أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
41120 103800

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > منبر الفقه وأصوله

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 12-28-2012, 01:14 AM
علي بن حسن الحلبي علي بن حسن الحلبي غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 2,679
افتراضي

....
الدرس الأول (1)




....بسم الله الرحمن الرحيم. وبه نستعين..

....البسملة في بداية الكتب منهجٌ علميٌّ متوارَث، مأخوذٌ من ابتداء كتاب الله -عزَّ وجلَّ- بالبسملة في سورة الفاتحة، ومأخوذ من استهلالِ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- كتبَه للملوك والسلاطين بالبسملة.

....وأما الحديث المشهور: «كل أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدأ بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)؛ فهو أبتر» فأرجح الأقوال أنه لا يصح ولا يثبتُ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

....الحمد لله, نحمده, ونستعينه, ونستغفره, ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-.

....هذه خطبة الحاجة، وهي خطبةٌ نبويَّة كان رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يعلمها أصحابَه، ويذكرها بين يدي مجالسِه وخُطبه ومواعظه ودروسه الشريفة -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-.

....وهي خطبة تشكِّل سُنة مهجورة قلَّ من يُطبقها، وقلَّ من يبتدئ بها.

....نعم؛ شهدت العقود الأخيرة إحياءً لهذه السُّنة، وتطبيقًا لها، واحتفاءً بها؛ لكن كما نقول وكما يقول الله: {وقليلٌ من عبادي الشَّكور}، هؤلاء لا يزالون هم القلة، وأما الكثرةُ الكاثرة -من الخطباء والوعاظ وما أشبه-؛ فلا يرفعون لها رأسًا.

....مما ينبَّه عليه أن زيادة: «ونتوب إليه» -الواردة في هذه الخطبة-هنا-عند المؤلف- لم تصحَّ في السُّنة ولم تثبت في سُنة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-.

....قد يقول قائل، أو يسأل سائل؛ يقول:

....هذا شيء لم يذكر الرسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- أنه حديث؛ إنما ذكره من باب الحمد ومن باب الثناء والتعظيم؟

....نقول: نعم؛ لكنَّه ليس حمدًا مستقلًّا؛ إنما هو حمدٌ يتأسى به ويقتدى فيه برسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- الذي قال الله تعالى فيه: {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة}، وأيضًا نقول كما علمنا رسولُنا الكريم -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: «وخيرُ الهدي هديُ محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم-».

....فما دام أن هذه الصيغة في الحمد والثناء صيغة نبويَّة؛ فالأصل الاقتفاء والاقتداء والاكتفاء -دون زيادة في قليل أو في كثير-.

....أما بعد: فهذا كتاب مختصر في الفقه..

....كتاب مختصر: ليس بمطوَّل، وليس بمختصر؛ لأن العلماء -في العادة- لهم كتب مختصرة وكتب مطولة وكتب متوسطة.

....هذا الإمام ابن قدامة ألف كتاب «الكافي» وألف كتاب «المُقنع» أكبر، وألف كتاب «المغني» أكبر وأكبر؛ فجعل هنالك درجات.

....أبو حامد الغزالي -من كبار فقهاء الشافعية- ألف كتابًا سمَّاه: «الخلاصة»، وألف كتابًا سماه «الوسيط»، وألف كتابًا سمَّاه: «البسيط» (2).

....فالمؤلف -رحمهُ اللهُ- جعل هذا الكتاب مختصرًا في الفقه، ليس مطولًا؛ بل ولا متوسطًا.

....جمعت فيه بين المسائل والدلائل..

....ذكر فيه المسألة وذكر دليلَها سواء كان هذا الدليل من كتاب الله، أو من سُنة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- -وهما الأصلُ-، أو الإجماع، أو القياس -كما سيأتي من كلامه-رحمهُ اللهُ-.

....لأن العلم: معرفة الحق بدليله..

....العلمُ: معرفة الحق بدليله، وما لم يكنْ عليه دليل؛ فهو تقليد ليس بِعلم.

....ففرقٌ بين العالِم وبين المقلِّد؛ لذلك: قال الإمام أبو جعفر الطحاوي: «لا يقلِّد إلا جاهل أو غبي» هذا باعتبار الأصل، فأن يُتخذ التقليد أصلًا؛ هذا ليس بِعلم.

....لكن أن يضطر العالِم للتقليد، أو أن يضطر طالب العلم للتقليد؛ فهذا أمرٌ مقبول؛ لأنه كما قال الإمام الشافعي: «ما من أحد منا -يعني: أهل العلم- إلا وتعزب -أي: تغيب- عنه سُنة من سُنن رسول الله -صلَّى الله عليه وآلهِ وسلَّم-».

....فالعلم: معرفة الحق بدليله.

....التقليد: اتباع القول بغير دليل.

....هذا فرق ما بين العلم وما بين التقليد، ولو قلتَ: ما بين العلم وما بين الجهل؛ لما أبعدتَ(3).

....والفقه: معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بأدلتها من الكتاب, والسنة, والإجماع, والقياس الصحيح.

....{قالوا يا شعيبُ ما نَفقهُ كثيرًا مِمَّا تقول} (ما نَفْقهُ) ما نفهم.

....فالفقهُ -في أصل اللغة- معناه: الفهم.

....أيضا: يقول الله -تباركَ وتعالى-: {فما لهؤلاء القوم لا يكادون يَفقهون حديثًا}؛ أي: لا يكادون يفهمون.

....فأصل معنى كلمة الفقه؛ أي: الفهم.

....لكن في الاصطلاح: الفقه: معرفة الأحكام الشرعيَّة المتعلِّقة بأفعال العباد -هذا حلال، هذا حرام، هذا سُنة.. هذا كذا.. هذا كذا.. -مما سيأتي-.

....الفرعية

....لماذا قال: «الفرعية»؟ قال: «الفرعيَّة» ليُخرج الأحكام الشرعيَّة الأصليَّة أو الأصوليَّة.

....والأحكام الأصوليَّة قسمان:

....- القسم الأول: ما يتعلق بالعقيدة.

....- والقسم الثاني: ما يتعلَّق بأصول الفقه.

....هذا كلُّه يقال: أحكام شرعيَّة أصليَّة أو أصوليَّة (4).

....بأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح.

....هذه أدلة العلم المتفق عليها: الإجماع والقياس بعد الكتاب والسُّنة؛ فهي أربعة أسس.

....إذا قلنا: (الكتاب)؛ فهو كتاب الله -سُبحانه وتعالى-، وهو الحجة الكبرى والحجة العظمى، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه.

....الله -تباركَ وتعالى- يقول: {أفلا يتدبَّرون القرآن ولو كان من عند غيرِ اللهِ لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}؛ فالقرآن منزَّه عن الاختلاف، منزَّه عن أي شيءٍ قد يردُ على الخيال، أو يسنحُ في البال -مما قد يكون سببَ نقصٍ-ولو قليل-؛ لأن الله تعالى تعهَّد بحفظه: {إنا نحنُ نزَّلنا الذكرَ وإنا له لحافظون}، و{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}.

....وأما (السُّنة)؛ فهي سُنة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهي التي أشير إليها في هذه الآية كما قال الإمامُ البغوي في كتاب التفسير: {وأنزلنا إليك الذكرَ} أي: السُّنة {لتُبيِّن للناسِ ما نُزِّل إليهم} أي: القرآن، استَدل على ذلك بقول النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «ألا إني أوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه».

....هنالك رواية: «ومثلَيه معه» ولكن هذه الرواية لا تصح ولا تثبت، والرواية الصحيحة: «ألا إني أوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه».

....طبعًا: المِثليَّة هنا ليست مثليَّة حجم حتى نقول (مِثلَيه)؛ ولكنها مِثليَّة حُجة، فحُجيَّة السُّنة لا تقل عن حُجيَّة القرآن، وإن كان القرآن -لكونِه كلام الله- أعظم من كلام رسولِ الله -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-، وإن كان كلام رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وحيًا من عند الله؛ لكن كلامُ الله -سُبحانه وتعالى- -لكونِه أصلًا صادرًا منه جل وعلا-؛ هو أعظم من كلام رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فرسول الله -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- مخلوق من خَلْق الله -وإن كان كلامه وحيًا مِن وحي الله -تباركَ وتعالى-.

....والسنة وصلت إلينا بالأسانيد وبالروايات وبالطُّرق، وصلتْ إلينا بعد جُهد وجهاد واجتهاد قام به أئمةُ العلم على مدار قرورن وقرون، سافروا فيها ورحلوا وجدُّوا واجتهدوا وتعبوا وأنفقوا ومرضوا.. (5).

....فالسّنة التي بذلت فيها كل هذه الجهود وصلتنا بالأسانيد والروايات، وصلت بجهود العلماء -هذا حديث صحيح، وهذا حديث ضعيف..-، وصلتنا بالنقد لرواة هذه الأحاديث -هذا ثقة، وهذا ضعيف..-، لم يتهاون أهل العلم في نقد الرواة -تعظيمًا للسُّنة-.

....هذا أبو داود السجستاني -صاحب «سنن أبي داود»-وهو من أئمة الكتب الستة- سئل عن ابنِه (6)؛ فقال: (ابني ضعيف)!

....علي بن المديني -شيخ الإمام البخاري-(7).. جاء أهل الحديث إلى علي بن المدِيني: يا علي! كيف أبوك في الرواية؟ (8) قال: «اسألوا غيري» هم أخذوا الجواب؛ لكن يريدونه أوضح: كيف أبوك؟ قال: اسألوا غيري!.. كيف أبوك؟ قال: «إنه الدِّين.. أبي ضعيف»! لم يداهن، لم يدارِ، لم يجامِل، لم يجادل، لم يهوِّن، ولم يهوِّل؛ وإنما أعطى كل ذي قدرٍ قدره (9).

....وإذا نظرنا في السُّنة نرى أن أصحَّ كتابٍ بعد كتاب الله هو «صحيح الإمام البخاري»، ويليه «صحيح الإمام مسلم»، ثم يليه السُّنن الأربعة -وهي أشهر كتب الإسلام بعد الصحيحين-، ثم يتوسَّع أهلُ العلم في مثلًا: «سُنن الدارمي»، «مسند الطيالسي»، «مسند أحمد»، «مسند علي بن الجعد»، «مسند أبي عوانة».. وهكذا في كثير وكثير جدًّا من كتب السُّنة -سواء إذا كانت معاجم، أو مسانيد، أو سننًا، أو أجزاءً، أو مجالسَ، أو أمالي..-؛ كل ذلك من أصناف كتب السُّنة.

....العزوُ لأحد الصحيحين كافٍ بإشعار الصِّحة والثبوت، بمجرد أن تسمع أن هذا حديث رواه البخاري، أو رواهُ مسلم؛ فإنه يلزمُ من ذلك -مباشرةً- أنه حديث صحيح.

....نعم؛ انتُقد على البخاري ومسلم بعضُ ألفاظ؛ لكنها نادرة، ولو لم يُنتقد على البخاري ومسلم بعض الألفاظ؛ لكان كتابهما معصومًا أو كاملًا، وحاشا أن يكون كتاب كاملًا أو معصومًا غير كتاب الله -عزَّ وجلَّ-، كما قال الإمام الشافعي -رحمهُ اللهُ-: «أبى اللهُ أن يُتمَّ إلا كتابَه»، أو «أبى اللهُ أن يَتمَّ إلا كتابُه».

....لذلك: كل كتاب غير كتاب الله لا بد أن يكون فيه نقص.

....لكن فرقٌ بين كتاب قائم على النَّقص، وبين كتاب قائمٌ على الصحَّة والثُّبوت والنَّقص فيه نادر؛ هذا شيء واضح الفرق بينهما (10).

....الإجماع

....الإجماع اختلف في حجَّته أهل العلم.

....بعضهم يقول: الإجماع هو إجماعُ كلِّ أمة محمد.

....وبعضهم يقول: الإجماع هو إجماع الصحابة.

....وبعضهم يقول: الإجماع هو الإجماع السُّكوتي الذي يشتهر فيه القول ولا يُعلم له خلاف.

....وأصحُّ الأحوال: أن الإجماعَ هو إجماع الصحابة؛ لأن الإسلامَ بعد عصر الصحابة انتشر، والتابعون تناثرَ وجودُهم -هنا وهناك وهنالك-؛ فكان صعبًا جدًّا ضبطُ أقوالهم ومعرفةُ أحكامِهم -موافَقةً أو مخالَفة-.

....وعندما سُئل الإمام الشَّافعي عن حُجة الإجماع؛ ذَكَر -بعد تأمُّل ودراية ودراسة ودراية وتفكُّر للكتاب الكريم وتدبُّر لآيات الله -سُبحانه وتعالى- قولَه تعالى: {ومَن يُّشاقق الرَّسولَ من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتَّبعْ غيرَ سبيلِ المؤمنين}، قال: هذا هو الإجماع.

....فسبيل المؤمنين هو إجماعُهم.

....لذلك: صح عن النبي الكريم -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- قولُه: «لا تجتمعُ أمَّتي على ضلالة»، والمقصود بـ(أمَّتي)؛ أي: علماؤُها، والمخاطَبون بهذا النص في عصر الرسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- هم: الصحابة الكرام رضي الله عنهم.

....نحن -الآن- في عصر -إن جاز التَّعبير- الانفجار الإعلامي، عصر الاتِّصالات والمواصلات، عصر الإنترنت والأقمار الصناعيَّة والمركبات الفضائية.. ومع ذلك: هنالك في بلاد الإسلام -في موريتانيا، في المغرب، في الجزائر، في الصحراء- من أهل العلم والدِّين مَن قد يفوقون كثيرًا من المتصدِّرين في أكبر الجامعات ولا يعلم بهم أحد!

....فمن أراد ادعاء الإجماع وهو غافل عن مثل هؤلاء؛ فهذا ليس بإجماع (11).

....كيف يُقال الإجماع -فقط- هو إجماع علماء المَجمَع الفقهي الإسلامي دون إدراك هذا وذاك في موريتانيا أو هنا أو هناك أو هنالك؟!

....لذلك: الصواب أن الإجماع الحق هو إجماع الصحابة، حتى لو قلنا أن الإجماع هو إجماع أهل العلم قاطبةً -وليس بعضًا دون بعض-؛ فهذا إجماع تصَوُّري وليس إجماعًا يُستطاع تطبيقُه حقيقةً..

....كما قلنا؛ حتى في عصر التابعين عسُر ذلك، فكيف فيمَن بعدهم -حيث انتشرت رقعة الإسلام، واتَّسعت مساحتُه، وبدأت الفتوح، وتوسَّعت الدولة..-؛ فهذا أولَى وأَولى في أن يَصعب تتبُّع ذلك.

....أما الإجماعُ السُّكوتي: فأهل العلم يقولون: لا يُنسب للساكت قول.

....لكن حتى أنا أقول: مسألة نُقل فيها الإجماع -حتى لو كان منقوضًا- تكون مسألة كُبرى -ليست مسألة سهلة-؛ وإلا لما نُقل فيها إجماع -حتى لو كانت منتقدة-.

....وأنا أذكرُ -دائمًا- أن الإمامَ ابن المنذر ألَّف كتابًا سماهُ «الأوسط» في الخلاف في نحو عشرين مجلدًا، وألَّف كتابًا في الإجماع أقل من هذا الكتاب؛ إذن: مسائل الإجماع مسائل قليلة ومحدودة.

....حتى المسائل القليلة المحدودة -التي ذكرها ابن المنذِر في كتابه- كثير منها مُنتقَد.

....وألَّف ابنُ حزم الأندلسي كتاب «المحلَّى» في عشر مجلدات، وألف كتاب «مراتب الإجماع» في نصف مجلَّد، و«مراتب الإجماع» -الذي ألفه ابنُ حزم- انتقدهُ شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة في كتاب سَمَّاه: «نقد (مراتب الإجماع)» انتقد إجماعاتِ ودعاوى ابن حزم في الإجماع.

....لذلك: من شروط المفتي، ومن شروط الفقيه -التي يذكرها العلماء-: معرفة الإجماع والخلاف حتى لا يَدَّعي الإجماع في مسألة خلافيَّة، ولا يخالفَ مسألة إجماعيَّة، هذه من ضوابط العلم ومن أصولِه العظام.

....والقياس الصحيح.

....كلمة القياس الصحيح تُبين أن هنالك قياسًا صحيحًا، وهنالك قياسًا فاسدًا.

....القياسُ الصحيح: هو إلحاقُ فرعٍ بأصلٍ إذا اتَّحدتِ العلة.

....عندما نقول: كلُّ مُسكِر خمرٌ، وكلُّ خمرٍ حرام.

....عندما نقول -الآن-: الخمر حرام لأنه مُسكر، الخمرُ يُشرب شُربًا، لو صنعوا لنا خمرًا يؤكلُ أكلًا، يأتي واحد يقول: الخمرُ المحرَّم هو المشروب، هذا ليس بمشروب.

....نقول: سواء كان مشروبًا أم مطعومًا أم مُستنشقًا أم في إبرة، طالما أنه مُسكِر؛ فهو حرام، اتَّحدت العِلة فهي الإسكار؛ فكانت نتيجة الحُكم واحدة وهي: التحريم.

....هذا هو القياس الصحيح.

....القياسُ غير الصحيح: هو القياس الذي تكون فيه العلَّة اجتهاديَّة تَقبل الخطأ وتَقبل الردَّ وتَقبل النقض، هذا لا يُدخل فيه بتحليل وتحريم في كتاب الله -تباركَ وتعالى-.

....واقتصرتُ على الأدلة المشهور -خوفًا من التَّطويل-.

....يعني: هنالك أدلة مشهورة، وهنالك أدلة غير مشتهرة بين أهل العلم، أحيانًا المسألة قد يكون فيها عشرة أدلَّة أشهرُها دليل أو دليلان.

....في هذا الكتاب المختصَر لا يليق أن نأتي لكل مسألة بثلاثة أدلة أو خمسة أدلة أو عشرة أدلَّة وهو كتاب أوَّل ما قال المؤلِّف في وصفِه: (فهذا كتابٌ مختصر) ثم يأتينا بأدلة مطوَّلة! لذلك اختار الأدلة المشهورة.

....وإذا كانت المسألةُ خلافيَّة؛ اقتصرتُ على القول الذي ترجَّح عندي -تبعًا للأدلة الشرعيَّة-.

....إذن: ما المَخرج من المسائل الخلافيَّة؟ الانتصار للدليل؛ كما قال الإمامُ الشافعي:

....العلمُ ما قد كان فيه (حدَّثنا) /// وما سوى ذاك وسواس الشَّياطينِ!

....وكما قال الإمام الذهبي -رحمهُ اللهُ-وينقله عنه الإمام ابن القيِّم-:

....العلمُ قال الله قال رسولُه /// قال الصحابةُ ليس بالتَّمويهِ

....ما العلمُ نصبَك للخلاف سَفاهةً /// بين الرَّسول وبين رأيِ فقيهِ

....نقول: قال الله، قال الرسول..، تقول: قال فلان؟!!

....فلان على العين والرأس؛ لكن: أيهما أعظم؟ كتاب الله وسُنة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أم قول هذا العالِم أو ذاك الشيخ -على فضلِه، وعلى علمِه، وعلى مكانتِه-؟

....لذلك: وصل التَّقليدُ حدًّا لا يُطاق لَما قال بعضُ المتفقِّهة -انتبهوا للباطل الذي يطلُّ بقرنَيه-للأسف!-: (كل نصٍّ من الكتاب أو السُّنة يخالفُ مذهبَنا؛ فهو إمَّا منسوخ أو مؤوَّل) وارتحنا خلاص!

....فجعل المذهب هو الأصل! وجعل كلَّ دليلٍ يخالفُ المذهب -قولًا واحدًا-: إمَّا منسوخًا، أو مُؤوَّلًا!!

....مؤوَّل؛ يعني: ظاهرُه غير المقصود منه، والمقصود منه غير ظاهره! وهذا مِن أشنع الباطل؛ أن يُقلَب الفرعُ أصلًا، وأن ينقلبَ الأصلُ فرعًا؛ فهذا عينُ الباطل!

....لذلك: المسائلُ الخلافيَّة كما قال أهل العلم:

....وليس كلُّ خلافٍ جاء معتبرًا /// إلا خلافٌ له حظٌّ من النظرِ

....المسائل الخلافيَّة بين أهل العلم لكَ أن تخطِّئ فيها، لك أن تُغلِّط فيها؛ لكنْ ليس لك أن تُنكر إنكارًا يتولَّد منه التَّشتيتُ والتفريقُ والإسقاطُ والهجرُ والتَّضليلُ للأمة في مسائل اختلفَ فيها أهلُ العلم، واختلفتْ فيها كلماتُهم، والجميعُ يريدون الحقَّ -وإن قصَّر بعضُهم دونه-.

....لذلك: نحن نقول: لكلِّ مجتهد نصيب -إمَّا أجر أو أجران-، ولا نقول: كل مجتهد مُصيب (12).

....لا بد أن نضبط فرق ما بين الفقه وأصول الفقه وقواعد الفقه حتى نتصوَّر المسألةَ التي نحن فيها على وجهها.

....هذا ما سنعرفه -إن شاء الله- في المجلس القادم.


_____________________

....(1) هذا درسنا الأوَّل -بعد المقدِّمة-، وهو باعتبار الدرس الثاني من بداية دروسنا في «شرح كتاب «منهج السالكين» للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمهُ اللهُ-... والمقدمة كانت «نبذة حول ترجمة المؤلف -رحمهُ اللهُ-، ... ونبذة أخرى عن الكتاب وأهميَّته، وكلام المصنِّف فيه وذِكره له.

....(2) البسيط: بمعنى المبسوط، قتيل بمعنى: مقتول، فعيل بمعنى: مفعول، فليس البسيط بالمعنى الدارج على ألسنة الناس يقول: هذا أمر بسيط؛ إيش يقصد؟ يسير وقليل، مع أن المعنى الحقيقي لـ«بسيط» أنه أمر مبسوط وواسع وكثير.

....(3) وأقوال أئمة العلم في نقد التقليد كثيرة وكثيرة جدًّا، وهنالك كتابٌ للشيخ صالح الفُلاني اسمُه: «إيقاظ هِمم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار في النهي عن التقليد الشائع في القُرى والأمصار»، كتاب من أجمل الكتب، وفيه فصلٌ كامل -في أكثر من عشرين صفحة- في نقلِ كلام أئمة الشافعيَّة، فضلًا عن عشرين أخرى في نقل أئمة الحنابلة، فضلًا عن عشرين أخرى في الحنفية و... المالكية، فالكتاب يقوم على تحرير وجمع أقوال العلماء في نقدِ التقليد وردِّه، والتقليدُ ليس بِعلم.

....(4) لذلك من الكلمات المشتهرة بين أهل العلم في كتب العلوم والفنون -حتى في كتب التواريخ- كلمة: (الأصلَين)، يقولون: فلان كان يدرِّس الأصلَين في مدرسة كذا.

....ولم يكنْ في أيَّام العلم السابقة جامعات وكليَّات ومعاهد، كان هنالك مدارس -إما مدارس تُنشأ في المساجد، أو مدارس تُنشأ في المكتبات الكبرى، أو مدارس تُنشأ مستقلة-، والمدارس العلميَّة في تاريخ الإسلام لا أقول بالعشرات، ولا أقول بالمئات؛ بل أقول: بالألوف!

....وهنالك عالم اسمُه النُّعيمي ألَّف كتابًا سمَّاه: «الدارس في أخبار المدارس» في مجلدين، كل مجلد في (500) صفحة، يذكر اسم المدرسة وموقعها من خلال تاريخ الإسلام الغابر.

....(5) تخيلوا عالِمًا يقطع شهورًا طوالًا ليصل إلى عالم آخر ليأخذ علمًا، فيصل فيقول: أين العالم الفلاني؟ يقولون: مات أمس! يصل يقول: أين العالم الفلاني؟ يقولون: جنازته اليوم! فيشهد جنازته! وهذا وقع.

....وألف بعضُ المعاصِرين كتابًا خاصًّا فيمن رحل إلى عالِم فوجده قد مات! كثيرون من أهل العلم وطُلاب العلم الذين رحلوا في طلب العلم والحديث والرِّواية والسُّنة فوصلوا إلى البلد المُراد ولكنَّهم لم يجدوا الشيخَ المراد -يكون قد توفي إما من شهر أو من أمس أو من اليوم.. وما أشبه-.

....وألَّف الإمام الخطيبُ البغدادي أبو بكر -الذي يقول فيه ابنُ نقطة: (كل أهل الحديث عيالٌ على الخطيب البغدادي)؛ لأن الإمام الخطيب البغدادي-رحمهُ اللهُ- يكاد أن لا يترك علمًا من علوم الحديث إلا وألَّف فيه-.. له كتاب اسمه «الرحلة في طلب الحديث» ذكر فيه أخبار العلماء ورواياتهم في السفر وفي الرحلة وفي النصَب وفي الجُهد وفي التعب الذي كانوا يبذلونه في طلب العلم.

....اليوم يسألك سائل، يقول لك: أين دروسك؟ تقول له: عندي درس في مسجد كذا، أو درس في مسجد كذا.. يقول: والله؛ بعيد!! أين تسكن؟ والله أنا أسكن في مكان كذا -لا يزيد عن عشرة كيلو أو 15 كيلو، 20 كيلو-لو كان بين الزرقاء وعمان-..

....ونحن نعلم أن بعض دروسنا يأتينا إخوة أحيانًا من جرش وأحيانا من السلط وأحيانًا من إربد؛ بينما يكون هنالك إخوة لنا في قُرب منا لكنهم لا أقول يزهدون؛ ولكن قد يغريهم الشيطان بالتعب والنصب والجهد في أن لا يحضروا هذه الدروس.

....ونحن نقول ذلك من باب تحفيز الهِمم، ومن باب التنشيط، ومن باب: «لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه».

....(6) اسمُه أبو بكر ابن أبي داود، أيضًا يشتغل في العلم وفي الرواية.

....(7) يقول الإمام البخاري: ما استصغرتُ نفسي بجنب أحد بقدر ما استصغرتُ نفسي بجنب علي بن المديني.

....(8) أبوه كان يشتغل في الحديث وفي الرواية.

....(9) هكذا العلم، وهكذا الدِّين؛ لا مجال للمجاملة، لا مجال للمداراة والمداهنة، لا مجال للتوسُّط بين الحق والباطل -حتى لو كان أباك، حتى لوكان أخاك، حتى لو كان أقربَ الناس إليك-.

....هنالك أحد شيوخ أبي حنيفة اسمُه (نوح) وكان يلقَّب بـ(نوح الجامِع)؛ لأنه كان جامعًا للفنون -في الفقه، وفي الحديث، وفي التفسير، وفي التاريخ..-، لما سُئل عنه العلماء، قالوا: (نوح بن أبي مريم، نوح الجامع: كذاب)! ماذا استفاد من جمعه للعلوم وهو كذاب؟! فكذبُه أسقطه.

....لذلك: الإمام الخطيبُ البغدادي في كتاب «الكفاية في علم الرواية» يروي عن عدد من أهل العلم قولَهم: «إن من عقوبة الكذَّاب أن لا يُقبل صدقُه»، حتى قال العلماءُ: الكذاب لا تُقبل توبتُه في الناس؛ وإنما تُقبل توبتُه عند الله إذا أراد الله، أما في الناس لا تقبل توبته، قالوا: لاحتمال أن يكذب في توبته!

....انظروا هذا التقييد.. انظروا هذه الدقة.. وانظروا هذه الحرارة في نُصرة السُّنة، وفي نصرة الدِّين، وفي نصرة العلم، وفي نُصرة أسباب العلم، وفي نصرة طرائق العلم -دون الأهواء، ودون الآراء، ودون الأذواق، ودون العواطف-التي قد تكون في بعض الأحيان زائفة؛ لأنها تصادم الحقَّ وتصادم أهلَه، وتسوِّي بين الحق والباطل-.

....لم يعرف أهل الحديث وعلماءُ السُّنة هذا الأمر -في قليل وفي كثير-، ومن رُؤي منهم على هذا الوصف؛ انتقدوه وردُّوه.

....لذلك قسَّم المحقِّقون من أهل العلم المتكلِّمين في الرجال إل ثلاثة أقسام قال: هناك متشدِّدون، وهناك متساهلون، وهنالك معتدِلون.

....المتشدِّد: ننظر إلى كلامِه بترقُّب، وننظر ما خالف كلامه.

....وأيضًا المستاهل: ننظر إلى كلامه بترقُّب، ولا نأخذه مسلَّمًا.

....حتى المعتدِل-وإن كان الأصل في كلامه القَبول-؛ لكنه ليس معصومًا؛ قد يخطئ، ولئن أخطأ؛ فإننا نحترمه ونقدِّره ونُجلُّه، لكن احترامنا وتقديرَنا وإجلالَنا له؛ لا يمنع أن نخطِّئه، وأن نغلِّطه؛ فالتقدير شيء والتخطئة شيء آخر.

....ثم هذا الذي اجتهد في تطلُّب الحق ومعرفته ثم أخطأه ولم يُصبه؛ هذا له أجر كما قال النبي -عليهِ الصَّلاة والسَّلام-: «إذا اجتهد الحاكِم وأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد»، وهذا شامل في باب الفقه، في باب الرُّواة، في باب التاريخ، في باب اللغة.. حتى في باب العقيدة.

....يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمهُ اللهُ-: «لا فَرق أن المجتهدَ (من أهل السُّنة)..» لا يأتي أحد ويقول: الجعد بن درهم أو الجهم بن صفوان مجتهد، وكل مجتهد له أجر! هذا غير صحيح؛ لأن أصوله فاسدة! نحن نتكلم عن صاحب الأصول الصحيحة الذي أخطأ في فهم أو إدراك أو معرفة مسألة من المسائل؛ حينئذ نقول: هذا الذي أخطأ في هذه الجزئية أو تلك أو خالف غيرَه من أهل العلم -والصوابُ معهم-لا معه-هذا إذا كان مجتهدًا وذا أهليَّة-؛ فهو مأجور غير مأزور، وله أجر على اجتهاده ولو أخطأ، فإذا أصاب كان له أجران.

....(10) ومما ينبغي أن يُعلم أن هذين الصحيحين الجليلَين -«صحيح الإمام البخاري» و«صحيح الإمام مسلم»- يتعرَّضان -في هذه الأيام-بل منذ أعوام وأعوام- إلى هجمةٍ شرسة مِن أناس لا يتقون الله، ولا يعرِفون العلمَ، ولا يقدِّرون أهلَه.

....وأنا أضرب على ذلك مثلَين:

....- من أحد أبناء هذا البلد كتب كتابًا سمَّاه: «صحيح (صحيح البخاري)»!! يعني: كأن «صحيح البخاري» فيه أحاديث ضعيفة وهذا أتى لنا بالأحاديث الصحيحة من «صحيح البخاري»!!

....وهذا تناقُض ولا أجلى!! ولا أوضح!!

....وقد ذكر في مقدِّمة كتابه -بل أقول: تسويده!- شرطه في الكتاب؛ فكان أول شرط أكبرَ خللٍ في كتابه؛ قال: (كل حديثٍ تحقَّقتُ أن في سند البخاري فيه انقطاع؛ فإنه مردود، وأنا أحذفه من الكتاب»!! مع أن الذي ميَّز «صحيح البخاري» عن كلِّ كتابٍ في الدنيا -غير كتاب الله- أن الإمام البخاري دقَّق وحقَّق ونقَّح في سماع كلِّ راوٍ من الراوي الذي يليه، ولم يكتفِ بمجرد أن يتعاصر راويان؛ بل قال: لا؛ لا بد أن يكون هنالك سماع، ولقاء بين هذا الراوي وشيخه.

....أما تقول لي: ليس عندنا سماع ولا لقاء، لكنهما تعاصرا في زمان واحد، وهما ثقات، والأصل إذا روى الثقة عن الثقة وكانا في عصر واحد أن تُقبل روايته، فالإمامُ البخاري لم يكتفِ بذلك -من دقَّته ومِن تأنِّيه، ومن تثبُّته، ومن تحقُّقه وتحقيقه-؛ بل قال: لا بد من السماع أو من اللقاء.

....فيأتي هذا الجاهل -وكلمة (جاهل)-الحقيقة-كثيرة عليه! لو قلنا: (جهول) أو (جويهل)؛ لكانت أقرب!- فيتنطَّح لـ«صحيح الإمام البخاري» -بصفاقة وجهالة-، وللأسف يُطبع كتابُه ويوزَّع! ولا هناك مَن ينتصر لهذا الصحيح العظيم.

....- هنالك كاتب يكتب في أهم صحيفة أردنيَّة مقالا أسبوعيًّا، في كل مقال ينتقد حديثًا من «صحيح الإمام البخاري»، ويزعم أن هذا الحديث يخالفُ العقل! وأن ذاك الحديث يخالف القرآن! وأن هذا الحديث يخالف رواية أخرى!! كل ذلك بتكلُّف بارد.. كل ذلك بهوًى سمج.. كل ذلك بغيرِ علم ولا فهم؛ إنما هو التَّمويه، والتوهين للعلم ولأهل العلم!

....لقد مرَّت أيادي كثير من أهل العلمِ على هذه الكتب العظيمة، أين مثل الحافظ ابن حجر في شرحه «فتح الباري» تعظيمًا للسُّنة وتقييمًا لأهلها نصوصَها؟

....أين مثل الإمام بدر الدِّين العَيني في «عمدة القاري»؟

....أين مثل أئمة العلم هؤلاء الكُبراء الذين نقشوا هذه الكتبَ نقشًا لا أقول في كل نص، ولا أقول في كلِّ كلمة؛ بل والله أقول: في كل حرف! فضبطوها ونقحوها ودقَّقوا فيها -رحمهم الله تعالى-.

....- وأما الثالث: فرجل من مصر -أظنُّه مدرس جغرافيا، أو فيزياء، أو كيمياء، وهذا لا يضيره.. لو كان مدرس ميكانيكا؛ لا يضيره؛ لكن الذي يضيره: أن يتكلم فيما لا يعلم! كما لو جاء محدِّث أو فقيه وقال: أريد أن أشتغل مزارعًا! هذه ليست صنعتَه! صنعتُه العلم، ومقاييسه المعرفة، وأصولهُ الدراية والرواية.. ألَّف كتابًا قبيحًا جدًّا سماه: «تجريد البخاري ومسلم مما لا يلزم»!! هذا لا يلزمك ويلزمنا! انتهت المشكلة!!

....انظروا الجهلَ ما أشدَّه وما أشنعهُ وما أبشعه! ما لا يلزمك يلزمُنا..

....الآن هنالك أناس على مستوى البيوت تراه يقول: والله أنا جدَّدتُ -مثلًا- المقاعد أو غرفة النوم، أريد أن أتخلص منها لا تلزمني! لا تلزمه؛ يرميها في الشارع؟ أم لا تلزمه؛ قد تلزم غيرَه؟ قد تلزم غيره ممن لا يجد مكانًا يضع فيها ثوبَه أو سريرًا ينام عليه. وهذا في شؤون الدنيا، وفي شؤون الحياة المعيشية؛ فكيف في شؤون العلم؟!

....ما هي الأسس وما هي القواعد التي بناها على قوله: «لا يَلزم»!؟!

....والإسلام بالكتاب والسُّنة صالح ومُصلح لكلِّ زمان ومكان.

....من الأخطاء الشائعة أن نقول: الإسلام صالح لكل زمان ومكان؛ هذا من الخطأ الشَّائع.

....الصواب أن نقول: صالح ومُصلح، صالح لكل زمان ومكان؛ إذن: قد تقول لي: واقع المسلمين الفسق اليوم؛ فالإسلام صالح لواقعهم! أقول لك: صالح بإصلاحه لهم؛ وإلا: كم من نصوص القرآن والسُّنة معطَّلة في حياتنا؟ كم من نصوص القرآن والسُّنة لا نطبِّقها -للأسف!- لا نهتم بها، ولا نعظِّمها، ولا نعطيها قدرَها؟! أنا أقول: كثير -وللأسف الشديد!-.

....هل كونُنا قصَّرنا وضعفنا وتَهاونَّا عن تطبيق هذا النَّص؛ فهو بالتالي لا يلزمنا؟!

....وإذا كان لا يلزمك لضعفك وعجزك وهواك وضلالك -في هذه الأيام-؛ قد يلزم غيرَك ممن بعدك -كما لزمَ غيرَك ممن قبلك-.

....لكنها الأهواءُ الخبيثة! وأنا أقول: (خبيثة)؛ لأنها فعائلُ مرَّة، شيطانيَّة، لا مجال لأن يُقال هذا الإنسان فعل هذا الفعلَ عن حُسنِ نيَّة!!

....يجرِّد «البخاري» و«مسلمًا» مما لا يلزم بحجَّة أنه لا يلزم!! أي نيَّة حسَنة هذه!!؟ وأي قصدٍ سليم مع هذا الفعل السَّقيم!!؟ لا يجتمعان!

....لذلك: الرسول -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- عندما سمع رجلًا يقول: (ما شاء الله وشئتَ يا رسول الله) لم ينظر إلى قصده وإنما نظر -أصلًا- إلى لفظه؛ قال: «قُل: ما شاء الله، ثم شاء محمد»، لَم يقل: أنا أعرف أن نيتك حسنة! هذا والأصلُ إحسان الظن بهذا الصاحب الكريم.

....لكن: هذا الفاعلُ اللئيم الذي نقض هذه الكتبَ الصحاح بغير علم ولا فهم ولا هدى ولا كتاب منير؛ كيف يستقيم له هذا الشأن! وكيف ينضبط له هذا القَدر وهذا الزَّعم!!؟ نسأل الله العافية.

....(11) هنالك عالِم موريتاني توفِّي قبل بضعة أشهر اسمُه: (محمد سالم عبد الودود) أظن أن الجميع -وإلا فواحد في المائة، أو اثنان في المائة- سمع به، والبقية لم يسمعوا به! وهو من كبار فحول أهل العلم في هذا الزمان.

....أمس توفِّي عالِم سعودي في الباحة، اسمُه (محمد علي جمَّاح)... توفِّي عن تسعين سَنة، ولولا الإنترنت كتبَ عنه ما عرفتُ أن هنالك عالِمًا أدخلَ السُّنة إلى الباحة في السعودية، وجعل يدرِّس العلمَ ويعلِّمه أكثر مِن سبعين سَنة، وهو عالِم موسوعي -كما ذُكر في ترجمته من طُلابه وعارفيه-.

....(12) وهذه يقولها بعض الناس: (كل مجتهد مُصيب) وهذا غلط.. {ولو كان مِن عند غيرِ الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا}.
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 12-28-2012, 02:32 PM
طاهر نجم الدين المحسي طاهر نجم الدين المحسي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jun 2009
الدولة: السعودية- مكة المكرمة
المشاركات: 3,029
افتراضي

جزاكم الله خيرا شيخنا الفاضل على هذه الجواهر والدرر الغوالي زادكم الله علما ونفعا ....
رد مع اقتباس
  #23  
قديم 12-30-2012, 12:52 AM
أبو عبيدة يوسف أبو عبيدة يوسف غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Apr 2009
المشاركات: 1,344
افتراضي

بوركتم شيخنا .................
__________________
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى :
" إذا أصبح العبدُ وأمسى - وليس همُّهُ إلاّ اللهَ وحدَه - تحمَّلَ اللهُ سبحانه حوائجَه كلَّها ، وحَمَلَ عنه كلَّ ما أهمَّهُ ، وفرَّغَ قلبَه لمحبّتِهِ ، ولسانهِ لذكرِهِ ، وجوارحَهُ لطاعتِهِ ، وإنْ أَصبحَ وأَمسى - والدُّنيا همُّهُ - حمَّلَه اللهُ همومَها وغمومَها وأَنكادَها ، ووكلَه إِلى نفسِهِ ، فشغلَ قلبَه عن محبَّتِهِ بمحبّةِ الخلقِ ، ولسانَه عن ذكرِهِ بذكرِهم ، وجوارحَه عن طاعتِهِ بخدمتِهم وأَشغالِهم ، فهو يكدحُ كدحَ الوحشِ في خدمةِ غيرِهِ ، كالكيرِ ينفخُ بطنَه ويعصرُ أَضلاعَه في نفعِ غيرِهِ !
فكلُّ مَنْ أَعرضَ عن عبوديّةِ اللهِ وطاعتِهِ ومحبّتِهِ بُلِيَ بعبوديّةِ المخلوقِ ومحبّتِهِ وخدمتِه ، قال تعالى : { ومنْ يَعْشُ عن ذِكْرِ الرَّحمنِ نُقَيِّضْ له شيطاناً فهو له قرين } [الزخرف :36 ] "
فوائد الفوائد ( ص 310 )
رد مع اقتباس
  #24  
قديم 01-03-2013, 04:02 PM
علي بن حسن الحلبي علي بن حسن الحلبي غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 2,679
افتراضي

الدرس الثاني (1)


....الأحكام خمسة
....الأحكام الشرعيَّة التي يدورُ عليها الفقهُ لا تخرج عن خمسة أحكام: الواجبُ ويقابله: الحرام، والمسنون ويقابله: المكروه، وبين هذه الأربع: المُباح.
....هذه أقسام الحُكم الشرعي.
....بعض أهل العلم يسمِّي ألفاظ الحُكم الشرعي بـ(الحكم التكليفي) و(أحكام المكلَّف) (2).

....الأحكامُ خمسة:
....1- اَلْوَاجِبُ: وَهُوَ مَا أُثِيبَ فَاعِلُهُ, وَعُوقِبَ تَارِكُهُ.
....هنا تنبيه: وهو أنَّ بعض أهل العلم يفرِّق بين الواجب وبين الفرض، والصوابُ أنه لا فرق من حيث هذا الحُكم؛ فالفرضُ والواجب شيء واحد.
....بعض أهل العلم قال: الفرضُ ما ثبت بدليلٍ قطعي، والواجب: ما ثبت بدليلٍ ظنِّي.
....نقول -ابتداء-: نحن لا نُسلِّم بهذه القسمة -أصلًا- (3)؛ لكن: الواجبات أو الفرائض تتفاوتُ فيما بينها قوةً.
....يعني: هل -مثلًا- فريضة الصلاة كفريضة الزَّكاة وكلاهما مِن مباني الإسلام الخمسة الواردة في قول النبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-وسيأتي-: «بُنِي الإسلام على الخمس» فهي مبانٍ عظام، وأركان كبار، ومع ذلك هي فيما بينها تتفاوتُ.
....فكيف إذا عرفنا أن مِن الفرائض فرائض تختلف درجاتها بعضِها عن بعض، فكما قلنا: أركان الإسلام فرائض، لكن ليس مثلها الفرائض الأُخَر التي هي دونها.
....فمثلًا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة، هل هو كرُكن الصلاة؟ هل هو كرُكن التوحيد؟ الجواب: لا.
....إذن: الواجبات تتفاوتُ منزلتُها فيما بينها، مع التَّنبيه إلى أن الأصلَ الجامع هو ما ذكره المؤلف: أنها ما أثيب فاعلُه وعوقبَ تاركه؛ لكن الثواب قد يتفاوت كما أن العقاب قد يتفاوت.


....2- وَالْحَرَامُ: ضِدَّهُ.
....ما عوقب فاعله، وأثيب تاركُه.
....لكن بعضُ أهل العلم يقول: يُثاب تاركُه إذا كان تاركًا له خوفًا من الله، وخشيةً من الله، وعلى اعتقاد التديُّن بِتركِه، ليس تركًا له للعجز عنه، فالتَّركُ للشيء عن العجز به قد لا يكون فيه ثواب؛ إلا إذا استحضر النيَّة -مثلًا- فهذا يكون مُثابًا على نيَّته ليس على محض ومُجرد تركِه.

....3- وَالْمَسْنُونُ: مَا أُثِيبَ فاعلُه, وَلَمْ يُعَاقَبْ تاركُه.
....هنا ننبِّه تنبيهَين: التَّنبيه الأول: أن بعض الناس يقول أنه وإن كان ليس في ترك السُّنة عقاب؛ ففيها عتاب، وأن الرسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- يوم القيامة يعاتب التاركَ للسُّنة حتى يتمزق وجهه -كذا يقولون-، وهذا لا أصل له -لا في كتابٍ، ولا في سُنة، ولا في كلام أئمة العلم المتعتَبرين-.
....النقطة الثانية: أننا عندما نقول: سُنة لتُفعل.
....الآن: بعض الناس تقول له: يا أخي! افعل كذا وكذا! يقول لك: هو سُنة!! يعني: كأنه يقول لك: إذا كان سُنة فنتركه!!
....والصواب: أنه سُنة لنفعله لا لنتركه.
....فلنضرب -مثلًا- باللحية:
....اللحيةُ سُنَّة؛ لكنَّها ليست على المعنى الاصطلاحي (4)، والقائم في أذهان كثير من الناس أن إعفاء اللحية ليس فرضًا، فتقول له: اعفُ لحيتك! يقول لكَ: هو سُنة!
....حتى لو كان سُنة؛ هي سُنة لتُفعل؛ يعني: أنت مأمورٌ بالفعل حتى لو كان دون الفريضة (5).
....
....4- وَالْمَكْرُوهُ: ضِدَّهُ.
....المكروه: ما لم يأثم فاعلُه، ويُثابُ تاركُه.
....أيضًا -كما نبَّهنا على ثواب التارك للحرام- ننبِّه على ثواب التارك للمكروه إذا كان تركُه له تديُّنًا ليس عجزًا؛ إلا أن يحدِّد نيَّته، وأن يضبط نيَّته على الترك ولو كان مع العجز.
....
....5- وَالْمُبَاحُ: وَهُوَ اَلَّذِي فِعْلُهُ وتَرْكُهُ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ.
....المباحات كثيرة جدًّا: التنوُّع في الأكل، التنوُّع في الشرب، أنواع المجالس -مثلًا-، اللباس..
....اللباس في أصلِه واجب لستر العورة، فإذا سُترت العورة به؛ يكون مباحًا؛ إلا ما جاء الشَّرعُ بتحديدِه.
....لذلك النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- يقول: «كُل ما شئتَ واشربْ ما شئت، والبسْ ما شئت ما لم تُصب خصلتَين: إسرافًا، أو مَخِيلةً».
....قوله: «ما شئتَ»: إشارة إلى الإباحة.
....الأصلُ في الأكل {كُلوا واشرَبوا} مَن امتنع عن الأكل بالكليَّة يهلك؛ فهو واجبٌ في أصله؛ لكن في نوعه مُباح ما لم يُصب حرامًا أو إسرافًا أو ما أشبه ذلك.
....
....ويجب على المكلَّف (6) أن يتعلم من الفقه كلَّ ما يحتاج إليه في عباداته ومعاملاته.
....لو أن إنسانًا يعمل مزارعًا؛ هل يجب عليه أن يتعلَّم أحكام التجارة؟ لا يجب أن يتعلَّم أحكام التجارة إلا ما يتصل بمهنته الزراعيَّة.
....إنسان ليس عنده مالٌ ولا قدرة للحج؛ هل يجب عليه أن يتعلم أحكام الحج؟ لا يجب؛ لكن: ألا يُستحب؟ بلى؛ يستحب «من يُرد الله به خيرًا؛ يفقههُ في الدِّين»؛ لكننا نتكلَّم عن الواجب.
....إنسان لا يملك مالًا، فقير، تكاد الزكاة يجب أن تُدفع له، وهو لا يستطيع دفعها لأنه فقير أو مسكين ومحتاج؛ فهل يجب عليه أن يتعلم أحكام الزكاة؟ الجواب -أيضًا-: لا؛ إنما يتعلم ما يجبُ عليه فِعله.
....وهنا قاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به؛ فهو واجب).
....فلا يتم لكَ الحجُّ تطبيقًا إلا بمعرفتِه والتفقُّه به تعلُّمًا، فوجوب تعلُّم الحج ينبني على وجوب الحج؛ وإلا: فإن كثيرًا من الحُجاج -وللأسف- يحجون ويرجعون ولا يُقال لهم إلا: (وما حججتَ ولكن حجت الإبلُ)! -للأسف!!-.
....كما أن كثيرًا من أهل الصلاة قد يُصلون ولا يحسنون الصلاة!
....وهذا حصل مع أحد الصحابة: المسيء صلاتَه -رضي اللهُ عنهُ- دخل فصلَّى، ثم اقترب من مجلس رسول الله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: السلام عليك يا رسول الله! قال: «وعليك السلام، ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ»، هكذا ثلاث مرات، كل مرة يقول له: السلام عليك -يا رسول الله-يقول: «وعليك السلام.. ارجع..» حتى وصل الثالثة؛ قال: والله؛ لا أحسن غير هذا؛ فعلِّمني! -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- ورضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
....فعلَّمه رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- الصلاة المشهورة التي قال عنها -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-كما في «صحيح البخاري»-: «صلوا كما رأيتموني أصلِّي»، وكذلك في الحج؛ قال: «لتأخذوا عني مناسكَكم»، وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
....وكان عمر رضي اللهُ عنهُ -كما روى الإمامُ مالك في «الموطأ»- يخرج إلى السوق ومعه الدِّرة (7) ويقول: «إنه لا يبيع في سوقنا هذا مَن لا يعرف الحلال والحرام».

....قال -صلَّى الله عليهِ وسلَّم -: «مَن يرد الله به خيرًا؛ يفقهه في الدِّين» متَّفق عليه .
....أي: رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية -رضي اللهُ عنهُ-(8).

....«يفقهه في الدِّين».
....الفقهُ: مصدر، لكن فِعل الفقهِ -أيضًا- مثلَّث؛ يقال: فقِهَ، وفقَه، وفقُه، عَين الفِعل (9) ...القاف ومع ذلك -وإن كان الرسمُ واحدًا- لكن اختلاف ضبط عَين الفِعل لكلٍّ له معنى.
....فقُهَ: من صار له الفقهُ سجيَّة، يعني: أصبح فقيهًا خالصًا، يتفقَّه في دينِ الله بحيث اختلط الفقهُ في لحمِه ودمِه -كما يقولون-، فلانٌ فقُه في الدِّين؛ يعني: أنه صار فقيهًا ذا سجيَّة وصاحب ملَكة.
....فقَه: ...سبق غيرَه في فهم الجواب والمسألة.
....وفقِه: أي فهِم، أقول لكم: هل فقِهتم؟ هل فهمتُم؟
....هل يُسأل (هل فقِهتَ؟) بـ(هل فقَهت؟)؟ لا يُسأل.
....لأن الفقيهَ -كما يقال- نورُه يسعى بين يديه؛ فهو لا يحتاج إلى أن يُسأل (هل فقُهتَ؟) -فهو فقيه-، ومن سبق غيرَه لا يحتاج إلى أن يُسأل (هل فقَهتَ؟) -وقد سبق-!
....لكن الذي يحتاج (هل فقِهت؟) هو الذي يتلقَّى المعرفةَ والعلمَ والفقهَ بحيث يكون قابلًا للمعرفة وقابلًا للتفقُّه وقابلًا للإدراك.

....«من يُرد اللهُ به خيرًا».
....هنا (خيرًا) نكرة، وليس التنكير دائمًا بمعنًى واحد، أحيانًا التنكير يُفيد معنى الاحتقار، أحيانًا التَّنكير يفيد معنى العموم، أحيانًا يكون مُرادًا به معنى التعظيم.
....فـ«من يُرد اللهُ به خيرًا» ليشمل أنواعَ الخيرِ كلَّها -قليلَها وكثيرَها-؛ من هنا جاء التَّنكير.
....وأيضًا التنكير -هنا- يُفيد التعظيم؛ لأن المقامَ يقتضيه؛ لأن فيه توفيقًا من رب العالمين -سُبحانه وتعالى- (10).
....

_______________
....تنبيه: [في سلسلة الشرح الصوتي: الدرسُ الثالث كان تعجيلًا لكتاب الصوم لمناسبة دخول رمضان. وهذا هو الدرس الرابع في السلسلة، والثاني هنا].
....(1) أهل العلم عندما يقولون: (الأصلان) أو (كان يعلِّم الأصلَين)؛ فالأصلان: هما أصول الفقه وأصول الدِّين. بعض الناس يظن أنهما: أصول الفقه وأصول الحديث. لا؛ إذا قيل: (الأصلان) فالمقصود بهما: أصول الفقه وأصول الدِّين -أي: العقيدة والتوحيد-.
....والتثنيةعلمٌ قائم بذاتِه وباب من أبواب اللغة مشهور، وألفتْ فيه مؤلفات؛ وهي: المثنَّيان، كما ألف المُحبِّي كتابًا سمَّاه: «جنى الجنَّتين في تمييز نوعَي المثنَّيين»، وألَّف بعضُ المعاصِرين مجلدًا كاملًا سماهُ: «معجم الألفاظ المثنَّاة»، كما نقول: الأصلان، الشيخان، القمَران، والعُمران.. وهكذا.
....(2) شيخ الإسلام ابن تيمية يُنكر هذه التسمية، وكذا تلميذُه ابن القيم، يُنكرون هذه التسمية، ويقولون: التكليف هو طلبُ ما فيه مشقَّة، والعبادات ليست مشقة؛ هي لذة، العبادات راحة، العبادات أُنس، والأحكام الشرعية هدوء نفسٍ، وصفاء قلب، ليست تكليفات.
....فلو قيل: (الأحكام الشرعيَّة) دون أن يقال: (تكليفية)؛ لكان أقرب.
....شيخ الإسلام ابن تيمية أجاب عما قد يُشكل على بعض الناس من قوله -تعالى-: {لا يكلفُ اللهُ نفسًا إلا وسعَها}؛ قال: هذا نص فيه ذِكر التكليف؟
....قال: هذا فيه ذِكر التكليف بالنَّفي لا بالإثبات {لا يكلِّف} لم يقل: (يكلف).
....هذه واحدة.
....الثانية: أحيانًا -حتى ولو كان اللفظ بهذا المعنى المنتقَد- يُصبح للفظِ معنًى اصطلاحيٌّ، معنى آخر غير المعنى القائم في الأذهان، أو الذي يردُّه أو ينتقده بعضُ أهل العلم الأعلام.
....لذلك -في الحقيقة- أنا رأيتُ من كلام ابن تيمية وابن القيم -ولو كان قليلًا- استعمالهم للفظ (التكليف، والمكلف، والمكلَّفين..) -وما أشبه ذلك-.
....(3) تقسيم الأدلَّة إلى قطعي وظنيٍّ وعِلمي وعملي -ابتداءً- هذه لا نُسلِّم بها، وإن ورد استعمالها عند بعض أهل العلم؛ فإن استعمالَها عند بعضِ أهل العلم لا يُراد به ما يستعمله المتكلِّمون والمَناطقة والفلاسفة، وبخاصة ما قد يترتَّب على هذا التقسيم من -مثلًا- أن الحديث لا يُحتج به في العقيدة إلا إذا كان متواترًا لأن التواتُر قطعي بينما (الآحاد) ظَنِّي، أو (المشهور) ظنِّي.. هذه فلسفة -في الحقيقة- أهل الحديث في غنى عنها، وأهل السُّنة في غنى عنها.
....ما دام الحديث صحيحًا؛ فالأصل قَبوله دونما تفريق أن يُقبل في عقيدة، أو أن يُقبل في حُكم شرعي، أو أن يُقبل في فضائل الأعمال أو آدابها وما أشبه ذلك.
....(4) هذه نقطة أخرى، لكن تداخلت النقطتان في جزئيَّة.
....وإلا: فنحن عندما نقول: (السُّنة)؛ فإن معنى (السُّنة) قد يكون بِمعنى الدِّين كلِّه: «مَن رغب عن سُنَّتي -أي: طريقي-؛ فليس مِني»، وقد يكون بمعنى السُّنة المنقولة عن النبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- ولكن حُكمها يكون فرضًا، وقد يكون السُّنَّة بالمعنى الأصولي وهو: أنها ما يُثاب فاعلُه ولا يأثم تاركُه.
....(5) فكيف إذا عرفنا أن خصوص اللحية -وهذا حُكم شرعي- هو فرضٌ بقول جماهير أهل العلم أجمعين.
....(6) استعمل كلمة (المكلَّف)، مع أن الشَّيخ ابن سعدي -رحمه الله- من أكثر أئمَّة العلم الخبراء بكلام شيخ الإسلام ابن تيميَّة وتلميذِه الإمام ابن القيم، حتى إن له كتابًا في مجلد بعنوان: «طريق الوصول»، وكتابه هذا -كلُّه- مأخوذ من كلام شيخي الإسلام الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم.
....(7) دِرَّة عمر! وما أدراك ما دِرَّة عمر! عصاه الغليظة التي كان يؤدِّب فيها من يحتاج إلى التأديب -وما أكثرهم في القديم وفي الحديث-! رضي الله-تعالى-عنه وأرضاه.
....نقول: الدِّرة، ولا نقول: الدُّرة.
....الدِّرة والدَّرَّة والدُّرة: كل واحدةٍ لها معنًى، وهذا بابٌ من أبواب العلم خاص من أبواب علوم اللغة، وهو: (علم المثلَّثات).
....قبل قليل تكلَّمنا عن علم المثنَّى، والآن عن علم المثلَّث؛ لكن (المثلَّث) في ضبط الكلمة.
....الدِّرَّةُ: هي العصا، والدُّرَّة: هي الجوهرة، والدَّرَّةُ: هي الدَّفعة أو الدَّفقة من الحليب، قال: ذات الدَّر؛ يعني التي تدر الحليب، حتى في بعض لهجاتنا العاميَّة؛ يقال: ما شاء الله؛ هذه المرأة تدر الحليبَ درًّا. واحدتُها دَرَّة.
....(8) رضي الله عن معاوية -شاء من شاء، وأبى من أبى-، وقاتل اللهُ من ينتقص الصحابة على كافَّة درجاتهم، وعلى كافة طبقاتهم، فشرفُ الصحبةِ بعد شرف النبوَّة أعظم شرف -رضي الله-تعالى-عنهم-، حتى صغار الصحابة.. قبل قليل ذكرنا قصة المسيء صلاته خلَّاد بن رافع، وهو ذُكر تحت عنوان قد يكون فيه شدَّة أنه مسيء الصلاة، ومع ذلك إذا ذكرناه نقول: -رضي اللهُ عنهُ-.
....ماعز والغامديَّة إذا ذكرناهما نقول: -رضي اللهُ عنهُما-.
....فالصُّحبةُ شرفُها عزيز، وعزُّها شريف. رضي الله عن الصحابة.
....بعض من ينتسب إلى السنة يطعن في معاوية، ويطعن في عمرو بن العاص، ويطعن في أشراف من أشراف الصحابة -رضي اللهُ عنهُم- لمواقف كانت وقعتْ بينهم -رضي اللهُ عنهُم-، مواقف بشريَّة إنسانيَّة نقول فيها كما قال عمر بن عبد العزيز في باب الفتنة؛ بل كما قال من هو أجل وهو رسول الله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «إذا ذُكر أصحابي؛ فأمسِكوا»، وأما عمر بن عبد العزيز فقال: «تلك دماء طهَّر الله منها سيوفَنا؛ فلنطهِّر منها ألسنتَنا»؛ فواجبنا تجاه الصحابة وما شجر بينهم: الكفُّ والسكوت والترضِّي عنهم.
....لذلك: ورد عن بعض الصحابة أثناء الفتنة أنه كان يقول: قتلانا وقتلاكم في الجنة! الله أكبر! لأنهم يعرفون أن الخلافَ الذي بينهم -رضي اللهُ عنهُم- خلافٌ اجتهادي يُراد منه مرضاةُ الله، ويرادُ منه تطبيق شريعة الله، ويُراد منهُ الحقُّ، ولو أخطأ أحدهم الطريق -رضي اللهُ عنهُم- جميعًا.
....فالنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- يقول: «إذا اجتهد الحاكمُ وأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد» متَّفق عليه.
....وهذا الحديث اتخذه أهل العلم حُجة في أصل الاجتهاد، ليس فقط للحاكم -والحاكم هو القاضي- حتى العالِم، حتى الإنسان ذو الأهلية في الاجتهاد إذا اجتهد فإنه يتنزل عليه معنى هذا الحديث.
....(9) يقولون (عين الفِعل): الحرف الذي في الوسط؛ (فِعْل): لما نقول عَين (الفِعل) حرف العَين هو الحرف الوسط بين الفاء وبين اللام.
....(10) بعضُ أهل العلم استدلَّ من هذا الحديث على حديثٍ آخر بمعنًى آخر؛ وهو قوله -عليه الصَّلاة والسَّلام-: «العلماءُ ورثةُ الأنبياء».
....فما الجامع بين «العلماءُ ورثةُ الأنبياء»، وبين «مَن يُرد اللهُ به خيرًا»؟
....النبوَّة: منحة وهِبة، لا أحد يقول: يا رب اجعلني نبيًّا! إن رب العالمين هو الذي يختار {وربُّك يخلقُ ما يشاءُ ويَختار}، هذا الاختيار بإرادةِ الله، اللهُ أراد هذا ليكون نبيًّا -محمدًا -عليه الصَّلاة والسَّلام-.
....«مَن يُرد اللهُ به خيرًا؛ يفقههُ في الدِّين» فمن أراد اللهُ به الخير؛ فقَّههُ في دينِه، فاجتمعت النبوَّة وطلبُ العلم بإرادةِ الله الخيرَ لبعضِ عبادِه.
....لذلك: قال الله -سُبحانه وتعالى- في القرآن الكريم -في آية ثالثة-تجمع المعنيين-كليهما-؛ قال: {وجَعلنا منهم أئمَّةً يَهدُون بأمرِنا} (وجعلنا) -أيضًا- بمعنى: أردنا وشِئنا.
....إذن: إنما جُعل العلماء ورثةً للأنبياء؛ لأن النبوَّة منحة، ولأنَّ عِلمهم -أيضًا- مِنحة؛ ولكنْ عِلمُهم منحة في أصله وفي توفيق الله لهم إليه؛ لكنْ في المزيد منه: {وقل ربِّ زدني علمًا}، «إنَّما العلمُ بالتعلُّم، وإنَّما الحلمُ بالتحلُّم، ومَن يتحرَّ الخيرَ يؤتَه، ومَن يتَّق الشَّر يوقه».

.............................
__________________
<a class="twitter-timeline" href="https://twitter.com/alhalaby2010" data-widget-id="644823546800181249">Tweets by @alhalaby2010</a>
<script>!function(d,s,id){var js,fjs=d.getElementsByTagName(s)[0],p=/^http:/.test(d.location)?'http':'https';if(!d.getElementB yId(id)){js=d.createElement(s);js.id=id;js.src=p+" ://platform.twitter.com/widgets.js";fjs.parentNode.insertBefore(js,fjs);}} (document,"script","twitter-wjs");</script>
رد مع اقتباس
  #25  
قديم 01-10-2013, 01:03 PM
علي بن حسن الحلبي علي بن حسن الحلبي غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 2,679
افتراضي

الدرس الثالث (1)



فصل: قال النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «بُني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان».

هذا حديث متفق عليه، رواه البخاري ومسلم من حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما.

وهنالك زيادة خارج الصحيح، رُويتْ من عدة طرق: أن رجلًا سأل ابنَ عمر: والجهاد؟ يعني: أين منزلة الجهاد في بناء الإسلام هذا؛ فقال رضي الله عنه: «الجهادُ حسن، ولكن هكذا قال رسول الله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-».
وكأني ألمحُ هذه الصورةَ التي يسأل فيها هذا الرجلُ عبدَ الله بن عمر، يسأله على وجهِ الاعتراض، ويسأله وهو يفيض حماسةً وعاطفةً، فهو يقول كالمعترِض: والجهاد؟ يعني: لماذا لم تذكر الجهاد؟ والجهاد معلوم أن له مكانة ومنزلة في الإسلام، فلم يُكثر عبدُ الله بن عمر من القول، ولم يُكثر من الكلام والبيان؛ وإنما قال جملةً صغيرة، قال: «الجهاد حسن؛ لكن هكذا قال رسول الله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-».

(الجهاد حسَن): أي له حُكمه، وهو من الأحكام الشرعية؛ بل من الواجبات الدينيَّة؛ لكنَّه ليس من أركان الإسلام التي بُني عليها -وإن كان مُهمًّا من مُهماتِه، وواجبًا من واجباتِه-.

فـ(شهادة أن لا إله إلا الله): عِلمُ العبد واعتقادُه والتزامُه أنَّه لا يستحقُّ الألوهيَّة والعبادةَ إلا الله وحده لا شريك له.

جعل الشهادةَ مَبنيَّة على العلم والاعتقاد والالتزام.

العلم: معروف، والاعتقاد: معروف، لكن الالتزام: له معنَيان، قد ينفصِلان وقد يجتمعان.

الالتزام -في أصل المعنى الاصطلاحي-: هو الإيجابُ على النَّفس والإذعان، وقد يكون معهُ فِعلٌ، وقد لا يكونُ معهُ فِعل، فإذا كان معهُ فعلٌ؛ فهذا -لا شكَّ، ولا ريب- هو أعلى درجات الالتزام، إذا لم يكن معه فِعل؛ فهذا -لا شكَّ- تفويتٌ لقدرٍ عظيم، وأصل كبير مما يجبُ على العبد أن يفعله.

إذن: قد يكون هنالك إنسانٌ ما من أهل الالتزام بالعبادة الشرعيَّة أو العقيدة الدينيَّة وهو -في الوقت نفسِه- يكون قائمًا بالفعل، وقد يوجد مِن أهل الالتزام مَن يكون مُذعنًا للفعل موجبًا له على نفسِه وإن كان مقصِّرًا بأدائه (2).

أنَّه لا يستحقُّ الألوهيَّة

الألوهية: هي العبوديَّة، (الإله): هو المعبود {وهو الذي في السَّماءِ إلهٌ وفي الأرضِ إلَهٌ} أي: الذي معبودٌ في السَّماء ومعبود في الأرض، معبود مِن أهل السماء، ومعبود مِن أهل الأرض (3).

أنَّه لا يستحقُّ الألوهيَّة والعبادةَ إلا الله وحده لا شريك له.

نعم؛ فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) معناها لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، فالمعبودات -كلُّها-مِن سوى الله- باطلةٌ، وأما المعبود الحقُّ فهو الله الحق -جل في عُلاهُ، وعظم في عالي سماه-.

فيوجِبُ ذلك للعبد

يوجِب ذلك العلمُ والاعتقادُ والالتزام

فيوجب ذلك للعبد

أولًا: إخلاصَ جميع الدِّين لله

الإخلاصُ هو رأس العمل، وسِر العبوديَّة، وهو الفيصل بين أهل الإيمان وأهل الفجور، بين أهل الإسلام وأهلِ النفاق، فقد يكون هناك إنسانٌ ما تراهُ من الخاشعين المتخشِّعين مِن المُخبِتين؛ لكنْ في حقيقةِ قلبِه يكون خرابًا يبابًا! هذا فيصل ما بين أهل الإخلاصِ وأهل النفاق.

فالمسلمون -المؤمن منهم والمنافق- كانوا جميعًا يؤدُّون الصلوات، فالمنافق -في ظاهره- محسوب أنه مسلم؛ لكن في حقيقةِ أمرِه هو في الدَّرك الأسفل من النار؛ لأن قلبَه خالٍ من تعظيم الله، خالٍ من الاعتقاد بأمر الله، خالٍ من الالتزام بحُكم الله؛ بل هو منطوٍ على مضادَّة حُكم الله وعدم الإيمان بالله تبارك وتعالى.

وأن تكون عباداتُه الظاهرة والباطنة كلُّها لله وحده

ليست العبادة فقط هي الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وغير ذلك من الأعمال.

العبادات: تنقسم إلى عبادات باطنة، وعبادات ظاهرة؛ لذلك: لما عرَّف شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة رحمه الله العبادةَ في كتابه العظيم «العبوديَّة» قال: (العبادةُ: اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال ظاهرِها وباطنِها).

فكما أن العبادات الظاهرة مطلوبة؛ كذلك فإن العبادات الباطنة مطلوبة -من الخوف والرجاء والخشية والإخبات والتعظيم وغير ذلك-.

وأن لا يشرك به شيئًا في جميع أمور الدين

وهذا تابع للإخلاص؛ ولكنّ الإخلاص الأوَّل إنما هو عمل قلبي، والإخلاص الثاني -هذا- عمل ظاهر.

ولنتأمل قوله: (وأن لا يشرك به شيئًا) أدل مما لو قال: (لا يشرك به أحدًا)، فقد لا يُشرك الواحدُ مع الله إنسانًا أو جنيًّا أو ملَكًا أو رسولًا؛ لكنه يُشرك معه شيئًا صغيرًا مِما ينقض الإخلاص، أو مما يؤثِّر على صفاء دينِه وإخلاصه ويقينه، فهذا -أيضًا- يكون مِن نواقض هذه الكلمة الطيبة المباركة.

وهذا أصل دين جميع الرسل وأتباعهم، كما قال -تعالى-: {وما أرسلنا مِن قبلكَ من رسولٍ إلا نوحي إليه أنَّه لا إله إلا أنا فاعبُدونِ}.

(فاعبُدونِ): أي وحِّدونِ، وأخلصوا العبادة لي -سبحانه في علاه-.

ولذلك: يقول النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-: «الأنبياء إخوة، دعوتُهم واحدة، وأمَّهاتُهم شتَّى».

كم من نبي ذكر الله -تعالى- على لسانه في القرآن: {أنِ اعبُدوا الله ما لكم مِن إلهٍ غيرُه}.. الأنبياء كلُّهم جاؤوا بهذا الأصل، ثم جاءت الشرائع مختلفة {لكلٍّ جعلنا منكم شِرعةً ومنهاجًا}؛ أما أصل الدِّين: فأصل الدِّين واحد، أما أصل الرسالات: فأصلها واحد، لا يتغيَّر ولا يتبدَّل.

وشهادة أن محمدًا رسول الله: أن يعتقد العبدُ

اعتقادًا جازمًا لازمًا

أن الله أرسل محمدًا -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- إلى جميع الثقلَين -الإنس والجن- بشيرًا ونذيرًا، يدعوهم إلى توحيد الله وطاعته، بتصديق خبرِه، وامتثال أمرِه

فهذه الرسالة الإسلامية الخاتمة ليست للإنس فقط، كما أنها ليست للعرب فقط؛ هي للإنس والجن، للعرب والعجم؛ كما قال -تعالى-: {وما أرسلناكَ إلا رحمةً للعالَمين} كلمة (العالَمين) -الحقيقة- أشمل مِن أن نقول (الإنس والجن)، وأشمل مِن أن نقول (إلى الثقلَين)؛ العالَمين: هم كل العوالِم كيفما كانت -مما عرفنا، ومما لم نعرف، حتى الملائكة-، عندما قال الله: {وما أرسلناكَ إلا رحمةً للعالَمين} فالملائكة تدخل في هذا المعنى، وتنضوي تحت هذه الرحمة المُهداة التي يقول فيها النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- عن نفسه: «إنَّما أنا رحمةٌ مُهداة» -صلوات الله وسلامُه عليه-.

بشيرًا ونذيرًا

يبشرهم الجنة، وينذرهم النار؛ كما قال النَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- مشبِّهًا نفسَه بالنذير العريان؛ يعني: الذي خرج من بيته يُنذر الناس ما داهمهم وما أصابهم، فالنَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- في بشارته للناس بالجنة وفي إنذاره إياهم بالنار أكمل وبلَّغ وأتمَّ ما أمره الله به، وما أناطه الله به -سبحانهُ وتعالى-.

يدعوهم إلى توحيد الله وطاعته، بتصديق خبرِه، وامتثال أمرِه

من طبَّق الخبر ولم يمتثل الأمر؛ فإن هذا غيرُ كافٍ، مع أن التَّصديق تصديقان: تصديق قد ينفع، وتصديقٌ (لا ينفع).

التَّصديق الذي ينفع: هو التَّصديق الإذعاني، التَّصديق الذي يذعن به صاحبُه، ويوجب على نفسِه الإيمانَ بهذا الشيء الذي يعتقده ويؤمن به.

وأما التَّصديق الذي لا ينفع صاحبه -إن كان مجردًا عما هو زائدٌ عليه-: فهو التَّصديق بمعنى ما يضاد التكذيب.

إبليس مصدِّق لكنه غير مُذعن.

أبو طالب مصدِّق لكنه غير مُذعن، كان أبو طالب مصدقًا بنبوة الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- ويدافع عنه ويكافح دونه وينصره؛ لكنْ لم ينفعه تصديقُه هذا شيئًا؛ لأن هذا التَّصديق -فقط- ينافي التكذيب.

والتَّصديق المطلوب: هو التَّصديق الذي ينضم إليه معنى الإذعان والخضوع لله تبارك وتعالى ولأمره.

وأنه لا سعادةَ ولا صلاح في الدنيا والآخرة إلا بالإيمانِ به وبطاعته

نعم؛ السعادةُ ليست المال، وليست الجمال، وليست الجاه، وليست الموقع.. الولد والمتاع..؛ السعادةُ في دين الله، وفي امتثال أمر الله؛ كما كان يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: (ما يفعل أعدائي بي، أنا جنَّتي في صدري) كما قال النَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-: «الدنيا سِجن المؤمن، وجنة الكافر» جنة الكافر: في بهرجها؛ لكن جنة المؤمن في قلبه، هذا فرق ما بين المؤمن والكافر.. قال: (أنا جنَّتي في صدري، أينما رحتُ فهي معي، إذا قتلتُموني فقَتلي شهادة، وإذا نفيتُموني فنَفيِي سياحة، وإذا سجنتُموني فسجني مع الله خلوة) هكذا تكون القلوب المؤمنة المطمئنة السعيدة، والصالحة والمصلِحة، التي لا سعادة لها في الحقيقة، ولا صلاح لها في الواقع -لا في الدنيا ولا في الآخرة- إلا بالإيمان به وبطاعته -سبحانهُ وتعالى-، وبالإيمان به -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- وبطاعته؛ كما قال -تعالى-: {وإن تطيعوهُ تَهتدوا}، كما قال -تعالى-: {مَن يطعِ الرسولَ فقد أطاع اللهَ}؛ فطاعة الله وطاعة الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- قرينتان، لا يجوز لأحد أن يقول: أنا أطيع اللهَ ولا أطيع الرسول! هذا إيمانُه مردود، حتى لو قال: أنا أؤمن بالله وبالرسول لكني لا أؤمن بعيسى! أيضًا هذا إيمانه مردود، هذا كافر.

لا بد من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر.. كما هو معلوم من أركان الإيمان.

وأنه يجبُ تقديم محبَّته على النفس والولد والناس أجمعين

وهذا مصداق حديثه الشريف -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- المَروي في «الصحيحين»، قال: «والذي نفسي بيده؛ لا يؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين» إنه إيمان عظيم، ليس إيمانًا بحسب المصالح، وليس إيمانًا بحسب الأهواء، وليس إيمانًا بحسب المواقع، وليس إيمانًا بحسب المسالِك المتغيِّرة؛ ولكنه إيمانٌ يجب أن يكون ثابتًا بثباتِ أمر الله، وبثبات أمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.

لذلك: فإن المحبَّة الحقيقيَّة ليست -فقط- خلجات قلب، أو نبضات فؤاد، أو عواطف تتردَّد؛ إن المحبَّة الحقيقية ثبات والتزام واستقامة؛ كما قال -تعالى-: {قل إن كنتم تحبُّون اللهَ فاتَّبعوني يحبِبكُم الله}.

وأن الله أيدهُ بالمعجزات الدالةِ على رسالته، وبما جبلهُ اللهُ عليه من العلوم الكاملة، والأخلاق العالية، وبِما اشتمل عليه دينُه من الهدى والرَّحمة والحق، والمصالح الدينيَّة والدنيويَّة.

نعم؛ النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- أيده الله بالمعجزات الكثيرة، وإن كان أهمُّها -كما سيخصِّص ذلك المصنِّفُ في فقرة خاصَّة-: القرآن الكريم ؛ كون الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- أميًّا، بُعث في أمَّة أميَّة، والرسول لا يقرأ ولا يكتب؛ فأنزل الله عليه هذا القرآنَ، وأوحاهُ إليه ليتحدى فصحاء العرب وفطاحلهم وشعراءَهم ونوابغهم وأدباءهم ومُتكلِّميهم، فكانوا جميعًا مُذعِنين له، لم يستطيعوا أن يأتوا بآية، ولن يستطيعوا؛ لأنه كلام الله، والفرقُ بين كلام الخالِق وكلام المخلوق كالفرق بين الخالق والمخلوق.

فالمعجزات ثابتة أحاديثُها في «الصحيحَين» وغيرها، وهي معجِزات كثيرة، وألَّف فيها بعضُ أهل العلم كتبًا مستقلة(4).

وبما جبلهُ اللهُ عليه من العلوم الكاملة

العلوم الكاملة التي علَّمه الله إياها؛ وإلا فإن النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- سُئل: أتُبَّعٌ نبي أم لا؟ قال: «لا أدري» حتى علَّمه الله.

إذن: الرسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- عنده العلوم الكاملة مِما علَّمه الله(5)، أما التوسُّع في فهم كلمة (العلوم الكاملة) لنذهبَ بها بعيدًا عن معناها الحق والصواب؛ فهذا مما لا ينبغي.

والأخلاق العالية

صلوات الله وسلامه عليه، وكيف لا يكون وهو الذي قال فيه رب العالمين: {وإنَّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم}، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أعلم الناسِ به وأعرف الناس به -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- تقول: «كان خلُقه القرآن»(6).

وبِما اشتمل عليه دينُه من الهدى والرَّحمة والحق، والمصالح الدينيَّة والدنيويَّة.

كما قال -تعالى-: {وتمَّت كلمةُ ربِّك صدقًا وعدلًا}، هذا هو الحق: هدى ورحمةً وحقًّا، وكل ذلك تنبني عليه من المصالح الدينيَّة والدنيويَّة ما اللهُ به عليم، كما قال -تعالى-: {إنَّ هذا القرآنَ يهدي للتي هي أقوَم} في دِين الناس ودنياهم، في معاشِهم ومعادِهم، في أنفسهم وفي آخرين منهم، في مجتمعاتهم وفي خاصَّة أنفسِهم، هذه هداية القرآن(7).

وآيتُه الكبرى: هذا القرآن العظيم بِما فيه من الحقِّ في الأخبار والأمر والنهي، والله أعلم.

الأخبار في القرآن الكريم: قسمان: إما أخبار عن الله وأسمائه وصفاته، وإما أخبار عن قصص رسلِه وأنبيائه.

والأمر والنهي: هو ما جاء الأمرُ به والنهي عنه من أحكام شرعيَّة أمر الله بها أو نهى عنها كأمره -سبحانهُ وتعالى- بالتوحيد والصلاة، ونهيه عن الشِّرك والسِّحر والزِّنا وغير ذلك من الموبقات.

فكما قال أهل العلم: القرآن يشتمل على ثلاثة علوم أصليَّة:

أولُها: علم العقائد.

ثانيها: علم القصص.

ثالثها: علم الأحكام بِما تشمله من معاملات وعبادات وسلوكيَّات وأخلاق فاضلات.

ذلك: النَّبي -صلَّى الله عليهِ وسلَّم- عندما قال: «{قُل هو الله أحد} تعدل ثلثَ القرآن» لأنها ليست إلا صفات لله، وليست إلا أسماء لله، فمن هنا جاء وصفها بأنها ثلث القرآن الكريم.

أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح؛ إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



______________________
(1) [هو الخامس في السلسلة الصوتيَّة، وهو بتاريخ: 9 من ذي القعدة 1430 هـ].

(2) هذا المعنى للالتزام يُناقض -تمامًا- المعنى العاميَّ أو العُرفيَّ لكلمة (الالتزام) التي تسمعُها ونتداولها في بيئتِنا وفي أحوالنا العامَّة عندما نقول: (فلان مُلتزِم) أو (فلان غير مُلتزِم)؛ فيجب التَّفريق -والحالة هذه- بين المعنَيَين. وقد يأتي شيءٌ من الإضافة لهذا المعنى من كلام المصنِّف -نفسه-رحمه الله-.

(3) ويخطئُ مَن يستدل بهذه الآيةِ على معنًى قبيح؛ فيستدل {وهو الذي في السَّماءِ إلهٌ وفي الأرضِ إلَهٌ}؛ أي: أن اللهَ في السماوات وفي الأرض! وهذا يخالفُ النُّصوص المتواترة: أن الله -تعالى- في السَّماء عالٍ على عرشه، {وهو القاهرُ فوقَ عبادِه}.

(4) للأسف الشديد؛ نرى فئاتٍ من الناس -اليوم- تُنكر هذه المعجزات! تُشكِّك بها، وترفضُها وتردُّها، وما ذلك إلا بسبب هوان هؤلاء على أنفسهم، وعدم إيمانِهم الحق بِما يجبُ الإيمانُ به والإذعانُ له مما صحَّ عن رسول الله -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-كما قلت- وبخاصة في «الصحيحَين» الجليلَين -«صحيح الإمام البخاري»، و«صحيح الإمام مسلم»- وفيهما من نصوص المعجزات الشيء الكثير.

(5) ولا نقول كما يقول بعضُ الصوفية:
وإن من جودك الدنيا وضرَّتها .. ومن علومك علم اللوحِ والقلم!
فعلم اللوح والقلم مُختصٌّ بعلم الله الذي إن شاء أطلعَ على بعضِه مِن غَيبِه بعضًا مِن رُسله وأنبيائه.

(6) ألف الإمام أبو الشَّيخ الأصبهاني كتابًا -طبع طبعة في مجلَّد، وطبعة محقَّقة في أربعة مجلدات- بعنوان: «أخلاق النَّبي وآدابه» اللهم صل وسلِّم وبارِك على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه واتَّبع هداه.

(7) الإمام محمد الأمين الشنقيطي في كتابه «أضواء البيان» عند هذه الآية: {إنَّ هذا القرآنَ يهدي للتي هي أقوَم} طوَّل جدًّا في بيان أنواع القرآن وما تشتمل عليه من مصالح للعبادِ في المبدأ والمعاد.

........................................
__________________
<a class="twitter-timeline" href="https://twitter.com/alhalaby2010" data-widget-id="644823546800181249">Tweets by @alhalaby2010</a>
<script>!function(d,s,id){var js,fjs=d.getElementsByTagName(s)[0],p=/^http:/.test(d.location)?'http':'https';if(!d.getElementB yId(id)){js=d.createElement(s);js.id=id;js.src=p+" ://platform.twitter.com/widgets.js";fjs.parentNode.insertBefore(js,fjs);}} (document,"script","twitter-wjs");</script>
رد مع اقتباس
  #26  
قديم 01-10-2013, 03:11 PM
طاهر نجم الدين المحسي طاهر نجم الدين المحسي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jun 2009
الدولة: السعودية- مكة المكرمة
المشاركات: 3,029
افتراضي

بارك الله فيكم شيخنا وأنار دربكم بالهدى والعلم النافع ...
رد مع اقتباس
  #27  
قديم 01-10-2013, 09:27 PM
الأثري 1 الأثري 1 غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Dec 2012
الدولة: الخليج
المشاركات: 29
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نفع الله بكم
رد مع اقتباس
  #28  
قديم 01-14-2013, 11:58 AM
ابو محمد احمد ابو محمد احمد غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ التسجيل: Jan 2013
المشاركات: 39
افتراضي

السلام عليكم الله يحفظ شيخنا الحلبي ؤيبارك فيه وفي علمه
رد مع اقتباس
  #29  
قديم 01-17-2013, 01:20 PM
علي بن حسن الحلبي علي بن حسن الحلبي غير متواجد حالياً
المشرف العام
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 2,679
افتراضي

الدرس الرابع (1)



فصل: وأما الصلاةُ فلها شروط تتقدَّم عليها، فمنها: الطهارة.
ابتدأ بذِكر الصلاة -بعد المقدِّمة التي تكلَّم فيها عن التوحيد-؛ لأن الصلاة أعظم عمل إسلاميٍّ بعد التوحيد.
ولما كانت الطَّهارة أهم شرط من شروط الصلاة؛ ابتدأ بها، وشروط الصلاة معروفة ومنصوص عليها -وإن اختلف بعض أهل العلم في بعضها-لعله نأتي على ذِكرها بالتفصيل مع المناقشة فيما نستقبل من الدروس-.
فلها شروط تتقدَّم عليها
أي: تتقدم على الصلاة شروط تسبقها.
والشروط تختلف عن الأركان، عندنا في الصلاة: سُنن وواجبات وأركان وشروط.
وبعض الهيئات في الصلاة تأخذ حُكم السُّنة، وبعضُها يأخذ حُكم الواجب، وبعضُها حُكم الرُّكن.
عندما نقول: الركوع، الركوع هيئة لكنَّه رُكن، وإن كان المشهور عند الفقهاء قولُهم: إن الهيئات مستحبات؛ يقصدون: ما دون الأركان والواجبات.
والفرق بين الشرط والرُّكن أن كليهما واجب، بل مِن أعلى درجات الواجب بحيث يكون هذا الواجب الذي هو في أعلى درجاته لا يصح العملُ إلا معه، أمَّا الشَّرطُ وهو خارج الشيء وقبله، وأما الرُّكن فهو داخل في الشيء ومستصحب معه؛ كما نقول: (الطهارة): أنتَ تتوضأ وتتطهَّر قبل الصلاة، ثم تصلي، تأتي إلى عملٍ مستقل -وهو الصلاة-؛ فطهارتُك شرط، وتكبيرتك للإحرام رُكن، وركوعك رُكن، وسجودك رُكن.. وهكذا.

فمنها: الطهارة..
الطهارة تَرفع ما يمنع الصلاة، وهو: الحدَث، إما الحدَث في النفس، وإما النجاسة في الثوب أو البدن؛ لذلك سيأتينا من كلام المؤلف يقول: (فمَن لم يتطهَّر من الحدَث الأكبر والأصغر والنجاسة) فقسَم الأمرَ في الطهارة إلى قسمَين.
وإن كان القول بأن طهارة الثوب أو الجسد شرط أو رُكن؛ هذا قد يحتاج إلى دليل، والأرجح أنه واجب، والدليل على ذلك حديث النَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- لما كان في نعلِه نجاسة، فخلع نعلَه في الصلاة ولم يُعِدها؛ بينما هذا لو كان في شرطٍ أو رُكن لكان سببًا في إعادة الصلاة.
ويكون رفعُ الحدَث في الطهارة إما بالماء -وهو الأصيل-، أو التراب -وهو البديل-، وسيأتينا شرحُ ذلك.

كما قال النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «لا يقبل اللهُ صلاةً بغير طُهور». رواه البخاري ومسلم
أما أن مسلمًا رواه؛ فنعم، رواه مسلم من حديث ابن عمر.
أما أن البخاري رواه؛ فلا؛ وإنما البخاري جعله بابًا من أبواب «صحيحه»؛ قال: (باب: لا يقبل اللهُ صلاةً بغير طُهور)، وهذا لا يُعد رواية، هذا أشبه ما يكونُ بالتبويب للتعليق (2).
نعم؛ في «الصَّحيحين» من حديث أبي هريرة أن النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: «لا يَقبل الله صلاةَ أحدِكم إذا أحدث حتى يتوضأ» المعنى قريب لكن اللفظ مختلف ومتباين، وباب التخريج بابٌ دقيق لا يجوزُ الخلطُ فيه بين الألفاظ والروايات والصحابة(3).

«لا يقبل اللهُ صلاةً بغير طُهور»
الطُّهور يختلف عن الطَّهور، والسُّحور يختلف عن السَّحور، وهكذا.
الطُّهور: هو عمليَّة التطهُّر، والطَّهور: هو الماء الذي يُستعمل في الطهارة، أو التراب الذي يستخدم في التيمُّم -وهو-أيضًا- في الطهارة-.
كذلك السُّحور: هو عملية التسحُّر؛ بينما السَّحور: هو الطعام الذي يُتسحَّر به -سواء أكان تمرًا أو ماءً-(4).

فمن لم يتطهَّر من الحدَث الأكبر والأصغر والنجاسة؛ فلا صلاة له.
أما (الحدث الأكبر والأصغر) فمعروف:
الحدَث الأكبر: الجنابة.
والأصغر: نقض الوضوء -إما ببول أو غائط أو ريح وما أشبه ذلك-.
فرَّق بين النجاسة والحدَث؛ لأن النجاسة قد تُصيبُ غير المُحدِث.
إنسان يكون متوضِّئًا ومتطهرًا لكن تصيب ثوبَه نجاسة، أو يصيب بدنَه نجاسة؛ هذه -أيضًا- يجب تطهيرُها.
أما اعتبارُها شرطًا؛ فكما قلت أنه فيه خلاف، وما ذكرناه من دليل يرجِّح الوجوب دون الشرطيَّة.

فلا صلاة له.
لا: حرف نفي، إما أن يكون نافيًا للجنس -يعني: للصحة-، أو أن يكون نافيًا للكمال، والأصل: نفي الجنس إلا إذا ورد دليلٌ يُثبت أن المقصود نفي للكمال.

والطَّهارة نوعان:
- أحدهما الطهارة بالماء، وهو الأصل.
ولم يذكر الثاني؛ لأنَّ الثاني هو البَدَل أو البديل، الطهارة بالماء هي الأصل أو الأصيل، والطهارة بالتراب تيمُّمًا {فإن لَم تَجدوا ماءً فتيمَّمُوا} وهي البدَل، وأحكام البدل تأخذ أحكامَ الأصل -سواء بسواء-؛ فيجوز للمُتيمِّم أن يصلي صلاتَين أو ثلاث صلوات أو أكثر بالتيمُّم، فإذا انتقض وضوؤُه يعيد التَّيمُّم إذا لا يزال سببُه مستمرًّا -كما لو أنه متوضِّئ-.

فكل ماءٍ نزل من السماء، أو خرج من الأرض؛ فهو طَهور، يطهِّر من الأحداث والأخباث.
كما قال تعالى: {وينزِّلُ عليكم من السماءِ ماءً لِيُطهِّرَكُم به}، والنَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- كما في «الصَّحيحين» من حديث أبي هريرة كان يدعو: «اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد» كل ذلك -أيضًا- من تصاريف وأنواع الماء.
وأيضًا: النَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-كما في «السنن»(5)- من حديث أبي هريرة عندما سُئل عن البحر؛ قال: «هو الطَّهور ماؤُه، الحِل ميتتُه»(6).

فكل ماءٍ نزل من السماء، أو خرج من الأرض..
يعني الينابيع وما أشبه.

فهو طَهور، يطهِّر من الأحداث والأخباث.
الأحداث والأخباث -كما ذكرنا-: الحدَث والنجاسة، الحدث في البدن، والنجاسة على الثوب أو على الجسد.
عندما نقول (طَهور) يجب أن نفهم ما يتعلَّق بالتغيُّر؛ لذلك قال المؤلف -رحمهُ اللهُ-:

ولو تغيَّر طعمُه أو لونُه أو ريحُه بشيء طاهر
إذن: كل ماءٍ نزل من السماء، أو خرج من الأرض -سواء في بحر أو في نهر- فهو طَهور، ولو تغيَّر طعمُه أو لونُه أو ريحُه بشيء طاهر.
طبعًا قولُه: (ولو تغيَّر) إشارة إلى أنه كأن في المسألة خلافًا، والخلاف قليل؛ لأن الأصل في هذا الطهارة.
لكن: ينبغي أن يُعلم أن هذا التغيُّر لا بد أن يكون تغيُّرًا خفيفًا بحيث لا يَغلب عليه، ولا يتغيَّر اسمُه.
الآن عندنا هذا الماء لو غليناه هل يتغيَّر اسمُه من الماء؟ لو وضعنا فيه شايًا؟ تغيَّر، مع أن الشاي طاهر، هذا ماء طاهر؛ لكن هل هو مطهِّر؟ ليس مطهِّرًا.
هل يجوز الوضوء بماء الشاي أو ماء الورد أو ماء الزهر أو ماء القهوة -وكله اسمُه ماء-؟ إنما يُعرف الماء بِما يُضاف إليه مِما يَغلب عليه.
لذلك لما قال: (ولو تغيَّر طعمُه أو لونُه أو ريحُه بشيء طاهر) يبقى طَهورًا؛ لكن: إما أن يَغلب فلا يكون مطهِّرًا، وإمَّا أن لا يَغلب فيظل طاهرًا ومطهِّرًا.
إما أن يَغلب عليه التغيُّر باللون أو الرِّيح أو الطَّعم ولو كان هذا المغيِّر طاهرًا: فهذا لا يجوز التَّطهُّر به وإن كان هو في نفسه طاهرًا -كما ذكرنا-؛ كماء الشاي أو كماء الزهر والورد، هذا ماء؛ لكنه يُعرف بِما أضيف إليه.
أمَّا إذا كان التغيُّر يسيرًا وليس بمُؤثِّر: فهذا لا يدخل في باب التغيير المؤثِّر حُكمًا؛ فيبقى طاهرًا ومطهِّرًا.

كما قال النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «إن الماء طَهور لا ينجِّسه شيءٌ» رواه أهل السُّنن، وهو صحيح.
إذا أُطلق: (رواه أهل السُّنن) فالأصل أن المقصود بها: (رواه أهل السُّنن الأربعة)، وإن كان بعض أهل العلم يتوسَّع فقد يقول: (رواه أهل السُّنن) ويقصد بعضَهم! وهذا التوسُّع -الحقيقة- غير مرضي في فن التخريج.
والحديث رواه أبو داود والنسائي والترمذي -ولم يروِه ابن ماجه- كلهم عن أبي سعيد الخدري -رضي اللهُ-تعالى-عنه-.

وهو صحيح.
نعم؛ لأن الحديث له شواهد كثيرة ذكرها الحافظُ ابن حجر في «تلخيص الحبير» وغير واحد من أهل العلم(7).

فإن تغيَّر أحد أوصافِه بنجاسة؛ فهو نجسٌ، يجب اجتنابُه.
أيضًا: يجب أن نقيِّد التغيُّر بالتغيُّر الغالب.
الآن: هذه الكأس لو وضعنا فيها نقطة بول واحدة؛ هل تتغيَّر؟ قد تعافها نفوسُنا؛ لكن لا تتغيَّر بلونِها ولا برائحتها ولا طعمها، يجوز التوضُّؤ فيها؛ لكن -كما قلت- قد تعافُها النفس، أما من حيث التغيُّر؛ فلا تتغيَّر.
لكن: لو أننا وضعنا عليها مثلَها؛ تتغيَّر أم لا تتغيَّر؟ تتغيَّر.
إذن: التغيُّر المقصود به الغالب، وليس المقصود به أيَّ تغيُّر، أي تغيُّر لا يصلح، ولا يكفي؛ لا بُد أن نقول: (وغلَب)؛ أن يكون هناك تغيُّر وغلبة.

والأصل في الأشياء: الطَّهارة والإباحة.
يعني الآن واحد يقول: هذا العمود إيش حكمه؟ نقول: الأصل أنه طاهر.
هذا الخشب إيش حكمه؟ الأصل أنه طاهر.
هذا الضوء، وهذا النور، هذه الزجاجة إيش حكمها؟ الأصل أنها طاهرة.
الأصل في كل الأشياء التي خلقها الله أنها طاهرة -من جهة-، ومباحة -من جهة-، ولا يجوز الانتقال عن هذا الأصل إلا بيقينٍ وحُجَّة وبيِّنة.
وهذه من قواعد الفقهاء المشهورة؛ أن الأصلَ في الأشياء الإباحة، والأصل في هذه الأشياء المباحة الطَّهارة(8).

فإذا شكَّ المسلم في نجاسة ماء أو ثوب أو بقعة أو غيرها؛ فهو طاهر.
لماذا نقول: (فهو طاهر)؟ لأن الأصلَ الطهارة.
يعني الآن: واحد قال: والله؛ أنا لا أريد أن أمسك هذا؟ ليش؟ ممكن يكون عليها نجاسة! .. هذه الإمكانية الأصل أنَّها باطلة؛ لأن الأصل: الطهارة.
والله؛ إذا رأيتَ وتحقَّقتَ بأم عينِك ورجح لديك بالخبر اليقين أن هنا نجاسة أو هنا نجاسة..؛ افعل؛ لكن مجرد الشَّك؛ هذا الشك لا وزن له -سواء في ماء أو في ثوب أو في مكان أو في بقعة أو غير ذلك-.
إذن نقول: (فهو طاهر)؛ لأنه على الأصل، والأصل: الطهارة.
لكن هنا نقطة لا بد من الوقوف عندها:
الشك قد يكون -أحيانًا- معتدِلًا، وقد يكون -أحيانًا- زائدًا، فإذا كان زائدًا؛ فهو مرض(9).
فالشكُّ إذا كان في إطار الشيء المعروف والمعتاد والمعهود بين الناس لا أحد يُنكرُه، وهو شيء طبيعي في حياة الفردِ؛ لكن إذا كان القدرُ فيه زائدًا عن الحدِّ؛ فهذا هو الوسواس الذي يُفسدُ القلب والعقل والعمل -نسأل الله العافية-، ولا مُفرِّج له -بعد عون المولَى- إلا صاحبُه، هو الذي يستطيع أن يتخلَّص من الوسواس بالعزم والحزم في أن لا يلتفت له، ولا يأبهَ له.

أو تيقَّن الطهارة وشكَّ في الحدَث؛ فهو طاهر.
هذا كثير من الناس يسألون السؤال نفسه؛ قال: يا شيخ! والله؛ أنا متوضئ لكن شاك أحدثتُ أم لم أحدِث؟ نقول له: أنتَ على طهارة.
لو عكسنا؛ يقول: والله؛ أنا مُحدِث، لكن ناسٍ هل توضأتُ أو لم أتوضأ؟ نقول له: أنت مُحدِث.
إذن: ما أنتَ على يقينٍ منه هو الأصل، والطَّارئ لا وزن له ولا عبرةَ به(10).

لقوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في الرجلِ يُخيَّل إليه أنَّه يجدُ الشيءَ في الصلاة..
يعني: أحدثتُ.. لم أحدِث.. والله؛ أنا شككتُ كمَن خرج منه شيء..

«لا ينصرف حتى يسمعَ صوتًا، أو يجد ريحًا».
والحديث متَّفق عليه، من حديث عبد الله بن زيد -رضي اللهُ عنه-، رواه البخاري ومسلم.
إذن: واحد يقول لك: والله -يا شيخ- أنا بطني يقرقر!؟ قرقَرَ أم لم يقرقر؛ هذا لا وزن له، الذي له وزن إما الصوت أو الرائحة.
بل أخبر رسول اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أن الشيطان يأتي إلى الإنسان فينزعُ شعرةً من دبُره حتى يوسوس إليه أنه فقَدَ طهارتَه، وأنه أحدث في صلاته، حتى لو شعرتَ هذا الشعور طالما لم تسمع صوتًا أو تجد ريحًا؛ فلا يُلتفت إلى هذا(11).

_______________
(1) [وهو الدرس الثامن بالنسبة للشرح المسموع، وكان بتاريخ 22 من ذي الحجة 1430هـ، وقد تعجَّل الشيخ -حفظه الله- شرح كتاب الحج بِمناسبة قرب موسم الحج].
(2) والإمام البخاري في تبويباته على «صحيحه» كانت له فُنون: أحيانًا يأتي بالآية، أحيانًا يأتي بالحديث، أحيانًا يأتي بكلمة لصحابي، وأحيانًا يأتي بكلمةٍ منه، وأحيانًا يقول: (باب) ولا يعلِّق بشيء، ثم يذكر الحديث، كأنه يقول: هذا الباب لهذا الحديث، وهذا الحديث لهذا الباب.
ورأيتُ بعضَ طلبة الدراسات العليا كانت رسالتُه -في الماجستير أو في الدكتوراه-فيما أظن- في نصوص الأحاديث التي أودعها الإمام البخاري أبواب «صحيحه».
يعني: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» هذا نص رسول اللهِ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-.
أحيانًا قد يكون صحيحًا وأحيانًا قد لا يكون صحيحًا، أحيانًا قد يكون صحيحًا وقد لا يكون على شرطه؛ لأن البخاري اشترط للصحيح أعلى درجات الصحَّة.
فأحيانًا يكون عنده الحديث لكن ليس في أعلى درجات الصحة فيُعلِّق ويجعله في الباب؛ كمثل حديث: «سُترة الإمام سُترة لمَن خلفَه» هذا لفظُ حديث؛ لكنَّه لا يصح، ومع ذلك اختارهُ البخاريُّ بابًا، اختار لفظ الحديث بابًا ولم يُسنده إلى رسول اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- مع أنَّه رُوي باللفظ نفسِه لكن بسندٍ لا يصح.
(3) فلنفرض أن حديثًا ما جاءنا متنُه في «الصَّحيحين» لكن البخاري رواهُ من طريق صحابي، ومسلم رواه من طريق صحابي آخر؛ لا يُقال: (هذا حديث رواه الشيخان)، ولا يقال: (هذا حديث متَّفق عليه)؛ بل هذا حديث رواه البخاري من حديث ابن عمر، ورواه مسلم من حديث أبي هريرة -مثلًا-.
هذه -أيضًا- من دقائق علم التخريج.
(4) كما قال النَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-: «ليتسحر أحدُكم ولو على جرعة من ماء».
(5) سنن أبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
(6) سألني سائل من قريب؛ قال: البحر الميِّت هل يجوز التوضُّؤ فيه؟
الحقيقة أنا لم أرَ المسألةَ مبحوثة، لكنِّي أفهم من خلال هذا الحديث ما آخذُ منه فقهَ تلك المسألة:
الرَّسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- قرنَ الطهارةَ بِحِل الميتة، ومعروف أن البحر الميت في كلا الطرفَين ليس فيه حياة؛ فلا حياة فيه حتى نقول حِل أو حُرمة، وبنفس الوقت مُلوحتُه شديدةٌ جدًّا بحيث لا أقول تغيِّرُ الوصف؛ ولكن: يتغيَّر فيها حُكم الماء حتى ماء البحر.
يعني: اذهب إلى أي بحر تجد طعم الملح فيه واضحًا لكنَّه -كما يقال- مقبول؛ أما هذا فيكادُ يكون ملحًا مصبوبًا عليه الماء! وذاك ماء مخلوط فيه الملح.
فالذي أراه: أنه لا يجوزُ التوضُّؤ بماء البحر الميِّت للسبب الذي ذكرنا.
(7) هنالك زيادة تفرَّدت بها بعضُ الكتب لهذا الحديث: «إن الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» هنالك زيادة: «إلا ما غلبَ على لونِه أو ريحِه أو طعمِه» وهذه الزيادة بالإجماع: لا تصح -مِن جهة-، وبالإجماع: معناها مقبول -من جهة أخرى-.
وفي هذا جواب على سائل سألني -قبل أيام-؛ قال: هل الإجماع يقوِّي الحديث الضَّعيف؟
نقول: الإجماع يدلِّل على صحَّة معنى، ونحن في باب الرواية لا نُدلِّل على صحة معنى فقط؛ ولكن نُدلِّل على ثُبوت النسبة لهذا المعنى إلى رسول اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، هذا قدرٌ زائد على مجرَّد المعنى.
(8) لكن هنا: رأيتُ بعضَ الناس يخلطون بين هذه القاعدة وقاعدة أخرى وهي قاعدة العبادات؛ وهي قول القائل: (الأصل في العبادات: التوقُّف أو التوقيف، أو البطلان).
ما تتعبَّد الله به؛ الأصل أنك لا تتصرَّف تصرُّفًا إلا بدليل.
يعني الآن: لو لم يأتِنا دليل أن الصلوات خمسة؛ هل نصلي الصلوات الخمسة؟
لو لم يأتنا دليل أن الفجر ركعتين والظهر والعصر والعشاء أربع والمغرب ثلاث؛ كان نستطيع أن نبتكر من أنفسنا؟ أم نحن نقف مع النص؟ إذا جاءنا النص قُلنا به، وإذا لم يجئنا النص نتوقف عنده.
وقل ذلك في كلِّ ما يُتعبَّد إلى الله به.
وأنا أعتقد: أن قاعدة (الأصل في العبادات البُطلان والتوقُّف) هي فيصل ما بين أهل السُّنة وأهل البدعة.
فأهل البدعة كلما جاءهم ابتداعٌ في الدِّين وأُنكر عليهم؛ قالوا: شو فيها؟ زيادة الخير خير!!
هذا غير صحيح، هذا غير مقبول، هذا لا وجه له.
زيادة الخير خير فيما ثبت أصلُه من العبادات، وثبت الحضُّ عليه في الزيادة منها.
يعني الآن: الرَّسول -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- يقول: «الصلاةُ خيرٌ موضوعٌ» يعني: موضوع بين الناس»، أو: «الصلاة خيرُ موضوعٍ، فمن أراد أن يستكثر فليستكثر» -أو كما قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
هل يجوز واحد أن يقول: أنا -طالما «الصلاة خير موضوع»- أصلي سُنة الفجر ست ركعات؟ لا يجوز؛ لأن هذه سُنة مُقنَّنة؛ لكن: يجوز أن تصلِّي في النهار ما شاء الله لك أن تُصلي؛ لوجود هذا الحديث.
في الليل؟ نقول: قالت عائشة -رضي اللهُ عنها-: «ما زاد رسول اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة» فنقفُ عندما وقف النص، فالرَّسول -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول عن نفسه: «إن أعلمَكم بالله أنا، وإن أتقاكم لله أنا» -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
ومع ذلك: لم يرِد عنه الزيادة، ولم يرِد عنه المضاعفة؛ إلا في شيء من النوافل المطلَقة التي كان يصلِّي فيها رسول اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- حتى تتورَّم قدماه -بإطالة القيام، بإطالة السجود والركوع، ومن الإكثار من الركعات-، الرَّسول -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» حتى تقول له أم المؤمنين عائشة: يا رسول اللهِ! تصلي هكذا وأنت قد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟ فماذا كان جوابه الشريف -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-؟ قال: «أفلا أكون عبدًا شكورا»؟ لأن الله يقول: {لئِنْ شَكرتُم لأزيدنَّكم}.
إذن: لا يجوز الخلط بين قاعدة: (الأصل في الأشياء الإباحة أو الطهارة)، وقاعدة: (الأصل في العبادات البُطلان أو التوقُّف)؛ فالفرق بينهما كما هو الفرق بين السماء والأرض.
(9) أمس بعد صلاة الظهر جاءني رجل قال: أريد أن أسألك. تفضل! قال: يا شيخ! أنا أتوسوس في كل شيء، أتوسوس في الطهارة، أتوسوس في الصلاة، أتوسوس في الثياب..! لما انتهى من كلامه؛ قلتُ له: تسمع مني كلمة واحدة ولا أزيدُك عليها -هكذا!-بلهجة حازمة وحاسمة!-، قال: تفضل! قلت له: لو أنك طفتَ الأرض كلَّها عند الأطباء -سواء النفسانيِّين، ولا غير النفسيين-، ولو أنك ذهبتَ إلى الشيوخ جميعًا -شيوخ العلم والرقاة والمفتين وكل شيء- لن تجد من يخرجك من مأزق الوسوسة بقدرِ ما تُخرج أنتَ به نفسك!
المُوسوِس طبيبُ نفسِه وليس له طبيب غير ذلك.
لذلك: جاء رجل إلى الإمام أحمد، قال له: يا إمام! إن الوسواس يأتيني! قال: «اُلهُ عنه»! كلمة واحدة، هذا هو الجواب، وهذا هو العلاج، وهذا هو الدواء، وهذا هو الشفاء -الذي لا شفاء غيره، ولا دواء غيره، ولا علاج غيره-: «اُلْهُ عنه».
تقول: والله؛ ما وصل الماء هنا! لا؛ وصل... هو واصل من زمان!! لكن الوسواس هو الذي يطوِّره ويورِّطه!!
تقول: لعله في بقعة في الأذن الوسطى ما وصل! لا؛ وصل!
الصلاة؛ يكبِّر أول تكبيرة ما ضبطت! ثاني تكبيرة.. خمس ست تكبيرات وهو يرفع يديه هكذا كالمصارع!!
تستطيع أن تقول: (الله أكبر) بسهولة؛ لكن الشيطان يوسوس لك، تستطيع أن تقول: (بسم الله الرحمن الرحيم)، الموسوس: (بسـ ..م... الله..الر..حـ..مـ..ن.. الرحيـ..م) يجلس ممكن كل كلمة يعيدها دقيقة وهو يحاول النطق ولا يستطيع! وأقول: لن يستطيع؛ لأن الشيطان قد سيطر عليه!!
وأنا أقول لمن كان مبتلًى بِمثل هذا المرض: إذا لم تُسيطر عليه بكل سهولة؛ فسيُسيطر عليك بكل سهولة!
وأنا أعرف بعضَ الناس تركوا الصلاةَ من أجل الوسواس -نسأل الله العافية-.. الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به.
إذا كان العلاج بهذه الطريقة السَّهلة والمُيسَّرة؛ لماذا نحن نضع العراقيل والعقبات أمام أنفسِنا؟
أنا أقول: الموسوس حالُه كحال رجل دخل غُرفة وأغلق على نفسِه بالمفتاح، ثم رمى المفتاح خارج الغرفة، وصار يقول: (أنقِذوني)! أنت السبب! أنت الذي حبستَ نفسك، وأنت الذي أغلقتَ، وأنت الذي رميتَ! تستطيع بسهولة أن لا تفعل، تستطيع بسهولة أن تحتفظ بالمفتاح لتُنقذ نفسك حتى لا تحتاج إلى الآخرين. وكذلك الحال في الموسوس!
(10) هذا هو الفقه الذي يجب أن نتفقَّه به في ديننا؛ الإنسان يحتاج للشَّراب والطعام في اليوم مرة مرتين ثلاث؛ لكنه بالنِّسبة للفقه والعلم يحتاج إليه بعددِ الأنفاس، في كل لحظة تحتاج إلى فِقهِك وإلى دينِك وإلى ما يُقرِّبك إلى الله وإلى ما يعرِّفك أحكامَ الله سبحانه وتعالى.
(11) ونحن نقول هذا الكلام، وقد نقول ما هو أصرح من هذا الكلام؛ لأنه لا حياء في طلب العلم، ولا نقول: (لا حياء في الدِّين).
كلمة (لا حياء في الدِّين) خطأ؛ بل «إنَّ لكل دينٍ خُلقًا وخُلق الإسلام الحياء» -كما قال النَّبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- و«الحياء شعبة من الإيمان»، ورأى رسول اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- رجلًا يعظُ أخاهُ في الحياء -كأنه يقول له: خفف حياءك!-؛ فقال له رسول اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «دعهُ؛ فإن الحياءَ لا يأتي إلا بخير»، وتقول أم المؤمنين عائشة -رضي اللهُ عنها-: «رحم اللهُ نساءَ الأنصار لم يمنعهُن حياؤُهن من التفقُّه في دينهن»، ويقول مجاهد بن جبر المكي رحمهُ اللهُ: «لا يتعلم العلمَ اثنان: مستحيٍ، أو مُستكبر» المستحي يقول: أنا ما الذي يجلسني في مجلس الرجال؟! والمستكبر يقول: أنا أين وهؤلاء أين! ما أقبل أنا رجل عندي ولي ومُلكي ووضعي وجاهي..! هذا لن يستفيد، كما أن ذاك لن يستفيد، والموفَّق هو الذي يوفِّقه الله لمعرفة نفسِه وقدرِها، ولمعرفة ما يفقِّهه في دينِه.

__________________
<a class="twitter-timeline" href="https://twitter.com/alhalaby2010" data-widget-id="644823546800181249">Tweets by @alhalaby2010</a>
<script>!function(d,s,id){var js,fjs=d.getElementsByTagName(s)[0],p=/^http:/.test(d.location)?'http':'https';if(!d.getElementB yId(id)){js=d.createElement(s);js.id=id;js.src=p+" ://platform.twitter.com/widgets.js";fjs.parentNode.insertBefore(js,fjs);}} (document,"script","twitter-wjs");</script>
رد مع اقتباس
  #30  
قديم 01-18-2013, 12:05 AM
طاهر نجم الدين المحسي طاهر نجم الدين المحسي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jun 2009
الدولة: السعودية- مكة المكرمة
المشاركات: 3,029
افتراضي

ما شاء الله تبارك الله شيخنا ؛ لا أدري ؛ هل هو درس في الفقه أم في أصوله ؛ أم في علوم الحديث ؛ أم في فن التخريج ، أم في اللغة ؛ حقيقة درس شامل جامع ، زادكم الله علما وتوفيقا وتسديدا ....
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:00 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.