أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
48309 88813

العودة   {منتديات كل السلفيين} > منابر الأخوات - للنساء فقط > منبر العقيدة والمنهج - للنساء فقط

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 09-19-2015, 06:57 AM
أم مسعود أم مسعود غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ التسجيل: Feb 2013
المشاركات: 52
افتراضي الأربعون- الثاني والأربعون

الدرس الأربعون
22/3/1435

تتمة الكلام عن ركن الإيمان باليوم الآخر : وللإيمان باليوم الآخر ثمرات جليلة منها : الأولى : الرغبة في فعل الطاعة والحرص عليها رجاء لثواب ذلك اليوم . الثانية: الرهبة عند فعل المعصية والرضى بها خوفاً من عقاب ذلك اليوم .الثالثة : تسلية المؤمن عما يفوته من الدنيا بما يرجوه من نعيم الآخرة وثوابها .
وقد أنكر الكافرون البعث بعد الموت زاعمين أن ذلك غير ممكن .
وهذا الزعم باطل دل على بطلانه الشرع، والحس ، والعقل.
أما الشرع: فقد قال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [سورة التغابن، الآية: 7] وقد اتفقت جميع الكتب السماوية عليه.
وأما الحس: فقد أرى الله عباده إحياء الموتى في هذه الدنيا، وفي سورة البقرة خمسة أمثلة على ذلك وهي:
المثال الأول: قوم موسى حين قالوا له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [سورة البقرة، الآية: 55] فأماتهم الله تعالى، ثم أحياهم وفي ذلك يقول الله تعالى مخاطباً بني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [سورة البقرة، الآيتين: 55، 56].
المثال الثاني : في قصة القتيل الذي أختصم فيه بنو إسرائيل، فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها ليخبرهم بمن قتله، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة البقرن، الآيتين: 72-73].
المثال الثالث: في قصة القوم الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الموت وهم ألوف فأماتهم الله تعالى، ثم أحياهم وفي ذلك يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [سورة البقرة، الآية: 243].
المثال الرابع: في قصة الذي مر على قرية ميتة فاستبعد أن يحييها الله تعالى، فأماته الله تعالى مئة سنة، ثم أحياه وفي ذلك يقول الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة البقرة، الآية: 259].
المثال الخامس: في قصة إبراهيم الخليل حين سأل الله تعالى أن يريه كيف يحيى الموتى ؟ فأمره الله تعالى أن يذبح أربعة من الطير، ويفرقهن أجزاء على الجبال التي حوله، ثم يناديهن فتلتئم الأجزاء بعضها إلى بعض، ويأتين إلى إبراهيم سعياً، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة البقرة، الآية: 260].
فهذه أمثلة حسية واقعية تدل على إمكانية إحياء الموتى، وقد سبقت الإشارة إلى ما جعله الله تعالى من آيات عيسى ابن مريم من إحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم بإذن الله تعالى.
وأما دلالة العقل فمن وجهين :
أحدهما: أن الله تعالى فاطر السماوات والأرض وما فيهما، خالقهما ابتداء، والقادر على ابتداء الخلق لا يعجز عن إعادته، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [سورة الروم، الآية: 27] وقال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [سورة الأنبياء، الآية: 104]. وقال أمر بالرد على من أنكر إحياء العظام وهي رميم: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [سورة يس، الآية: 79].
الثاني: أن الأرض تكون ميتة هامدة ليس فيها شجرة خضراء، فينزل عليها المطر فتهتز خضراء حية فيها من كل زوج بهيج، والقادر على إحيائها بعد موتها، قادر على إحياء الموتى. قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة فصلت، الآية: 39] وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [سورة ق، الآيات: 9-11].
وقد ضل قوم من أهل الزيغ فأنكروا عذاب القبر، ونعيمه، زاعمين أن ذلك غير ممكن لمخالفة الواقع، قالوا فإنه لو كشف عن الميت في قبره لوجد كما كان عليه، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق.
وهذا الزعم باطل بالشرع، والحس، والعقل:
أما الشرع: فقد سبقت النصوص الدالة على ثبوت عذاب القبر، ونعيمه في فقرة ( ب ) مما يلتحق بالإيمان باليوم الآخر.
وفي صحيح البخاري - من حديث - ابن عباس رضي الله عنهما قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بعض حيطان المدينة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما"[1]وذكر الحديث، وفيه: "أن أحدهما كان لا يستتر من البول" وفي -رواية - " من (بوله) وأن الآخر كان يمشي بالنميمة".
وأما الحس: فإن النائم يرى في منامه أنه كان في مكان فسيح بهيج يتنعم فيه، أو أنه كان في مكان ضيق موحش يتألم منه، وربما يستيقظ أحياناً مما رأى، ومع ذلك فهو على فراشه في حجرته على ما هو عليه، والنوم أخو الموت ولهذا سماه الله تعالى " وفاة " قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} {سورة الزمر، الآية: 42{.
وأما العقل: فإن النائم في منامه يرى الرؤيا الحق المطابقة للمواقع، وربما رأى النبي صلى الله عليه وسلم على صفته، ومن رآه على صفته فقد رآه حقاً ومع ذلك فالنائم في حجرته على فراشه بعيداً عما رأى، فإن كان هذا ممكناً في أحوال الدنيا، أفلا يكون ممكناً في أحوال الآخرة ؟!
وأما اعتمادهم فيما زعموه على أنه لو كشف عن الميت في قبره لوجد كما كان عليه، والقبر لم يتغير بسعة ولا ضيق، فجوابه من وجوه منها:
الأول: أنه لا تجوز معارضة ما جاء به الشرع بمثل هذه الشبهات الداحضة التي لو تأمل المعارض بها ما جاء به الشرع حق التأمل لعلم بطلان هذه الشبهات وقد قيل:
وكم من عائب قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
الثاني: أن أحوال البرزخ من أمور الغيب التي لا يدركها الحس، ولو كانت تدرك بالحس لفاتت فائدة الإيمان بالغيب، ولتساوى المؤمنون بالغيب، والجاحدون في التصديق بها.
الثالث: أن العذاب والنعيم وسعة القبر وضيقه إنما يدركها الميت دون غيره، وهذا كما يرى النائم في منامه أنه في مكان ضيق موحش، أو في مكان واسع بهيج، وهو بالنسبة لغيره لم يتغير منامه هو في حجرته وبين فراشه وغطائه. ولقد كان النبي صلى اله عليه وسلم يوحى إليه وهو بين أصحابه فيسمع الوحي، ولا يسمعه الصحابة، وربما يتمثل له الملك رجلاً فيكلمه والصحابة لا يرون الملك، ولا يسمعونه.
الرابع: أن إدراك الخلق محدود بما مكنهم الله تعالى من إدراكه ولا يمكن أن يدركوا كل موجود، فالسماوات السبع والأرض ومن فيهن، وكل شيء يسبح بحمد الله تسبيحاً حقيقياً يسمعه الله تعالى من شاء من خلقه أحياناً. ومع ذلك هو محجوب عنا، وفي ذلك يقول الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سورة الإسراء، الآية: 44] وهكذا الشياطين، والجن، يسعون في الأرض ذهاباً وإياباً، وقد حضرت الجن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمتعوا لقراءته وأنصتوا وولوا إلى قومهم منذرين. ومع هذا فهم محجوبون عنا وفي ذلك يقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة الأعراف، الآية: 27] وإذا كان الخلق لا يدركون كل موجود، فإنه لا يجوز أن ينكروا ما ثبت من أمور الغيب، ولم يدركوه.

الدرس الحادي والأربعون
29/3/1435
المتن : ( وتؤمن بالقدر خيره وشره ) : سبق الكلام فيما سبق عن الركن الخامس من أركان الإيمان وهو الإيمان باليوم الآخر ,والركن السادس الإيمان بالقدر خيره وشره : أي بما قدره الله يعني كتبه من خير وشر ، والقدر بفتح الدال : "تقدير الله تعالى للكائنات، حسبما سبق علمه ، وأقتضته حكمته .
والإيمان بالقدر تضمن الإيمان بأربعة أشياء : أولا : الإيمان بعلم الله القديم ، فإن الرب تعالى علم بعلمه القديم ما هو كائن : جملة وتفصيلاً، أزلاً وأبداً، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله أو بأفعال عباده .
ثانيا : والإيمان بأن الله كتب ما علم أنه كائن من العباد في اللوح المحفوظ، وفي هذين الأمرين ( العلم والكتابة) يقول الله تعالى: { ألم تعلم أن الله يعلمُ ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } {سورة الحج، الآية: 70}, وفي صحيح مسلم- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة"[2]
ثالثا : والإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه ما في السماوات وما في الأرض حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله تعالى ، سواء كانت مما يتعلق بفعله أم مما يتعلق بفعل المخلوقين، قال الله تعالى فيما يتعلق بفعله: { وربك يخلق ما يشاء ويختار } {سورة القصص، الآية: 68}، وقال: { ويفعل الله ما يشاء } {سورة إبراهيم، الآية: 27} وقال: { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } {سورة آل عمران ، الآية:6} وقال تعالى فيما يتعلق بفعل المخلوقين: { ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم } {سورة النساء، الآية: 90} وقال: { ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون } {سورة الأنعام، الآية: 112}.
رابعا : أن الله تعالى أوجد جميع الخلق ، وأن ما في الكون بتقدير الله وإيجاده فجميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها، وصفاتها، وحركاتها، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [سورة الزمر، الآية: 12] وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [سورة الفرقان، الآية: 2]. وقال عن نبي الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه قال لقومه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات، الآية: 96].
فلا يصير المرء مؤمنا بالقدر إلا بالإيمان بهذه الأربعة الأشياء . وأن يعلم أنما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه .
والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية وقدرة عليها، لأن الشرع والواقع دالان على إثبات ذلك له.
أما الشرع : فقد قال الله تعالى في المشيئة: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً} [سورة النبأ، الآية: 39] وقال: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [سورة البقرة، الآية: 223] وقال في القدرة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [سورة التغابن، الآية: 16] وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [سورة البقرة، الآية: 286].
وأما الواقع : فإن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة بهما يفعل وبهما يترك، ويفرق بين ما يقع: بإرادته كالمشيء وما يقع بغير إرادته كالارتعاش، لكن مشيئة العبد وقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالى، وقدرته لقول الله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة التكوير، الآيتين: 28-29] ولأن الكون كله ملك لله تعالى فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته.
والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا يمنح العبد حجة على ما ترك من الواجبات أو فعل من المعاصي ، وعلى هذا فاحتجاجه به باطل من وجوه :
الأول: قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [سورة الأنعام، الآية: 148] ولو كان لهم حجة بالقدر ما أذاقهم الله بأسه.
الثاني: قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [سورة النساء، الآية: 165]ولو كان القدر حجة للمخالفين لم تنتف بإرسال الرسل، لأن المخالفة بعد إرسالهم واقعة بقدر الله تعالى.
الثالث: ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو الجنة. فقال رجل من القوم: ألا نتكل يارسول الله ؟ قال لا أعملوا فكل ميسر، ثم قرأ {فأما من أعطى وأتقى}[3] الآية. وفي لفظ لمسلم: "فكل ميسر لما خلق له"[4] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل ونهى عن الإتكال على القدر.
الرابع: أن الله تعالى أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه إلا ما يستطيع، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن، الآية: 16] وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة، الآية: 286] ولو كان العبد مجبراً على الفعل لكان مكلفاً بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل، أو نسيان، أو إكراه ، فلا إثم عليه لأنه معذور.
الخامس: أن قدر الله تعالى سر مكتوم لا يعلم به إلا بعد وقوع المقدور، وإرادة العبد لما يفعله سابقة على فعله فتكون إرادته الفعل غير مبنية على علم منه بقدر الله، وحينئذ تنفى حجته إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
السادس: أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر، فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟‍‍‍‍‍‍‍ أفليس شأن الأمرين واحداً؟
وإليك مثالاً يوضح ذلك: لو كان بين يدي الإنسان طريقان أحدهما ينتهي به إلى بلد كلها نظام، وأمن مستتب، وعيش رغيد، واحترام للنفوس والأعراض والأموال، فأي الطريقين يسلك؟
إنه سيسلك الطريق الثاني الذي ينتهي به إلى بلد النظام والأمن، ولا يمكن لأي عاقل أبداً أن يسلك طريق بلد الفوضى، والخوف، ويحتج بالقدر، فلماذا يسلك في أمر الآخرة طريق النار دون الجنة ويحتج بالقدر؟
مثال آخر: نرى المريض يؤمر بالدواء فيشربه ونفسه لا تشتهيه، وينهي عن الطعام الذي يضره فيتركه ونفسه تشتهيه، كل ذلك طلباً للشفاء والسلامة، ولا يمكن أن يمتنع عن شرب الدواء أو يأكل الطعام الذي يضره ويحتج بالقدر فلماذا يترك الإنسان ما أمر الله ورسوله، أو يفعل ما نهى الله ورسوله ثم يحتج بالقدر؟
السابع: أن المحتج بالقدر على ما تركه من الواجبات أو فعله من المعاصي، لو اعتدى عليه شخص فأخذ ماله أو انتهك حرمته ثم احتج بالقدر، وقال: لا تلمني فإن اعتدائي كان بقدر الله، لم يقبل حجته. فكيف لا يقبل الإحتجاج بالقدر في اعتداء غيره عليه، ويحتج به لنفسه في اعتدائه على حق الله تعالى؟ ‍
ويذكر أن- أمير المؤمنين - عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفع إليه سارق استحق القطع، فأمر بقطع يده فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين، فإنما سرقت بقدر الله. فقال: ونحن إنما نقطع بقدر الله.
وللإيمان بالقدر ثمرات جليلة منها:
الأولى: الاعتماد على الله تعالى، عند فعل الأسباب بحيث لا يعتمد على السبب نفسه لأن كل شيء بقدر الله تعالى.
الثانية: أن لا يعجب المرء بنفسه عند حصول مراده، لأن حصوله نعمة من الله تعالى، بما قدره من أسباب الخير، والنجاح، وأعجابه بنفسه ينسيه شكر هذه النعمة.
الثالثة: الطمأنينة، والراحة النفسية بما يجرى عليه من أقدار الله تعالى فلا يقلق بفوات محبوب، أو حصول مكروه، لأن ذلك بقدر الله الذي لهلك السماوات والأرض، وهو كائن لا محالة وفي ذلك يقول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [سورة الحديد، الآيتين: 22-23] و يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"[5] رواه مسلم.
وقد ضل في القدر طائفتان:
إحداهما: الجبرية الذين قالوا إن العبد مجبر على عمله وليس له فيه إرادة ولا قدرة وليس له فيه إرادة ولا قدرة.
الثانية: القدرية الذين قالوا إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه آثر.
والرد على الطائفة الأولى ( الجبرية ) بالشرع والواقع:
أما الشرع: فإن الله تعال أثبت للعبد إرادة ومشيئة، وأضاف العمل إليه قال الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} {سورة آل عمران، الآية: 152{وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} {سورة الكهف، الآية: 29{الآية. وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [سورة فصلت، الآية: 46].
وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم الفرق بين أفعاله الاختيارية التي يفعلها بإرادته كالأكل، والشرب، والبيع والشراء، وبين ما يقع عليه بغير إرادته كالارتعاش من الحمى، والسقوط من السطح، فهو في الأول فاعل مختار بإرادته من غير جبر، وفي الثاني غير مختار ولا مريد لما وقع عليه.
والرد على الطائفة الثانية ( القدرية) بالشرع والعقل :
أما الشرع: فإن الله تعالى خالق كل شيء، وكل شيء كائن بمشيئة، وقد بين الله تعالى في كتابه أن أفعال العباد تقع بمشيئته فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [سورة البقرة، الآية: 253] وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [سورة السجدة، الآية: 13].
وأما العقل: فإن الكون كله مملوك لله تعالى، والإنسان من هذا الكون فهو مملوك لله تعالى، ولا يمكن للمملوك أن يتصرف في ملك المالك إلا بإذنه ومشيئته.

13/4/1435الدرس الثاني والأربعون
المتن : ( والدليل على هذه الأركان الستة قولهتعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ) [البقرة : 177 ، 178] .
الشرح : ( والدليل على هذه الأركان الستة ) : أي أنها أركان للإيمان ، لا يستقيم إيمان العبد إلا بها جميعها ، وأنه متى انتفى واحد منها لم يكن المرء مؤمنا .
( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) : قد اشتملت هذه الآية على جمل عظيمة ، وعقيدة مستقيمة .
(لَيْسَ الْبِرّ)َ والبر كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة : { أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } أي ليس البر كله أن تصلوا إلى بيت المقدس إن لم يكن أمر الله وشرعه وذلك لما حولوا إلى الكعبة .
( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) : أي ولكن البر امتثال أوامر الله واتباع ما شرع ، وأعظم ما ذكر في هذه الآية ، أو هذه أنواع البر كلها ، وبدأ بالإيمان ، أي ومن البر الإيمان بالله ، أو ولكن البر بر من آمن بالله ، أو ذا البر بر من آمن بالله ، أي بتفرده جل وعلا بالربوبية والإلهية ، والأسماء الحسنى والصفات العليا . إذ هو أصل الأصول . والإيمان باليوم الآخر . وهو البعث بعد الموت ، ينقضي بقضاء الخلق في الدنيا . ويموت كل من فيها ثم يحي الله الموتى ، ويعيد الأجساد كما كانت . ويرد إليها الأرواح كما كانت ، ويجمع الأولين والآخرين فيوفي كل عامل عمله .
( وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ) : أي وصدق بوجود الملائكة كلهم ، وأشرفهم السفرة بين الله ورسله .
وآمن بالكتاب : وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حتى ختمها بالكتاب العزيز ، وهو القرآن الكريم . المهيمن على ما قبله من الكتب ، وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى آخرهم . خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .
المتن : ( ودليل القدر قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر، الآية: 49] ) .
الشرح : ( ودليل القدر) : وأنه ركن من أركان الإيمان لا يستقيم الإيمان إلا به .
قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر، الآية: 49] ): أي ما خلقناه فمقدور مكتوب في اللوح المحفوظ . وفي الحديث : « كل شيء بقدر حتى العجز والكيس »([6]) .

[1]رواه البخاري، كتاب الوضوء باب: من الكبائر أن لا يستبرأ من بوله. ومسلم، كتاب الطهارة باب: الدليل على نجاسة البول ووجوب الإستبراء منه.

[2]رواه مسلم، كتاب القدر، باب: ذكر حجاج آدم وموسى عليهما السلام.

[3]رواه البخاري، كتاب التفسير.

[4]رواه مسلم، كاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي..

[5]رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق باب: المؤمن أمره كله خير.

([6]) رواه مسلم (8 / 51) ح 6922 بلفظ : « كُلُّ شَىْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ أَوِ الْكَيْسُ وَالْعَجْزُ ».
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 09-19-2015, 07:02 AM
أم مسعود أم مسعود غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ التسجيل: Feb 2013
المشاركات: 52
افتراضي الثالث والأربعون _ الخامس والأربعون

الثالث والأربعون
20/4/1435: المتن : ( المرتبة الثالثة : الإحسان) .
الشرح : قدم مرتبتي الإسلام والإيمان ، وثلث بالمرتبة الثالثة من مراتب الدين وهي الإحسان ، والإحسان نهاية الإخلاص , والإخلاص هو إيقاع العمل على أكمل وجوهه في الظاهر والباطن , بحيث يكون قائما به في الباطن والظاهر على أكمل الوجوه ، وهذا هو الإحسان ,
ولذا يفسر بالإخلاص ، واشتقاقه من الحسن نهاية الإخلاص الناشئ عن حقيقة الاستحضار . ومن حيث الظاهر كمال المتابعة , وتفسيره بالإخلاص تفسير له بنتيجته وثمرته ، فإنه من اتصف بذلك فإنه أكمل العمل في الظاهر والباطن , فالإحسان أعلى المراتب وأعمها من جهة نفسها ؛ لأنه يشمل جميع المراتب فالمحسن مؤمن مسلم , وأخصها من جهة أصحابها فهم في أعلى المراتب , كما أن الإيمان أعم من جهة نفسه ؛ لأنه يشمل الإسلام فكل مؤمن مسلم ولا عكس , وأخص من جهة أصحابه فهم أفضل من المسلمين الذين لم يصلوا لمرتبة الإيمان .
ولهذا يقال كل محسن مؤمن مسلم ، وليس كل مسلم مؤمنا محسنا , وكل ما أطلق الإحسان فإنه يدخل فيه الإيمان والإسلام فإن الإسلام والإيمان والإحسان دوائر , أوسعها دائرة الإسلام . ثم يليها في السعة الإيمان , ثم أضيقها الإحسان , كدوائر كل واحدة منها محيطة بالأخرى .
ومعلوم أن من كان في دائرة الإحسان فهو داخل في الإسلام والإيمان , وإذا خرج من الأولى فهو داخل في الثانية ، وهي دائرة الإيمان ، وإذا خرج عنها فهو داخل في الثالثة وهي دائرة الإسلام ، ومن خرج عن هذه الدوائر الثلاث فهو خارج إلى غضب الله وعقابه , وداخل في دوائر الشيطان والعياذ بالله- فظهر بالتمثيل بهذه الدوائر صحة قول من قال كل محسن مؤمن مسلم ، وليس كل مسلم مؤمنا محسنا فلا يلزم من دخوله في الإسلام أن يكون داخلا في الإحسان والإيمان , وليس المراد أن من لم يكن في الإحسان والإيمان أن يكون كافرا , بل يكون مسلما ومعه من الإيمان بأركان الإيمان ما يصحح إسلامه , لكن لا يكون مؤمنا الإيمان الكامل الذي يستحق أن يُثنى عليه به ، فإنه لو كان مؤمنا الإيمان الكامل لمنعه من المعاصي والمحرمات ، وقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أعطيتهم وتركت فلانا وهو مؤمن ؟ فقال : « أو مسلم »([1])وقال : « لا يزني الزاني حين يزني هو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن »([2]) الحديث , وقال : « والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه »([3]) فالنصوص ما نفت عنهم الإسلام بل أثبتت لهم أحكام الإسلام من عصمة الدم وإذا ماتوا غسلوا وكفنوا وصلي عليهم , فأهل الإحسان هم خواص أهل الإيمان كما أن أهل الإيمان- هم خواص- أهل الإسلام , فإن أهل الإحسان كملوا عبادة الله إلى أن وصلوا إلى حد المراقبة .
الرابع والأربعون
27/4/1435
سبق الكلام في الدرس الماضي عن معنى الإحسان : والليلة نتطرق لأنواع الإحسان :أنواع الإحسان : الإحسان ضد الإساءة وهو أن يبذل الإنسان المعروف ويكف الأذى فيبذل المعروف لعباد الله في ماله، وجاهه، وعلمه، وبدنه.
فأما أنواعه 1/ الإحسان بالمال : فأن ينفق ويتصدق ويزكى وأفضل أنواع الإحسان بالمال الزكاة ؛ لأن الزكاة أحد أركان الإسلام ، ومبانيه العظام ، ولا يتم إسلام المرء إلا بها ، وهي أحب النفقات إلى الله عز وجل، ويلي ذلك، ما يجب على الإنسان من نفقة لزوجته، وأمه، وأبيه، وذريته، وإخوانه، وبني إخوته، وأخواته، وأعمامه، وعماته، وخالاته إلى آخر هذا، ثم الصدقة على المساكين وغيرهم، ممن هم أهل للصدقة كطلاب العلم مثلاً.
2/ وأما الإحسان ببذل المعروف في الجاه : فهو أن الناس مراتب، منهم من له جاه عند ذوي السلطان فيبذل الإنسان جاهه، يأتيه رجل فيطلب منه الشفاعة إلى ذي السلطان يشفع له عنده، إما يدفع ضرر عنه، أو بجلب خير له.
3/ وأما الإحسان بعلمه فإن يبذل علمه لعباد الله، تعليماً في الحلقات والمجالس العامة والخاصة، حتى لو كنت في مجلس قهوة، فإن من الخير والإحسان أن تعلم الناس، ولو كنت في مجلس عام فمن الخير أن تعلم الناس، ولكن استعمل الحكمة في هذا الباب، فلا تثقل على الناس حيث كلما جلست في مجلساً جعلت تعظهم وتتحدث إليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخولهم بالموعظة، ولا يكثر، لأن النفوس تسأم وتمل فإذا ملت كلت وضعفت، وربما تكره الخير لكثرة من يقوم ويتكلم.
4/ وأما الإحسان إلى الناس بالبدن فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع عليها متاعه صدقة"([4]). فهذا رجل تعينه تحمل متاعه معه، أو تدله على طريق أو ما أشبه ذلك فكل ذلك من الإحسان، هذا بالنسبة للإحسان إلى عباد الله.
5/ وأما بالنسبة للإحسان في عبادة الله: فأن تعبد الله كأنك تراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهذه العبادة أي عبادة الإنسان ربه كأنه يراه عبادة طلب وشوق، وعبادة الطلب والشوق يجد الإنسان من نفسه حاثاً عليها، لأنه يطلب هذا الذي يحبه، فهو يعبده كأنه يراه، فيقصده وينيب إليه ويتقرب إليه سبحانه وتعالى، " فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وهذه عبادة الهرب والخوف، ولهذا كانت هذه المرتبة ثانية في الإحسان، إذا لم تكن تعبد الله - عز وجل - كأنك تراه وتطلبه، وتحث النفس للوصول إليه فاعبده كأنه هو الذي يراك، فتعبده عبادة خائف منه، هارب من عذابه وعقابه، وهذه الدرجة عند أرباب السلوك أدنى من الدرجة الأولى, وعبادة الله - سبحانه وتعالى - هي كما قال ابن القيم - رحمه الله -:
وعبادة الرحمن غاية في حبه ... مع ذل عابده هما ركنان
فالعبادة مبنية على هذين الأمرين: غاية الحب، وغاية الذل، ففي الحب الطلب، وفي الذل الخوف والهرب، فهذا هو الإحسان في عبادة الله عز وجل. وإذا كان الإنسان يعبد الله على هذا الوجه، فإنه سوف يكون مخلصاً لله - عز وجل - لا يريد بعبادته رياء ولا سمعة، ولا مدحاً عند الناس، وسواء اطلع الناس عليه أم لم يطلعوا، الكل عنده سواء، وهو محسن العبادة على كل حال، بل إن من تمام الإخلاص أن يحرص الإنسان على ألا يراه الناس في عبادته، وأن تكون عبادته مع ربه سراً، إلا إذا كان في إعلان ذلك مصلحة للمسلمين والإسلام، مثل أن يكون رجلاً متبوعاً يقتدي به، وأحب أن يبين عبادته للناس ليأخذوا من ذلك نبراساً يسيرون عليه أو كان هو يحب أن يظهر العبادة ليقتدي بها زملاؤه وقرناؤه وأصحابه ففي هذا خير، وهذه المصلحة التي يلتفت إليها قد تكون أفضل وأعلى من مصلحة الإخفاء، لهذا يثني الله - عز وجل - على الذين ينفقون أموالهم سرا وعلانية، فإذا كان السر أصلح وأنفع للقلب وأخشع وأشد إنابة إلى الله أسروا، وإذا كان في الإعلان مصلحة للإسلام بظهور شرائعه، وللمسلمين يقتدون بهذا الفاعل وهذا العامل أعلنوه , والمؤمن ينظر ما هو الأصلح، كلما كان أصلح وأنفع في العبادة فهو أكمل وأفضل.
المتن : ( الإحسان، ركن واحد ) :
الشرح : أي شيء واحد ولم يذكر له أركانا كما ذكر للإسلام والإيمان .
المتن : ( وهوأن تعبد الله كأنك تراه ) .
الشرح : أي الإحسان هو أن تعبد الله العبادة البدنية كالصلاة أو المالية كالذبح كأنك تشاهد معبودك الذي قمت بين يديه وقربت له القربان وأطعته فيما أمرك به فإنه إذا انكشفت الحقيقة للقلب وبلغ العبد في مقام المعرفة إلى حد كأنه يطالع ما اتصف به الرب سبحانه من صفات الكمال ونعوت الجلال وأحست الروح بالقرب الخاص الذي ليس كقرب المحسوس من المحسوس حتى شاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه وبين ربه أفضى القلب والروح حينئذ إلى الرب فصار يعبده كأنه يراه .
المتن : (فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) :
الشرح : أي وإن لم تعبده على استحضار الدرجة الأولى درجة المراقبة فاعلم أنه يراك سمع عليم بصير . مطلع على جميع خفياتك . فهاتان درجتان إحداهما أكمل من الأخرى . فإن لم تحصل على عبادة الله كأنك تشاهده فاعبده على مرأى من الله وأنه سميع عليم لجميع ما تفعله.

الخامس والأربعون
5/5/1435
المتن : ( والدليل قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [سورة النحل، الآية: 128].
الشرح : أي الدليل على مرتبة الإحسان , ومعنى الآية : أي أن الله عز وجل مع عباده الذين اتقوا المنهيات , والذين هم محسنون في العمل , يحفظهم ويكلؤهم ويؤيدهم , وهذه معية خاصة ومقتضاها مقتضى العامة وتقتضي المعية الخاصة معنى زائدا بحسب مواطنها .
المتن : ( وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة الشعراء، الآيات: 217-220].
الشرح : أي ومن أدلة مرتبة الإحسان أيضا : ومعنى الآية : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) أي توكل على الله تعالى في جميع أمورك فإنه مؤيدك وحافظك , (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ ) : أي معتن بك في جميع حركاتك وسكناتك . ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) أي يراك في صلاتك في حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك يعني المراقبة . (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) : أي السميع لأقوال عباده العليم بحركاتهم وسكناتهم ، وقال تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } وغيرها من الآيات الدالة على رؤية الله عز وجل وإطلاعه على أفعال خلقه .
ف (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ ) يعني يراقبك , ويعلم أحوالك , ويعلم ظاهرك وباطنك , فإن كان كذلك فعليك أن تراقب الله كما أنه يراقبك , والشاهد من الآية لمرتبة الإحسان قوله تعالى : ( الَّذِي يَرَاكَ ) . قال ابن القيم رحمه الله : (الإحسان هو المراقبة , وجميع أعمال القلوب ترجع إلى مراقبة الله سبحانه وتعالى .
المتن : ( وقوله : {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (1) [سورة يونس، الآية: 61] .
الشرح : ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ): أي وما تكون يا محمد في عمل من الأعمال في بيتك في سوقك في دكانك في المسجد في العمل. ( وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ) وما تتلو من القرآن الذي أوحاه الله إليك . ( ولا تعملون من عمل ) أنت وأمتك إلا كنا - أي إلا- ونحن عليكم شهودا مشاهدون لكم راؤون سامعون . ( إذ نفيضون فيه ) : أي تأخذون في ذلك الشيء وتخوضون فيه فالله تعالى يراقبك سواء كان هذا العمل صالحا أم لا .
المتن : ( والدليل من السنة ) :
الشرح : أي والدليل على مراتب الدين الثلاث : الإسلام والإيمان والإحسان من الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك .
المتن : ( حديث جبرائيل المشهور عن عمر رضي الله عنه ) .
الشرح : من طرق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما ذكر المصنف رحمه الله ما أخرجه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه لما فيه من زوائد الفوائد وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة ولأحمد وغيره نحوه من حديث ابن عباس وغيره . وهو حديث جليل عظيم الشأن يشتمل على بيان أصول الدين كله , ويمكن أن يقسم هذا الحديث إلى أربعة مواضيع أساسية : موضوع الإسلام وموضوع الإيمان وموضوع الإحسان وموضوع الساعة وأشراطها , هذه هي المواضيع الأربعة التي سأل عنها جبريل عليه السلام .









([1]) سنن النسائي (8 / 103) وقال الشيخ الألباني : صحيح

([2]) رواه البخاري (6810) ومسلم (211)

([3])مسند أحمد بن حنبل (6 / 385) تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين


([4]) رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب: فضل من حمل متاع صاحبه. ومسلم، كتاب الزكاة، باب: بيان أن أسم الصدق يقع في كل نوع من المعروف.
رد مع اقتباس
  #23  
قديم 09-19-2015, 07:12 AM
أم مسعود أم مسعود غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ التسجيل: Feb 2013
المشاركات: 52
افتراضي السادس والأرعون_ الثامن والأربعون

السادس والأربعون
12/5/1435
سبق في الدرس الماضي بداية الكلام على الدليل من السنة على مراتب الدين الثلاثة (الإسلام والإيمان والإحسان ) وفي هذا الدرس إن شاء الله نتذاكر في معاني حديث عمر رضي الله تعالى عنه الدال على تلك المراتب :
المتن : ( قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ) , الشرح : جاء في "الصحيحين"([1]) من حديث أبي هريرة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بارزا يوما للناس .
المتن : (ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر) : الشرح : وفي رواية : ( فإنا لجلوس عنده إذ أقبل رجل أحسن الناس وجها , وأطيب الناس ريحا , كأن ثيابه لم يمسها دنس ) ([2]) ( شديد سواد الشعر )وفي رواية : (شديد سواد اللحية ) ([3]): فهذا الرجل هو جبريل عليه السلام , وقد تمثل على هيئة رجل جاء يسأل , لئلا تستنكره الناس جاء على هيئة رجل , ولكن بهيئة لم يعهدوها , فثيابه بيضاء نظيفة , وشعره أسود , وليس عليه أثر السفر, فهل هو من أهل البلد ؟ قال : ( ولا يعرفه منا أحد ) وفي رواية : ( ليس عليه سحناء السفر وليس من البلد ) ([4]) أي ليس من أهل المدينة , فتعجب الصحابة من هذا الرجل حيث كان شديد بياض الثياب . شديد سواد الشعر . والمسافر من شأنه أن لا يكون كذلك ، ومع ذلك لا يرى عليه أثر السفر . ولم يعرفه الحاضرون . وفي رواية عثمان : ( فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا ما نعرف هذا ) ([5]). وفي رواية لمسلم : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « سلوني » فهابوا أن يسألوه . قال فجاء رجل )([6]).
المتن : ( حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه ) : الشرح : وفي رواية : ( ثم وضع يده على ركبتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ([7])وفي رواية : ( فتخطى حتى برك بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يجلس أحدنا في الصلاة ، ثم وضع يديه على ركبتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ) ([8]) . وصنيعه عليه السلام منبه للإصغاء إليه . وفيه إشارة لما ينبغي للمسؤول من التواضع والصفح عما يبدو من جفاء السائل كوضعه يده على ركبته . ولعل مبالغةَ جبرائيل تعميةً لأمره , فمع أنه غريب فقد عرف النبي عليه الصلاة والسلام , والغريب لا يعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل أين ابن عبد المطلب أو أين محمد ؟ وأيضا كان جريئا معه وهذا أيضا ليس معهودا عندهم جلس أمام النبي عليه الصلاة والسلام وأسند ركبتيه إلى ركبتيه فجلس قريبا جدا .
المتن : ( وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ) : الشرح : ولفظ ( أنه بدأ بالسؤال عن الإيمان قبل الإسلام ) كما في الصحيحين . وفي بعض روايات حديث عمر أنه : ( سأله عن الإحسان بين الإسلام والإيمان ) . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : (ولا شك أن القصة واحدة اختلف الرواة في تأديتها . وليس في السياق ترتيب ) ([9]). وفي رواية أنه قال : ( السلام عليك يا رسول الله قبل السؤال ) ([10]). وقوله يا محمد أخبرني عن الإسلام لعله مبالغة في التعمية .
المتن : ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ) : الشرح : ولفظ الصحيحين قال : « أن تعبد الله لا تشرك به شيئا » والمراد بالعبادة النطق بالشهادتين وإنما احتاج أن يوضحها بقوله : ( لا تشرك به شيئا ) ولم يحتج إليها في رواية عمر لاستلزامها ذلك . وفيه : « تقيم الصلاة المكتوبة . وتؤدي الزكاة المفروضة . وتصوم رمضان . وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا . » وهذه الأركان الخمسة هي الإسلام . وفي بعض الروايات :( فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم ؟ ) ([11])قال : « نعم . » فدل على أن من أكمل الإتيان بمباني الإسلام الخمس صار مسلما حقا . وهذا هو دليل المرتبة الأولى . وفسره بأعمال الجوارح الظاهرة . والإسلام هو الدين . قال تعالى : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة : 3 ] وهو الصراط المستقيم الذي أمر الله بالاستقامة عليه .
المتن : (قال : صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه ) : الشرح : عجب الصحابة رضي الله عنهم منه . فإن من شأن السائل أن يجهل ما يسأل عنه
المتن : (قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: "أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: صدقت) : الشرح : وقد ذكر الله الإيمان بهذه الأصول في مواضع من كتابه . والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل هذه الستة هي أركانه ومبانيه . وإعادة (تؤمن) عند ذكر القدر للاهتمام بشأنه . وبهذا الحديث احتج عبد الله بن عمر . وقال في القدرية : ( والذي يحلف به ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ) ([12]). وفي رواية : ( وتؤمن بالجنة والنار ( فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال : نعم ) ([13]). وهذا دليل المرتبة الثانية . وفسره بالأعمال الباطنة . ودل الحديث على أن الإسلام والإيمان إذا اقترنا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة .
ونقف وقفة مع أركان الإيمان : قال : (( أن تؤمن بالله )) : يشمل أربعة أشياء : الإيمان بوجوده , وربوبيته , وألوهيته , وأسمائه وصفاته .
1/ الإيمان بوجود الله تعالى : الدليل على وجوده الفطرة والعقل والشرع والحس : فالإنسان مفطور مخلوق عل الإقرار والاعتراف بوجود الله تعالى والإيمان به ( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا )[الروم : 30] والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( كل مولود يولد على الفطرة)) ([14]) , وكذلك العقل دل على وجود الله تعالى ؛ لأنه لا يمكن لهذا العالم المحكم الدقيق الصنع العظيم أن يوجد هكذا بدون موجد : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) [الطور : 35] ) , والحس كذلك : فكل ما تراه وتحس به يدلك على الله تعالى : قال الشاعر :
فوا عجبا كيف يعصى الإله ؟أم كيف يجحده الجاحـــد
وفي كل شيء له آيــــةتدل على أنه واحـــــد
سبحانه وتعالى , ويقول شاعر آخر :
تأمل في نبات الأرض وانظرإلى آثار ما صنع المليـــك
عيون من لجين شاخصاتبأحداق هي الذهب السبيك
على كُثُب الزبرجد شاهداتبأن الله ليس له شريــــك
تأمل في هذه المناظر الجميلة تشهد لك بأن الله تعالى ليس له شريك سبحانه وتعالى .

السابع والأربعون
3/6/1435
سبق في الدرس الماضي بداية الكلام على الإيمان بالله تعالى وهو أول أركان الإيمان , وعرفنا معنى الإيمان بوجوده : وفي هذا الدرس نتدارس معاني الإيمان بالله تعالى : أما ربوبيته : وهو الإيمان بأفعاله سبحانه وتعالى من الخلق والرَّزْق والملك والتدبير .
وأما الإيمان بالألوهية : الإيمان بأنه لا معبود بحق إلا الله , وأن العبادة حق لله تعالى لا يجوز أن تصرف لغيره , أو أن يعبد سواه , وتوحيد الألوهية من أجله أنزل الله تعالى الكتب وأرسل الرسل , ووقعت فيه الخصومة بين الأنبياء ولأقوامهم , وهو مفتاح دعوة الرسل ولا نجاة يوم القيامة إلا به وهو أساس الدين والملة .
وأما الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات :الإيمان بكل ما ثبت في الكتاب والسنة من أسمائه الحسنى وصفاته العليا , سبحانه وتعالى على طريقة السلف , أمروها كما جاءت بلا كيف , إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل .
وأركان الإيمان : ذكر الله الإيمان بها في مواضع من كتابه . والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل هذه الستة هي أركانه ومبانيه . وإعادة تؤمن عند ذكر القدر للاهتمام بشأنه . وبهذا الحديث احتج عبد الله بن عمر . وقال في القدرية والذي يحلف به ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر . وفي رواية : « وتؤمن بالجنة والنار » فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال : نعم([15]).
وهذا دليل المرتبة الثانية (الإيمان). وفسرها بالأعمال الباطنة . ودل الحديث على أن الإسلام والإيمان إذا اقترنا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة .
المتن : (قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ). الشرح : هذا القدر من الحديث أصل من أصول الدين . وقاعدة مهمة من قواعد العلم وهو من جوامع الكلم التي أوتيها - صلى الله عليه وسلم - . فإن إحسان العبادة هو الإخلاص فيها والخشوع . وفراغ البال حال التلبس بها . ومراقبة المعبود .
وأشار في الجواب إلى حالتين : أرفعهما أن يغلب عليه شاهدة الحق بقلبه حتى كأنه يراه . والثانية : أن يستحضر الحق تعالى مطلعا عليه . يرى كل ما يعمل . وهاتان الحالتان تثمرهما معرفة الله وخشيته . وفي رواية : « أن تخشى الله كأنك تراه »([16])فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا هو الإحسان وهو دليل المرتبة الثالثة . ففي هذا الحديث دليل هذه المراتب الثلاث . وأن أركانها هي ما عدها المصنف رح: مه الله . وفي رواية فعجبنا له يسأله ويصدقه . كما ذكر ذلك بعد الإسلام والإيمان([17]). وفي رواية أبي فروة فلما سمعنا قول الرجل : صدقت أنكرناه ([18]). وفي رواية مطر : انظروا إليه كيف يسأله . وانظروا إليه كيف يصدقه ([19]). وفي حديث أنس : انظروا هو يسأله وهو يصدقه كأنه أعلم منه ([20]). وفي رواية سليمان بن بريدة : قال القوم ما رأينا رجلا مثل هذا . كأنه يعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . يقول له : صدقت صدقت ([21]).
قال أبو العباس القرطبي _رحمه الله _ إنما عجبوا من ذلك لأن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف إلا من جهته . وليس هذا السائل ممن عرف بلقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بالسماع منه . ثم هو يسأل سؤال عارف بما يسأل عنه لأنه يخبره بأنه صادق . فتعجبوا من ذلك تعجب المستبعد لذلك([22]).
المتن : (قال: فأخبرني عن الساعة)
الشرح : ولفظ الصحيحين متى الساعة . أي متى تقوم الساعة . والمراد يوم القيامة .
المتن : ( قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ) .
الشرح : وفي رواية أبي فروة : ( فنكس فلم يجبه ثم أعاد فلم يجبه ثلاثا ثم رفع رأسه فقال : ما المسؤول بأعلم من السائل ) ([23]) : أي أنا وأنت سواء في العلم بها . فإنها مما استأثر الله بعلمه . كما في الآية الكريمة : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } ، وفي الحديث : « مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله . قال ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله » ([24])، وفي حديث ابن عباس هنا فقال : « سبحان الله خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله » ([25])ثم تلا الآية . وفيه التعميم تعريضا للسامعين أن كل مسؤول وسائل عنها فهو كذلك . وكف السامعين عن السؤال عن وقتها فإنهم قد أكثروا عليه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك .
المتن : ( قال فأخبرني عن أماراتها )
الشرح : وفي حديث أبي هريرة « وسأخبرك عن أشراطها »([26])، وفي رواية أبي فروة : « ولكن لها علامات تعرف بها »([27])، وفي رواية سليمان التيمي : « ولكن إن شئت نبأتك عن أشراطها »([28]) قال : أجل . فالأشراط والعلامات الأمارات جمع أمارة بالفتح الدلالة والبرهان على اقتراب قيامها . والمراد العلامات السابقة الصغرى . وأما ما يقارنها فكطلوع الشمس من مغربها فهي العلامات الكبرى .
المتن : ( قال : أن تلد الأمة ربتها )
الشرح : أي سيدتها . والمعنى أن السراري تكثر في العرب حتى يوجد أن الأمة تلد سيدتها وفسر بغير ذلك . وحاصله الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور بحيث يصير المربي مُرَبَّياً والسافل عاليا .
المتن : (وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاه يتطاولون في البنيان)
الشرح : أي ومن أماراتها أن ترى الحفاة جمع حاف : وهو الذي لا نعال عليه . العراة جمع عار : وهو الذي لا ثياب عليه . العالة جمع عائل : والعائل هو الفقير . رعاء الشاء : يعني الغنم يتطاولون في البنيان . والعرب كانوا قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - حفاة عراة . كما في هذا الحديث . وكانوا في أشد حالة وأدناها ، فمن الله عليهم بالإسلام وقواهم حتى استنفقوا خزائن كسرى وقيصر . ثم وصلوا إلى أن وقعوا فيما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من علامات قيام الساعة . ولفظحديث أبي هريرة : « وإذا رأيت الحفاة العراة رؤوس الناس »([29]) أي ملوكهم ، فذلك من أشراطها . وإذا تطاول رعاء البهم في البنيان فذلك من أشراطها([30])
والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم وتكثر أموالهم حتى يتباهوا بطول البنيان وزخرفته ، وفي الحديث : « إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة »([31])لأنه يفسد نظام الدين والدنيا . وهذا كله من انقلاب الحقائق في آخر الزمان وانعكاس الأمور .

الثامن والأربعون
10/6/1435
نتابع الكلام على حديث جبريل عليه السلام :
المتن : ( قال: فمضى فلبثنا ملياً ) .
الشرح : أي زمانا بعد انصرافه . فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمهم بعد مضي وقت لكنه في ذلك المجلس . إلا أن في رواية : فلبث ثلاثا([32]). ولفظ الصحيحين : ثم أدبر فقال : « ردوه » ، فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا([33]). وفي رواية سليمان التيمي : فولى . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « علي بالرجل » فطلبناه كل مطلب فلم نقدر عليه . فقال : « هل تدرون »([34])الخ . . وفي روايات أخر تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر الصحابة بشأنه في المجلس بعد أن التمسوه . وأما خبر عمر فلعله خطاب له وحده أو من تصرف بعض الرواة .
قال النووي _ رحمه الله _ : ( بأن عمر لم يحضر قول النبي صلى الله عليه و سلم في المجلس بل كان ممن قام إما مع الذين توجهوا في طلب الرجل أو لشغل آخر ولم يرجع مع من رجع لعارض عرض له فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم الحاضرين في الحال ولم يتفق الإخبار لعمر إلا بعد ثلاثة أيام ويدل عليه قوله فلقيني وقوله فقال لي يا عمر فوجه الخطاب له وحده بخلاف إخباره الأول ) ([35]).
المتن : ( فقال : "ياعمر أتدري من السائل" ؟ قلت : الله ورسوله أعلم )
الشرح : يقال : خص عمر رضي الله تعالى عنه لأنه كان حفيَّا به , مهتما بالموضوع , وهذا فيه أن من سئل عما لا يعلم أن يكل العلم إلى عالمه . ولا يتكلف ما ليس له به علم كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيما حكى الله عنه : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } . فإن من أعظم التكلف أن نسأل الإنسان عن شيء فيتكلف العلم به . ولهذا قيل في الله أعلم : نصف العلم يعني أن العلم ينقسم إلى قسمين : فوظيفة ما تعلم أن تجيب عنه بما تعلمه . وما لا تعلمه تقول فيه الله أعلم
المتن : (قال: "قال هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم".)
الشرح : وفي رواية : « يعلمكم دينكم »([36]) فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ما ذكر في هذا الحديث هو أمر الدين . بل هو الدين . فإنه قد اشتمل على أصول الدين والعقائد . بل انحصرت العلوم الشرعية التي يتكلم عليها فرق المسلمين في هذا الحديث ، ورجعت كلها إليه . وعقيدة أهل السنة والجماعة عليه . وشرفه وجلالته أمر مجمع عليه .
فينبغي على طالب العلم لأن يعتني بهذه المواضيع الأربعة:موضوع الإسلام , والإيمان , والإحسان , والساعة , هذا هو العلم النافع , ولكن مع الأسف لو نظرت في علماء الإسلام أو في المؤلفين والباحثين تجد أن العلماء الذين جمعوا بين هذه العلوم هم أهل الحديث , فإذا نظرت إلى الفقهاء يعنون فقط بالموضوع الأول (الإسلام) وإذا نظرت إلى علماء أصول الدين تجدهم يعنون بالموضوع الثاني (الإيمان) وإذا نظرت للزهاد وأرباب السلوك والعباد وأهل الورع تجدهم اعتنوا بالموضوع الثالث ( الإحسان) , وليس ثمة أحد عنده شمول إلا أهل الحديث : انظر صحيح البخاري تجد فيه الإسلام والإيمان والإحسان : تجده عقد كتابا للطهارة وللصلاة وللحج وللزكاة وللإيمان وللتوحيد وللاعتصام بالسنة وكتابا للرقاق بمعنى الإحسان , فكتب الحديث جمعت العلم النبوي , فمن أراد الشمول في العلم فعليه بكتب المحدثين : كصحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وغيرها , فلا ينبغي ولا يليق بطالب العلم أن يكون مستفيدا في علم وجاهلا في علوم أخرى من علوم الشريعة , فعلوم الشريعة يكمل بعضها بعضا , ويكون لطالب العلم عناية بالرقائق والخشوع والإخبات , فالسلف الصالح جمعوا بين تلك الأشياء : فانظر إلى ابن شهاب الزهري ومالك والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وحماد بن سلمة وأيوب السختياني , فهم علماء في الإسلام والإيمان والإحسان , جمعوا بين العلم والعمل , والآن نجد بعض الناس عنده عناية بالخشوع والإخبات وترقيق القلوب وتجده جاهلا الإسلام والإيمان , فلا بد من الشمول والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (( يعلمكم أمر دينكم )) هذا كله ديننا , وهو مأخوذ من الوحي والناس الآن زاهدون فيه إلّا من رحم الله , الشباب اليوم يحفظون الأناشيد ويمثلون ويلعبون , أين هم من هذا العلم نسأل الله السلامة والعافية .
بهذا انتهى الأصل الثاني وفي الدرس القادم إن شاء الله نبدأ بالأصل الثالث والأخير من الأصول الثلاثة .

























([1]) صحيح البخاري (6 / 144) ح4777صحيح مسلم (1 / 30) ح106 .

([2]) رواه النسائي "سنن النسائي"(8 / 101) ح4991 وقال الألباني : صحيح

([3]) "التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان" للألباني (1 / 470) ح 168 وقال : صحيح .

([4]) "الإيمان لابن منده (1 / 146) ح13 .

([5]) مسند أحمد بن حنبل (1 / 27) ح184وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين .

([6]) صحيح مسلم (1 / 30) ح108

([7]) سنن النسائي (8 / 101) ح4991وقال الشيخ الألباني : صحيح .

([8])"الإيمان لابن منده (1 / 146) ح13 .

([9]) فتح الباري - ابن حجر - (1 / 117)

([10]) رواه النسائي "سنن النسائي"(8 / 101) ح4991 وقال الألباني : صحيح


([11])"التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان" للألباني (1 / 480) ح173 . وقال : صحيح .

([12]) صحيح مسلم (1 / 28) ح102

([13])"التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان" للألباني (1 / 480) ح173 . وقال : صحيح .



([14]) رواه البخاري(ح1385) ومسلم ح2658).


([15]) صحيح ابن حبان بتحقيق الأرناؤوط (1 / 397)
وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح


([16]) صحيح مسلم (1 / 40) ح10.

([17]) رواها ابن منده في الإيمان (1 / 312)

([18]) سنن النسائي (8 / 101) وقال الشيخ الألباني : صحيح

([19]) مسند أبي عوانة (4 / 194)

([20]) مسند البزار (2 / 324)

([21]) مسند أحمد بن حنبل (1 / 52) تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم.

([22]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1 / 66)

([23]) سنن النسائي (8 / 101) وقال الشيخ الألباني : صحيح

([24])صحيح البخاري (6 / 99) ح4697

([25])مسند أحمد بن حنبل (1 / 319) ح2926 , تعليق شعيب الأرنؤوط : حديث حسن .

([26])رواه البخاري (1 / 20) ح50 ومسلم (1 / 30)ح106

([27]) سنن النسائي (8 / 101) وقال الشيخ الألباني : صحيح

([28])صحيح ابن حبان (1 / 397) قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح



([29])صحيح مسلم (1 / 30) ح106

([30])صحيح مسلم (1 / 30) ح106

([31]) صحيح البخاري (1 / 23) ح59




([32]) مسند أحمد بن حنبل (1 / 51) ح 367 , تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين .

([33])صحيح البخاري (1 / 20) ح50, وصحيح مسلم (1 / 30) ح108

([34]) صحيح ابن حبان (1 / 397)ح173 سنن الدارقطني (3 / 341) ح2708: وقال إِسْنَادٌ ثَابِتٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا الإِسْنَادِ .

([35]) "فتح الباري (1 / 125) .






([36]) صحيح مسلم (1 / 28) ح102.





رد مع اقتباس
  #24  
قديم 09-19-2015, 07:23 AM
أم مسعود أم مسعود غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ التسجيل: Feb 2013
المشاركات: 52
افتراضي التاسع والأربعون - الحادي والخمسون

التاسع والأربعون
10/6/1435
المتن : ( الأصل الثالث : معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ) .
الشرح : هذا هو الثالث من أصول الدين التي يجب على الإنسان معرفتها , فكما أن الأصل الأول : معرفة الله العظيم واجب معرفته , وكذلك الأصل الثاني معرفة دين الإسلام الذي خلقنا اللهتعالى له , وتعبدنا بالقيام به أصل عظيم وواجب معرفته , فكذلك هذا الأصل الثالث أصل عظيم يجب معرفته , فالنبي عليه الصلاة والسلام الواسطة بيننا وبين الله تعالى في تبليغ هذا الدين , أما في العبادة فلا واسطة بين العبد وربه , ولا نجاة لنا إلا بنا جاءنا به قال تعالى : { من يطع ارسول فقد أطاع الله } النساء : 80 , ولا نستطيع معرفة الأصل الأول والثاني إلا بواسطته.
فالأصل الأول في معرفة المرسل , والثاني في معرفة الرسالة , والثالث معرفة الرسول .معرفة النبي صلى الله عليه وسلم فتتضمن خمسة أمور : الأول : معرفته نسباً فهو أشرف الناس نسباً فهو أشرف الناس نسباً فهو هاشمي قرشي عربي فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم إلى آخر ما قاله الشيخ رحمه الله.
وقد كان له عدة أسماء أشهرها محمد ؛ ولهذا جاء في القرآن بهذا الاسم , على وجه التنويه , كما في قوله تعالى : {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} الأحزاب 40, {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} آل عمران 144, {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} الفتح 29 , فهذا أشهر أسمائه , ومعناه : الذي يُحمد أكثر من غيره , وهو علم مشتق من التحميد , لما فيه من الخصال الحميدة ,وكنيته أبو القاسم , وأبوه عبد الله وهو الذبيح الثاني المفدي بمأئة من الإبل .
وعبد المطلب اسمه :شيبة , ويقال له شيبة الحمد , لجوده وجماع أمر قريش إليه , وسمي عبد المطلب ؛ لأن عمه المطلب قدم به مكة , وهو رديفه , وقد تغير لونه بالسفر فحسبوه عبدا له , فقالوا : هذا عبد المطلب , فعلق به هذا الاسم .
وهاشم جده الثاني : اسمه عمرو , وسمي هاشما ؛ لهشمه الثريد مع اللحم لقومه في سني الْمَحْل والجفاف .
وقريش : هو النضر فإن إليه جماع قريش , ولا خلاف بين العلماء أن هاشما ابن لعبد مناف , واسمه المغيرة بين قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار معد بن عدنان .
وما فوق هذا النسب فيه خلاف بين العلماء , والعرب هنا المراد بهم المستعربة , فإن العرب قسمان : العاربة والمستعربة , والعاربة قحطان , والمستعربة عدنان وهم أفضل من العاربة كيف ومنهم رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم , وهو القائل : ((" إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل و اصطفى قريشا من كنانة و اصطفى من قريش بني هاشم و اصطفاني من بني هاشم "([1]) .
وقال أبو سفيان لهرقل لما سأله : (( كيف هو فيكم ؟ قال : هو فينا ذو نسب , قال: وهكذا الرس تبعث في أنساب قومها )) ([2]) , يعني في أكرمها أحسابا .
والعرب المستعربة من ذرية العرب من ذرية إسماعيل، ابن إبراهيم الخليل، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام : وهذا لا خلاف فيه , ولا خلاف أن الخليل من ذرية سام بن نوح عليه السلام .
الثاني : معرفة سنه ، وزمان ولادته، ومهاجره وقد بينها الشيخ بقوله: "وله من العمر ثلاث وستون سنة، وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة" فقد ولد بمكة وبقي فيها ثلاثا وخمسين سنة، ثم هاجر إلى المدينة فبقي فيها عشر سنين، ثم توفي فيها في ربيع الأول سنة إحدى عشر بعد الهجرة.
ولادته يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول عام الفيل ,وفي الاثنين بعث وفيه عرج به إلى السماء , وفيه هاجر إلى المدينة , وفيه توفي صلى الله عليه وسلم , قال: (( ذلك يوخم وُلِدتُّ فيه وأُنْزِل علي فيه )) ([3]) وظهر النور معه حتى أضاءت له قصور الشام : حيث قال (( ورأت أمي في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام )) ([4]) وتوفي أبوه وهو حمل, وكان عند جده , ثم عمه أبي طالب , وتزوج خديجة وعمرة خمس وعشرون سنة , ومنها أولاده إلا إبراهيم فمن مارية , وشهد حلف المطيبين وبناء الكعبة , وكان يسمى الأمين قبل مبعثه صلوات الله وسلامه عليه .
الدرس الخمسون
9/7/1435
نتابع في هذا الدرس فيما يخص معرفة النبي صلى الله عليه وسلم وهي تتضمن خمسة أمور أخذنا منها أمرين :
الثالث: معرفة حياته النبوية وهي ثلاث وعشرون سنة فقد أوحي إليه وله أربعون سنة كما قال أحد الشعراء([5]) :
وأتت عليه أربعون فأشرقتشمس النبوة منه في رمضان
وله أربعون سنة قبل النبوة عند جماهير أهل العلم بسيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام , لأن النبي عليه الصلاة والسلام نزل عليه القرآن وعمره أربعون سنة , وهذا السن هو سن النضوج واكتمال القوة والعقل والله له الحكمة البالغة : كما قال تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ (15) } [الأحقاف : 15] , ومن الحكم التي تظهر لنا أنه أرسله في هذه السن لئلا يقال : هذا شاب , والناس في الغالب لا يقبلون من الشاب إذا جاءهم بما لا يعرفونه , وكانوا قد عقدوا دارا للندوة والمشاورة ويمنعون من كان عمرة دون الأربعين أن يدخلها .
ثم حكمة أخرى تظهر لنا : أن الأربعين سن كافية في معرفتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم واختبارهم له في أخلاقه , والغالب أن الإنسان إذا طبع على شيء أربعين سنة فإن هذا يكون طبعا له , فمعرفتهم به تكون قوية , فما يستطيعون بعد ذلك التشكيك فيه , وما خفي علينا من الحكم كان أعظم .
الرابع : بماذا كان نبياً ورسولاً ؟ فقد كان نبياً حين نزل عليه قول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق، الآيات: 1-5]، ثم كان رسولاً حين نزل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [سورة المدثر، الآيات: 1-7]، فقام صلى الله عليه وسلم فأنذر وقام بأمر الله عز وجل.والنبوة من النبأ وهو الخبر : لأنه يخبر عن الله تعالى ,وقيل : من النبوة وهو الارتفاع لارتفاع رتبته , وإنما كان كذلك لأنه ارتفع على غيره , والرسول أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه لقوم مخالفين له , والنبي أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه لقوم موافقين له .
(نبئ باقرأ وأرسل بالمدثر ) :أنزل عليه يوم الاثنين بلا خلاف , والمشهور أنه في رمضان بغار حراءصدر سورة العلق ففيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة , وخص الإنسان ؛ لما أودعه من عجائب آياته , ومن كرم الله تعالى أن علمه ما لم يعلم فشرفه بالعلم , والعلم تارة يكون في الأذهان وتارة في اللسان وتارة في الكتابة بالبنان : ولهذا قال :{ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ورجع بها يرجف فؤاده , فقالت له خديجة : والله لا يخزيك الله , وأخبرت ورقة بن نوفل , فقال : هذا الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى .
( أرسل بالمدثر ) : أي بصدر سورة المدثر بعد فترة الوحي , ولما جاء الملك خاف منه فقال : (( دثروني )) فأنزل الله { يا أيها المدثر } ثم حمي الوحي وتتابع , وكان أول ما نزل عليه بعد فترة الوحي , وحينئذ شمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ساق العزم ودعا إلى الله تعالى .
(بلده مكة ) : ولد بها في شعب علي , ونشأ بها إلا ما كان منه وهو رضيع عند حليمة في البرية , ثم رجع إلى مكة في حضانة جده ثم عمه وأوحي إليه بها وبقي بها ثلاث عشرة سنة بعد أن أوحي إليه .
( وهاجر إلى المدينة ) : بعد أن هموا بقتله صلى لله عليه وآله وسلم , فتغيب في الغار , ثم سار هو وأبو بكر مهاجرا إلى المدينة , وذلك بعد أن بايعوه على النصرة والمؤازرة , وأرخت الأمة من مهاجره صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : بماذا أرسل ولماذا ؟ ( بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد ) فقد أرسل بتوحيد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته , وشريعته المتضمنة لفعل المأمور وترك المحظور، وأرسل رحمة للعالمين لإخراجهم من ظلمة الشرك والكفر والجهل إلى النور العلم والإيمان والتوحيد حتى ينالوا بذلك مغفرة الله ورضوانه وينجوا من عقابه وسخطه , فأعظم ما يعرف به رسولنا عليه الصلاة والسلام أنه بعث بالنذارة عن الشرك والدعوة إلى التوحيد , وقدم المصنف النذارة عن الشرك على الدعوة إلى التوحيد ؛ لأن هذا مدلول كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ؛ ولأن صدر سورة المدثر يقتضي ذلك , فبدأ بجانب الشرك لكون العبادة لا تصح مع وجود المنافي , ثم ثنى بالتوحيد ؛ لأنه أوجب الواجبات , ولا يرفع عمل إلا به .
فإذن هذا أعظم ما دعا إليه الرسول عليه الصلاة والسلام لذلك خصه المنصف بالذكر , ومع هذا فشريعته ليس خاصة بهذا ولكنها شريعة كاملة .
المتن : ( والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} {سورة المدثر، الآيات: 1-7{ومعنى {قُمْ فَأَنْذِرْ} ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: عظمه بالتوحيد، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهر أعمالك عن الشرك. {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرجز: الأصنام وهجرها تركها، والبراءة منها وأهلها ).
الشرح : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} : هذه أول آية أرسل بها , وأول أمر طرق سمعه في حال إرساله صلى الله عليه وآله وسلم , وذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى الملك الذي جاءه بحراء حين أنزل عليه {اقرأ} رعب منه , فأتى إلى أهله فقال (( دثروني)) , فأنزل الله {يا أيها المدثر} النداء للرسول , أي : المدثر بثيابه , المتغشي بها من الرعب , الذي حصل له من رؤية الملك عند نزول الوحي , {قم} أي : من دثارك , يأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوم بجد ونشاط وينذر الناس عن الشرك ويحذرهم منه , فهذا هو موضوع دعوة نبينا ودعوة جميع الرسل الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك فكل الأنبياء قالوا :{ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره} (الأعراف : 59) ؛ ولأن الشرك سبب لعذاب الله تعالى إن لم يؤمنوا, وبقوله { قم فأنذر} حصل الإرسال , كما حصل بقوله {اقرأ} النبوة .
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} : عظم ربك عما يقوله عبدة الأوثان , {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} : أي : نفسك طهرها عن الذنوب , كنى عن النفس بالثوب ؛ لأنها تشتمل عليه , وهذا قول من المحققين من أهل التفسير , أو عملك فأصلح , وفُسِّر بغير ذلك .
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} : اترك الأوثان , ولا تقربها { والرجز} القذر , مثل الرجس , وقال تعالى { فاجتنبوا الرجس من الأوثان} ( الحج : 30) ,{ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} : أي : لا تعط مالك مصانعة , لتعطى أكثر منه , أو لا تمنن على الله بعملك تستكثره , أو لا يكثر من عملك في عينك , أو لا تضعف أن تستكثر من الخير.
{وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} : أي : على طاعته وأوامره , أو على ما أوذيت في الله تعالى .
المتن : ( ومعنى {قُمْ فَأَنْذِرْ} ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد. {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: عظمه بالتوحيد، {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهر أعمالك عن الشرك. {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرجز: الأصنام وهجرها تركها، والبراءة منها وأهلها ) .
الشرح : ( ومعنى {قُمْ فَأَنْذِرْ} ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد ) : فإن الشرك أعظم ذنب عصي الله به , ولا يرفع معه عمل , التوحيد أوجب الواجبات , وأول دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم { ما لكم من إله غيره } ( الأعراف : 59) فشمر صلى الله عليه وسلم عن ساق العزم , وأنذر الناس , وعم وخص وأوذي على ذلك هو ومن اتبعه , وجرى للمصنف _ مجدد هذه الدعوة رحمه الله _ نحو مما جرى عليه صلى الله عليه وآله وسلم هو وأصحابه وصبروا وكانت لهم العاقبة , وأظهر الله الدين بعد دروسه , على يديه وأتباعه , فلله الحمد والمنة , وجزاه الله خيرا ومن آواه ونصره عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
والمصنف رحمه الله فسر الآية بهذا التفسير :لأن النبي عليه الصلاة والسلام أول ما بدأ بدأ بهذا , فيكون هذا الشيء في مقدمة ما أنذر النبي به , حيث حذرهم من الشرك ودعاهم إلى التوحيد .
({وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: عظمه بالتوحيد ) : فهو سبحانه الإله الحق لا ند له ولا مثل له , فلا شريك له في إلهيته ولا ربوبيته , بل هو المستحق أن يعبد وحده لا يشرك معه أحد في عبادته , فإن الشرك مع كونه أظلم الظلم فهو هضم للربوبية , وتنقص للألوهية , وسوء ظن برب العالمين
({وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهر أعمالك عن الشرك ) : وهو أعظم ذنب عصي الله به , أو طهر نفسك مما يُسْتَقْذر , من الأقوال والأفعال .
( {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} الرجز: الأصنام ) : قاله ابن عباس وغيره من المفسرين , ويقال الشرك , ويقال الزاي منقلبة عن سين , ويدل عليه قوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان} ( الحج : 30) وقال ابن عباس أيضا : اترك المآثم , والمعنى : اترك كل ما أوجب لك العذاب من الأقوال والأفعال .
( وهجرها تركها ) : والإعراض عنها , وهجر الشيء يهجره : صَرَمَهُ وقَطَعَه , والهجر : ضد الوصل , فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بترك الأوثان ومباعدتها ومُصَارَمَتِها وجميع المآثم .
(والبراءة منها وأهلها ) :قال تعالى عن الخليل : {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } ( مريم : 48) { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله} (مريم : 49) فلا يتم توحيد العبد حتى يتبرأ من الكفر وأهل الكفر ويباعدهم .
إذا هذه الآيات موضوعها التوحيد والشرك , وفيها توجيه الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام {قم فأنذر} ثم صارت الأوامر موجهة إلى النبي عليه الصلاة والسلام { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} لأنه لا ينبغي للداعية أن يأمر غيره وينسى نفسه , وإنما يبدأ بنفسه قال الله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) }[البقرة : 44 ، 45] : ومن الشعر الحكيم :
ابدأ بنفسك فانهها عن غــيهافإذا انتهت عنه فأنت حكيم
يا أيها الرجل المعلم غـــيرههلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقامة والضناكيما تصح به وأنت سـقيم
فنستفيد من ها الخطاب الذي وجهه الله تعالى إلى رسوله عليه الصلاة والسلام :
أولا : أمره الله بتبليغ التوحيد والتحذير من الشرك .
ثانيا : أن يبدأ بنفسه وهذا أدب عظيم من آداب الدعوة , يبدأ بنفسه ويكون قدوة في نفسه , وإلاّ فلن يستجيب الناس للداعية ولا يبارك الله في دعوته , وفي تلك الآيات أمره بتهيئة نفسه وتزكيتها وتهذيبها استعدادا للدعوة .
الدرس الثاني والخمسون
16/7/1435
المتن : ( أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد وبعد العشر عرج به إلى السماء )
الشرح : أي أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيان التوحيد والدعوة إليه , وبيان الشرك والإنذار عنه , والتحذير منه عشر سنين , قبل فرض الصلاة التي هي عماد الدين , وقبل بقية الشرائع , وبهذا يتبين لك أن حقيقة ما بعث به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعت إليه الرسل كلهم هو الإنذار عن الشرك , والنهي عنه , والدعوة إلى التوحيد , وبيانه وتوضيحه , كما قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}[الأنبياء : 25 ، 26]وقال : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل : 36] وقال عن نوح وهود وصالح وشعيب أول شيء بدؤوا به قومهم أن قالوا : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } [الأعراف : 59] وخاتمهم محمد _ صلى الله عليه وآله وسلم _ أول شيء دعاهم إليه أن قال : (( قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ))([6])ر فقالوا : {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)}[ص : 5 ، 6] , وقال صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن : (( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة إن لا إله إلا الله ))([7]) وفي رواية : (( إلى أن يوحدوا الله ))([8]) وفي رواية : وهذه الروايات يفسر بعضها بعضا , فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما بعث بالدعوة إلى التوحيد ؛ وذلك لإنه أساس الملة الذي تبنى عليه , وبدونه لا ينبني شيء من الأعمال , فالتوحيد هو الأصل , وبقية شرائع الدين فرع عنه , فإذا زال الأصل زال الفرع , فأي بيان أبين من هذا ؟ على أن التوحيد أوجب الواجبات , ومعرفته أفرض الفرائض , كونه صلى الله عليه وآله وسلم أخذ عشر سنين يدعوا إلى التوحيد , وينذر عن الشرك قبل أن تفرض عليه الفرائض .
ولقد كانت دعوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلى التوحيد بكل ثبات وجد واجتهاد وصبر تنأى عن احتماله الجبال الراسيات , لقي الأذى والمضايقة والتهديد والخوف والعنف والإرهاب في نفسه وفي أهله وفي ماله وفي أصحابه , ومع ذلك لم يتزعزع ولم يتراجع ولم يتنازل , ثبت ثبات الجبال , ثم بعد العشر سنين توفي أبو طالب وتوفيت زوجته خديجة رضي الله عنها وكانت تثبته , فعرج به إلى السماء وفرضت عليه الصلوات الخمس.
المتن : ( وبعد العشر عرج به إلى السماء ) .
الشرح : العروج الصعود , ومنه قوله تعالى : { تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج، الآية: 4] وهو من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم العظيمة التي فضله الله به قبل أن يهاجر من مكة، وبداية ذلك أسرى بجسده - صلى الله عليه وسلم - وروحه جميعا من المسجد الحرام على البراق إلى بيت المقدس يقظة لا مناما . كما أخبر الله عنه ثم صعد به جبرائيل إلى السماء كلما مر به على سماء تلقاه مقربوها حتى جاوزهم إلى سدرة المنتهى . فبلغ من الارتفاع والعلو إلى ما الله به عليم . ودنا من الجبار جل جلاله . وكلمه بلا واسطة . فأوحى إليه ما أوحى
, (( فبينما هو نائم في الحجر في الكعبة أتاه آت فشق ما بين ثغره نحره إلى أسفل بطنه ثم استخرج قلبه فملأه حكمة وإيماناً _ تهيئة لما سيقوم به_ ثم أتى بدابة بيضاء دون البغل وفوق الحمار يقال لها البراق يضع خطوه عند منتهى طرفه فركبه صلى الله عليه وسلم وبصحبته جبريل الأمين حتى وصل بيت المقدس فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماماً بكل الأنبياء والمرسلين يصلون خلفه_ ليتبين بذلك فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرفه وأنه الإمام المتبوع _ ، ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا فأستفتح فقيل من هذا ؟ قال: جبريل. قيل ومن معك ؟ قال : محمد قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء ففتح له فوجد فيها آدم فقال جبريل : هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام، وقال مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، و على يمين آدم أرواح السعداء وعلى يساره أرواح الأشقياء من ذريته فإذا نظر إلى اليمين سر وضحك وإذا نظر قبيل شماله بكى، ثم عرج به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح .. .. فوجد فيها يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وهما ابنا الخالة _ كل واحد منهما ابن خالة الآخر _ فقال جبريل: هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما، فردا السلام وقالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم عرج به جبريل إلى السماء الثالثة فأستفتح.... فوجد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام فقال جبريل هذا يوسف فسلم عليه فسلم عليه، فرد السلام، وقال مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم عرج به جبريل إلى السماء الرابعة فاستفتح... فوجد فيها إدريس صلى الله عليه وسلم فقال جبريل هذا إدريس فسلم عليه فسلم عليه فرد السلام، وقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء الخامسة فأستفتح.... فوجد فيها هارون بن عمران أخا موسى صلى الله عليه وسلم فقال جبريل هذا هارون فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم عرج به جبريل إلى السماء السادسة فأستفتح..... فوجد فيها موسى صلى الله عليه وسلم فقال جبريل هذا موسى فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزه بكى موسى فقي
فقيل له ما يبكيك قال: "أبكي لأن غلاماًبعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي" _ فكان بكاء موسى حزناً على ما فات أمته من الفضائل لا حسداً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم _، ثم عرج به إلى السماء السابعة فأستفتح... فوجد فيها إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم فقال جبريل: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، فسلم عليه فرد عليه السلام وقال مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح. _ وإنما طاف جبريل برسول الله صلى الله عليه وسلم، على هؤلاء الأنبياء تكريماً له وإظهاراً لشرفه وفضله صلى الله عليه وسلم _ وكان إبراهيم الخليل مسنداً ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون ويصلون ثم يخرجون ولا يعودون في اليوم الثاني يأتي غيرهم من الملائكة الذين لا يحصيهم إلا الله، ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله من غير البهاء والحسن ما غشيها حتى لا يستطيع أحد أن يصفها من حسنها ثم فرض الله عليه الصلاة خمسين صلاة كل يوم وليلة فرضي بذلك وسلم ثم نزل فلما مر بموسى قال: ما فرض ربك على أمتك ؟ قال: خمسين صلاة في كل يوم. فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك وقد جربت الناس من قبلك وعالجت بني إسرائيل اشد المعالجة فأرجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال النبي صلى الله عليه وسلم فرجعت فوضع عن عشراً وما زال يراجع حتى استقرت الفريضة على خمس، فنادى مناد أمضيت فريضتي وخففت على عبادي. وفي هذه الليلة أدخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة فإذا فيها قباب اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى مكة بغلس وصلى فيها الصبح )) ([1]).
المتن : ( وفرضت عليه الصلوات الخمس )
الشرح : وكان أول فرضها خمسين صلاة . ولم يزل يتردد بين موسى وربه حتى وضعها إلى خمس . وقال : « هي خمس وهي خمسون , الحسنة بعشر أمثالها »([2]). ثم هبط إلى بيت المقدس , ثم ركب البراق ورجع إلى مكة . وحدثهم عما رآه في مسيره صلوات الله وسلامه عليه .
المتن : ( وصلى في مكة ثلاث سنين )
الشرح : يعني بعد أن عرج به وفرضت عليه قبل الهجرة كما هو ظاهر في سياق ابن إسحق أن الإسراء قبل الهجرة بثلاث سنين ، وقيل سنة ، وقيل ونصف ، وقيل بخمس . فالله أعلم , وكان يصلي الرباعية ركعتين حتى هاجر إلى المدينة فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.
فالرسول عليه الصلاة والسلام مكث في مكة ثلاث عشرة سنة, عشر سنوات منها كانت دعوة خالصة إلى التوحيد والتحذير من الشرك , ثم فرضت عليه الصلاة , فتأمل في مكانةالتوحيد وعظيم خطرهفي الدين , ثم تأمل في كثير من الدعاة اليوم , وأحدهم يبقى يدعو عشرات السنين , لا يعرف التوحيد , ولا يدعو إليه , بل ربما حاربه وحارب أهله الداعين إليه ونبرهم بالوهابية .


([1]) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة. ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض الصلوات.

([2]) لفظ أحمد في المسند (3 / 148) : ((قال يا محمد هي خمس صلوات في كل يوم وليلة بكل صلاة عشرة فتلك خمسون صلاة ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فان عملها كتبت عشرا )) وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم .



([1]) رواه مسلم ( 7 / 58 ) .

([2]) رواه البخاري (1 / 5)



([3]) صحيح مسلم (3 / 167) ح2804 .

([4]) رواه الطبراني وغيره وقال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 224 في صحيح الجامع .




([5]) قاله يحيى الصرصري في نونيته . انظر: "زاد المعاد في هدي خير العباد (1 / 76) .

([6]) مسند أحمد بن حنبل (4 / 63) ح 16654, وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين .

([7]) مختصر إرواء الغليل (1 / 154) وقال الألباني ( صحيح )

([8]) صحيح البخاري (9 / 140) ح 7372 .
رد مع اقتباس
  #25  
قديم 11-07-2015, 11:39 PM
أم مسعود أم مسعود غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ التسجيل: Feb 2013
المشاركات: 52
افتراضي الدرس الثاني والخمسون _

23/7/1435
المتن : ( وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة)
الشرح : أي وبعد الثلاث عشرة من بعثته في أمر بمفارقة المشركين وأوطانهم بحيث يتمكن من إظهار دينه , والدعوة إلى الله في غير بلادهم فإن ذلك واجب وفرض , وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب , ولا يتم الفرض والواجب إلا مع مفارقة المشركين عن الأوطان ؛ فإنه إذا كان في بلد لا يقدر على إظهار دينه , وجب عليه مفارقة ذلك الوطن لإظهار دينه .
وقد أمر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة ؛ لأن أهل مكة منعوه أن يقيم دعوته ، وفي شهر ربيع الأول من العام الثالث عشر من البعثة وصل النبي _ صلى الله عليه وسلم _ إلى المدينة مهاجراً من مكة البلد الأول للوحي وأحب البلاد إلى الله ورسوله ، خرج من مكة مهاجراً بإذن ربه بعد أن قام بمكة ثلاث عشرة سنة يبلغ رسالة ربه ويدعو إليه على بصيرة فلم يجد من أكثر قريش وأكابرهم سوى الرفض لدعوته والإعراض عنها ، والإيذاء الشديد للرسول _ صلى الله عليه وسلم _ ومن آمن به حتى آل الأمر بهم إلى تنفيذ خطة المكر والخداع لقتل النبي _ صلى الله عليه وسلم _ حيث أجتمع كبراؤهم في دار الندوة وتشاوروا ماذا يفعلون برسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ حين رأوا أصحابه يهاجرون إلى المدينة , وأنه لا بد أن يلحق بهم ويجد النصرة والعون من الأنصار الذين بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم , وحينئذ تكون له الدولة على قريش ، فقال عدوا الله أبو جهل : الرأي أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جلداً ثم نعطي كل واحد سيفاً صارماً , ثم يعمدوا إلى محمد فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ونستريح منه فيتفرق دمه في القبائل , فلا يستطيع بنو عبد مناف - يعني عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم - أن يحاربوا قومهم جميعاً فيرضون بالدية فنعطيهم إياها , فأعلم الله نبيه _صلى الله عليه وسلم_ بما أراد المشركون وأذن له بالهجرة , وكان أبو بكر _ رضي الله عنه _ قد تجهز من قبل للهجرة إلى المدينة فقال له النبي _ صلى الله عليه وسلم _ على رسلك فإن أرجو أن يؤذن لي , فتأخر أبو بكر _ رضي الله عنه _ ليصحب النبي _ صلى الله عليه وسلم _ ، قالت عائشة _ رضي الله عنها _ فبينما نحن في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة في منتصف النهار إذا برسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ على الباب متقنِّعاً , فقال : أبو بكر فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر فدخل النبي _ صلى الله عليه وسلم _ وقال لأبي بكر : أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ , فقال : إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي , فقال النبي _ صلى الله عليه وسلم _ قد أُذِنَ لي في الخروج , فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله , قال : نعم . فقال : يا رسول الله فخذ إحدى راحلتي هاتين , فقال النبي _ صلى الله عليه وسلم _ : بالثمن , ثم خرج رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ وانو بكر فأقاما في غار جبل ثور ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر , وكان غلاماً شاباً ذكياً يرجع في آخر الليل إلى مكة فيصبح في قريش فلا يسمع بخبر حول النبي _ صلى الله عليه وسلم _ وصاحبه إلا وعاه حتى يأتي به إليهما حين يختلط الظلام ، فجعلت قريش تطلب النبي _ صلى الله عليه وسلم _ من كل وجه وتسعى بكل وسيلة ليدركوا النبي _ صلى الله عليه وسلم _ حتى جعلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما ديته مئة من الإبل ، ولكن الله كان معهما يحفظهما بعنايته ويرعاهما برعايته حتى إن قريشاً ليقفون على باب الغار فلا يرونهما. قال أبو بكر _ رضي الله عنه _ قلت للنبي _ صلى الله عليه وسلم _ ونحن في الغار : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا , فقال : (( لا تحزن إن الله معنا ، ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما )) ([1]) . حتى إذا سكن الطلب عنهما قليلاً خرجا من الغار بعد ثلاث ليال متجهين إلى المدينة على طريق الساحل .
ولما سمع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار بخروج رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ إليهم كانوا يخرجون كل صباح يوم إلى الحرة ينتظرون قدوم رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ، وصاحبه حتى يطردهم حر الشمس ، فلما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ وتعالى النهار واشتد الحر رجعوا إلى بيوتهم وإذا رجل من اليهود على أُطُمٍ مِنْ آطَامِ المدينة ينظر لحاجة له فأبصر رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ وأصحابه مقبلين يزول بهم السراب فلم يملك أن نادى بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم يعني هذا حظكم وعزكم الذي تنتظرون , فهب المسلمون للقاء رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ معهم السلاح تعظيماً وإجلالاً لرسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ وإيذاناً باستعدادهم للجهاد والدفاع دونه _ رضي الله عنهم _ فتلقوه _ صلى الله عليه وسلم _ بظاهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين ونزل في بني عمرو بن عوف في قباء ، وأقام فيهم بضع ليال وأسس المسجد ، ثم أرتحل إلى المدينة والناس معه يتلقونه في الطرقات , قال أبو بكر رضي الله عنه خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون الله أكبر جاء رسول الله ، الله أكبر جاء محمد([2]) .
المتن : ( والهجرة : الإنتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام )
الشرح : إحرازا للدين , وسمي المهاجرون مهاجرين ؛ لأنهم هجروا ديارهم ومساكنهم التي نشأوا بها لله , ولحقوا بدار ليس لهم فيها أهل ولا مال , حين هاجروا إلى المدينة , فكل من فارق بلده فهو مهاجر ، والمهاجرة في الأصل مصارمة الغير ومقاطعته ومباعدته .
الهجرة في اللغة : مأخوذه من الهجر وهو الترك , وأما في الشرع : فهي كما قال الشيخ : "الانتقال من بلد الشرك والكفر والبدع والمعاصي إلى بلد الإسلام والسنة والطاعة .
وبلد الشرك هو الذي تقام فيها شعائر الكفر ولا تقام فيه شعائر الإسلام كالأذان والصلاة جماعة ، والأعياد ، والجمعة على وجه عام شامل ، وإنما قلنا على وجه عام شامل ليخرج ما تقام فيه هذه الشعائر على وجه محصور كبلاد الكفار التي فيها أقليات مسلمة فإنها لا تكون بلاد إسلام بما تقيمه الأقليات المسلمة فيها من شعائر الإسلام ، أما بلاد الإسلام فهي البلاد التي تقام فيها هذه الشعائر على وجه عام شامل .
المتن : ( والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام )
الشرح : معلوم ثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع , مُتَوَعَّدٌ من تركها بالعذاب ، وقد حكى الإجماع على وجوبها من بلد الشرك إلى بلد الإسلام غير واحد من أهل العلم , بل فرضها الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة قبل فرض الصوم والحج , كما هو مقرر في كتب الأصول والفروع , معلوم بالضرورة من الدين .
فهي واجبة على كل مؤمن لا يستطيع إظهار دينه في بلد الكفر فلا يتم إسلامه إذا كان لا يستطيع إظهاره إلا بالهجرة ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
المتن : ( وهي باقية إلى أن تقوم الساعة ).
الشرح : باتفاق من يعتد به من أهل العلم , قال شيخ الإسلام : لا يسلم أحد من الشرك إلا بالمباينة لأهله .
المتن : ( والدليل قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [سورة النساء، الآيات: 97-99].
الشرح : {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} : يعني بالإقامة بين أظهر الكفار نزلت في أناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا , فقال : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ } أراد ملك الموت وأعوانه أو ملك الموت وحده , فإن العرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع , { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } بترك الهجرة والبقاء في أرض الشرك .
{قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} : أي لم مكثتم ههنا وتركتم الهجرة ؟ استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع , يعود معناه إلى لم مكثتم ههنا وتركتم الهجرة , وفي أي فريق كنتم , والملائكة تعلم في أي فريق كان فيه التاركون للهجرة بعدما وجبت عليهم .
{قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} : عاجزين عن الهجرة , لا نقدر على الخروج من البلد , ولا الذهاب في الأرض , ولا نستطيع أن نظهر الدين وأن نقيم الشعائر , نخشى من الكفار , فهم قصروا في دينهم خوفا من الكفار .
{قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} : يعني إلى المدينة فتخرجوا من بين أهل الشرك , ولم تعذرهم الملائكة ، وما الذي يضطركم إلى المقام في أرض الكفار , هاجروا إلى بلاد الإسلام , وبلاد الأمن والأمان حتى تقيموا شعائر الدين , وفي الحديث : (( من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله ))([3]) رواه أبو داود وغيره في أحاديث أخر .
{فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} : أي بئس المصير إلى جهنم , وهذا فيه أن تارك الهجرة بعد ما وجبت عليه مرتكب كبيرة من كبائر الذنوب .
إ{ِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالولدان } : العاجز عن الهجرة , والولدان جمع وليد ووليدة , والوليد الغلام قبل أن يحتلم .
{لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةْ}ً: أي من مفارقة المشركين ، فلا يقدرون على حيلة ولا على نفقة , ولا على القوة للخروج .
{وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} : لا يعرفون طريقا إلى الخروج من مكة إلى المدينة حيث كانت هي إذ ذاك بلد الإسلام , فهؤلاء معذورون { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} , أما الذي عنده قدرة على الهجرة ويعرف الطريق ومع ذلك يبقى في بلد الكفر تاركا لشعائر دينه مضطهدا في عقيدته يكثر من سواد أهل الشرك والكفر , هذا الذي يعاقب
{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ } : أي يتجاوز عن المستضعفين وأهل الأعذار بترك الهجرة , وعسى من الله واجب لأنه للإطماع .
{وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً}: عفوا يتجاوز عن سيئاتهم ، غفورا لمن تاب إليه . لا يكلف نفسا إلا وسعها , قال ابن عباس : (كنت أنا وأمي من المستضعفين ) ([4]) , ( وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو للمستضعفين في الصلاة ) ([5]) .
ففي هذه الآية دليل على أن هؤلاء الذين لم يهاجروا مع قدرتهم على الهجرة أن الملائكة تتوفاهم وتوبخهم وتقول لهم ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ، أما العاجزون عن الهجرة من المستضعفين فقد عفا الله عنهم لعجزهم عن الهجرة ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

([1])أخرجه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم، ومسلم كتاب فضائل الصحابة, باب فضائل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.

([2]) بمعناه في صحيح البخاري (5 / 77) ح 3906 وصحيح ابن حبان (14 / 188) قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط البخاري


([3]) ولفطه : (( من جامع المشرك و سكن معه فإنه مثله )) عن سمرة ,وقال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 6186 في صحيح الجامع .

([4]) "صحيح البخاري "(4 / 1675) ح4311

([5]) "صحيح البخاري "(9 / 25) ح6940
رد مع اقتباس
  #26  
قديم 11-07-2015, 11:51 PM
أم مسعود أم مسعود غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ التسجيل: Feb 2013
المشاركات: 52
افتراضي الثالث والخمسون _ الرابع والخمسون

30/7/1435
المتن : ( وقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت، الآية:65] ) .
الشرح : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ) : أمر تعالى عباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرضه الواسعة , وأخبر أن الأرض غير ضيقة بل واسعة ، تسع جميع الخلائق , فإذا كان الإنسان في أرض لم يتمكن من إظهار دينه فيها وأصابه اضطهاد في بلاد الكفار فإن الله قد وسع له الأرض ليعبده فيها كما أمر , والواقع أن بلاد الكفار لا يقيم فيها أحد إلا وتصيبه ثُلْمَة في دينه أو في أخلاقه أو ثلمة في أخلاق أبنائه , يربون تربية غير إسلامية , نعوذ بالله , كثير منهم يجب عليهم الهجرة ولكنهم رضوا وبقوا في بلاد الكفر , وكذلك يجب على كل من كان ببلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغييرها أن يهاجر منها .
{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} : أي وحدون في أرضي الواسعة التي خلقتها وما عليها لكم ، وخلقتكم عليها لعبادتي .
المتن ( قال البغوي - رحمه الله تعالى -: سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ؛ ناداهم الله باسم الإيمان )
الشرح :البغوي : الملقب محيى السنة , أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء ، صاحب التفسير وشرح السنة وغيرهما , المتوفى سنة خمسمائة وست عشرة سنة (516) هـ.
( سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ؛ ناداهم الله باسم الإيمان ) : حكاه عن جماعة من التابعين , فأفاد أن تارك الهجرة بعد ما وجبت عليه ليس بكافر , لكنه عاص بتركها , فهو مؤمن ناقص الإيمان , عاص من عصاة الموحدين المؤمنين , وليس له من الولاية النصرة والتأييد شيء , وتكون له الولاية إذا هاجر وجاء إلى بلاد الإسلام , والظاهر أن الشيخ رحمه الله نقل هذا عن البغوي بمعناه ، هذا إن كان نقله من التفسير إذ ليس المذكور في التفسير البغوي لهذه الآية بهذا اللفظ .
المتن : ( والدليل على الهجرة من السنة )
الشرح : أي على وجوب الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام من سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي أُمِرْنَا بإتباعها .
المتن : (قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها )) .

الرابع والخمسون
30/7/1435
لا زلنا في الكلام على حكم الهجرة : المتن : ( وقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [سورة العنكبوت، الآية:65] ) .
الشرح : ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ) : أمر تعالى عباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرضه الواسعة , وأخبر أن الأرض غير ضيقة بل واسعة ، تسع جميع الخلائق , فإذا كان الإنسان في أرض لم يتمكن من إظهار دينه فيها وأصابه اضطهاد في بلاد الكفار فإن الله قد وسع له الأرض ليعبده فيها كما أمر , والواقع أن بلاد الكفار لا يقيم فيها أحد إلا وتصيبه ثُلْمَة في دينه أو في أخلاقه أو ثلمة في أخلاق أبنائه , يربون تربية غير إسلامية , نعوذ بالله , كثير منهم يجب عليهم الهجرة ولكنهم رضوا وبقوا في بلاد الكفر , وكذلك يجب على كل من كان ببلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغييرها أن يهاجر منها .
{فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} : أي وحدون في أرضي الواسعة التي خلقتها وما عليها لكم ، وخلقتكم عليها لعبادتي .
المتن (قال البغوي - رحمه الله تعالى -: سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ؛ ناداهم الله باسم الإيمان )
الشرح :البغوي : الملقب محيى السنة , أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء ، صاحب التفسير وشرح السنة وغيرهما , المتوفى سنة خمسمائة وست عشرة سنة (516) هـ.
( سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ؛ ناداهم الله باسم الإيمان ) : حكاه عن جماعة من التابعين , فأفاد أن تارك الهجرة بعد ما وجبت عليه ليس بكافر , لكنه عاص بتركها , فهو مؤمن ناقص الإيمان , عاص من عصاة الموحدين المؤمنين , وليس له من الولاية النصرة والتأييد شيء , وتكون له الولاية إذا هاجر وجاء إلى بلاد الإسلام , والظاهر أن الشيخ رحمه الله نقل هذا عن البغوي بمعناه ، هذا إن كان نقله من التفسير إذ ليس المذكور في التفسير البغوي لهذه الآية بهذا اللفظ
المتن : ( والدليل على الهجرة من السنة )
الشرح : أي على وجوب الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام من سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - التي أُمِرْنَا بإتباعها .
المتن : (قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ))([1]) .
الشرح : أي لا تنقطع الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام حتى تنقطع التوبة أي حتى لا تقبل التوبة ممن تاب , فدل الحديث على أن التوبة ما دامت مقبولة فالهجرة واجبة بحالها أي الهجرة العامة , وأما حديث ابن عباس : « لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية »([2]) ، فالمراد لا هجرة بعد فتح مكة منها إلى المدينة وهي الهجرة الخاصة , حيث كانت مكة بعد فتحها بلد إسلام , فإن أناسا أرادوا أن يهاجروا منها إلى المدينة ظنا منهم أنه مرغب فيها , فبين لهم - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما حث عليها لما كانت مكة بلد كفر , أما وقد كانت بلد إسلام فلا , فالمعنى لا هجرة من مكة إلى المدينة , أما ثبوت الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام , وبقاؤها فمعلوم بالنص والإجماع .
( ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ) : فإذا طلعت الشمس من مغربها فهو أوان قيام الساعة ، وهي أقرب علاماتها وإذا طلعت لم تقبل التوبة , قال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } ، وجاء في ذلك أحاديث كثيرة , وهذا يفسر بقيام الساعة فدل على أنها تقبل قبل طلوع الشمس من مغربها , وما دامت تقبل التوبة فلا تنقطع الهجرة , وفي الحديث : (( إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله و أقمتم الصلاة و آتيتم الزكاة و فارقتم المشركين وأعطيتم من الغنائم الخمس و سهم النبي صلى الله عليه وسلم ، و الصفي([3]) - و ربما قال : و صفيه - فأنتم آمنون بأمان الله و أمان رسوله "([4]) .
وقال الشيخ المحدث الألباني _ رحمه الله _ : ( قلت : في هذا الحديث بعض الأحكام التي تتعلق بدعوة الكفار إلى الإسلام ، من ذلك : أن لهم الأمان إذا قاموا بما فرض الله عليهم ، و منها : أن يفارقوا المشركين و يهاجروا إلى بلاد المسلمين , و في هذا أحاديث كثيرة ، يلتقي كلها على حض من أسلم على المفارقة ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، لا تتراءى نارهما " ، و في بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط على بعضهم في البيعة أن يفارق المشرك . و في بعضها قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملا ، أو يفارق المشركين إلى المسلمين " . إلى غير ذلك من الأحاديث ، و قد خرجت بعضها في " الإرواء " ( 5 / 29 - 33 ) و فيما تقدم من السلسلة الصحيحة برقم ( 636 ) . و إن مما يؤسف له أشد الأسف أن الذين يسلمون في العصر الحاضر - مع كثرتهم و الحمد لله – لا يتجاوبون مع هذا الحكم من المفارقة ، و هجرتهم إلى بلاد الإسلام ، إلا القليل منهم ، و أنا أعزو ذلك إلى أمرين اثنين : الأول : تكالبهم على الدنيا ، و تيسر وسائل العيش و الرفاهية في بلادهم بحكم كونهم يعيشون حياة مادية ممتعة ، لا روح فيها ، كما هو معلوم ، فيصعب عليهم عادة أن ينتقلوا إلى بلد إسلامي قد لا تتوفر لهم فيه وسائل الحياة الكريمة في وجهة نظرهم . و الآخر - و هو الأهم - : جهلهم بهذا الحكم ، و هم في ذلك معذورون ؛ لأنهم لم يسمعوا به من أحد من الدعاة الذين تذاع كلماتهم مترجمة ببعض اللغات الأجنبية ، أو من الذين يذهبون إليهم باسم الدعوة ؛ لأن أكثرهم ليسوا فقهاء و بخاصة منهم جماعة التبليغ ، بل إنهم ليزدادون لصوقا ببلادهم ، حينما يرون كثيرا من المسلمين قد عكسوا الحكم بتركهم لبلادهم إلى بلاد الكفار ! فمن أين لأولئك الذين هداهم الله إلى الإسلام أن يعرفوا مثل هذا الحكم و المسلمون أنفسهم مخالفون له ؟! ألا فليعلم هؤلاء و هؤلاء أن الهجرة ماضيه كالجهاد ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل " ، و في حديث آخر : " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، و لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " و هو مخرج في " الإرواء " ( 1208 ) . و مما ينبغي أن يعلم أن الهجرة أنواع و لأسباب عدة ، و لبيانها مجال آخر ، والمهم هنا الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام مهما كان الحكام في بلاد الإسلام منحرفين عن الإسلام ، أو مقصرين في تطبيق أحكامه ، فهي على كل حال خير مما في بلاد الكفر أخلاقا و تدينا و سلوكا ، و ليس الأمر - بداهة - كما زعم أحد الجهلة الحمقى الهوج من الخطباء : " والله لو خيرت أن أعيش في القدس تحت احتلال اليهود و بين أن أعيش في أي عاصمة عربية لاخترت أن أعيش في القدس تحت احتلال اليهود " ! و زاد على ذلك فقال ما نصه : " ما أرى إلا أن الهجرة واجبة من الجزائر إلى ( تل أبيب ) " !! كذا قال فض فوه ، فإن بطلانه لا يخفى على مسلم مهما كان غبيا ! و لتقريب ما ذكرت من الخيرية إلى أذهان القراء المحبين للحق الحريصين على معرفته و إتباعه ، الذين لا يهولهم جعجعة الصائحين ، و صراخ الممثلين ، واضطراب الموتورين من الحاسدين و الحاقدين من الخطباء و الكاتبين : أقول لأولئك المحبين : تذكروا على الأقل حديثين اثنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أحدهما : " إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها " . أخرجه البخاري و مسلم و غيرهما . و الآخر : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتيهم أمر الله و هم ظاهرون " ، و هو حديث صحيح متواتر رواه جماعة من الصحابة ، و تقدم تخريجه عن جمع منهم من السلسلة الصحيحة برقم ( 270 و 1108 و 1955 و 1956 ) ، و "صحيح أبي داود " ( 1245 ) ، و في بعضها أنهم " أهل المغرب " أي الشام ، و جاء ذلك مفسرا عند البخاري و غيره عن معاذ ، و عند الترمذي و غيره مرفوعا بلفظ : " إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم ، و لا تزال طائفة من أمتي .. " الحديث . و في هذه الأحاديث إشارة قوية إلى أن العبرة في البلاد إنما هي بالسكان و ليس بالحيطان . و قد أفصح عن هذه الحقيقة سلمان الفارسي رضي الله عنه حين كتب أبو الدرداء إليه : أن هلم إلى الأرض المقدسة ، فكتب إليه سلمان : إن الأرض المقدسة لا تقدس أحدا ، و إنما يقدس الإنسان عمله . ( موطأ مالك 2 / 235 ) . و لذلك فمن الجهل المميت و الحماقة المتناهية - إن لم أقل و قلة الدين - أن يختار خطيب أخرق الإقامة تحت الاحتلال اليهودي ، و يوجب على الجزائريين المضطهدين أن يهاجروا إلى ( تل أبيب ) ، دون بلده المسلم ( عمان ) مثلا ، بل و دون مكة و المدينة ، متجاهلا ما نشره اليهود في فلسطين بعامة ، و ( تل أبيب ) و ( حيفا ) و ( يافا ) بخاصة من الفسق و الفجور و الخلاعة حتى سرى ذلك بين كثير من المسلمين و المسلمات بحكم المجاورة و العدوى ، مما لا يخفى على من ساكنهم ثم نجاه الله منهم ، أو يتردد على أهله هناك لزيارتهم في بعض الأحيان . و ليس بخاف على أحد أوتي شيئا من العلم ما في ذاك الاختيار من المخالفة لصريح قوله تعالى *( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا : فيم كنتم ؟ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض ، قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟! فأولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا . إلا المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم و كان الله عفوا غفورا ، و من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما ( أي تحولا ) كثيرا وسعة ، و من يخرج من بيته مهاجرا إلى الله و رسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله و كان الله غفورا رحيما )* ( النساء 97 - 100 ) . قال الحافظ ابن كثير في " تفسيره " ( 1 / 542 ) : " نزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين ، و هو قادر على الهجرة ، و ليس متمكنا من إقامة الدين ، فهو ظالم لنفسه ، مرتكب حراما بالإجماع ، و بنص هذه الآية " . و إن مما لا يشك فيه العالم الفقيه أن الآية بعمومها تدل على أكثر من الهجرة من بلاد الكفر ، وقد صرح بذلك الإمام القرطبي ، فقال في " تفسيره " ( 5 / 346 ) : " و في هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي ، و قال سعيد ابن جبير : إذا عمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها ، و تلا : *( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟ )* " . و هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم في " تفسيره " ( 2 / 174 / 1 ) بسند صحيح عن سعيد . و أشار إليه الحافظ في " الفتح " فقال ( 8 / 263 ) : " و استنبط سعيد بن جبير من هذه الآية وجوب الهجرة من الأرض التي يعمل فيها بالمعصية " . و قد يظن بعض الجهلة من الخطباء و الدكاترة و الأساتذة ، أن قوله صلى الله عليه وسلم : " لا هجرة بعد الفتح " ناسخ للهجرة مطلقا ، و هو جهل فاضح بالكتاب و السنة و أقوال الأئمة ، و قد سمعت ذلك من بعض مدعي العلم من الأساتذة في مناقشة جرت بيني و بينه بمناسبة الفتنة التي أثارها علي ذلك الخطيب المشار إليه آنفا ، فلما ذكرته بالحديث الصريح في عدم انقطاع التوبة المتقدم بلفظ : " لا تنقطع الهجرة .. " إلخ .. لم يحر جوابا ! ... فأما أولئك الخطباء و الكتاب و الدكاترة المنكرون لشرع الله *( و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )* ، فأمروا الفلسطينيين بالبقاء في أرضهم و حرموا عليهم الهجرة منها ، و هم يعلمون أن في ذلك فساد دينهم و دنياهم ، و هلاك رجالهم وفضيحة نسائهم ، و انحراف فتيانهم و فتياتهم ، كما تواترت الأخبار بذلك عنهم بسبب تجبر اليهود عليهم ، و كبسهم لدورهم و النساء في فرشهن ، إلى غير ذلك من المآسي و المخازي التي يعرفونها ، ثم يتجاهلونها تجاهل النعامة الحمقاء للصياد ! فيا أسفي عليهم إنهم يجهلون ، و يجهلون أنهم يجهلون ، كيف لا و هم في القرآن يقرؤون : *( و لو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم )* ! و ليت شعري ماذا يقولون في الفلسطينيين الذين كانوا خرجوا من بلادهم تارة باسم لاجئين ، و تارة باسم نازحين ، أيقولون فيهم : إنهم كانوا من الآثمين ، بزعم أنهم فرغوا أرضهم لليهود ؟! بلى . و ماذا يقولون في ملايين الأفغانيين الذين هاجروا من بلدهم إلى ( بشاور ) مع أن أرضهم لم تكن محتلة من الروس احتلال اليهود لفلسطين ؟! و أخيرا .. ماذا يقولون في البوسنيين الذين لجأوا في هذه الأيام إلى بعض البلاد الإسلامية و منها الأردن ، هل يحرمون عليهم أيضا خروجهم ، و يقول فيهم أيضا رأس الفتنة : " يأتون إلينا ؟ شو بساووا هون ؟! " . إنه يجهل أيضا قوله تعالى : *( و الذين تبوءوا الدار و الإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ، و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة )* ، أم هم كما قال تعالى في بعضهم : *( يحلونه عاما و يحرمونه عاما )* ؟! ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا و يأتيك بالأنباء من لم تزود ) انتهى كلام الشيخ الألباني _ رحمه الله([5]) _ , ومن الأحاديث المنفرة عن الإقامة بين الكفار والمشركين : (( أنا بَرِيءٌ من كلّ مسلم يُقِيمُ بين أظْهُرِ المشركين ". قالوا: يا رسول الله! لِمَ ؟ قال : " لا تراءى ناراهما "([6]). وقال : « الهجرة باقية ما قوتل العدو »([7]).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( لا تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها )) : وذلك حين انتهاء العمل الصالح المقبول لله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [سورة الأنعام، الآية: 158] والمراد ببعض الآيات هنا طلوع الشمس من مغربها.
وههنا بحث مهم للشيخ ابن عثيمين عن الإقامة في بلاد الكفار : قال رحمه الله : ( نذكر هنا حكم السفر إلى بلاد الكفر. فنقول: السفر إلى بلاد الكفار لا يجوز إلا بثلاثة شروط :
الشرط الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات. الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلى ذلك. فإن لم تتم هذه الشروط فإنه لا يجوز السفر إلى بلاد الكفار لما في ذلك من الفتنة أو خوف وفيه إضاعة المال لأن الإنسان ينفق أموالاً كثيرة في هذه الأسفار. أما إذا دعت الحاجة إلى ذلك لعلاج أو تلقي علم لا يوجد في بلده وكان عنده علم ودين على ما وصفنا فهذا لا بأس به.
وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار فهذا ليس بحاجة وبإمكانه أن يذهب إلى بلاد إسلامية يحافظ أهلها على شعائر الإسلام، وبلادنا الآن والحمد لله أصبحت بلاداً سياحية في بعض المناطق فبإمكانه أن يذهب إليها ويقضي زمن إجازته فيها.
وأما الإقامة في بلاد الكفار فإن خطرها عظيم على دين الإسلام، وأخلاقه، وسلوكه، وآدابه وقد شاهدنا وغيرنا انحراف كثير ممن أقاموا هناك فرجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا فساقاً، وبعضهم رجع مرتداً عن دينه وكافراً به وبسائر الأديان - والعياذ بالله - حتى صاروا إلى الجحود المطلق والاستهزاء بالدين وأهله السابقين منهم واللاحقين، ولهذا كان ينبغي بل يتعين التحفظ من ذلك ووضع الشروط التي تمنع من الهوي في تلك المهالك.
فالإقامة في بلاد الكفر لا بد فيها من شرطين أساسين: الشرط الأول: أمن المقيم على دينه بحيث يكون عنده من العلم والإيمان،وقوة العزيمة ما يطمئنه على الثبات على دينه والحذر من الانحراف والزيغ، وأن يكون مضمراً لعداوة الكافرين وبغضهم مبتعداً عن موالاتهم، ومحبتهم، فإن موالاتهم ومحبتهم، مما ينافي الإيمان بالله قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [سورة المجادلة، الآية: 22] الآية: وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [سورة المائدة، الآيتين: 51-52] وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن من أحب قوماً فهو منهم، وأن المرء مع من أحب"([8]) ومحبة أعداء الله من أعظم ما يكون خطراً على المسلم لأن محبتهم تستلزم موافقتهم واتباعهم، أو على الأقل عدم الإنكار عليهم ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب قوماً فهو منهم". الشرط الثاني: أن يتمكن من إظهار دينه بحيث يقوم بشعائر الإسلام بدون ممانع، فلا يمنع من إقامة الصلاة والجمعة والجماعات إن كان معه من يصلي جماعة ومن يقيم الجمعة، ولا يمنع من الزكاة والصيام والحج وغيرها من شعائر الدين، فإن كان لا يتمكن من ذلك لم تجز الإقامة لوجوب الهجرة حينئذ، قال في المغني ص 457 جـ 8 في الكلام على أقسام الناس في الهجرة: أحدها من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه من إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء الآية: 97]وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. أهـ.
وبعد تمام هذين الشرطين الأساسيين تنقسم الإقامة في دار الكفار إلى أقسام : القسم الأول: أن يقيم للدعوة إلى الإسلام والترغيب فيه فهذا نوع من الجهاد فهي فرض كفاية على من قدر عليها، بشرط أن تتحقق الدعوة وأن لا يوجد من يمنع منها أو من الإستجابة غليها، لأن الدعوة إلى الإسلام من واجبات الدين وهي طريقة المرسلين وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه في كل زمان ومكان فقال صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية"([9])
القسم الثاني: أن يقيم لدراسة أحوال الكافرين والتعرف على ما هم عليه من فساد العقيدة، وبطلان التعبد، وانحلال الأخلاق، وفوضوية لسلوك ؛ ليحذر الناس من الاغترار بهم، ويبين للمعجبين بهم حقيقة حالهم، وهذه الإقامة نوع من الجهاد أيضاً لما يترتب عليها من التحذير من الكفر وأهله المتضمن للترغيب في الإسلام وهديه، لأن فساد الكفر دليل على صلاح الإسلام، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. لكن لا بد من شرط أن يتحقق مراده بدون مفسدة أعظم منه، فإن لم يتحقق مراده بأن منع من نشر ما هم عليه والتحذير منه فلا فائدة من إقامة، وإن تحقق مراده مع مفسدة أعظم مثل أن يقابلوا فعله بسب الإسلام ورسول الإسلام وأئمة الإسلام وجب الكف لقوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام، الآية: 108]. ويشبه هذا أن يقيم في بلاد الكفر ليكون عيناً للمسلمين؛ ليعرف ما يدبروه للمسلمين من المكايد فيحذرهم المسلمون، كما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان إلى المشركين في غزوة الخندق ليعرف خبرهم([10]) .
القسم الثالث: أن يقيم لحاجة الدولة المسلمة وتنظيم علاقاتها مع دول الكفر كموظفي السفارات فحكمها حكم ما أقام من أجله. فالملحق الثقافي مثلاً يقيم ليرعى شؤون الطلبة ويراقبهم ويحملهم على التزام دين الإسلام وأخلاقه وآدابه، فيحصل بإقامته مصلحة كبيرة ويندرئ بها شر كبير.
القسم الرابع: أن يقيم لحاجة خاصة مباحة كالتجارة والعلاج فتباح الإقامة بقدر الحاجة، وقد نص أهل العلم رحمهم الله على جواز دخول بلاد الكفر للتجارة وأثروا ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
القسم الخامس: أن يقيم للدراسة وهي من جنس ما قبلها إقامة لحاجة لكنها أخطر منها وأشد فتكاً بدين المقيم وأخلاقه، فإن الطالب يشعر بدنو مرتبته وعلو مرتبة معلميه، فيحصل من ذلك تعظيمهم والاقتناع بآرائهم وأفكارهم وسلوكهم فيقلدهم إلا من شاء الله عصمته وهم قليل، ثم إن الطالب يشعر بحاجته إلى معلمه فيؤدي ذلك إلى التودد إليه ومداهنته فيما هو عليه من الانحراف والضلال. والطالب في مقر تعلمه له زملاء يتخذ منهم أصدقاء يحبهم ويتولاهم ويكتسب منهم، ومن أجل خطر هذا القسم وجب التحفظ فيه أكثر مما قبله فيشترط فيه بالإضافة إلى الشرطين الأساسيين شروط: الشرط الأول : أن يكون الطالب على مستوى كبير من النضوج العقلي الذي يميز به بين النافع والضار وينظر به إلى المستقبل البعيد فأما بعث الأحداث "صغار السن" وذوي العقول الصغيرة فهو خطر عظيم على دينهم، وخلقهم، وسلوكهم، ثم هو خطر على أمتهم التي سيرجعون إليها وينفثون فيها من السموم التي نهلوها من أولئك الكفار كما شهد ويشهد به الواقع، فإن كثيراً من أولئك المبعوثين رجعوا بغير ما ذهبوا به، رجعوا منحرفين في دياناتهم، وأخلاقه، وسلوكهم، وحصل عليهم وعلى مجتمعهم من الضرر في هذه الأمور ما هو معلوم مشاهد، وما مثل بعث هؤلاء إلا كمثل تقديم النعاج للكلاب الضارية. الشرط الثاني: أن يكون عند الطالب من علم الشريعة ما يتمكن به من التمييز بين الحق والباطل، ومقارعة الباطل بالحق لئلا ينخدع بما هم عليه من الباطل فيظنه حقاً أو يلتبس عليه أو يعجز عن دفعه فيبقى حيران أو يتبع الباطل. وفي الدعاء المأثور "اللهم أرني الحق حقاً وأرزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علي فأضل". الشرط الثالث: أن يكون عند الطالب دين يحميه ويتحصن به من الكفر والفسوق، فضعيف الدين لا يسلم مع الإقامة هناك إلا أن يشاء الله وذلك لقوة المهاجم وضعف المقاوم، فأسباب الكفر والفسوق هناك قوية وكثيرة متنوعة فإذا صادفت محلاً ضعيف المقاومة عملت عملها. الشرط الرابع: أن تدعو الحاجة إلى العلم الذي أقام من اجله بأن يكون في تعلمه مصلحة للمسلمين ولا يوجد له نظير في المدارس في بلادهم، فإن كان من فضول العلم الذي لا مصلحة فيه للمسلمين أو كان في البلاد الإسلامية من المدارس نظيره لم يجز أن يقيم في بلاد الكفر من أجله لما في الإقامة من الخطر على الدين والأخلاق، وإضاعة الأموال الكثيرة بدون فائدة.
القسم السادس: أن يقيم للسكن وهذا أخطر مما قبله وأعظم لما يترتب عليه من المفاسد بالاختلاط التام بأهل الكفر وشعوره بأنه مواطن ملتزم بما تقتضيه الوطنية من مودة، وموالاة، وتكثير لسواد الكفار، ويتربى أهلهبين أهل الكفر فيأخذون من أخلاقهم وعاداتهم، وربما قلدوهم في العقيدة والعبد ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله"([11]). وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند لكن له وجهة من النظر فإن المساكنة تدعو إلى المشاكلة، وعن قيس بن حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا يا رسول الله ولم؟ قال: لا تراءى نارهما"([12]). رواه أبو داود والترمذي وأكثر الرواة رووه مرسلاً عن قيس بن حازم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الترمذي سمعت محمداً - يعني البخاري - يقول الصحيح حديث قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم،مرسل. أ هـ. وكيف تطيب نفس مؤمن أن يسكن في بلاد كفار تعلن فيها شعائر الكفر ويكون الحكم فيها لغير الله ورسوله وهو يشاهد ذلك بعينه ويسمعه بأذنيه ويرضى به، بل ينتسب إلى تلك البلاد ويسكن فيها بأهله وأولاده ويطمئن إليها كما يطمئن إلى بلاد المسلمين مع ما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى أهله وأهله وأولاده في دينهم وأخلاقهم.
هذا ما توصلنا إليه في حكم الإقامة في بلاد الكفر نسأل الله أن يكون موافقاً للحق والصواب ) انتهى كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.


([1]) أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب: في الهجرة هل أنقطعت. وقال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 7469 في صحيح الجامع

([2]) رواه البخاري (4 / 17) ح 2783 .

([3]) ( الصفي ) : ما كان صلى الله عليه وسلم يصطفيه و يختاره من عَرْض المغنم من فرس أو غلام أو سيف ، أو ما أحب من شيء ، و ذلك من رأس المغنم قبل أن يخمس ، كان صلى الله عليه وسلم مخصوصا بهذه الثلاث ( يعني المذكورة في الحديث : الخمس و السهم و الصفي ) عقبة
وعوضا عن الصدقة التي حرمت عليه انظر : "السلسلة الصحيحة " الألباني (6 / 356)

([4]) "السلسلة الصحيحة" (6 / 356) وقال الألباني : إسناد صحيح على شرط الشيخين .


([5]) السلسلة الصحيحة المجلدات (6 / 356)

([6]) رواه أبو داود في سننه وصححه الألباني في صحيح أبي داود (7 / 397)

([7]) رواه أحمد بن حنبل في المسند (5 / 270) وقال شعيب الأرنؤوط : حديث صحيح وهذا إسناد قوي رجاله رجال الصحيح .


([8])رواه البخاري، كتاب الأدب، باب: علامة حب الله عز و جل ومسلم، كتاب الصلة، باب: المرء مع من أحب.


([9])رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل.

([10])صحيح مسلم، كتاب الجهاد، باب غزوة الأحزاب.


([11]) ولفطه : (( من جامع المشرك و سكن معه فإنه مثله )) عن سمرة ,وقال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 6186 في صحيح الجامع .

([12])وقال الألباني في صحيح أبي داود (7 / 397)
رد مع اقتباس
  #27  
قديم 11-09-2015, 11:47 PM
أم مسعود أم مسعود غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ التسجيل: Feb 2013
المشاركات: 52
افتراضي الخامس والخمسون إلى نهاية الشرح

21/8/1435
المتن : ( فلما أستقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام مثل : الزكاة ، والصوم ، والحج ، والجهاد والآذان )
الشرح : أي لما هاجر من مكة إلى المدينة واستقر بها وفشا التوحيد ودان به أولئك وأقاموا الصلاة أمر ببقية شرائع الإسلام التي تَعَبَّدَ الله خلقه بها . إذ عامة شرائع الإسلام لم تشرع إلا في المدينة .
وفي مكة دعا إلى التوحيد نحو عشر سنين ، ثم بعد ذلك فرضت عليه الصلوات الخمس في مكة ، ثم هاجر إلى المدينة ولم تفرض عليه الزكاة ولا الصيام ولا الحج ولا غيرها من شعائر الإسلام وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن الزكاة فرضت أصلاً وتفصيلاً في المدينة ، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الزكاة فرضت أولاً في مكة وفي المدينة قدرت الأنصباء وقدر الواجب وأستدل هؤلاء بأنه جاءت آيات توجب الزكاة في سورة مكية مثل قوله تعالى في سورة الأنعام : {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [سورة الأنعام، الآية: 141] ومثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [سورة المعارج، الآيتين: 24-25] وعلى كل حال فاستقرار الزكاة وتقدير أنصابها وما يجب فيها وبيان مستحقيها كان في المدينة ، وكذلك الأذان والجمعة ، والظاهر أن الجماعة كذلك لم تفرض إلا في المدينة ؛ لأن الأذان الذي فيه الدعوة للجماعة فرض في السنة الثانية ، فأما الزكاة والصيام فقد فرضا في السنة الثانية من الهجرة ، وأما الحج فلم يفرض إلا في السنة التاسعة على القول الراجح من أقوال أهل العلم وهو قول الجمهور , وذلك حين كانت مكة بلد إسلام بعد فتحها في السنة الثامنة من الهجرة ، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرهما من الشعائر الظاهرة كلها فرضت في المدينة بعد استقرار النبي صلى الله عليه وسلم فيها وإقامة الدولة الإسلامية فيها .
المتن : ( والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من شرائع الإسلام ) .
الشرح : قال تعالى : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } ، وهذه صفته في الكتب المتقدمة , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام وفرض على كل أحد بحسبه , قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ، وقال : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وأعلاه باليد , فمن لم يقدر فبلسانه فمن لم يقدر فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان , والأمر بالمعروف من أعظم شرائع الإسلام وأعظمه الجهاد الذي هو ذروة الإسلام .
( وغير ذلك من شرائع الإسلام ) : كبر الوالدين ، وصلة الأرحام ، وأداء الأمانات ، وسائر مكارم الأخلاق , ومحاسن الأعمال كما هو معروف من شريعته - صلى الله عليه وسلم - .
المتن : ( أخذ على هذا عشر سنين وبعدها توفي صلوا الله وسلامه عليه ) .
الشرح : أخذ على هذا عشر سنين : كلها بعد الهجرة توحي إليه فيها الشرائع , أركانها وواجباتها ومستحباتها , وما ينافي ذلك .
وبعدها توفي صلوا الله وسلامه عليه : بعد ما أكمل الله به الدين , وبلغ البلاغ المبين وأتم به النعمة على المؤمنين , قال أبو ذر ما توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا وما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علما([1]).
بعد ذلك اختاره الله تعالى لجواره واللحاق بالرفيق الأعلى من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فابتدأ به المرض صلوات الله وسلامه عليه في آخر شهر صفر وأول شهر ربيع الأول، فخرج إلى الناس عاصباً رأسه فصعد المنبر فتشهد وكان أول ما تكلم به بعد ذلك أن استغفر للشهداء الذين قتلوا في أحد ثم قال: "إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله" ففهمها أبو بكر رضي الله عنه فبكى وقال: بأبي وأمي نفديك بآبائنا وأمهاتنا، وأبنائنا، وأنفسنا، وأموالنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "على رسلك يا أبا بكر" ثم قال: "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن خلة الإسلام ومودته"([2]) وأمر أبا بكر أن يصلي بالناس ولما كان يوم الاثنين الثاني عشر أو الثالث عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشر من الهجرة اختاره الله لجواره فلما نزل به جعل يدخل يده في ماء عنده ويمسح وجهه ويقوله: "لا إله إلا الله إن للموت سكرات" ثم شخص بصره نحو السماء وقال: "اللهم في الرفيق الأعلى"([3]). فتوفي ذلك اليوم فاضطرب الناس لذلك وحق لهم أن يضطربوا، حتى جاء أبو بكر رضي الله عنه فصعد المنبر فحمد الله وأثني عليه ثم قال: أما بعد فإن من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم قرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [سورة آل عمران، الآية: 144]، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [سورة الزمر، الآية: 30] فاشتد بكاء الناس وعرفوا أنه قد مات فغسل صلوات الله وسلامه عليه في ثيابه تكريماً له، ثم كفن بثلاث أثواب أي لفائف بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، وصلى الناس عليه إرسالاً بدون إمام، ثم دفن ليلة الأربعاء بعد أن تمت مبايعة الخليفة من بعده فعليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسلم.
المتن : ( ودينه باق، وهذا دينه، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، والخير الذي دل عليه: التوحيد، وجميع ما يحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذر منه: الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه. بعثه الله إلى الناس كافة وافترض الله طاعته على جميع الثقلين: الجن والأنس والدليل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (2) [سورة الأعراف، الآية: 158]) :
الشرح : ودينه باق : موجود وهو ما تضمنه الكتاب والسنة . مؤيد محفوظ إلى يوم القيامة . كاف لمن تمسك به . قال - صلى الله عليه وسلم - : « تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وسنتي »([4]) .
وهذا دينه : الذي ترك أمته عليه ، وتكفل الله بحفظه ، فتوارثه أهل العلم والدين خلفا عن سلف , قال السلف : هذا عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلينا , ونحن عهدناه إليكم , وهذه وصية ربنا وفرضه علينا , وهي وصيته وفرضه عليكم , فجرى الخلف على منهاج السلف , واقتفوا آثارهم , ولا يزالون إلى يوم القيامة .
لا خير إلا دل الأمة عليه : كما تقدم في قوله تعالى : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } فصلوات الله وسلامه عليه , كما بلغ الرسالة وأدى الأمانة , ونصح الأمة .
ولا شر إلا حذرها منه : خوفا على أمته من الوقوع في المهالك , وقد بلغ الدين كله , وبينه جميعه ,كما أمره الله عز وجل ، وفي الحديث الشريف : « ما بعث من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ويحذرهم من شر ما يعلمه لهم »([5]) .
والخير الذي دل عليه : التوحيد : فهو أصل كل خير وأعظمه , وأوجب الواجبات ولأجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب .
وجميع ما يحبه الله ويرضاه : من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
والشر الذي حذر منه الشرك : فهو أصل كل شر وأعظمه وأول ما أمر به - صلى الله عليه وسلم - الإنذار عنه , قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }{ قُمْ فَأَنْذِرْ } أي عن الشرك , وكذا كل رسول يحذر أمته عن الشرك ويدعوهم إلى التوحيد .
وجميع ما يكرره الله ويأباه : أي يمنعه من الأقوال والأعمال.
بعثه الله إلى الناس كافة : يعني بعث الله نبينا محمدا إلى كافة الناس ، عربهم وعجمهم . ذكرهم وأنثاهم ، حرهم وعبدهم ، أحمرهم وأسودهم ولا نزاع في ذلك بين المسلمين .
( وافترض الله طاعته على جميع الثقلين: الجن والأنس) : بإجماع المسلمين وقرن طاعته بطاعته في غير موضع من كتابه.
( والدليل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [سورة الأعراف، الآية: 158]) : وهذا عموم ظاهر في عموم بعثه إلى الناس جميعا عربهم وعجمهم و(جميعا) تأكيد بعثه إلى الناس كافة , وأن الذي أرسله له ملك السماوات والأرض، ومن بيده الإحياء والإمانة، وأنه سبحانه هو المتوحد بالألوهية كما هو متوحد في الربوبية، ثم أمر سبحانه وتعالى في آخر الآية أن نؤمن بهذا الرسول النبي الأمي وأن نتبعه وأن ذلك سبب للهداية العلمية والعملية، هداية الإرشاد، وهداية التوفيق فهو عليه الصلاة والسلام رسول إلى جميع الثقلين وهم الإنس والجن وسموا بذلك لكثرة عددهم .
وقال تعالى في بيان عموم رسالته : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } ، { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } ، { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } ، وسورة الرحمن وسورة الجن وغيرهما , دالة أوضح دلالة على شمول رسالته إلى الجن والإنس ,وقال : « إن الرسل قبلي يبعثون إلى قومهم خاصة وبعثت إلى الناس كافة »([6]) ، وهذا من شرفه - صلى الله عليه وسلم - أنه خاتم النبيين . وأنه مبعوث إلى الناس كافة . وهو معلوم من دين الإسلام بالضرورة أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الثقلين كلهم وأن طاعته فرض عليهم كلهم . وهو مقتض رسالته - صلى الله عليه وسلم - لا يمتري في ذلك إلا مكابر معاند.

السادس والخمسون
21/8/1435

المتن : ( وأكمل الله به الدين ، والدليل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة، الآية: 5] ).
الشرح : وأكمل الله به الدين : أي لم يتوف - صلى الله عليه وسلم - حتى أكمل الله به الدين وبلغ البلاغ المبين . حتى قال : « تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك »([7]) .
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} : هذه الآية لم تنزل إلا قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم - بثمانين يوما . نزلت عليه وهو واقف بعرفة يخطب الناس . وهذا أكبر نعم الله على هذه الأمة . حيث أكمل لها دينها . فلا يحتاجون إلى دين سواه . ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه . وقال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } ، أي صدقا في الأخبار . وعدلا في الأوامر والنواهي . وفيها بيان أن الله أكمل لنا الدين وأنه كمل من جميع وجوهه . والكامل لا يزاد فيه ولا ينقص منه ولا يبدل . قال تعالى : { لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } فمن ادعى انه يحتاج إلى زيادة فقد كذب وافترى ورد مدلول هذه الآية ومدلول قوله : « إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثه بدعة وكل بدعة ضلالة »([8]) .
أي أن دينه عليه الصلاة والسلام باق إلى يوم القيامة فما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد بين للأمة جميع ما تحتاجه في جميع شئونها حتى قال رجل من المشركين سلمان الفارسي رضي الله عنه علمكم نبيكم حتى الخراءة - آداب قضاء الحاجة - قال: "نعم لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي برجيع أو عظم"([9]) فالنبي صلى الله عليه وسلم بين كل الدين إما بقوله، وإما بفعله، وإما بإقراره ابتداء أو جواباً عن سؤال، وأعظم ما بين عليه الصلاة والسلام التوحيد.
وكل ما أمر به فهو خير للأمة في معادها ومعاشها، وكل ما نهى عنه فهو شر للأمة في معاشها ومعادها، وما يجهله بعض الناس ويدعيه من ضيق في الأمر والنهي فإنما ذلك لخلل البصيرة وقلة الصبر وضعف الدين، وإلا فإن القاعدة العامة أن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج وأن الدين كله يسر وسهولة قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة، الآية: 185]، وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج، الآية: 78] وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [سورة المائدة، الآية: 6] فالحمد لله على تمام نعمته وإكمال دينه.
{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} : لما أخبر تعالى أنه أكمل لنا الدين . وهو أكبر نعمة علينا قال : { وَأَتْمَمْتُ } أي أكملت { عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } ومن تمت عليه النعمة فقد أفلح كل الفلاح
{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} : أي فارضوه أنتم لأنفسكم . فإنه الدين الذي أحبه ورضيه . وبعث به أفضل رسله وأنزل به أشرف كتبه . قال كعب لو نزلت هذه الآية على غير هذه الأمة لاتخذوا اليوم الذي نزلت عليهم فيه عيدا ، قال عمر : نزلت يوم جمعة يوم عرفة . وكلاهما بحمد الله لنا عيد . وكذا قال حبر الأمة.
المتن : ( والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [سورة الزمر، الآيتين: 30-31] ).
الشرح : (والدليل على موته صلى الله عليه وسلم) أي من النقل مما يطابق الحس {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} :ففي هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن أُرْسِلَ إليهم ميتون وأنهم سيختصمون عند الله يوم القيامة فيحكم بينهم بالحق ولن يجعل الله لكافرين على المؤمنين سبيلاً.
{إِنَّكَ مَيِّتٌ }: أي أنك يا محمد ستموت . وقام أبو بكر لما توفى - صلى الله عليه وسلم - يبكي . وقال : بأبي أنت وأمي أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتها . وقال تعالى : { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } نعم هو حي - صلى الله عليه وسلم - في قبره حياة برزخية أعلى وأكمل من حياة الشهداء المذكورة في قوله تعالى : { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ، وأما الحياة الجسمانية فلا ريب أنه مات - صلى الله عليه وسلم - . وغسل وكفن وصلي عليه . ودفن في ضريحه بالمدينة صلوات الله وسلامه عليه . ولم يقل أنه لم يمت إلا المبتدعة الخارجة عن منهج الكتاب والسنة . مخافة أن ينتقض عليهم أصلهم الباطل في توجههم إليه ، وسؤاله ما لا يقدر عليه . وإلا فموته - صلى الله عليه وسلم - معلوم بالسمع والمشاهدة مشهور يعلمه العام والخاص لا يمتري فيه إلا مكابر .
{وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} : أي سيموتون وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } . {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} : فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله تعالى كما في سورة القيامة ، وآخر يس وغيرهما من السور . فالإيمان بالبعث والنشور من القبور من جملة الإيمان باليوم الآخر . فإن الإيمان باليوم الآخر يشمل الإيمان بالبعث ، بل الإيمان بالبعث هو معظم الإيمان باليوم الآخر . وهو الذي كان ينكره أهل الجاهلية ، أنكروا أن تعود هذه الأجساد كما كانت عظامها ولحمها وعصبها . وذلك من جهلهم بكمال علمه تعالى وقدرته على كل شيء . ولهذا يقرر تعالى بعث الأجساد وردها كما كانت في مواضع من كتابه بكمال علمه وقدرته.
المتن : (والناس إذا ماتوا يبعثون ) :
الشرح : ليجازى كل بعمله . ويقتص لبعضهم من بعض حتى البهائم , يبعثهم الله عز وجل أحياء ، وهذا هو النتيجة من إرسال الرسل أن يعمل الإنسان لهذا اليوم يوم البعث والنشور، اليوم الذي ذكر الله سبحانه وتعالى من أحواله وأهواله ما يجعل القلب ينيب إلى الله عز وجل ويخشى هذا اليوم قال الله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [سورة المزمل، الآيتين: 17-18] , وفي هذه الجملة إشارة إلى الإيمان بالبعث وأستدل الشيخ له بآيتين.
المتن : ( والدليل قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [سورة طه، الآية: 55] وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [سورة نوح، الآيتين: 17-18] ) .
الشرح : {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} : أي من الأرض مبدؤكم . فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض وفي الأرض نعيدكم أي إذا متم تصيرون إليها فتدفنون بها ومن الأرض نخرجكم يوم البعث والحساب . تارة أي مرة أخرى . كقوله : { فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } , وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً } : ) أراد تعالى مبدأ خلق آدم من الأرض والناس ولده و(نباتا) اسم وضع موضع المصدر أي إنبات .
{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} :أي يعيدكم في الأرض إذا متم . ويخرجكم منها بعد البعث إحياء . " إخراجا " يعيدكم يوم القيامة كما بدأكم أول مرة , فهذه الآية موافقة تماماً لقوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً وقد أبدى الله عز وجل وأعاد في إثبات المعاد حتى يؤمن الناس بذلك ويزدادوا إيماناً ويعملوا لهذا اليوم العظيم الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من العاملين له ومن السعداء فيه.
المتن : (وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم، والدليل قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [سورة النجم، الآية: 31] )
الشرح : وبعد البعث محاسبون : أي على الأعمال حسنها وسيئها . والإيمان بالحساب والمجازاة على الأعمال من الإيمان باليوم الآخر أيضا , ومجزيون بأعمالهم : دقيقها وجليلها صغيرها وكبيرها.
{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} : يعني أن الناس بعد البعث يجازون ويحاسبون على أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [سورة الزلزلة، الآيتين: 7-8]، وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [سورة الأنبياء، الآية: 47]، وقال جلا وعلا: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة الأنعام، الآية: 160]. فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة فضلاً من الله عز وجل وامتناناً منه سبحانه وتعالى، فهو جل وعلا قد تفضل بالعمل الصالح، ثم تفضل مرة أخرى بالجزاء عليه هذا الجزاء الواسع الكثير، أماالعمل السيء فإن السيئة لا يجازى الإنسان بأكثر منها قال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [سورة الأنعام، الآية: 160] وهذا من كمال فضل الله وإحسانه.
ثم أستدل الشيخ لذلك بقوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} ولم يقل بالسُّوآى كما قال : {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} : فيخبر تعالى في هذه الآية أنه مالك السماوات والأرض ، الغني عما سواه ، الحاكم بالعدل . خالق الخلق بالحق : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا } من الشرك فما دونه { وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } وحدوا ربهم وأخلصوا له الطاعة بِالْحُسْنَى ، وقال : { لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .

المتن : ( ومن كذب بالبعث كفر، والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1) [سورة التغابن، الآية: 7] )
الشرح : لتكذيبه الله ورسوله وإجماع المسلمين , {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} : كفرهم الله تعالى بإنكارهم للبعث في زعمهم أن لن يبعثوا . فدل على أن إنكار البعث كفر بل هو من أعظم كفر أهل الجاهلية .ولقوله تعالى : {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [سورة الأنعام، الآيتين: 29-30]، وقال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [سورة المطففين، الآيات: 10-17]، وقال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} [سورة الفرقان، الآية: 11]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة العنكبوت، الآية: 23]
{قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} : أي قل يا محمد بلى وربي . جواب تحقيق وقسم بالله العظيم لتبعثن يوم القيامة . وهذه الآية الثالثة التي أمر الله نبيه أن يقسم بربه عز وجل على وقوع المعاد ووجوده . وفي يونس : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } ، وفى سبأ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } الآية .
{لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} : أي لتخبرن بجميع أعمالكم جليلها وحقيرها . صغيرها وكبيرها . قال تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } . {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} : سهل هين عليه كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } فإذا كان هذا النوع الإنساني في العدم لم يوجد قبل . ثم أوجده الله تعالى من طين ، وذراريه من ماء مهين . ثم جعل هذا التناسل منه . فإنه لا يعجزه أن يعيدهم وهو الذي أبدعهم . وفي الحديث : « كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك . ويشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك . فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني . وليس أول الخلق بأهون علي من آخره »([10]) .
وأما إقناع هؤلاء المنكرين للبعث فبما يأتي :
أولاً: أن أمر البعث تواتر به النقل عن الأنبياء والمرسلين في الكتب الإلهية، والشرائع السماوية، وتلقته أممهم بالقبول، فيكف تنكرونه وأنتم تصدقون بما ينقل إليكم عن فيلسوف أو صاحب مبدأ أو فكرة، وإن لم يبلغ ما بلغه الخبر عن البعث لا في وسيلة النقل ولا في شهادة الواقع ؟
ثانيا : إن أمر البعث قد شهد العقل بإمكانه، وذلك عن وجوه:
1- كل أحد لا ينكر أن يكون مخلوقاً بعد العدم، وأنه حادث بعد أن لم يكن، فالذي خلقه وأحدثه بعد أن لم يكن قادر على إعادته بالأولى، كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [سورة الروم، الآية: 27]، وقال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [سورة الأنبياء الآية: 104].
2- كل أحد لا ينكر عظمة خلق السماوات والأرض لكبرهما وبديع صنعتهما، فالذي خلقهما قادر على خلق الناس وإعادتهم بالأولى ؛ قال الله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [سورة غافر، الآية: 57]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة الأحقاف، الآية: 33]، وقال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة يس، الآيتين: 81-82].
3-كل ذي بصر يشاهد الأرض مجدبة ميتة النبات، فإذا نزل المطر عليها أخصبت وحيي نباتها بعد الموت، والقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وبعثهم ن قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة فصلت، الآية: 39].
ثالثاً: أن أمر البعث قد شهد الحس والواقع بإمكانه فيما أخبرنا الله تعالى به من وقائع أحياء الموتى، وقد ذكر الله تعالى من ذلك في سورة البقرة خمس حوادث منها، قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة البقرة، الآية: 259].
رابعاً: أن الحكمة تقتضي البعث بعد الموت لتجازى كل نفس بما كسبت، ولولا ذلك لكان خلق الناس عبثاً لا قيمة له، ولا حكمة منه، ولم يكن بين الإنسان وبين البهائم فرق في هذه الحياة. قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [سورة المؤمنون، الآيتين: 155-116]، وقال الله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [سورة طه، الآية: 15]، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة النحل، الآيات: 38-40]. وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [سورة التغابن، الآية: 7].
فإذا بينت هذه البراهين لمنكري البعث وأصروا على إنكارهم، فهم مكابرون معاندون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
المتن : (وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين والدليل قوله تعالى {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} {سورة النساء، الآية: 165}
الشرح : أي أرسل الله جميع رسله من أولهم نوح عليه السلام إلى آخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - كلهم يدعون إلى عبادة الله وحده . وترك عبادة ما سواه . مبشرين من أجابهم إلى ما دعوا إليه برضوان الله وكرامته ومنذرين محذرين من عصاهم غضب الله وسخطه وعقابه.
وإرسال الرسل له حكم عظيمة من أهمها بل هو أهمها أن تقوم الحجة على الناس حتى لا يكون لهم على الله حجة بعد إرسال الرسل كما قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}, فلا يقولون يوم القيامة ما أرسلت إلينا رسولا ، ما أنزلت إلينا كتابا . فانقطعت حجة الخلق على الله بإرسال الرسل وإنزال الكتب . وإقامة الحجج عليهم . وتبين الحق لهم . وركز الفطر في قلوبهم . وانقطعت المعذرة ولم يبق للناس على الله حجة.
ومن الحكم : أنه من تمام نعمة الله على عباده فإن العقل البشري مهما كان لا يمكنه أن يدرك تفاصيل ما يجب لله تعالى من الحقوق الخاصة به، ولا يمكنه أن يطلع على ما لله تعالى من الصفات الكاملة، ولا يمكن أن يطلع على ماله من الأسماء الحسنى ولهذا أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلاممبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
وأعظم ما دعا إليه الرسل من أولهم نوح عليه الصلاة والسلام إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم التوحيد كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل، الآية: 36]. وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء، الآية: 25].
المتن : (وأولهم نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [سورة النساء، الآية: 163]) .
الشرح : كان بين نوح وبين آدم عشرة قرون كلهم على الإسلام . فلما حدث الشرك بسبب الغلو في الصالحين . أرسل إليهم وهو أول رسول إلى أهل الأرض بإجماع المسلمين .
وثبت في الصحيح من حديث الشفاعة: " إن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض"([11]) فلا رسول قبل نوح وبهذا نعلم خطاً المؤرخين الذين قالوا إن أدريس عليه الصلاة والسلام قبل نوح بل الذي يظهر أن إدريس من أنبياء بني إسرائيل.
فنوح عليه السلام أول رسول وأول نذير عن الشرك وقوله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : { إِنَّا أَوْحَيْنَا } بناء على ما سبق من قوله : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ } ، { إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } ، وقال : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } ، وذكر عدة من الرسل . أي فقد أنزل عليك كما أنزل عليهم ، إلى أن قال : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } ، وعن أبي ذر قلت : « يا رسول الله كم الأنبياء قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا . قلت : كم الرسل منهم؟ قال : ثلاث مائة وثلاثة عشر جم غفير »([12]) ، فأقام تعالى الحجة وقطع المعاذير بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم :هو آخر الرسل إلى أهل الأرض بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، وهو خاتم النبيين لا نبي بعده . قال تعالى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } . وثبت عنه من غير وجه أنه لا نبي بعده . وأجمع المسلمون على ذلك ، واشتهر كذب من ادعى النبوة بعده . وأخبر بذلك أنه سيأتي بعده كذابون دجالون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي . ووقع ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - ومن أدعى النبوة بعده فهو كاذب كافر مرتد عن الإسلام , وعيسى بن مريم إذا نزل في آخر الزمان إنما يحكم بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - . فهو من أمته بإجماع المسلمين.
المتن : ( وكل أمة بعث الله إليها رسولاً من نوح إلى محمد ؛ يأمرهم بعادة الله وحده، وينهاهم عن عبادة الطاغوت، والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [سورة النحل، الآية: 36] ) .
الشرح : فنوح أول رسول من بني آدم إلى أهل الأرض . وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وما من أمة من الأمم . ولا طائفة من الطوائف . إلا وقد بعث الله فيهم رسولا . إقامة منه تعالى للحجة على عباده وإيضاحا للمحجة , يدعوهم إلى عبادة الله وحده وينهاهم عن الشرك ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [سورة فاطر، الآية: 24]، وقال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } ، ولما كانت الرسل قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - كلما هلك نبي خلفه نبي . قيض الله لهذه الأمة أئمة هدى حفظ الله بهم دينه . وأقام بهم الحجة على عباده ، ولا تزال إلى قيام الساعة . كما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - في قوله : « لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة إلى قيام الساعة »([13]) .
يأمرهم بعادة الله وحده، وينهاهم عن عبادة الطاغوت : يدعوهم إلى هذا الذي بعثت به الرسل . ودعوتهم كلهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه فزبدة جميع ما أرسلت به الرسل هو التوحيد ، وما سواه من تحريم وتحليل ففروع . ولا يؤمر بها إلا بعد وجود التوحيد ولا تقبل ولا يلتفت إليها إلا مع التوحيد الذي هو دين الرسل . من أولهم إلى آخرهم . ولأجله خلقت الخليقة وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب وخلقت الجنة والنار.
والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} : هذا هو معنى لا إله إلا الله , ومثل هذه الآية قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } ، وغير ذلك من الآيات الدالة على عظم التوحيد وكلا الآيتين فيهما العموم الواضح أن أول شيء بدأت به الرسل قومهم هو التوحيد وأيضا في أفراد الرسل جاءت الآيات . كما قال عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم أن أول شيء بدأوا به قومهم { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } . فهذه دعوة الرسل . وزبدة الرسالة . وبه تعرف عظمة شأن التوحيد . ومعرفتك عظمته بأن تصرف همتك إليه . وإلى معرفته والعمل به . غاية جهدك . وإلى معرفة ما يضاده . وما سواه من أنواع العلوم الفروعية بعد ذلك . فيهتم الإنسان غاية الاهتمام بمعرفة أصل الدين إجمالا قبل الواجب من الفروع . الصلاة والزكاة وغير ذلك . فلا تصح الصلاة ولا الزكاة قبل الأصل . فلا بد من معرفة أصل الدين إجمالا . ثم معرفة فروعه تفصيلا . وفي حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن قال له : « إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهمخمس صلوات في كل يوم وليلة » ، وهذا يفيد أنهم إذا لم يعلموا التوحيد ولم يعملوا به فلا يدعوهم للصلاة إن لم يطيعوه في الدخول في الإسلام . فإن الصلاة لا تنفع . ولا غيرها بدون التوحيد . فإنه لا يستقيم بناء على غير أساس . ولا فرع على غير أصل . والأصل والأساس هو التوحيد . والصلاة وإن كانت هي عمود الإسلام فمع ذلك لم تفرض إلا بعد الأمر بالتوحيد بنحو عشر سنين . ومما يبين أن التوحيد هو الأصل كونه يوجد من يدخل الجنة ، ولو لم يصل ركعة واحدة وذلك إذا اعتقد التوحيد وعمل به ومات متمسكا له . كأن يقتل قبل أن يصلي أو يموت . والصلاة لا تنفع وحدها . ولو صلى وزكى وصام . إذا لم يعتقد التوحيد وبذلك يعرف عظم شأن التوحيد . وما هلك من هلك إلا بترك العلم بالتوحيد والعمل به . وما دخل الشيطان على من دخل . ولا مزق عقول من مزق ولا وقع ما وقع إلا من آفة قولهم يكفي النطق بالشهادة . ومجرد المعرفة . حتى إن من علمائهم من لا يعرف التوحيد أصلا . وذلك لكونهم ابتلوا بالشرك . وعبادة الأوثان . وكثرة الشبهات الباطلة . فبذلك خفي التوحيد على كثير ممن يدعي العلم . لعدم المعرفة به . وإلا فمعرفة التوحيد والشرك من أهون ما يكون وأسهله إجمالا . كما في زمن الصحابة . فإنهم كانوا يعرفون التوحيد والشرك . فمن قال لا إله إلا الله يترك الشرك . ويعلم أنه باطل مناف لكلمة الإخلاص ، ولهذا لما دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى التوحيد وقال : « قولوا لا إله إلا الله تفلحوا » . قالوا : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ، وأما حين كثرت الشبهات صعب معرفة التوحيد . والتخلص من ضده وكثر النفاق . وصار الكثير يقولها ويعبد مع الله غيره . فالله المستعان.
المتن : (وافترض الله على جميع العباد الكفر بالطاغوت والإيمان بالله )
الشرح : ولأجل ذلك أرسلت الرسل . وأنزلت الكتب . بل الدين أمران : كفر بالطاغوت وإيمان بالله . ومن كفر بالطاغوت وآمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها , فأراد شيخ الإسلام رحمه الله بهذا أن التوحيد لا يتم إلا بعبادة الله وحده لا شريك له واجتناب الطاغوت.
وقد فرض الله ذلك على عبادة والطاغوت مشتق من الطغيان، والطغيان مجاوزة الحد ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [سورة الحاقة، الآية:11]. يعني لما زاد الماء عن الحد المعتاد حملناكم في الجارية يعني السفينة, واصطلاحاً أحسن ما قيل في تعريفه ما ذكره ابن القيم - رحمه الله - .
فهذه هي دعوة الرسل الإيمان بالله والكفر بالطاغوت : فعجبا لمن يسمون أنفسهم بالدعاة إلى الله والإسلاميين وهم مضيعون لهذا الأصل الأصيل , فمنهم من يركض خلف الديمقراطية , ومنهم من يركض خلف الحزبية , ومنهم من يدندن بالحاكمية , ومنهم المتعطش لسفك الدماء وقتل الأبرياء , لإعادة الخلافة بزعمه , وما حصلت الذلة إلا منهم .
ومنهم من يسمون أنفسهم بالدعاة يطوفون في البلاد يدعون إلى حزبيتهم وجماعتهم _ جماعة التبليغ _ , فهم ليسوا دعاة إلى الله , ولو أنّ الدعاة جعلوا أساس دعوتهم {أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} لما تفرقوا كما كان الصحابة وأئمة التابعين والأئمة من أهل السنة لم يتفرقوا لأن الأصل واحد والمنهج واحد .
ومع الأسف الشديد فإنّ قادة الجماعات والأحزاب المعاصرة يردون التشتت إلى دعاة السنة السلفيون , ولكن ما ذنب السلفيين ؟ بل السلفيون بينوا للناس خطر الفرقة والتشتت واتباع منهج فلان وجماعة فلان , ونصحوا للمسلمين بالبعد عن الحزبيات والإقبال على التمسك بالوحي وما كان عليه سلف الأمة الصالح .
فهذه القضية الأولى في الدعوة إلى الله تعالى , ويقف المسلم حائرا أمام موقف الجماعات الإسلامية والأحزاب فهم لا يرفعون لها رأسا بل ربما ظنوا أن الدعوة إلى التوحيد تفرق الأمة .
المتن : ( قال ابن القيم - رحمه الله تعالى-الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع، أو مطاع )
الشرح : (ابن القيم ) هو الإمام محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية صاحب التصانيف المقبولة المتوفى سنة سبعمائة وإحدى وخمسين (751هـ) .
(الطاغوت: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع، أو مطاع) : يعني كل شيء يتعدى به العبد حده أي قدره الذي ينبغي له في الشرع يصير له طاغوت ، سواء تعدى حده من معبود مع الله بأي نوع من أنواع العبادة : كالأصنام والأحجار والصالحين والأنبياء والملائكة _ أو متبوع في معاصي الله أو مطاع من دون الله في التحليل والتحريم ، بأن كان يحرم ما أحل الله ، ويحل ما حرم الله . ثم قال ابن القيم فإذا تأملت طواغيت العالم فإذا هي لا تخرج عن هذه الثلاثة.
ومراده بالمعبود والمتبوع والمطاع غير الصالحين ، أما الصالحون فليسوا طواغيت وإن عبدوا - أو اتبعوا - أو أطيعوا فالأصنام التي تعبد من دون الله طواغيت، وعلماء السوء الذين يدعون إلى الضلال والكفر، أو يدعون إلى البدع، أو إلى تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله طواغيت .
وكذلك يدخل في معنى "أو مطاع" الأمراء الذين يطاعون شرعا أو قدراً، فالأمراء يطاعون شرعاً إذا أمروا بما لا يخالف أمر الله ورسوله وفي هذه الحال لا يصدق عليهم أنهم طواغيت، والواجب لهم على الرعية السمع والطاعة، وطاعتهم لولاة الأمر في هذا الحال بهذا القيد طاعة الله-عز وجل - ولهذا ينبغي أن نلاحظ حين ننفذ ما أمر به ولي الأمر مما تجب طاعته فيه أننا في ذلك نتعبد لله تعالى ونتقرب إليه بطاعته، حتى يكون تنفيذنا لهذا الأمر قربة إلى الله عز وجل وإنما ينبغي لنا أن نلاحظ ذلك لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [سورة النساء، الآية: 59].
وأما طاعة الأمراء قدراً فإن الأمراء إذا كانوا أقوياء في سلطتهم فإن الناس يطيعونهم بقوة السلطان وإن لم يكن بوازع الإيمان، لأن طاعة ولي الأمر تكون بوازع الإيمان وهذه هي الطاعة النافعة، النافعة لولاة الأمر، والنافعة للناس أيضاً، وقد تكون الطاعة بوازع السلطان بحيث يكون قوياً يخشى الناس منه ويهابونه لأنه ينكل بمن خالف أمره.
لهذا نقول إن الناس مع حكامهم في هذه المسألة لهم أحوال :
الحال الأولى: أن يقوى الوازع الإيماني والرادع السلطاني وهذه أكمل الأحوال وأعلاها.
الحال الثانية: أن يضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني وهذه أدنى الأحوال وأخطرها على المجتمع، على حكامه ومحكوميه؛ لأنه إذا ضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني حصلت الفوضى الفكرية والخلقية والعملية.
الحال الثالثة: أن يضعف الوازع الإيماني ويقوى الرادع السلطاني وهذه مرتبة وسطى لأنه إذا قوى الرادع السلطاني صار أصلح للأمة في المظهر فإذا اختفت قوة السلطان فلا تسأل عن حال الأمة وسوء عملها.
الحال الرابعة: أن يقوي الوازع الإيماني ويضعف الرادع السلطاني فيكون المظهر أدنى منه في الحال الثالثة لكنه فيما بين الإنسان وربه أكمل وأعلى.
المتن : ( والطواغيت كثيرة ورؤسهم خمسة إبليس لعنه الله، ومن عبد وهو راض ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه ، ومن أدعى شيئاً من علم الغيب ؛ ومن حكم بغير ما أنزل الله ) .
الشرح : والطواغيت كثيرة :أي إذا عرفت ما حده ابن القيم بتحقق تبين أن الطواغيت كثيرة جدا من بني آدم بلا حصر . وذلك أن كل من تجاوز حده في الشرع صار بخروجه منه وتجاوزه طاغوتا .
ورؤسهم خمسة : أي أكبر الطواغيت وزعمائهم ومقلدوهم بالاستقراء والتأمل خمسة.
إبليس لعنه الله : هو رأسهم الأكبر واللعن في الأصل الطرد والإبعاد . وإبليس مطرود مبعد عن رحمة الله , وإبليس هو الشيطان الرجيم اللعين الذي قال الله له: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [سورة ص، الآية: 78] وكان إبليس مع الملائكة صحبتهم يعمل بعملهم، ولما أمر بالسجود لآدم ظهر ما فيه من الخبث والإباء والاستكبار فأبى واستكبر وكان من الكافرين فطرد من رحمة الله عز وجل قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [سورة البقر، الآية: 34].
ومن عبد وهو راض :بتلك العبادة الصادرة من العابد بأي نوع من أنواعها . فهو طاغوت من رؤساء الطواغيت وكبرائهم , وسواء عبد في حياته أو بعد مماته إذا مات وهو راض بذلك , وخرج بذلك من عبد بدون رضاه كعيسى بن مريم عليه السلام , فإنه يتبرأ يوم القيامة من الذين عبدوه {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) }[المائدة : 116]
ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه : وإن لم يعبدوه فإنه من رؤوس الطواغيت سواء أجيب لما دعا إليه أم لم يجيب, ممن يقر الغلو والتعظيم بغير حق كفرعون ومشايخ الضلال وكثير من الصوفية القبورية الذين غرضهم العلو في الأرض والفساد واتخاذهم أربابا والإشراك بهم مما يحصل في مغيبهم وفي مماتهم وحكي عن بعض أئمة الضلال أنه قال من كان له حاجة فليأت إلى قبري وليستغث بي .
ومن ادعى شيئاً من علم الغيب : كالمنجمين ، والرمالين والسحرة والدجالين , والغيب ما غاب عن الإنسان وهو نوعان : واقع، ومستقبل، فغيب الواقع نسبي يكون لشخص معلوماً ولآخر مجهولاً، وغيب المستقبل حقيقي لا يكون معلوماً لأحد إلا الله وحده أو من أطلعه عليه من الرسل فمن أدعى علمه فهو كافر لأنه مكذب لله عز وجل ولرسوله، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [سورة النمل، الآية: 65]، وإذا كان الله عز وجل يأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أن يعلن للملأ أنه لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله، فإن من أدعى علم الغيب فقد كذب الله عز وجل ورسوله في هذا الخبر.
ونقول لهؤلاء كيف يمكن أن تعلموا الغيب والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب ؟‍ هل أنتم أشرف أم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فإن قالوا هو أشرف فنقول لماذا يحجب عنه الغيب وأنتم تعلمونه؟ وقد قال عز وجل عن نفسه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [سورة الجن، الآية:26-27]، وهذه آية ثانية تدل على كفر من أدعى علم الغيب، وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلن للملأ بقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [سورة الأنعام، الآية: 50].
ومن حكم بغير ما أنزل الله :الحكم بغير ما أنزل الله تعالى فيه تفصيل عند السلف معروف , أه إذا حكم بغير ما أنزل الله مستحلَّا لذلك أو مفضلا ذلك على شريعة الله تعالى أو مقدما ذلك على شريعة الله ويرى أنه لا بأس بذلك وأنه يجوز أو قال : إن الشرعة لا تناسب هذا العصر , فهذا لا شك فيه كفر بإجماع الأمة .
وأما إذا حكم بغير ما أنزل الله وهو يعلم أنه حرام وأنه لا يجوز وأنه ظلم وفسق وأنه كفر , ولكنه حكم متبعا لهواه , أو خائفا أو يريد الدنيا أو حفاظا على المنصب ولا يعتقد أنه حلال بل يعتقد أنه حرام , وأنه لا يجوز , فهذا لا يكفره السلف الصالح وإنما هو عاص من العصاة كشارب الخمر والمرابي وقاتل النفس ؛ لأنه لم يستحل , وأهل السنة لا يكفرون أحدا بذنب ما لم يستحله ويستبحه , وهذا الحاكم بغير الشرع إتباعا لهواه أو طلبا لدنياه أو نحو ذلك من الأغراض فمثل هذا ما حصل منه الاستحلال فلا يكون كافرا الكفر الأكبر .
المتن : (والدليل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}[سورة البقرة، الآية: 256] وهذا معنى لا إله إلا الله.وفي الحديث* "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" ) .
الشرح : لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ : أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في الإسلام . فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه . لا يحتاج أن يكره أحد على الدخول فيه . فمن هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل على بينة . ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا . قيل نزلت في عدد من أولاد الأنصار أرادوا استردادهم لما أجليت بنو النضير وقيل كان في ابتداء الأمر ثم نسخ بالأمر بالقتال . قال الشيخ شرع الجهاد على مراتب فأول ما أنزل الله فيه الإذن فيه بقوله : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } ، ثم نزل وجوبه بقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } الآية . ولم يؤمروا بقتال من سالمهم وكذا من هادنهم ثم أنزل الله في سورة التوبة الأمر بنبذ العهد وقتال المشركين كافة . وبقتال أهل الكتاب إذا لم يسلموا حتى يعطوا الجزية . ولم يبح ترك قتالهم وإن سالموهم وهادنوهم هدنة مطلقة مع إمكان جهادهم . وقال ابن القيم : كان محرما . ثم مأذونا فيه . ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال . ثم مأمورا به لجميع المشركين . قال تعالى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ، وقال - صلى الله عليه وسلم « قاتلوا من كفر بالله »([14]) قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ : أي ظهر وتميز الحق من الباطل . والإيمان من الكفر . والهدى من الضلال بالآيات والبراهين الدالة على ذلك . فإذا تبين الرشد من الغي فإن كل نفس سليمة لا بد أن تختار الرشد على الغي.
قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ :أي ظهر وتميز الحق من الباطل . والإيمان من الكفر . والهدى من الضلال بالآيات والبراهين الدالة على ذلك .
فمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى : أي تمسك بالتوحيد والإسلام فهو العروة الوثقى . واستمسك بالشيء وتمسك به وأمسك أخذ به وتعلق واعتصم . والعروة الوثقى القوية التي لا تنفك ولا تنفصم . فمن تمسك بالتوحيد دين الله الذي أرسل به الرسل وأنزل به الكتب الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه تمسكاً تاماً تمسكاً تاماً وتأمل كيف قال عز وجل: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ} ، ولم يقل: "تمسك" لن الاستمساك أقوى من التمسك فإن الإنسان قد يتمسك ولا يستمسك , فمن استمسك بها وصل الجنة بكل حال .
وبدأ الله عز وجل بالكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله ؛ لأن من كمال الشيء إزالة الموانع قبل وجود الثوابت ولهذا يقال التخلية قبل التحلية.
وهذا معنى لا إله إلا الله :فإن معنى لا إله إلا الله كفر بالطاغوت وإيمان بالله , يكفر بالطاغوت هذا النفي , ويؤمن بالله هذا الإثبات .
المتن : ( وفي الحديث* "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" )
الشرح : رأس الأمر الإسلام : لكل شيء رأساً , ورأس الدين الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الإسلام أي التوحيد. فمن انتسب إلى ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وادعى أنه من أمة الإجابة . وقد فُقِدَ منه رأس الأمر . وحقيقته . وهو التوحيد فليس من أمة الإجابة . والتوحيد هو الملة والدين . فمن فُقِدَ منه فقد كذب وافترى في دعواه الاستجابة لله ورسوله . كما أن الحيوان إذا فقد منه رأسه فأي شيء ينفع سائر جسده . فمن ادعى أنه من أمة الإجابة . وقد فقد منه التوحيد وهو إفراد الله بالعبادة فلا وجود لما يدعيه ، لفَقْدِ حقيقة الانتساب . كمن ادعى أنه متبع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو مع الله غيره كأن يسأله قضاء الحاجات وتفريج الكربات ويزعم أن ذلك قربة إلى الله ، وأنه مما يحبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ريب أنه هو المضاد المعاند المعادي للنبي - صلى الله عليه وسلم - المنتقص المستهزئ بدين النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وكيف بمن يقول نحن إذا دعونا إلى التوحيد ما استجاب لنا الناس وإذا قلنا اتركوا الطواف حول القبور أو اتركوا التمائم والتعلق بالموتى تركوا الاستجابة لنا , وبعض الناس ربما يقول : إن دعوناهم إلى التوحيد فرقنا الناس , ولكن نترك الناس على عقائدهم ونجمعهم في الحزب حتى ننتصر على الشيوعيين والعلمانيين , هكذا يقولون , سبحان الله يجمعون هذه الأطياف والعقائد المختلفة والفكرية والضالة يجمعونها في الحزب أو الجماعة .
وعموده الصلاة : هذا فيه عظم شأن الصلاة . وأنها من الدين بهذا المكان العظيم . وهو أن مكانها من الدين مكان العمود من الفسطاط (الخيمة) . لأن مجرد ترك الصلاة كفر مخرج من الملة عند بعض العلماء . وفي هذه المسألة خلاف بين أهل السنة , وهذا الحديث من أدلة من قال بأن تاركها كسلا كافر , وأما جحد وجوبها فكفر إجماعا . وإن فعلها . كما أن جحد شيء مجمع عليه عند الأئمة كفر .
وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" : ذروة الشيء أعلاه وذروة البعير سنامه . وهو أعلاه وأرفعه . وهذا يفيد أن الجهاد هو أعلى وأرفع خصال الدين وذلك لأن فيه بذل المهج التي ليس شيء أنفس منها ولا يعادلها شيء ألبتة ولأن الإنسان إذا أصلح نفسه حاول إصلاح غيره بالجهاد في سبيل الله ليقوم الإسلام ولتكون كلمة الله هي العليا , فيبذل مهجته ويبذل ماله لظهور الدين وتأييده وعلوه على غيره . وجهاد الكفار والمنافقين فبذلك استحق أن يكون من الدين بهذا المكان . قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } ، { وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }{ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ، وغير ذلك من الآيات والأحاديث المستفيضة في فضل الجهاد والحث عليه ، وهو ركن من أركان الدين .
لكن ينبغي أن نفرق بين الجهاد والإفساد ؛ لأن الشيطان قد لبس على كثير ضمن الشباب , ولم يسمعوا إلى كلام العلماء وإلى النصوص ولا حتى إلى العقل , نعم قد يكون عندهم إخلاص ولكن هذا لا يكفي كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : ((كم من مريد للخير لم يصبه )) ([15])يريد الخير والجنة ولكن لا يأتيها من طريقها , كما كان الخوارج لهم عبادة عظيمة ومع ذلك كانوا ضلالا , اتهموا الصحابة وكفروهم , وهؤلاء الشباب اتهموا العلماء وكفروهم , انتفخوا وصاروا يقتلون ويسفكون الدماء في بلاد الكفر وبلاد الإسلام ويظنون أنهم يحسنون صنعا , يفجرون التفجير ويقتلون الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء نسأل الله السلامة .
فهذا الإرهاب والإفساد يسمونه جهادا سبحان الله بل هذا من تسمية ألأشياء بغير اسمها , وقد كان أهل السنة والعلماء يقولون : إذا رأيت نفسك تخالف جماعة أهل السنة والعلماء فلا تتهم الجماعة بل اتهم عقلك : إذا وجدت نفسك تخالف الشيخ ابن باز والألباني وابن عثيمين والفوزان وعبد العزيز آل الشيخ وعبد المحسن العباد ومقبل ابن هادي , إذا خالفت هؤلاء وغيرهم من أهل العلم والفضل فاتهم عقلك , أنت الذي على الخطأ ؛ لأن علماء السنة لا يجتمعون على ضلالة ,وهذا لا يعني أننا نقلد هؤلاء العلماء أو غيرهم ولكن نسير على نهجهم وهو الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح , والبعد عن مواطن الفتن والريبة , والحذر من طريق أهل الإفساد والإحداث في الدين .
المتن : ( والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم )
الشرح : ختم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى الله رسالته كغيره برد العلم إلى من هو بكل شيء محيط علما . وسأله أن يثني على نبيه وآله وصحبه . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .

والحمد لله رب العالمين الذي أعانني على شرح هذه الرسالة المباركة , وأسأله أن يجعل هذا الشرخ خالصا لوجهه الكريم , وكان الفراغ منه بالمدينة النبوية في مساء الثلاثاء السادس والعشرون من شهر شعبان من عام خمس وثلاثين وأربعمائة وألف من هجرة رسولنا عليه الصلاة والسلام (26/8/1435ه) .
وقد رجعت في هذا الشرح إلى ثلاثة كتب :
1_ حاشية الأصول الثلاثة , تأليف : عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الحنبلي النجدي .
2_ شرح ثلاثة الأصول , تأليف: محمد بن صالح العثيمين .
3_ شرح الأصول الثلاثة , تأليف : عبد الحميد بن خليوي الرفاعي الجهني .



([1]) إسناده صحيح انظر : السلسلة الصحيحة للألباني (4 / 302)


([2])أخرجه البخاري، كتاب المساجد، باب: الخوخة والممر في المسجد.

([3])أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب: مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته.


([4]) قال الألباني رواه الحاكم موصلا بإسناد حسن .انظر : منزلة السنة في الإسلام (ص18)

([5]خرجه مسلم ( 6 / 18 ) وغيره .



([6])صحيح البخاري(1 / 119)

([7]) سنن ابن ماجه (1 / 16) ح43قال الشيخ الألباني : صحيح .

([8]) سنن أبي داود (4 / 329) ح4609وقال الألباني صحيح : مشكاة المصابيح (1 / 31)

([9])أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب: الاستطابة.





([10]) قال الشيخ الألباني : ( صحيح ) انظر حديث رقم : 4323 في صحيح الجامع




([11])رواه البخاري كتاب التوحيد، باب: كلام الله مع الأنبياء، يوم القيامة، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة




([12]) صححه في الصحيحة (6/363).




([13]) صحيح ابن ماجه (1 / 7) ح10وقال الألباني :صحيح .





([14])صحيح مسلم (5 / 139) ح 4619







([15]) أخرجه الدارمي في سننه ( 1 / 68 - 69 ) كما قال الألباني في " السلسلة الصحيحة " 5 / 11






رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:19 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.