أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
21525 82974

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > منبر التاريخ و التراجم و الوثائق

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #26  
قديم 05-23-2023, 03:02 PM
أبو معاوية البيروتي أبو معاوية البيروتي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: بلاد الشام
المشاركات: 7,435
افتراضي



وترجل الفارس!!


لم أكن أظن أن الوداع سيكون بهذه السرعة، تركتك وذهبت وكان في خلدي أني سأجدك حين عودتي تتنفس كما هي العادة، ولكن رن الهاتف على غير عادته لتقول زوجتي تعالى يا رابح فوالدك قضى إلى رحمة الله، لقد خيب هذا الاتصال كل آمالي، فسبحان من جعل الموت بقدره لا برغبتنا، ولولا ذاك لكان الخلود نصيب أكثرنا، فالحمد لله على كل شيء، وإنا لله وإنا إليه راجعون، كانت عادتي إذا رجعت إلى البيت، اسلم عليك وأسألك: بابا وش راه البريكي!! فتتمتم بهمس مثقل: الحمد لله، تقولها وكلك اوجاع وتعب باد من قسمات وجهك الذي هجمت عليه تجاعيد المرض وقسماته، هذه المرة وجدتك مسجى باردا على غير العادة، كانت تعلو وجهك ابتسامة، بكيتك لحظتها كما لم افعل، طالما بقيتُ صامدا أمام البكاء مثل صمودك أمام المرض، ولكن بمجرد استسلامك لقدر الله لم يعد لمكابرتي أمام البكاء أي معنى، لقد سافرت يا والدي سفرا لن تعود منه بكل تأكيد، بل تركت الباب من خلفك مواربا لنلحق بك يوما ما.
ودعتنا يوم الرحيل وكلنا
يوما وإن طال الزمان نودع.
كان أبي ولا أخفيكم يخاف الموت، قال لي يا ولدي اخاف لحظة القبر، لا ادري ما سيكون بيني وبين ربي!! كان ذلك خوف المؤمن الذي يوقن بلقاء الله، وها أنت قد قابلت الموت، ولن تموت مرة اخرى، بل ستحيا كما لم تحي من قبل.
لقد ترجل الفارس بعد معارك ضارية مع مرض الكبد الذي استنزف دمه وصحته واعصابه، لم يغادر ابي حتى امتلأ جسده من خروق الإبر التي كانت تسحب دمه لإجراء التحاليل، أو لإمداد جسده الضعيف بالمحاليل.
ترجل الفارس مبطونا من داء الكبد، وكأن ذلك المجاهد الذي أبلى ولم تكتب له الشهادة إبان الثورة التحريرية، يؤكد بإسرار أن مطمحه أن يلحق بركب الشهداء فأسأل الله أن يكتب له الشهادة، وأن ينزله منازلهم. ففي البخاري من حديث أبي هريرة: "المَبْطُونُ شَهِيدٌ، والمَطْعُونُ شَهِيدٌ.."
أخرجه البخاري (٥٧٣٣) واللفظ له، ومسلم (١٩١٤). قال أهل العلم:"المَبطونُ، وهو مَن مات بِداءِ البَطْنِ، وهو الإسهالُ، وقيل: هو الذي به الاستِسقاءُ وانتفاخُ البَطْنِ، وقيل: هو الذي يَموتُ بِداءِ بَطْنِه مُطلقًا".
ترجل الفارس وقد حرم قبل موته بشهرين ونصف من حبيبته بسبب جلطة مفاجئة، صار ابي بعد أن كان يرى التلفاز دون نظارات، لا يرى من الدنيا الا السود، صار أبي يحتاج إلى لمس لحيتي ليتأكد اني أنا من بجانبه، كانت لحظات قاسية جدا عليه وعلينا، كان لا يتذمر من ذلك ولكنه يتساءل لماذا لا ارى، وسبحان من زرع فيه ذلك الصبر، وهذه بشرى ثانية لك يا والدي، كما في الحديث من رواية أبي هريرة:] يقول اللهُ عز وجل: من أذهبتُ حبيبتَيه فصبر واحتسَب، لم أرضَ له ثوابًا دونَ الجنةِ" أخرجه الترمذي (٢٤٠١)، والنسائي في «السنن الكبرى» (١١٤٤٦)، وأحمد (٧٥٩٧) باختلاف يسير.
ترجل الفارس وقد عانى مع كورونا خمسة أشهر وكاد يهلك بسببها.
ترجل الفارس وقد ترك خلفه خلالا كثيرة، إعانة للفقراء وتربية اليتامى وتعلق بالصلاة إلى الحد الذي جعله وهو في غيبوبة المرض يسأل عن الصلاة أو يتيمم بالهواء ويكبر ويصلي وهو غائب عن الوعي.
ترجل أبي وقد ضرب في رقة القلب والرحمة أروع الأمثلة، أذكر يوم أخذنا ولدي حنيف لختانه كان يقبل يديه ويستعبر، بل وامتنع من الذهاب معنا لعدم تحمله من رؤية بكائه!! والأمثلة على رحمته أكثر من أن تحصر، فأسأل الله أن يكتب له نصيبا من حديث عن عبد الله بن عمرو:] الراحمون يرحُمهم الرحمنُ، ارحموا أهلَ الأرضِ يَرْحَمْكم من في السماءِ• أخرجه أبو داود (٤٩٤١)، والترمذي (١٩٢٤)،وأحمد (٦٤٩٤).اللهم كما كان رحيما بنا وبغيرنا فارحمه برحمتك.
كان أبي يتألم حين اتأخر به عن الجمعة، يقول: فوت علي الصدقة، وكان يجمع نقوده في يده ويوزعها على المساكين الجالسين أمام بيت الله، كان يتهيأ للجمعة غسلا ولباسا وبكورا وصدقة.
كان أبي حريصا على الصلاة في المسجد، وكنت إذا ذهبت للمسجد اشعر في عينه الحسرة، وأشعر بتقصير في حقه من هذه الناحية جدا، لأنه كان يحب الصلاة معي، وأذكر أنه لما أذنت الدولة بصلاة التراويح بعد كورونا د، قال لي: صل معي لا تصل في المسجد، فما كان مني إلا أن استجبت له، وكان يصبر معي حتى أكمل، رحمه الله رحمة واسعة.
كان أبي حييا للغاية، فلعله يريد الخروج معي فإذا عرضت عليه الخروج معي في السيارة كان يقول لعلك مشغول، وهو في نفسه يريد الذهاب، فلما يرى من الحاحي عليه يذهب، وما يمنعه الا الحياء، وله في هذا قصص كثيرة معي ومع اخوتي، وكان عزيز النفس، ومن عنة نفسه أنه لا يطلب شيئا ليس له ولو كان في أشد احتياجه له، وكان يراعي رغباتنا، فلا يفرض علينا رأيه ولا وجهة نظره الا اذا رأى المصلحة راجحة فيقول، وكان لا يتدخل في شؤون ابنائه الأسرية مهما كانت الظروف.
رحمه الله فقد كان كريما مضيافا لم أر مثله في الكرم، ولا أعلم أنه عاتبني على استضافة أحد ولو كانت الظروف المادية لا تسمح، وكان لا يرتاح و لا يهنأ حتى يلبي أحد دعوته و كان يتعاهد الضيفان الواحد تلو الآخر و لا يأكل حتى يطمئن و يتحقق أن كل واحد تناول ما كتبه الله له، ثم يلح قائلا ( آه يا وليداتي ماكليتوش....) ثم يطلب لهم المزيد و هم في غاية الشبع و هو بالكاد يصدقهم، بل وهو في مرضه الذي مات فيه، وفي شبه فاقد للوعي، يقول لي وهو في المستشفى، "احكمهم يتقهواو، احكمهم يتغداو" غيب يروحو هكاك!! سبحان الله ، اقول له يا أبي نحن في المستشفى هذه الأمور لا تصلح هنا، فيقول آمالا خلاص !!!
يحدثني أحدهم : من أشهر مواقفي معه أنه كان يقول لي بعد أن ننتهي من الأكل وبعد كل تلك الإكرامات اسمحلنا انت ضيف عندنا تجي من باتنة تقريلنا ولادنا وماناش قايمين بيك سبحان الله ...أي عقل و أي قلب يملكهما هذا الرجل؟!!!!!
مما شد انتباهي فيه أنه يحب طلاب العلم حبا جما و يسأل عن أمورهم و أحوالهم -إذا قدموا للبيت- بل يسألهم حتى عن عدد أولادهم وكان لسانه لا يتوقف و لا يكل و لا يمل من الدعاء لمن يقابل منهم معي بمجاميع الخير و الرزق التيسير و التوفيق.
كان رحمه الله لا يضيٌع صلاة الجماعة و يتحسر لأنه يصلي على الكرسي و زادت حسرته لما صار لا يستطيع المشي لكنه يغتنم إذا وجد المركب إلى المسجد حتى أقعده المرض ..
ذهب و ترك مكانه خاليا... أصبحت جدران البيت باردة و زواياه شاحبة تنتظر عكازته السميكة لتحتضنها كلما دخل البيت أو هب للوضوء ، حتى التلفاز الذي يؤنس به نفسه لم يعد احد يهتم له....كلما تذكرت أنني لن أسمع صوت كرسيه الذي يجلس عليه ليتوضئ تختنق الانفاس في صدري... و كلما تذكرت أنني لن أسمع صوت الجيران و عابري السبيل يلقون عليه السلام كل صباح و هو في مستراحه الصباحي عند الباب او بمحاذاة مستودع جارنا و هو يجيبهم بنبرة بشوشة تقتلني الحسرة ... في آخر مرة جلس فيها في بهو البيت رفع رأسه إلى السماء و هو يتبع بنظراته المرهقة صوت طائرة اظنه تذكر بها شبابه المفعم بالطموح و الرجولة، فرحمك الله رحمة واسعة يا فقيدنا و والدنا ... إلى جنان الخلد بإذن الله.
في الأخير ها قد أفضيت إلى ربك، ولا اقول فيك الا ما قاله الشاعر (بتصرف):
هون عليك فلا هناك ولا هنا
وجهاً لوجهٍ قلْ لموتك ها أنا
ضعْ عنك عبئك، والقَ خصمك باسما
فعلى جسارته يهابُ لقاءنا
إنْ لم يكن في العمرِ إلا ساعةً
علمْ حياتك كيف نُكرِمُ موتنا؟!
لا تنتظر خصماً أقل بسالةً
وارفع جبينكَ مثلما عودتنا
تتبرجُ الدنيا، ونكسر كِبرَها
ونقول: يا حمقاءُ غري غيرنا
لا نستجيرُ من الجراحِ، وإنما
من فرْط نخوتنا نجير جراحنا
لم يرتفع جبلٌ أمام عيوننا
إلا لنرفع فوقه أكتافنا!!
يا نائياً عني بمترٍ واحدٍ
الآنَ وسَّعتَ المسافة بيننا!!!
نلتفُ حولك، نحن حولك يا أبي
فابسط عباءاتِ الحنان وضمنا
قلْ مرحباً، قلْ أي شيءٍ طيبٍ
لا تترك الكابوسَ يُفسدُ حلمنا
كنا نرى الآباء حول صغارهم
نشتاق أن تأتي، وأن تحكي لنا
(يا ما انتظرتك)، وانتظرتك يا أبي
الآنَ بادلني الحديثَ مُكفَّنا!!
زرنا، ولو في كل عامٍ مرةً
واجلسْ قليلاً كي تدير حالنا
جئْ ضاحكاً، أو ساخرًا، أو غاضباً
دللْ كهولتنا وعاتب طيشنا
سمرٌ شتائيٌ، وشايٌ ساخنٌ
وسُعالك الحنَّان يؤنسُ بيتنا
أخشى من النسيان، قد يأتي غدٌ
وتصيرُ وحدَك في الغيابِ ووحدنا!
إنا قصائدُك الجميلةُيا أبي
الله أبدعنا، وأنتَ رويتنا
نثرٌ هي الأيامُ نثرٌ باهتٌ
وتصيرُ شعرًا كُلما اتقدتْ بنا!!
أنصتُ لصوتي فيكَ صدقاً جارحاً
فالموتُ يعجز أن يبدل صوتنا
كُن ما أحبك كم أحبك عالما
لا ينحني جهلا ولا يطغى غنى!!
لا يشبه العلماء، يشبه علمه
إن البناء الفذ يُشبِهُ من بنى
لا دمع يبقى كل دمعٍ زائلٌ
إلا الذي بالحب يغسلُ صدرنا
دمع المناحةِ –دائما- متأخرٌ
في نطفةِ الميلادِ نحملُ حتفنا
اللهم إن عبد أحمد قد أفضى إلى مستقر رحمتك فاغفر له وارحمه، وعافه ،واعف عنه ،وأكرم نُزُله ، ووسع مُدخلهُ ، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة ،وأعذه من عذاب القبر (ومن عذاب النار).

وفي الأخير د باسمي وباسم عاىلة أحمد بلخير اتقدم بأحر عبارات الشكر لكل من آزرنا في محنتها وعزانا في فقد والدنا، كل من زار أو اتصل أو راسل، كل من كتب عنه ودعا له، واشكر جميع من حزن لحزننا ووقف معنا ولو بكلمة، شكرا للجميع لا استنثي أحدا سواء من عين التوتة أو من خارجها.
وكتب حامدا مصليا على رسول الله ابو حنيف رابح بن أحمد بلخير الجزائري.
ليلة الاثنين: 04/12/2022.
الموافق: 10/ جمادى الأولى/ 1444.
.
__________________
.

((تابعوا فوائد متجددة على قناة التليغرام)) :

https://telegram.me/Kunnash
.
رد مع اقتباس
 


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:00 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.