِن عامَّة المسلمين.. ليست هكذا أخلاقهم.. وليست هكذا صفاتهم.. وليس هذا ما هو واجبٌ عليهم -سواءٌ في أنفسِهم، أو مع العُلماء إذا جالسُوهُم-.
قال: «وله صِفةٌ إذا تعلَّم من العُلماءَ كيف يَتعلَّم».
بعضُ النَّاس إذا صار عنده كمٌّ مِن المعلومات؛ حسِب نفسَه مُستغنِيًا عن مُجالسة أهلِ العلم!
وممَّا لقَّنه العلماءُ لتلاميذِهم -الذين صاروا فيما بعدُ عُلماء-؛ قولُهم:
(لا يكونُ العالِم عالمًا إلا إذا أخذَ ممَّن فوقَه، وممَّن مثله، وممَّن دونه).
بعضُ النَّاس إذا صار عنده (شيءٌ)! من العلم، وكثُر الأتباع من الهمج الرَّعاع! الذين لا يُميزون -لا في النَّظر ولا في السَّماع؛ وإنَّما يبهرهم حُسن اللفظ وحُسن البيان!!-؛ فالنَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول: «إنَّ مِن البيان لسِحرًا»؛ فإيَّاك أن تُسحَر بما يُخالِف الحقَّ، وبما يُخالِف الحقيقة!
بعض هذا الصِّنف إذا صار عنده شيءٌ! من هذا القدرِ؛ تراهُ اغترَّ بنفسِه! واعتزل مجالسَ طُلاب العِلم وأهلِ العِلم! ظانًّا أنَّه صار -إن لم يُساوِهم- قد يظنُّ أنَّه يَفوقُهم!!
وليست هكذا أخلاق العلماء! وليست هكذا أخلاق طُلاب العلم! بل ليست هكذا أخلاق عامَّة المسلمين ممن تأدَّبوا بآداب الإسلام، وتخلَّقوا بأخلاق نبيِّ الإسلام -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-!
قال: «وله صِفة كيف يُعلِّم غيرَه».
يُعلم غيرَه بحُسن البيان، وبموافقة الخُبْر الخَبَر، والقولِ الفعلَ؛ لا أن يقولَ ما لا يفعل؛ ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ.. «مثلُ الذي يُعلِّم النَّاسَ الخَيْرَ وينسَى نفسَه؛ كمَثلِ السِّراجِ يُضِيءُ للنَّاسِ ويَحرِقُ نَفسَه» -كما قال نبي الهُدى-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
مثلُ الذي يُعلِّم النَّاسَ الخَيْرَ وينسَى نفسَه؛ كمَثلِ السِّراجِ يُضيءُ للنَّاس؛ لكن: يحرِق نفسَه!!! فلم ينفعْه عِلمُه، ولم ينفعه تعليمُه! قد ينفعُه في الدنيا!! لكن العالِم الرَّبَّاني هو الذي ينفعه الله في الدُّنيا والآخرة.
قال: «وله صِفةٌ إذا ناظرَ في العلم كيف يُناظِر».
المناظَرةُ في العلمِ على وجهِ طلبِ الحقِّ؛ أمرٌ محمودٌ؛ لكنَّ المناظرَةَ في العلم على وجهِ الغَلبةِ؛ أمرٌ مذمومٌ.. على وجهِ إظهارِ النَّقص؛ أمرٌ مذموم.. على وجهِ السَّيطرةِ على المواقف؛ أمر مذموم..
يقول الإمامُ أبو عبد الله محمَّد بن إدريس الشَّافعي -رحمه الله- قال:
«ما ناظرتُ أحدًا إلا سألتُ الله أن يُظهِر الحقَّ على لِسانِه»!
هذه أخلاق العلماء.. وهذا سُلوكهم.. وهذه ثمرتُهم..
الشَّافعي مضى عليه من السِّنين قرونٌ وقرون؛ إذا تذكَّرنا آدابَه وأخلاقَه وصفاتِه؛ نترحَّم عليه، ونترضَّى عنه؛ لأنَّه بِعلمِه وافقَ عملَه، ولم يكنْ -ثمَّةَ- انفصام أخرق، ولا انفصالٌ أحمق بين العلم والعمل.
ترى بعضَ النَّاس! إذا تكلم -حقيقةً- يُبهِرك، فإذا نظرتَ إليك؛ يُبهرك؛ لكن: من الباب الخلفي!! يبهرُك تفلُّته! ويبهرك افتراؤُه! ويبهرك تدليسُه وتلبيسُه!! في الوقت الذي يُبهِرك كلامُه وبيانُه!!
لكن هذا -وحدَه- ليس من أسباب النَّجاةِ في الدُّنيا والآخرة، وليس مِن أسباب النَّفع في الدُّنيا والآخرة.. قد يكون -ثمَّةَ- نجاة في الدُّنيا.. قد يكون -ثمَّة- نفع في الدُّنيا.. لكنْ: إذا لم تكن هذه الصِّفات على الوجهِ المَرضي؛ فلن تنفعَ صاحبَها في الأخرى، ولن ينتفعَ بها القائمُ بها عند الله -تَبارك وتَعالى-.
قال: «وله صِفةٌ إذا أفتى النَّاسَ كيف يُفتي».
نعم؛ يُفتيهم بما يَعتقد أنَّه الحق.. يُفتيهم بما يَظنُّ فيهم نجاةَ نفسه.. يُفتيهم بما يَرى فيه صلاحَهم.. لا يُفتيهم ليُلبِّس عليهم! لا يُفتيهم فتاوى مُتغيِّرة مُتلوِّنة متبدِّلة -بحسب الظُّروف والأحوال والأوضاع-!! يُفتي زيدًا بما لا يُفتي به عَمْرًا!! يفتي نفسَه بما لا يُفتي به غيرَه!! هذه صفات أهل الهلاك والويل والثُّبور وعظائم الأمور!! نسأل الله العافية.
أمَّا الذي يُفتي للنَّاس يُفتيهم بما يَعلم أنَّه سبب نجاتِه عند الله..
يُفتيهم بما يَظنُّ فيه الخيرَ لهم، والسَّعادة لهم، والحرص عليهم..
ليس -فقط- للتَّصدُّر، وليس -فقط- للزَّعامة، وليس -فقط- للرِّئاسة، وليس -فقط- ليُشار إليه بالبَنان، أو لِيلتَفَّ حولَه عددٌ من النَّاس من بني الإنسان!
ليست هكذا أخلاق أهل العلم.. وليست هكذا أخلاق طُلاب العلم.. وليست هكذا أخلاق عامَّة المسلمين -من الرَّعاع والدَّهماء-الذين قد يتعلَّم منهم هذا الصِّنف مكارمَ الأخلاق وأفضَلها وأحسنَها-.
قال: «وله صِفة كيف يُجالس الأمراء إذا ابتُلي بمُجالستِهم».
مِن عِليَة القوم، من ذي مكانةٍ في الدُّنيا -بمالِه، أو جاهِه، أو مَنصِبه..-، لا أن يتصيَّد النَّاس ليُلبِّس عليهم، وينتفعَ به دون أن يَنفعَهم، وأن يُصلِح شأنَهُ من هذه الدُّنيا الدَّنيَّة، وفِتنِها الشَّقيَّة، دون أن يكون له موضعُه اللائق به، اللائق بكرامتِه، اللائق بمعرفتِه، اللائق بمكانتِه، اللائق بهذا الموضع الذي ينبغي أن يكونَ فيه أرفعَ، وأعلى، وأروع، وأحسن..
لكنْ: هذا ابتلاء..
مَن لم يستيقظ منه، ومن لم يتنبَّه له، ومَن لم يعرف المُصيبة التي أكبَّ فيها على أمِّ رأسِه..
فنسأل الله أن يُنجِّيَنا -وإيَّاكم وإياه-ممَّن كان على هذا الصِّنف-في الآل قبل المآل؛ فالأمر خطير! والواقع مرير!!
وقد يكون الأمر أشدَّ وأخطر: إذا وَجَد بعضًا من النَّاس يُزيِّنون له أخطاءَه، ويُدافِعون عنه بالعواطِف والحماساتِ، وبالأهواء الفارِغات؛ فهذا -واللهِ- ضررٌ وخطرٌ!
ولئن كان الدَّافع إلى هذا حبًّا مزعومًا؛ فلْيَعلم المُواقِع لهذا الحُب المزعوم أنَّه يضرُّ حبيبَه -هذا المزعوم-أيضًا-، ويُغُرُّه ولا ينفعه؛ بدلًا مِن أن يُسمعَه كلمة الحق، وبدلًا من أن يَردعَه عما قد خالفَ فيه الحقَّ، وهو يَحسب أنَّه مِن المُحسِنين صُنعًا!!
قال: «ومَن يستحقُّ أن يُجالسَه ومَن لا يَستحق».
يعني: (وله صِفة كيف يجالس الأمراء ومَن يستحق أن يُجالسَه)؛ لأن مُجالسة العالِم لا ينبغي أن تكونَ مبذولةً لأيِّ أحدٍ؛ كما قال الشَّافعي:
«واضعُ العلم عند غيرِ أهلِه كمُقلِّد الخنازيرِ الذَّهب».
إذ قد بوَّأك اللهُ منزلةً ساميةً، ومكانةً عاليةً؛ فلا تجلسْ مع مَن هُم دونكَ إلا بِنيَّة نفعِهم -لا بِنيَّة أن تَنتفع منهم-.
إذا انتفعتَ منهم بأخذ العِبرة؛ فهذا خيرٌ عظيم؛ أمَّا إذا كان انتِفاعُك منهم دراهم معدودة، أو أموالًا غير محدودة؛ فهذا بلاءٌ تجرُّه إلى نفسِك!!
واسمعوا ماذا يقول النبيُّ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-: «ألا إنَّ الدِّينارَ والدِّرهمَ قد أهلَكَا مَن كان قبلَكُم، وهُما مُهْلِكاكُمْ».
ويقول النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «ما الفَقر أَخشَى عليكم، ولكنْ أخشى عليكم الدُّنيا: أن تُبسَطَ عَليكُم كما بُسطتْ على مَن كان قَبلَكم؛ فتنافسُوها كما تَنافَسُوها؛ فتُهلكَكُم كما أهلَكَتْهُم».
ويقول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-: «ألا إن لِكلِّ أمَّة فتنة، وفِتنة أمَّتي المالُ»!
فتنة المال: التي طاحت بها رُؤوس، وأُتبِعت بالهوى فيها
كُؤوس! فتنة المال: التي أضرَّت، وبرأسِها أطلَّت؛ فأفسدت وعمَت وطمَّت!! فتنة المال: الذي لا يتَّقي اللهَ فيه صاحبُه أو آخذُه -فيما يحلُّ له أو يَحرم- فتنةٌ عظيمة.. ليس لها مِن دون الله كاشفة.
وهذا لا يعني ذمَّ المال مطلقًا؛ بل اسمعوا ماذا يقول النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «نِعم المالُ الصَّالِح للرَّجلِ الصَّالح» ليس للرَّجل الفاجِر، أو الكاذِب، أو المدلِّس، أو المُستهتِر!!
ويقول النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «ما نَفَعَني مالٌ قطُّ كمِثلِ ما نَفَعَني مالُ أبي بكرٍ» رضي الله عن أبي بكر، وقاتَل اللهُ من يُبغِض أبا بكرٍ، وجعلنا اللهُ مع أبي بكرٍ، ومع عُمر، ومع سيِّد ولد آدمَ-أجمعين-صلَّى الله عليه وآلِه وصحبه أجمعين، بِصُحبة النَّبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالِحين، وحسن أولئك رفيقًا.
قال: «وله صِفة عند مُعاشرتِه لسائرِ النَّاس ممَّن لا عِلم معه» لا أن يتذلَّل لهم -لدُنياهم، ودراهمهم، ومواضِعهم-؛ في الوقت الذي قد لا يَغشَى أُناسًا أفضل منهم؛ لكن ليس عندهم ما عنده، وليس معهم ما مع هؤلاء!
أيضًا: ﴿تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾!!
ليست هكذا أخلاق العلماء.. وواللهِ؛ ليست هكذا طُلاب العلم.. ووالله؛ ليست هكذا أخلاق عامَّة المسلمين ممَّن رضُوا بالله ربًّا، وبالإسلام دِينًا، وبمحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- نبيًّا ورسولًا؛ مع علم قليل، وفِقهٍ يسير؛ لكنهم يعمَلون بهذا العِلم اليَسير، ويُطبِّقون هذا الفِقه القليل خيرٌ ممَّن جمع علمًا كثيرًا؛ لكنَّه يُخالفه، ويُناقضُه، ولا يعملُ فيه! بل: قد يكونُ ذلك سببَ اغتِرارٍ في نفسه، وتغريرٍ لغيره!!
قال: «وله صفةُ كيف يعبُد اللهَ -عزَّ وجلَّ- فيما بينه وبينه».
يَعبُدُه بالصَّوم.. يعبده بالصلاة.. يعبدُه بالاستِغفار.. يعبده بالخشوع والخشية.. يعبُده بالحياءِ.. ليست العبادة -فقط- الصَّلاة والصِّيام؛ فهذه عبادة الجوارح.
هنالك عبادة اللِّسان: من الاستغفار، والتَّسبيح، والصَّلاة على النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
هنالك عبادة القلبِ والجَنان: من الخوف من الرَّحمن، والذُّل، والحياء، والخشية، والرَّغبة، والرَّهبة..
هذه هي العبادات التي لا ينفكُّ عنها أيُّ مسلمٍ فضلًا عن طالبِ العلم، فضلًا عمَّن يُشار إليه أنَّه عالِم -إذا كان حقًّا عالمًا!-؛ فكيف وهو ليس كذلك؟! فهذا أولَى وأولى أن يَردعه، وأن يقمعَه، وأن يَرجعَ إلى ربِّه، وأن يستغفرَ لذنبِه، وأن يُصحِّح خيرَه وسُلوكَه، وأن يكونَ وفيًّا، والله -تَعالَى- يقول: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ؛ أن يكون وفيًّا لمَن كان معه، أن يكون ذا معرفةٍ بالفضلِ لمَن له عليه فضلٌ؛ لا أن يكون ذلك -كلُّه- ممحوًّا من ذاكرتِه، وممسوحًا من واقِعه، ومَنفيًّا من لسانِه..؛ فهذا حالٌ أشدُّ ضلالًا، وأعظم بالسُّوء مآلًا!!
نسأل الله العافية.
الكلام كثير.. والقول وَفِير.. لكنَّنا نستغفر الله من كل تقصير.. ونسأله -تَعالَى- من الرَّحمة والمغفرة الكثير الكثير.. وهو على كلِّ شيءٍ قدير.
نسأل الله -سُبحانهُ وتَعالى- أن يُخلِّقنا بأخلاق الإسلام، وأن يؤدِّبنا بآدابِ نبيِّ الإسلام، وأن نتزكَّى وتصفو نفوسُنا وأرواحُنا بما دلَّت عليه وأرشدتْ إليه أخلاق القرآن، وأخلاق السُّنة.
وما أجمل ما رواهُ مسلم في «صحيحه»: عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لما سُئلتْ عن خُلُق رسول الله -صلواتُ الله وسلامُه عليه-؛ فلم تَزِد -رَضِي اللهُ عنها- على أن قالت: «كان خُلُقه القُرآن»!
نعم؛ نُريد لِمَن كان ذا عِلمٍ أن يكون ذا خُلُق، وأن يكونَ خلُقه سجيَّة في نفسه، وحقيقةً في ذاتِه؛ لا تزيُّنًا للمُجالِسين، ولا استِعراضًا للسَّامعين؛ فهذا -واللهِ- قد يكونُ الفسوق أولى منه، والفُجور أقل شرًّا عند الله فيه!
وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين...
تم بحمد الله تعالى
تفريغ / أم زيد

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 03-01-2011, 12:54 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

من هنا لطباعة التفريغ
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
تفريغات أم زيد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:33 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.