أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
52272 82974

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > المنبر الإسلامي العام

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 08-09-2009, 10:12 PM
أبو العباس أبو العباس غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 790
افتراضي بين منهجين (5) : اعتبار مفصل الأحوال والأقوال قبل الحكم على أصحابها

بين منهجين (5) : اعتبار مفصل الأحوال والأقوال قبل الحكم على أصحابها
.

كثر الخلاف في الآونة الاخيرة في مسألة جلية من مسائل العلم حالها كحال غيرها من الواضحات , التي يأبى البعض إلا أن يعاند ويكابر فيها نصرة لأحكام جائرة يتبناها , او لتقريرات خاطئة يأبى أن يفارقها , ومن ذلك :

إهمال اعتبار مفصل الأحوال والأقوال للمعروفين بالاستقامة والاعتدال , والتشبث ببعض أقوالهم المجملة أو الخاطئة عند الإطلاق , ونسبتهم بسببها إلى مذاهب أهل الزيغ والانحراف , وهم أبعد ما يكونون عن مثلها , ورحم الله الإمام الذهبي حيث دفع عن ابن حبان تهمة الزندقة التي وصف بها بناء على كلمة مجملة وردت منه وهي قوله : (النبوة العلم والعمل) فحكم عليه بسببها بالزندقة، وهُجر، وكُتِبَ فيه إلى الخليفة، فكَتَبَ بقتله , فعقب الذهبي على هذه الواقعة في سير أعلام النبلاء (16\95-96) ؛ فقال : "وابن حبان فَمِنْ كبار الأئمة، ولسنا ندعي فيه العصمة من الخطأ،لكن هذه الكلمة التي أطلقها، قد يطلقها المسلم، ويطلقها الزنديق الفيلسوف، فإطلاق المسلم لها؛لا ينبغي، لكن يُعتذر عنه، فنقول: لم يرد حصر المبتدأ في الخبر، ونظير ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة" ومعلوم أن الحاج لا يصير بمجرد الوقوف بعرفة حاجًا، بل بقى عليه فروض وواجبات، وإنما ذكر مُهمَّ الحج، وكذا هذا ذكر مُهمَّ النبوة، إذ من أكمل صفات النبي؛ كمال العلم والعمل، فلا يكون أحد نبيًا إلا بوجودهما، وليس كل من برّز فيهما نبيًا، لأن النبوة موهبة من الحق تعالى، لا حيلة للعبد في اكتسابها، بل بها يتولد العلم اللدنى والعمل الصالح، وأما الفيلسوف فيقول: النبوة مكتسبة،ينتجها العلم والعمل، فهذا كفر، ولا يريده أبوحاتم أصلاً، وحاشاه".

وعلى الضد منه تشبث أهل الأهواء بعبارات وأقوال مجملة محتملة للحق بدرت من بعض أهل الزيغ والانحراف بغية دفع التهمة عنهم ونسبتهم زورا وتدليسا إلى أهل السنة والجماعة , ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال في مجموع الفتاوى (2\360) مبينا ضلال مذهب الاتحادية وموجها إلى عدم الاغترار بما كان من أقوالهم مجملا محتملا للمعنى الحق : " وليس لهذه المقالات وجه سائغ ولو قدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى صحيحا فإنما يحمل عليها إذا لم يعرف مقصود صاحبها وهؤلاء قد عرف مقصودهم كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة ولهم في ذلك كتب مصنفة وأشعار مؤلفة وكلام يفسر بعضه بعضا . وقد علم مقصودهم بالضرورة فلا ينازع في ذلك إلا جاهل لا يلفت إليه ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن الظن بها وخيف عليه أن يحسن الظن بها أو أن يضل فإن ضررها على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم وأعظم من ضرر السراق والخونة الذين لا يعرفون أنهم سراق وخونة" .

فجاء بحثنا هذا لتذكير طلبة العلم بأن اعتبار مفصل الأقوال والأحوال قبل الحكم على أصحابها هو مما دلت عليه الفطر السوية واقتضته اللغات البشرية , وتواطأت عليه العقول الإنسانية , ونص عليه جمهرة أهل العلم , وقبل الشروع في المقصود لا بد من التذكير بأمور :

الأول : إن الإجمال كما يقع في الأقوال فهو كذلك واقع في الأفعال كما قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (2\107) : "كما يقع الإجمال في الأقوال فكذلك يقع في الأفعال كما (أعطى النبي (صلى الله عليه وسلم) عمر (رضي الله عنه) حلة من حرير فلما لبسها أنكر عليه وقال : [لم أعطكها لتلبسها] فكساها أخا له مشركا بمكة).
فكل من الإجمال والاشتراك والاشتباه يقع في الألفاظ تارة , وفي الأفعال تارة , وفيهما معا تارة".

الثاني : إن الإجمال في الأقوال أو الأفعال موجب للتوقف في الإثبات والنفي قبل الاستفصال , ومن أثبت أحد المعاني من غير استفصال كان هذا الإثبات موجبا للوقوع في الجهل والضلال والبغي كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (2\217) : "وأما الألفاظ المجملة، فالكلام فيها بالنفي والإثبات ، دون الاستفصال ؛ يوقع في الجهل والضلال ، والفتن والخبال ، والقيل والقال ، وقد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء".
وقال –أيضا- في مجموع الفتاوى (12\551-552) : "فهذه المواضع يجب أن تفسر الألفاظ المجملة بالألفاظ المفسرة المبينة وكل لفظ يحتمل حقا وباطلا فلا يطلق إلا مبينا به المراد الحق دون الباطل فقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء . وكثير من نزاع الناس في هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة التي يفهم منها هذا معنى يثبته ويفهم منها الآخر معنى ينفيه , ثم النفاة يجمعون بين حق وباطل والمثبتة يجمعون بين حق وباطل"
وقال –كذلك- في درء تعارض العقل والنقل (1\76) : "ولهذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق ولا قصور أو تقصير في بيان الحق ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل ففي إثباتها إثبات حق وباطل وفي نفيها نفي حق وباطل فيمنع من كلا الإطلاقين".

الثالث : لا ينسب لمن أجمل في قول أو بدر منه فعل مجمل محتمل لأكثر من معنى من غير مرجح لأحدهما أحد المعاني -بله المذاهب- إلا بقرينة موجبة مرجحة مبينة لمرادهم ومقاصدهم وهذه تعرف بما قاله شيخنا فتحي الموصلي في كتابه البديع أصول نقد المخالف (ص\94) "لا يصح تقرير مذاهب العلماء وترجيح أقوالهم من إطلاقاتهم للجمل وتعميمها , أو بالنظر إلى موضع واحد دون الآخر , بل الطريق إلى أخذ مذاهب العلماء يكون من وجوه ثلاثة :
أولها : مراجعة تفسير العالم لكلامه , وهذا يكون بتتبع مواضع كلامه , والنظر في تفصيله , لا بفهم السامع وتخمينه .
الثاني : مراجعة ما تقتضيه أصول العالم , وهل يجري الكلام على أصول قائله ؟.
الوجه الثالث : أخذ مذهب العالم من أقواله ,وفتاويه , واختياراته المعروفة المشهورة , والنظر إلى ترجيحات أصحابه , لا بالنظر إلى الروايات الشاذة أو اللوازم الضعيفة .
والخروج عن هذا الطريق العلمي في تقرير مذاهب العلماء يجر إلى الفتنة والطعن في العلماء .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية [في الصارم المسلول (2\512)] –مؤصلا ومحذرا- : ((وأخذ مذاهب العلماء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم , وما تقتضيه أصولهم يجر إلى مذاهب قبيحة))".
ثم بعد تعيين المراد من القول المجمل بناء على هذه المسالك يكون القول خارجا عن الإجمال إلى الظاهر , فإن كان حقا أثبت , وإن كان باطلا رد .

الرابع : لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة , ومن أجمل في موطن الحاجة للبيان مع القدرة عليه وانتفاء موانعه يكون ملوما , ومن استمرأ الإجمال واعتاده في مواطن يتطلبها التفصيل عُدَّ إجماله في هذا الموضع داخل في باب كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب ومن باب كتمان شهادة العبد من الله , بل قد يكون مظنة إرادة المعنى المخالف للحق ؛ كما قرر هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في الفتاوى الكبرى (5\30) : "لاريب أن من لقي الله بالإيمان بجميع ما جاء به الرسول مجملا مقرا بما بلغه من تفصيل الجملة غير جاحد لشيء من تفاصيلها أنه يكون بذالك من المؤمنين إذ الإيمان بكل فرد فرد من تفصيل ما أخبر به الرسول وأمر به غير مقدور للعباد إذ لا يوجد احد إلا وقد خفي عليه بعض ما قاله الرسول , ولهذا يسع الإنسان في مقالات كثيرة لا يقر فيها بأحد النقيضين لا ينفيها ولا يثبتها إذا لم يبلغه أن الرسول نفاها أو أثبتها , ويسع الإنسان السكوت عن النقيضين في أقوال كثيرة إذا لم يقم دليل شرعي بوجوب قول أحدهما .
أما إذا كان أحد القولين هو الذي قاله الرسول دون الآخر ؛ فهنا يكون السكوت عن ذلك وكتمانه من باب كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب ومن باب كتمان شهادة العبد من الله , وفي كتمان العلم النبوي من الذم واللعنة لكاتمه ما يضيق عنه هذا الموضع.
وكذلك إذا كان أحد القولين متضمنا لنقيض ما أخبرا به الرسول (صلى الله عليه وسلم) والآخر لا يتضمن مناقضة الرسول لم يجز السكوت عنهما جميعاً , بل يجب نفي القول المتضمن لمناقضة الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا أنكر الأئمة على الواقفة في مواضع كثيرة حين تنازع الناس فقال قوم بموجب السنة وقال قوم بخلاف السنة وتوقفة قوم فأنكروا على الواقفة كالواقفة الذين قالوا (لانقول القرآن مخلوق ولانقول إنه غير مخلوق) , هذا مع أن كثيرا من الواقفة يكون في الباطن مضمرا للقول المخالف للسنة ولكن يظهر الوقف نفاقا ومصانعة فمثل هذا موجود" .

وبعد هذه المقدمة نشرع في بيان المقصود , فنقول :
إن اعتبار مفصل الأقوال والأحوال قبل الحكم على أصحابها بالانحراف والضلال قد دلت أوجه عدة على اعتباره منها :

[أدلة المسألة]

الوجه الأول : قوله تعالى ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ الآية ,ففي الآية دليل على وجوب عدم التعويل على الكلام المسموع بمجرده من غير التفات إلى سابق معرفة واطلاع بحال المتكلم فيه , كما قال ابن العربي في أحكام القرآن (3\364-365) عند هذه الآية : "هذا أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان ومنزلة الصلاح التي حلها المرء ولبسة العفاف التي تستر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان اصله فاسداً أو مجهولاً" .
وقال العلامة السعدي في تفسيره لهذه الآية (ص\563) : "أي ظن المؤمنون بعضهم ببعض خيرا، وهو السلامة مما رُمُوا به،وأن ما معهم من الإيمان المعلوم؛ يدفع ما قيل فيهم من الإفك الباطل" .
وقال –أيضا- في "فتح الرحيم الملك العلام في علم العقائد والتوحيد والأخلاق والحكام المستنبطة من القرآن" (ص\168) : "هذا إرشاد منه لعباده، إذا سمعوا الأقوال القادحة في إخوانهم المؤمنين؛ رجعوا إلى ما علموا من إيمانهم، وإلى ظاهر أحوالهم، ولم يلتفتوا إلى أقوال القادحين، بل رجعوا إلى الأصل، وأنكروا ما ينافيه".
ويبدو أن أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) قد فهمت من هذه الآية التي نزلت في حادثة الفك المتعلقة بها ما تقدم تقريره –أيضا- فكانت ترفض أن ينتقص من حسان بن ثابت (رضي الله عنه) وهو ممن خاض بالإفك في حقها مستدلة على منعها هذا بما كان قد عرف به من دفاعه ومنافحته عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعرضه , كما في صحيح البخاري من حديث عائشة، في قصة الإفك، وفيه: (قال عروة: كانت عائشة تكره أن يُسبَّ عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال: فإن أبي ووالده وعرضي::لعرض محمد منكم وقاء) ؛ فاعتبرت (رضي الله عنها) سابق المعلوم من حال حسان (رضي الله عنه) كقرينة موجبة عندها لرفض الانتقاص منه , رغم ما بدر منه تجاهها (رضي الله عنهم أجمعين).

الوجه الثاني : دلت مواقف الصحابة (رضي الله عنهم) بحضرة النبي (صلى الله عليه وسلم) على رفض الاعتماد على الأقوال والأفعال المعارضة للمفصل المعلوم من كلام وحال غير المعصوم , وأن المتعين هو اعتبار المعلوم الثابت من الأقوال والأحوال لا المظنون الطاريء , في دلالة واضحة على أن هذا الحمل والاعتبار هو منهج سني نبوي سلفي , ومن ذلك :
دفاع معاذ بن جبل عن كعب بن مالك بأنه ما عرف عنه إلا خيرا عندما طعن فيه بعض الصحابة بحضرة النبي (صلى الله عليه وسلم) بسبب تخلفه عن غزوة تبوك , كما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك في تخلفه عن غزوة تبوك وفيه : (ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوكًا، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: [ما فعل كعب بن مالك]؟ قال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه بُرداه والنظرُ في عِطفَْيه، فقال له معاذ بن جبل:بئس ما قُلْتَ،والله يا رسول الله، ما علمنا عليه الا خيرًا، فسكت رسول الله (صلى الله عليه وسلم)...).
فمعاذ بن جبل دافع عن كعب بن مالك رغم وقوعه بما يوجب القدح فيه , وفي هذا الدفاع –كما قال النووي- في شرح مسلم (17\89) : "دليل لرد غيبة المسلم الذي ليس بمتهتك -أو بمنهمك- في الباطل".
وفي سكوت النبي (صلى الله عليه وسلم) على دفاع معاذ بن جبل دليل إقراره عليه كما قال الأبي في "إكمال إكمال المعلم" (9/189) :"ولذا لم يُنكر (صلى الله عليه وسلم) على قائل ذلك؛اكتفاءً بإنكار معاذ".
ولم يقتصر منهج النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه في حمل مجمل الكلام والحال على مفصله في حق الصحابة بل تعداه إلى الدواب غير العاقلة , وما ذاك إلا لأن هذا الحمل مما تدعو إليه الفطرة وتستسيغه العقول السليمة , ومن ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) في حديث قصة الحديبية، وفيه: (...حتى إذا كان بالثنيّة، التي يهبط عليهم منها؛ بركت به راحلته، فقال الناس: حَلْ حَلْ، فألحَّتْ، فقالوا: خلأت القصواء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ما خلأت القصواء،وما ذاك لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل]).
قال ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري (8/126) :"وقوله عليه السلام في الناقة: [ما خلأت، وما هو لها بخلُق] فالخلأ في النوق، مثل الحران في الخيل،وفيه دليل على أن الأخلاق المعروفة من الحيوان، كلها يُحكم بها على الطارئ الشاذ منها، ولذلك إذا نُسب إنسان إلى غير خلقه المعلوم، في هفوة كانت منه؛ لم يُحكم بها".
وجاء في "فتح الباري" (5/335) في بيان فوائد الحديث نقلا عن ابن بطال : "..جواز الحكم على الشيء بما عُرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يُعهد منه مثلها؛ لا يُنسب إليها، ويُرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها، ممن لا يعرف صورة حاله، لأن خلاء القصواء، لولا خارق العادة؛ لكان ما ظنه الصحابة صحيحًا، ولم يعاتبهم النبي (صلى الله عليه وسلم) على ذلك ، لعذرهم في ظنهم".

الوجه الثالث : إن اعتبار مفصل الأقوال والأحوال هو منهج السلف من التابعين وكبار الإئمة المتبوعين , ومن ذلك :
ما حكاه شيخ الإسلام عن الإمام الشافعي كما في "الرد على البكري" (2/663-664): "....ومن الحكايات المعروفة عن الشافعي -رحمة الله تعالى عليه- أن الربيع قال له في مرضه : (يا أبا عبد الله؛قَوَّى الله ضعفك , قال: يا أبا محمد لو قوى ضعفي لهلكت؟!! فقال له الربيع: لم أقصد إلا خيرًا، فقال: لو شتمتني صريحًا, لعلمت أنك لم تقصد إلا الخير، فقال الربيع: كيف أقول؟ قال: قل: برّأ الله ضعفك) فعقب شيخ الإسلام قائلا : "فإن الشافعي نظر إلى حقيقة اللفظ، وهو نفس الضعف، والربيع قصد أن يسمي الضعيف ضعفًا، كما يُسمي العادل عدلاً، ثم لما علم الشافعي بحسن قصده؛ أوجب أن يقول: لو سببتني صريحًا- أي صريحًا في اللغة- لعلمت أنك لم تقصد إلا خيرًا، فقدّم عليه علمه بحسن قصده، ولم يجعل سوء العبارة منتقصًا، وقد يسبق اللسان بغير ما يقصد القلب، كما يقول الداعي من الفرح: [اللهم أنت عبدي، وأنا ربك] ولم يؤاخذه الله تعالى".
وكذلك كان موقف الإمام أحمد وأبو خليفة والخطيب البغدادي في حمل مجمل الكلام والحال على ما هو معروف من مفصله ,فقد جاء في شرف أصحاب الحديث (ص\114-115) : " سمعت أبا الوليد يقول سمعت شعبة يقول : (إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون).
قال أبو خليفة : يريد شعبة رحمه الله أن أهله يضيعون العمل بما يسمعون منه ويتشاغلون بالمكاثرة به أو نحو ذلك , والحديث لا يصد عن ذكر الله بل يهدي إلى أمر الله وذكر كلاما .
حدثني الحسن بن أبي طالب حدثنا عبد الواحد بن علي اللحياني حدثنا عبدالله بن سليمان بن عيسى الفامي حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن هاني قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل وسئل عن قول شعبة : (إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) ؛ فقال : لعل شعبة كان يصوم فإذا طلب الحديث وسعى فيه يضعف فلا يصوم أو يريد شيئا من أعمال البر فلا يقدر أن يفعله للطلب فهذا معناه .
قلت : وليس يجوز لأحد أن يقول كان شعبة يثبط عن طلب الحديث وكيف يكون كذلك وقد بلغ من قدره أن سمي أمير المؤمنين في الحديث كل ذلك لأجل طلبه له واشتغاله به ولم يزل طول عمره يطلبه حتى مات على غاية الحرص في جمعه لا يشتغل بشيء سواه ويكتب عمن دونه في السن والإسناد وكان من أشد أصحاب الحديث عناية بما سمع وأحسنهم إتقانا لما حفظ" .

الوجه الرابع : إن تفسير الكلام المجمل بحمله على مفصله المعلوم هو من المباحث المعروفة في لغة العرب , والعرب كانت تجمل في كلامها وتفصل وتفسر , كما قال أبو بكر الصيرفي فيما نقله عنه الزركشي في البحر المحيط (3/455) قال : "النبي (عليه السلام) عربي يخاطب، كما يخاطِب العرب، والعرب تُجمل كلامها، ثم تفسره، فيكون كالكلمة الواحدة، قال: ولا أعلم أحدًا أَبَى هذا غير داود الظاهري" .
بل إعمال هذا الحمل في آيات القران ونصوص السنة دليل على وجوده في لغة العرب –أصلا- كما قال الشاطبي –رحمه الله- في الموافقات (2 / 103-104) : "إن القرآن نزل بلسان العرب وإنه عربي وإنه لا عجمة فيه، فبمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، والظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، [وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله] ، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامها ؛ فإذا كان كذلك، فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب" .

الوجه الخامس : وهو الموضح للأصل الجامع لما تقدم , فيقال : أن الألفاظ لا تقصد لنفسها وإنما لمعانيها , فالعبرة في الكلام الحقائق والمعاني –إن أمكن معرفتها- لا لمجرد الألفاظ والمباني , كما قال ابن القيم –رحمه الله- في إعلام الموقعين (1\217-220) –مختصرا-: "والتعويل في الحكم : على قصد المتكلم , والألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني والتوصل بها إلى معرفة مراد المتكلم ومراده يظهر من عموم لفظه تارة ومن عموم المعنى الذي قصده تارة , وقد يكون فهمه من المعنى أقوى وقد يكون من اللفظ أقوى وقد يتقاربان ... , وهذا مما فطر الله عليه عباده ... ,ومنع هذا مكابرة للعقل والفهم والفطرة فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده , والألفاظ لم تقصد لذواتها وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له مطردة لا يخل بها ... , وأنت تجد من له اعتناء شديد بمذهب رجل وأقواله كيف يفهم مراده من تصرفه ومذاهبه ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا ويقوله وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه لما لا يوجد في كلامه صريحا وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة , وهذا أمر يعم أهل الحق والباطل لا يمكن دفعه فاللفظ الخاص قد ينتقل إلى معنى العموم بالإرادة والعام قد ينتقل إلى الخصوص بالإرادة فإذا دعي إلى غداء فقال والله لا أتغدى أو قيل له نم فقال والله لا أنام أو اشرب هذا الماء فقال والله لا أشرب فهذه كلها ألفاظ عامة نقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يقطع السامع عند سماعها بأنه لم يرد النفي العام إلى آخر العمر , والألفاظ ليست تعبدية , والعارف يقول : ماذا أراد , واللفظي يقول : ماذا قال , كما كان الذين لا يفقهون إذا خرجوا من عند النبي (صلى الله عليه وسلم) يقولون {ماذا قال آنفا} وقد أنكر الله سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله {فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا} فذم من لم يفقه كلامه والفقه أخص من الفهم , وهو فهم مراد المتكلم من كلامه , وهذا قدر زائد على مجرد وضع اللفظ في اللغة , وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم ... .".

[أقوال أهل العلم في هذه المسألة]
ولهذا فقد جاءت عبارات أهل العلم متضافرة متواترة على القطع مفصل الأقوال والأحوال دون التشبث بزلات الأقوال ومجملها , ومن ذلك :

أولا : ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في وجوب تفسير كلام المتكلم بعضه ببعض , كما في "الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح" (4/44) : "فإنه يجب أن يُفسَّر كلام المتكلِّم بعضه ببعض، ويُؤْخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتُعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلّم به، وتُعرف المعاني التي عُرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عُرف عُرفُه وعادتُه في معانيه وألفاظه؛ كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده، وأما إذا استُعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وتُرِك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحُمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عُرف أنه يريده بذلك اللفظ، بجعل كلامه متناقضًا، وترك حمله على ما يناسب سير كلامه؛ كان ذلك تحريفًا لكلامه عن موضعه، وتبديلاً لمقاصده، وكذبًا عليه، فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم".
وقال في "الرد على البكري" (2/623) : "ومعلوم أن مُفَسَّر كلام المتكلِّم يقضى على مجمله، وصريحه يُقدم على كنايته، ومتى صدر لفظ صريح في معنى، ولفظ مجمل نقيض ذلك المعنى، أو غير نقيضه؛ لم يُحمل على نقيضه جزمًا، حتى يترتب عليه الكفر؛ إلا من فرط الجهل والظلم" .
وأوضح –رحمه الله- خطورة وقبح نسبة المذاهب والأقوال إلى أهل العلم بمجرد الوقوف على بعض اطلاقاتهم دون سائرها المفسر لها في الباب المعين كما في "الصارم المسلول" (2/512) "وأخذُ مذاهب الفقهاء من الاطلاقات،من غير مراجعة لما فسّروا به كلامهم، وما تقتضيه أصولهم؛ يجر إلى مذاهب قبيحة".
وقال –أيضا- في كلام ماتع بديع كما في مجموع الفتاوى (31\114): "وكثيرا ما قد يغلط بعض المتطرفين من الفقهاء في مثل هذا المقام فإنه يسأل عن شرط واقف أو يمين حالف ونحو ذلك : فيرى أول الكلام مطلقا أو عاما وقد قيد في آخره . فتارة يجعل هذا من باب تعارض الدليلين ويحكم عليهما بالأحكام المعروفة للدلائل المتعارضة من التكافؤ والترجيح . وتارة يرى أن هذا الكلام متناقض ؛ لاختلاف آخره وأوله . وتارة يتلدد تلدد المتحير وينسب الشاطر إلى فعل المقصر . وربما قال : هذا غلط من الكاتب . وكل هذا منشؤه من عدم التمييز بين الكلام المتصل والكلام المنفصل . ومن علم أن المتكلم لا يجوز اعتبار أول كلامه حتى يسكت سكوتا قاطعا وأن الكاتب لا يجوز اعتبار كتابه حتى يفرغ فراغا قاطعا : زالت عنه شبهة في هذا الباب وعلم صحة ما تقوله العلماء في دلالات الخطاب . ومن أعظم التقصير نسبة الغلط إلى متكلم مع إمكان تصحيح كلامه وجريانه على أحسن أساليب كلام الناس ثم يعتبر أحد الموضعين المتعارضين بالغلط دون الآخر".

ثانيا : وقال ابن القيم في "مدارج السالكين" (3/520-521) بعد أن ذكر كلامًا لأبي إسماعيل الهروي ظاهره القول بالاتحاد، فحمله على محمل حسن -مع تخطئته إياه في العبارة- ثم قال: "والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل، وسيرته، ومذهبه، وما يدعو إليه ، ويناظر عليه".

ثالثا : وقال العلامة ابن الوزير مبينا أنه لا يصح في معرض الرد على المعين أن يؤاخذ المردود بظاهر لفظ لا سيما مع إمكان معرفة قصده كما قال ابن الزير : "ومن حق الجواب أن يكون لما ورد عليهمطابقا، ولما سيق من أجله موافقا، وأن لا يؤاخذ بمفهوم الخطاب، ولا يقطع بوهم يخالف الصواب , فإن من حق الناقض لكلام غيره أن يفهمه أولاً، ويعرف ما قصد به ثانياً،ويتحقق معنى مقالته، ويتبيِّن فحوى عبارته،فأما لو جَمَع لخصمه بين عدم الفهم لقصده،والمؤاخذة له بظاهر قوله؛ كان كمن رمى فأشوى، وخَبط خبْط عشوا،ثم إن نسب إليه قولاً لم يعرفه ، وحمله ذنباً لم يقترفه؛كان ذلك زيادة في الإقصا،وخلافاً لما به الله تعالى وصّى، قال تعالى:(وإذا قلتم فاعدلوا) , وقال تعالى : (قل أمر ربي بالقسط) وقال تعالى : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) إلى أمثالها من الآيات .... إلى أن قال:فأما مجرد البهت الصراح؛فلا يليق بذوي الصلاح ". من مقدمة المحقق للعواصم"(1/ 38) .

رابعا : وقال الحافظ تاج الدين عبدالوهاب بن علي السبكي في "قاعدة في الجرح والتعديل" ص(93): "فإذا كان الرجل ثقة مشهودًا له بالإيمان والاستقامة؛فلا ينبغي أن يُحمل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تعود منه ومن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله".اﻫ .

خامسا : وقال الحاظ ابن حجر الهيتمي في الإعلام بقواطع الإسلام (ص\188) :" وأيضا ًفالمصنفات تكثر مسائلها, فلو كان المصنفون إلى استيعاب سائر التفاصيل في كل مسألة ؛ لشق عليهم , بل عجزت عن ذلك قدرتهم , فساغ لهم ذكر أصول المسائل , والإطلاق في بعض الأبواب ؛ اتكالاً على فهم التفصيل من محل آخر , وغير ذلك مما لا يخفى على ناظر في كتبهم"اهـ.

سادسا : وقال الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- في شريط "عقيدة أهل السنة والجماعة" جوابا عن السؤال التالي "سؤال: هل كل ما ورد في "مجموع الفتاوى" لابن تيمية صحيح النسبة إليه ، أم هناك (بعض) فتاوى نسبت إليه ؟
فأجاب الشيخ -رحمه الله تعالى- : المعروف أن جامعها الشيخ العلامة عبدالرحمن بن قاسم -رحمه الله- وقد اجتهد وحرص على جمعها من مظانها، وسافر في ذلك أسفارًا كثيرة، ونقَّب عنها، هو وابنه محمد، واجتهد في ذلك، والذي نعلم مما أطلعنا عليه: أنها صواب، وأنها صحيح نسبتها إليه ، ولا يعني ذلك أن كل حرف، أوكل كلمة،قد وقع فيها خطأ من بعض النسّاخ أو الطبّاع، قد يقع خطأ من بعض النساخ أو الطباع، ولكن تراجع الأصول، وسوف يتبين الخطأ، ويظهر الخطأ،فإذا وُجدت عبارة لا تناسب المعروف من عقيدته، والمعروف من كلامه، وإذا وجد الإنسان في الفتاوى كلمة أُشكلت عليه، أو عبارة أشكلت عليه، فالواجب أن يردها إلى النصوص المعروفة من كلامه، من كتبه العظيمة، هذا هو الواجب على أهل الحق، أن يردوا المشتبه إلى المحكم، كما هو الواجب في كتاب الله، وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي كلام أهل العلم جميعًا..".

سابعا : وقال الشيخ محمد بن صالح العثمين في الشرح الممتع (5/380-381) : "وقوله: "ظاهره العدالة" أي: وأما من عُرِف بالفسوق والفجور؛ فلا حرج أن نسيء الظن به، لأنه أهل لذلك، ومع هذا لا ينبغي للإنسان أن يتبع عورات الناس، ويبحث عنها، لأنه قد يكون متجسسًا بهذا العمل"، قال ـ رحمه الله ـ : "قال: "ويستحب ظن الخير للمسلم" أي يستحب للإنسان أن يظن بالمسلمين خيرًا، وإذا وردت كلمة من إنسان، تحتمل الخير والشر؛ فاحملها على الخير، ما وجدت لها محملاً، وإذا حصل فعل من إنسان، يحتمل الخير والشر؛ فاحمله على الخير، ما وجدت له محملاً، لأن ذلك يزيل ما في قلبك من الحقد والعداوة والبغضاء، ويريحك، فإذا كان الله عز وجل لم يكلفك أن تبحث وتنقب؛ فاحمد الله على العافية، وأَحْسِن الظن بإخوانك المسلمين، وتعوذ من الشيطان الرجيم".

ثامنا : وقال الشيخ عبد المحسن العباد وقد سُئل السؤال التالي في شرح سنن أبي داود (ش\512) :"السؤال : إذا وُجد للعالم كلام مجمل في موضع، في قضية ما، وقد يكون هذا الكلام المجمل، ظاهره يدل على أمر خطأ، ووُجِد له كلام آخر، في موضع آخر، مفصل في نفس القضية، موافق لمنهج السلف، فهل يُحمل المجمل من كلام العالم على الموضع المفصل؟ .
فأجاب الشيخ: "نعم، يُحمل على المفصل، ما دامه شيئًا موهمًا، فالشيء الواضح الجلي هو المعتبر".

تاسعا : وقال الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله تعالى- في شريط بعنوان "التوحيد يا عباد الله" السؤال : بعد المحاضرة ، قال السائل : هل يحمل المجمل على المفصل في كلام الناس؟أم هو خاصٌ بالكتاب والسنة ؟ نرجو التوضيح -حفظكم الله- ؟ .
فأجاب الشيخ: "الأصل إن حمل المجمل على المفصل ,الأصل في نصوص الشرع من الكتاب والسنة، لكن مع هذا؛نحمل كلام العلماء، مجمله على مفصله، ولا يُقَوَّل العلماء قولا مجملاً، حتى يُرْجَع إلى التفصيل من كلامهم، حتى يرجع إلى التفصيل من كلامهم، إذا كان لهم قول مجمل، وقول مفصّل، نرجع إلى المفصل, ولا نأخذ المجمل" .

عاشرا : وحسبنا أن نختم النقولات الواضحات الصريحات عن أهل بدرة من درر العلامة بكر عبد الله أبو زيد , حيث قال في "المداخل إلى آثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال" ص(76-77) ط/دار عالم الفوائد:"أما الجناة كل الجناة: فهم في عصرنا طلاب الطّروس، الذين يُظهرون الانتساب إلى الحديث وأهله، وينادون بالسنة ونصرتها، ثم يمدون إلى الباطل أنبوبًا، وللتضليل يستدلون عليه بكلام لشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- حتى يغرِّر أحدهم بالناس، ويضلل أهل السنة والجماعة، ويعدل بهم عن الحق الذي قرره شيخ الإسلام، وهذه فتنة عمياء، وانشقاق في صف أهل السنة والجماعة، وبذر للشقاق، وغرس لحنظل الخلاف، وهكذا يكون الفتون، نسأل الله السلامة والعافية، ولهم في ذلك من الباطل طرق شتى منها:
1- الأخذ بالمتشابه، وهجر المحكم.
2- التقاط العبارات المجملة، أو المحتملة، أو الموهمة، والإعراض عن الصريحة الواضحة.
3- المغالطة في دلالة بعض العبارات.
4- قطع الكلام المستدل به عن السباق واللحاق الذي لا يتضح إلا بهما.
5- بتر الكلام في أوله أو مثانيه أو آخره.
6- إبدال لفظة بأخرى.
7- توظيف النص على غير المراد منه.
8- توظيف لفظة في غير ما يدل عليها السياق في واحدة من دلالات الألفاظ الثلاث: اللغوية، والشرعية، والعرفية.
يكون له كلام مجمل في موضع، لكنه مفصل مبسوط في موضع آخر، فيأخذ المجمل، ويترك المفصل".

[شبهة ونقضها]
ذهب بعض الناس إلى أن قاعدة (حمل المجمل على المفصل، والمبين والمطلق على المقيد، والعام على الخاص في كلام غير المعصوم) ، قاعدة قطبية ودعوة خطيرة , وزعم أن الأخذ بهذه القاعدة يلزم منه ضياع دين الله وضياع حقوق العباد ، معتمدا في هذا الفهم على ما قاله الشوكاني في كتابه الصوارم الحداد (ص96-97) : (وقد أجمع المسلمون أنه لا يؤول إلا كلام المعصوم).
وكذلك على ما قاله البقاعي -رحمه الله- في خلال رده على من يتأول كلام ابن الفارض : "مع أن الفاروق ابن الخطاب رضي الله عنه الذي ما سلك فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه، قد أنكر التأويل لغير كلام المعصوم، ومنع منه (رضي الله عنه) ، وأهلك كل من خالفه وأراده وبسيف الشرع قتله وأخزاه، فيما رواه عنه البخاري في كتاب الشهادات من صحيحه : (إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر خيراً؛ أمناه، وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، والله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً؛ لم نأمنه، ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة) .
وجوابنا على هذه الشبهة من طريقين :
الطريق الأول –مجملة- : قد تقرر بما تقدم من نصوص شرعية وآثار سلفية وأقوال علمية أن حمل مجمل الكلام على مفصل المقال والحال أمر معلوم معلوم شرعا , مسلم به عقلا وفطرة , وهو من مقتضى اللغة العربية قطعا , وعليه جرى عمل العلماء قديما وحديثا , فلا يعارض مثل هذا بمجرد فهم مغلوط لقاعدة غير محررة (!) , بله أن يوصف ما تقدم من المسلمات بانه قاعدة قطبية (!!) ؛ فهذا محظ التحكم والتقول على العلم وقواعده وأصوله , ورد لها بمحض التشنيعات والتشغيبات .

الطريق الثاني –مفصلة- : وبيان هذا الغلط على جهة التفصيل يتضح بالأوجه التالية :
الوجه الأول : لا بد من تحرير المصطلحات قبل الخوض في التوجيهات أمر لا بد منه للوقوف على تصور صحيح للمسألة المختلف فيها ؛ وفي مسألتنا هذه لا بد من تحرير أصل الخلاف فيقال :
قال العلامة الشنقيطي في المذكرة (ص\314-315) : "الكلام المفيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام : (نص , وظاهر , ومجمل) , وبرهان الحصر في الثلاثة أن الكلام :
إما أن يحتمل معنى واحداً فقط فهو والنص نحو : تلك عشرة كاملة .
وان احتمل معنيين فأكثر فلا بد أن يكون في أحدهما أظهر من الآخر أولا , فان كان أظهر في أحدهما فهو الظاهر ومقابلة المحتمل المرجوح ؛ كالأسد فانه ظاهر في الحيوان المفترس ومحتمل في الرجل الشجاع .
وان كان لا رجحان له في أحد المعنيين أو المعاني فهو المجمل كالعين والقرء ونحوهما .
وحكم النص : أن لا يعدل عنه الا بنسخ .
وحكم الظاهر : أن لا يعدل عنه الا بدليل على قصد المحتمل المرجوح وذلك هو التأويل ... .
وحكم المجمل : أن يتوقف عن العمل به الا بدليل على تعيين المراد".
فالكلام المجمل والحال المجمل هو ما لم يتميز الراجح فيه , ولا يصح حمله على معنى معين وترجيحه على غيره إلا بدليل يعين المراد , ومؤاخذة من تكلم بالمجمل من الأقوال على ما احتمله قوله من اسوأ المعاني –من غير قرينة مرجحة لإرادته- هو تقول على القائل لورود احتمالية إراداته المعنى الحسن .
ثم إن قامت القرينة المرجحة لأحد المعاني (إما الحسنة أو السيئة) على غيره , صار الراجح (ظاهرا) فخرج بذلك عن أصل النزاع (الإجمال) ثم يحكم على هذا الراجح بما يقتضيه من مدح أو ذم .
والتأويل إن كان بالقرينة المرجحة المعتبرة كان (ظاهرا) يجب الأخذ به فلا علاقة له بالإجمال –بعد ذلك- .
ثم إن كان التأويل بقرينة غير موجبة للترجيح كان من قبيل التأويل الفاسد أو اللعب ؛ فيحرم اعتباره في كلام المعصوم وغير المعصوم .
وعلى كلا التقديرين (تأويل الكلام بقرينة موجبة , أو بقرينة غير موجبة) فإن مبحث التأويل خارج عن مبحث الإجمال , فلا يصح الاستدلال على بطلان حمل مجمل الكلام والحال على مفصله , بقاعدة عدم اعتبار التأويل في كلام غير المعصوم –هذا على فرض صحتها أصلا- ؛ والاستدلال بهذه القاعدة على هذه الدعوى هو من قبيل التدليس على العباد القائم على خلط المفاهيم .

الوجه الثاني : إن كثيرا من أهل العلم قد تأولوا لكلام غير المعصوم , بل حتى لكلام من قد علم ضلاله كما حكى الشيخ حمد بن ناصر وأبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب-رحم الله الجميع- تأول بعض أهل العلم لكلام خطير لابن الفارض , فقالوا كما في الدرر السنية في الأجوبة النجدية (3\21-32) –مختصرا- : "فمن أهل العلم من أساء به الظن، بهذه الألفاظ وأمثالها، ومنهم من تأول ألفاظه، وحملها على غير ظاهرها، وأحسن فيه الظن، ومن أهل العلم والدين من أجرى ما صدر منه على ظاهره، وقال: هذه الأشعار ونحوها تتضمن مذهب أهل الاتحاد... وابن الفارض وأمثاله -لجهالتهم- لا يعلمون ما في كلامهم ومذهبهم من الكفر،ومن أحسن فيهم الظن من العلماء -كما قدمنا- حمل كلامهم على محامل غير هذه، وأوّلها تأويلاً حسنًا، على غير ظاهرها".
وهذا الشوكاني نفسه يحكي تراجعه عن تكفيره لابن عربي في الصوارم الحداد والذي رفض اعتبار تأويل كلام ابن عربي بناء على أنه (قد أجمع المسلمون أنه لا يؤول إلا كلام المعصوم) ؛ فبين تراجعه عن هذا التكفير بما يتضمن تعطيله العمل المطلق بهذه القاعدة (لا تعطيل مطلق العمل بها ) فتكلم في كتابه البدر الطالع (2\37-38) عن رسالته هذه بكلام يكتب بماء الذهب أنقله هنا بتمامه ليعم به النفع وتحصل به تمام الفائدة يقرر فيه انه لا يكفر المعين بما كان من كلامه قابلا للتأويل –ويعني به كلام ابن عربي- , وينصح الغلاة الواقعين في أعراض الناس المتصدرين للحكم على المسلمين بالقول: "وقد أوضحت في تلك الرسالة حال كل واحد من هؤلاء وأوردت نصوص كتبهم وبينت أقوال العلماء في شأنهم وكان تحرير هذا الجواب في عنفوان الشباب , وأنا الآن أتوقف في حال هؤلاء وأتبرأ من كل ما كان من أقوالهم وأفعالهم مخالفا لهذه الشريعة البيضاء الواضحة التي ليلها كنهارها ولم يتعبدني الله بتكفير من صار في ظاهر أمره من أهل الإسلام .
وهب أن المراد بما في كتبهم وما نقل عنهم من الكلمات المستنكرة المعنى الظاهر والمدلول العربى وأنه قاض على قائله بالكفر البواح والضلال الصراح فمن أين لنا أن قائله لم يتب عنه , ونحن لو كنا في عصره بل في مصره بل في منزله الذي يعالج فيه سكرات الموت لم يكن لنا إلى القطع بعدم التوبة سبيل لأنها تقع من العبد بمجرد عقد القلب مالم يغرغر بالموت فكيف وبيننا وبينهم من السنين عدة مئين .
ولا يصح الاعتراض على هذا بالكفار فيقال هذا التجويز ممكن في الكفار على اختلاف أنواعهم لأنا نقول فرق بين من أصله الإسلام ومن أصله الكفر فإن الحمل على الأصل مع اللبس هو الواجب لاسيما والخروج من الكفر إلى الإسلام لا يكون إلا بأقوال وأفعال لا بمجرد عقد القلب والتوجه بالنية المشتملين على الندم والعزم على عدم المعاودة فإن ذلك يكفى في التوبة ولا يكفى في مصير الكافر مسلما .
وأيضا فرق بين كفر التأويل وكفر التصريح على أنى لا أثبت كفر التأويل كما حققته في غير هذا الموطن وفي هذه الإشارة كفاية لمن له هداية".

الوجه الثالث : إن مقصود أهل الأصول والفقه كأمثال البقاعي والشوكاني من التأويل هو ما يقابل الظاهر , وهو صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره , كما قال ابن القيم في الصواعق المرسلة (1\178) : "وأما المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين فمرادهم بالتأويل صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره وهذا هو الشائع في عرف المتأخرين من أهل الأصول والفقه ولهذا يقولون التأويل على خلاف الأصل".
وهذا التأويل إن كان بقرينة موجبة كان تأويلا مقبولا , وإن كان بقرينة غير موجبة أو بغير قرينة كان تأويلا فاسدا , كما قال الشوكاني في معنى التأويل وأقسامه كما في إرشاد الفحول (ص\298) : "واصطلاحا صرف الكلام عن ظاهره الى معنى يحتمله , وفي الاصطلاح حمل الظاهر على المحتمل المرجوح , وهذا يتناول التأويل الصحيح والفاسد : فإن أردت تعريف التأويل الصحيح زدت في الحد بدليل يصيره راجحا , لأنه بلا دليل أو مع دليل مرجوح أو مساو فاسد" .
وأوضح الشوكاني في موطن آخر من كتابه إرشاد الفحول (ص\112) أن : "التأويل المعتضد بالدليل مقبول من كل إنسان لأنه إتباع للدليل لا إتباع لذلك التأويل".
وهذا التأويل المعتضد بالدليل هو التفسير الممدوح عند السلف , لا التأويل المذموم عندهم , فتنبه للفرق , فتأويل الكلام بمعنى صرفه عن الظاهر والراجح إلى المرجوح سواء كان للمعصوم أو لغير المعصوم بغير قرينة موجبة أمر ممنوع منه , وصرفه بقرينة موجبة مقبول ممدوح فاعله , ويوضحه :

الوجه الرابع : إن التأويل بمعناه عند المتأخرين من أهل الأصول والفقه هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى المجاز , وهو باطل في كلام المعصوم وكلام غير المعصوم , ولهذا رفض الفاروق (رضي الله عنه) أن يحيد عن الظاهر من الأقوال والأحوال –وهذا غاية ما في قول عمر (رضي الله عنه) [إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر خيراً؛ أمناه، وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، والله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً؛ لم نأمنه، ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة] , وليس في كلام الفاروق –مطلقا- ما يدلل على جواز هذا الحمل في كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) بغير قرينة.
وقد قرر هذا المعنى وهو بطلان بطلان التأويل بمعناه عند المتأخرين من أهل الأصول والفقه في كلام المعصوم وكلام غير المعصوم ابن القيم في الصواعق المرسلة (2\399-400) فقال : "معلوم أن العلوم إنما قصد بها مصنفوها بيانها وإيضاحها للمتعلمين وتفهيمهم إياها بأقرب ما يقدرون عليهمن الطرق فإن سلط التأويل على ألفاظهم وحملها على غير ظواهرها لم ينتفع بها وفسدت وعاد ذلك إلى موضوعها ومقصودها بالإبطال فإذا حمل كلام الأطباء على غير عرفهم المعروف من خطابهم وتأول المخاطب كلامهم على غير ظاهره لم يصل إلى فهم مرادهم البتة بل أفسد عليهم علمهم وصناعتهم وهكذا أصحاب علم الحساب والنحو وجميع أرباب العلوم إذا سلط التأويل على كلامهم لم يوصل إلى شيء من تلك العلوم مع أنه يجوز عليهم الخطأ والتناقض والتلبيس في بعض المواضع والتعمية ومع قصورهم في البيان ووجوه التعبير ومع نقصان إدراكهم للحقائق وعلومهم ومعارفهم فكيف يسلط التأويل على كلام من لا يجوز عليه الخطأ والغلط والتناقض وضد البيان والإرشاد هذا مع كمال علمه وكمال قدرته على أعلى أنواع البيان وكمال نصحه وهداه وإحسانه وقصده الإفهام والبيان لا التعمية والإلغاز .
ولهذا لما سلط المحرفون التأويلات الباطلة على نصوص الشرع فسد الدين فسادا لولا أن الله سبحانه تكفل بحفظه وأقام له حرسا وكلهم بحمايته من تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين لجرى عليهما جرى على الأديان السالفة ولكن الله برحمته وعنايته بهذه الأمة يبعث لها عند دروس السنة وظهور البدعة من يجدد لها دينها ولا يزال يغرس في دينه غرسا يستعملهم فيه علما وعملا .
وكما أن التأويل إن سلط على علوم الخلائق أفسدها فكذلك إذا استعمل في مخاطباتهم أفسد الأفهام والفهم ولم يمكن لأمة أن تعيش عليه ابدا فإنه ضد البيان الذي علمه الله الإنسان لقيام مصالحه في معاشه ومعاده".
وأما حمل المجمل على المفصل والعام على الخاص والمطلق على المقيد فهذا هو التفسير بقرينة , كما قال شيخ الإسلام فيما سبق حكايته عنه في الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح (4/44) : "فإنه يجب أن يُفسَّر كلام المتكلِّم بعضه ببعض، ويُؤْخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتُعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلّم به، وتُعرف المعاني التي عُرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عُرف عُرفُه وعادتُه في معانيه وألفاظه؛ كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده، وأما إذا استُعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وتُرِك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحُمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عُرف أنه يريده بذلك اللفظ، بجعل كلامه متناقضًا، وترك حمله على ما يناسب سير كلامه؛ كان ذلك تحريفًا لكلامه عن موضعه، وتبديلاً لمقاصده، وكذبًا عليه، فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم".
وقوله في الرد على البكري (2/623) : "ومعلوم أن مُفَسَّر كلام المتكلِّم يقضى على مجمله، وصريحه يُقدم على كنايته، ومتى صدر لفظ صريح في معنى، ولفظ مجمل نقيض ذلك المعنى، أو غير نقيضه؛ لم يُحمل على نقيضه جزمًا، حتى يترتب عليه الكفر؛ إلا من فرط الجهل والظلم" .
فتبين أن حمل المجمل على المفصل والعام على الخاص والمطلق على المقيد هو من باب التفسير والبيان , لا من باب الأخذ بالتأويل المقابل للعمل بالظاهر , وهذا التأويل باطل في كلام المعصوم وغير المعصوم –إلا إن كان بقرينة موجبة- فيكون مقبولا في كلام المعصوم وغير المعصوم .

الوجه الخامس : إن كلام برهان الدين البقاعي ليس في المجمل , وإنما في صرف الظاهر من كلام غير المعصوم عن معناه وهذا باطل لا يصح لأن غير المعصوم قد يخطيء عامدا او ساهيا فلا حاجة لتكلف التأويل لكلامه , كما قال –رحمه الله- في مصرع التصوف (ص\253) : "وقال الأصوليون كافة : التأويل إن كان لغير دليل كان لعبا , وما ينسب إلى بعض المذاهب من تأويل ما هو ظاهر في الكفر فكذب أو غلط منشؤه سوء الفهم كما بينت ذلك بيانا شافيا في غير هذه الرسالة , وإنما أولنا كلام المعصوم لأنه لا يجوز عليه الخطأ وأما غيره فيجوز عليه الخطأ سهوا وعمدا".
ومقصود البقاعي ظاهر : وهو أن كلام غير المعصوم يؤخذ على ظاهره ولا يصرف إلى غيره لأنه يجوز أن يكون قاله ساهيا أو مخطئا فيحكم على قوله الظاهر بما يدل عليه تصويبا أو تخطئة , ولسنا بحاجة لأن نتكلم لكلامه التأويلات لأنه غير معصوم من الخطأ سهوا وعمدا .
وبنحو هذا المعنى صرح شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (10\312-313) مبينا أنه لا يصح معاملة كلام المعصوم كما يعامل كلام المعصوم فقال : "معناه من الدين الواجب إذا جاء في الكتاب والسنة وكلام أهل الإجماع فإن معرفة مراد الله ومراد رسوله ومراد أهل الإجماع واجب لأن قول الله ورسوله وقول أهل الإجماع قول معصوم عن الخطأ يجب اتباعه فاللفظ الوارد في ذلك إن لم يعرف معناه لم يعرف ما أرادوا ولهذا كان الواجب أن كل لفظ جاء في كلام المعصوم وجب علينا التصديق به وإن لم يعرف معناه .
وما جاء في كلام غير المعصوم لم يجب علينا إثباته ولا نفيه حتى يعرف معناه ؛ فإن كان مما أثبته المعصوم أثبتناه وإن كان مما نفاه نفيناه" .

قلت : أما كلام المعصوم فلو دل ظاهره على ما لا يقبل شرعا أو عقلا فينظر فيه إلى دافع التأويل , وهو أحد أمرين :
الأول : معارضة كلام المعصوم لمعنى معتبر في الشرع , فعند ذلك نكون أمام حالة التعارض الموجبة للجمع أو الترجيح إو النسخ أو التوقف للاضطراب , مع القطع أن ثمة راجح لا تدركه عقولنا فكان التوقف هو الواجب , لا التأويل بلا قرينة , أو بقرينة غير موجبة , فإن حكم برجحان أمر من الأمور المتقدمة , كان هو الظاهر , وإن سماه البعض مؤولا ؛ فلا مشاحة في الاصطلاح , لأن معنى التأويل في هذا الموضع مرادف لمعنى التفسير المعتبر .
الأمر الثاني : معارضة الظاهر أو المنصوص من كلام المعصوم لدليل عقلي , فعند ذاك يعمد أهل السنة والجماعة إلى تقديم ظاهر كلام المعصوم على دليل العقل لقطعهم باستحالة معارضة النقل الصحيح للعقل الصريح , أما أهل الكلام فيعمدون إلى تأويل كلام المعصوم بما يظنوه دفعا لمعارضة الدليل العقلي وتحقيقا للموافقة -المزعومة- بين النص المؤول- والعقل , وهذا مسلك باطل حكاه وأجاد في نقضه شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في العديد من مصنفاته وبخاصة درئ تعارض العقل والنقل , وكذلك ابن القيم في مواطن عدة وبخاصة الصواعق المرسلة .
وعلى كل فالاستشهاد بقول البقاعي والشوكاني (في تأويل الكلام) على بطلان حمل المجمل على المفصل والعام على الخاص والمطلق على المقيد هو استشهاد بدليل خارج عن موضوع الدعوى (تفسير الكلام) , والله أعلم .
__________________

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرد على البكري (2\705) :
"فغير الرسول -صلى الله وعليه وسلم- إذا عبر بعبارة موهمة مقرونة بما يزيل الإيهام كان هذا سائغا باتفاق أهل الإسلام .
وأيضا : فالوهم إذا كان لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلمين لم يكن على المتكلم بذلك بأس ولا يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا يتوهم متوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم؛ بل ما زال الناس يتوهمون من أقوال الناس خلاف مرادهم ولا يقدح ذلك في المتكلمين بالحق
".
رد مع اقتباس
 


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:07 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.