أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا
2108 | 151323 |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
[ تفريغ ] "شرح رسالة (ومرة أخرى: رفقا أهل السنة بأهل السنة)" - علي الحلبي (بي دي إف)
بسم الله الرحمن الرحيم رسالـة: «ومرَّة أخرى: رِفقًا -أهلَ السّنّة- بأهلِ السّنّة» لفَضيلَةِ الشَّيخِ عبدِ المُحسن العبَّاد البَدر -حفظهُ اللهُ ورعاهُ- بشـَـرح فَضيلَةِ الشَّيخِ عَليِّ بنِ حسَن الحلبيِّ -حفظهُ اللهُ-
|
#2
|
|||
|
|||
[ تفريغ ] "شرح رسالة (ومرة أخرى: رفقا أهل السنة بأهل السنة)" - علي الحلبي (2)
[ المجلس الثاني] إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُها، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. وبَعْدُ: فهذا -أيها الإخوة- مجلسٌ -كما ذكرتُ في المرة الماضية- استثنائيٌّ، أتمِّم فيه ما ابتدأتُه من شرحٍ موجَز لرسالةٍ مُباركة كتبها بعضُ كبار مشايخنا وعلمائِنا -في هذا الزَّمان-قبل أسابيع قليلة-؛ علاجًا لمشكلةٍ دهمت دعوة أهل السُّنة، وشفاءً لأمراضٍ تسللت بينهم. فكتب فضيلةُ أستاذنا الشيخ عبد المحسن بن حمد العبَّاد البدْر -حفظهُ اللهُ ورعاه، وأعانه على طاعةِ مولاه-، كتب رسالةً بعنوان: "ومرةً أخرى: رفقًا -أهل السُّنة- بأهل السُّنة". وقوله: (ومرةً أخرى) إشارة إلى ما كتبه قبل بِضع سنواتٍ من رسالةٍ بعنوان: "رفقًا -أهلَ السُّنَّة- بأهلِ السُّنة"، وفكرة الرِّسالتَين قائمةٌ على لزوم تراحُم أهل السُّنَّة فيما بينهم، فيما يَقَعون فيه، أو يقعُ منهم مِن أخطاء اجتِهاديَّة يَظنُّون أنَّها حقٌّ، وقد يُخالفهم غيرُهم؛ فيَرى أنَّها ليست كذلك. وخُلاصة قولِه: أنَّه لا مانعَ في ذلك كلِّه مِن التخطئة والنَّقد والرَّدِّ؛ لكنْ: في إطار التَّناصُح، وفي إطارِ التَّواصي بالحقِّ والتَّواصي بالصَّبر، وليس في إطار التربُّص والتَّلصُّص والترصُّد؛ حتى يكون أهلُ السُّنة يُكمِّل بعضُهم بعضًا، ولا [...] بعضُهم بعضًا. لم يتكلَّم شيخُنا -حفظه اللهُ- الشَّيخ العبَّاد -في هذه الرِّسالة العزيزة، بِكلماتِه الوجيزة- على أغلاط السُّلوك، أو على أخطاءِ الشَّهوات، أو على ما قد يَصدُر من إنسانٍ عن إصرارٍ؛ هذا ليس بابه، وهذا ليس مُرادَه. فقد فهمتُ أنَّ بعضَ الإخوة توهَّم غير مُراد الشَّيخ، وفهِم عكس منطوق الشَّرح؛ فأحببتُ أن أؤكِّد على هذه الجُزئيَّة التي هي كالنُّور السَّاري في احتِمال المعاذير المَقبولة في المسائل الاجتِهاديَّة السَّائغة، ليس في غيرِها مما قد يكون فيه الفتن، أو الكذب، أو الشَّهوات، أو غير هذا وذاك مِن نقائص وبلايا وطامَّات. وصلنا في المجلس السَّابق إلى تأصيل الشَّيخ -حفظهُ الله- موضوع النَّقص الذي يعتري أهل السُّنة أو بعضَهم، وأن الأصل استِكمال هذا النَّقص؛ لا أن يُطلب الكمالُ؛ وبالتالي فالنَّقصُ ينقضُه: إما كمال أو تضليل! إما كمالٌ أو إسقاط!! فالشيخ -رحمهُ الله في الدُّنيا، وجمَّلهُ بتقواهُ فيها، وأسعدَه بالنَّظر إلى وجهِ الله في الآخرة- يقول -مُشيرًا إلى ما ينبغي سُلوكُه-.. قال: [[ فلا يقال: إمَّا كمال وإلا ضياع، أو: إمَّا نُور تامٌّ وإما ظلام! ]]مَن بعد محمَّد -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم- له الكمال العامُّ، أو النُّور التَّام؟ لا أحد من جميع الأنام! هذا لمحمَّدٍ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم-. أمَّا مِن كلِّ أحدٍ -بعدَه-صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه-: فالنَّقص -لا بُدَّ- يَعتريه، وهذا مَسلكٌ يقعُ فيه تناقضٌ مِن الغُلاة؛ فهم يُبدِّعون ويُضلِّلون خصومَهم في الوقتِ الذي يَسلُكون ويُمشُّون مُؤيِّديهم وأتباعَهم ومُقلِّديهم إذا أخطؤوا الخطأ نفسَه! لذلك: هم يَسكُتون، فإذا حصل مع هذا المسكوتِ عنه شيءٌ من الخلل؛ بحثوا في الدَّفاتِر القديمة التي هُم كانوا ساكِتين عنها! قال: [[ بل يُحافَظ على النُّور النَّاقص، ويُسعَى لزيادتِه ]] يُحافَظ على السُّنِّي الذي عنده نقصٌ، ويُسعَى إلى مُناصحتِه؛ لا إلى إطفاء نورِه، وتضليلِه، وإسقاطِه، وهجْره، وكبتِه.. ويا ليت أن ذلك كائنٌ ضمنَ الضَّوابط والأُطُر والأُسس والأُصول السُّنِيَّة المُعتبرة؛ لهانَ -إذن- الخطبُ؛ لكنَّ الأمر -وللأسف- لم يكنْ كذلك -البتَّة-! قال: [[ وإذا لم يَحصل سراجان أو أكثر؛ فسِراج واحد خيرٌ مِن الظلام ]] لأننا -كما قُلنا-: لا يُمكِن أن يرتضيَ عاقلٌ بقاعدة: (نور تامٌّ وإلا ظلام)! أو بقاعدة: (إما كمال، وإما ضَياع)! طالما أنتَ إلا بَشَر؛ فلا بُد من الخطأ، ولا بُدَّ من الزَّلل، ولا بُد من الخلل، ولا بُدَّ من الخطَل.. ثم: المؤمن للمؤمن -كما قال شيخُ الإسلام- كاليَدَين تغسل إحداهُما الأخرى؛ تَستر عورتَه فيما قد يَبدو لكَ مِن خللٍ تُريد أن تُعظِّمَه في مسألةِ اجتِهادٍ علميٍّ مُعتَبَر له وُجوهُه، وله دلائلُه، وله بيِّناتُه -وإن خالفتَه أو خالفَك، وإن وافقتَه وما رافقتَه-.. وهذا في سائر مسائلِ العِلم؛ إلا في أصول العقيدة. وأعني بـ(أصول العقيدة) التحرُّز مِن فُروعها؛ فقد حصل اختِلافٌ وخلاف بين أهل السُّنَّة -أو كثيرٍ منهم- حتى في مسائل فُروع العقيدة؛ فضلًا عن الفِقه، فضلًا عن التَّفسير، فضلًا عن الحديث -سواءٌ في فهمِه، أو في الجَرح والتَّعديل، أو في مصطلح الحديث، أو التَّبديع..-.. هذا كلُّه موجود، ومَن يتوهَّم الإجماعاتِ في ذلك؛ فهو غارِقٌ في الغَلط؛ ينبغي أن يُراجِع نظرَه وفِكرَه وتصوُّرَه. قال: [[ ورَحِم الله شيخَنا الشَّيخَ عبدَ العزيز بن باز الذي وقف حياتَه للعِلم الشَّرعي -تَعلُّمًا، وعملًا، وتعليمًا، ودعوةً-، وكان مَعنِيًّا بتشجيع المَشايِخ وطلبةِ العلم على التَّعليم والدَّعوة ]] بل أنا أعلم -عن كثب- أن بعضَ مَن وظَّفهم الشيخُ ابن بازٍ في الرِّئاسةِ العامَّة لإداراتِ البُحوث والإفتاء -وهي مُنظَّمة أو مؤسَّسةٌ حُكوميَّة-.. بعضٌ مِن هؤلاء كان يُوظِّفهم مِن جيبِه؛ تشجيعًا للعلم، وتشجيعًا للتَّعليم، وتشجيعًا للدَّعوة -إذا لم يكنْ-هنالك- مخصَّصات لبعض الرَّواتب-، يُنفق عليهم مِن جيبِه، ومِن خاصَّة مالِه -رحمهُ الله-. قال: [[ وكان مَعنِيًّا بتشجيع المَشايِخ وطلبةِ العلم على التَّعليم والدَّعوة، وقد سمعتُه يوصِي أحد المَشايِخ بذلك ]]يقول له: لا بُد أن تُعلِّم النَّاس، وأن تَدعو، وأن تُدرِّسَهم. [[ فاعتذَر ]] أي: هذا الشَّيخ. [[ بعُذرٍ لَم يَرتَضِه الشَّيخُ ]] أي: ابن بازٍ. [[ فقال -رحمهُ اللهُ-]] الشيخ ابنُ بازٍ قال للرَّجل؛ للشَّيخ الذي يُذكِّره ويأمرُه ويحضُّه على الدَّعوة، قال: [[ (العمشُ ولا العمى) ]] يعني: قد يتعلَّلُ بعضُ النَّاس، يقول: واللهِ؛ أنا لستُ كُفْأً لأن أتصدَّر في التعليم! هذا كلام جيِّد -لو وُضع في إطارِه-. لكن -مثلًا-: الآن في بعضِ البلادِ التي فيها نقصٌ علميٌّ -سواءٌ في العلماء، أو في طلبةِ العلم-؛ هل هنالك مِعيارٌ معيَّن تَبْلغُه لتعليمِ العلم وللدَّعوة؟ حينئذٍ نقول: العمشُ خيرٌ من العمى، العمشُ ولا العمى؛ لأنك في محيطٍ ليس فيه علماء، فما رزقك الله به مِن علمٍ ولو كانَ محدودًا شيئًا ما، لكن أصولَكَ صحيحة في العقيدة الصَّحيحة، وفي السُّنَّة الصَّحيحة -بعيدًا عن الشِّركيَّات، وبعيدًا عن البِدع-؛ فحينئذٍ نقول: لا بُدَّ أن تُقدِم، لا بُدَّ أن تُقبِل. قال: [[والمعنى]] يعني: مِن قوله: ((العمشُ ولا العمى)) [[ والمعنى: ما لا يُدرك كلُّه؛ لا يُترك بعضُه ]] يعني: إمَّا مائة في المائة أو صِفر؟!! لا يوجَد درجات؟!! وهذا هو المقصود. قال: [[ وإذا لم يوجد البصر القويُّ ووُجد بصرٌ ضعيف -وهو العمَش-؛ فإن العمشَ خيرٌ مِن العمى ]] إذا لم يوجَد علمٌ موسوعيٌّ؛ فلا أقلَّ من أن ينفعَ اللهُ -سبحانهُ في عُلاه-وهو ذو العطاءِ والمُلكِ والمِنن- أن يَمنَّ على بعضِ عبيدِه بالبركة -ولو في العِلم القليل-، إذا رافقهُ الإخلاصُ لله، والمتابعة لسُنَّة رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وآلهِ وسلَّم-. قال: [[ وقد فقد شيخُنا -رحمهُ الله- بصَرَه في العشرين مِن عمُرُه ]] وهذا من باب استِكمال الفائدة. هذا فيه ردٌّ على ما يتواردهُ ويتناقله بعضُ النَّاس: أن الشَّيخ ابن باز كان يتمنَّى أن يَردَّ اللهُ إليه بصرَه؛ ليُطبِّق قولَ الله -عزَّ وجلَّ-: {أفلا يَنظُرونَ إِلى الإِبِل كَيفَ خُلِقَتْ}، قال: ربُّنا قال كذا، وأنا أتمنَّى أن يردَّ الله لي بصري؛ حتى أطبِّق الآية! والشَّيخ ابن بازٍ عاش في نجدٍ إلى سِنِّ العشرين -وهو سِن الرُّجولة- مُبصِرًا؛ فلا شكَّ ولا ريبَ أنَّه رأى الإبل، وتفكَّر فيها، وتدبَّرها. فهذا مما يُنسب إلى أهل العلم غَلطًا عليهم، ولو كانت نيَّة النَّاسِب لهذا -أحيانًا- حسَنة؛ لكن النيَّة الحسَنة لا تجعل الخطأ صوابًا. قال: [[ ولكن الله عوَّضه عنه نورًا في البصيرة اشتَهر به -عند الخاصِّ والعامِّ- ]] ونَشهد على ذلك -و الله خير الشَّاهِدين-. ونضمُّ إلى هذه الشَّهادة شهادةً أخرى لشيخِنا الذي نحنُ في حضرةِ كلامِه؛ وهو الشيخُ عبد المحسِن العبَّاد -حفظَه اللهُ ورعاه، ووقاه شرَّ أهلِ الفساد والعِناد-؛ فإنه أوتِي بصيرةً -أيضًا- ثاقبة، وأوتيَ حِلمًا كبيرًا؛ حتى لقَّبه بعضُ النَّاس لقبًا أعجبني، وفرحتُ به وله؛ وهو أنَّه: (مطبِّب جِراح أهلِ السُّنة).. جزاهُ اللهُ خيرًا، ونصر اللهُ به الحقَّ وأهلَه. فحيثما رأى عُدوانًا، أو خَللًا، أو غُلوًّا؛ فإنَّه ينقضُّ عليه بالرِّفقٍ، ويَردُّه بالحِلم، ويرفُضه بالعِلم والمعرفة والتَّناصُح في ذات الله؛ وهذا هو الذي نحتاجُه في القضايا العلميَّة الاجتِهاديَّة السَّائغة الخِلافيَّة التي قد تقع في إطار السُّنة وبين أهل السُّنة. قال: [[ وقال شَيخ الإسلامِ -في "مَجموع الفَتاوَى"، (10/364)-: فإذا لم يَحصل النُّور الصَّافي بأن لم يُوجَد إلا النُّور الذي ليس بصافٍ وإلا بقي النَّاس في الظُّلمة؛ فلا ينبغي أن يَعيبَ الرَّجلُ ويَنهى عن نورٍ فيه ظُلمة، إلا إذا حصل نورٌ لا ظُلمةَ فيه؛ وإلا: فكَم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النُّور -بالكليَّة- ]] ولعلي قد ذكرتُ لإخواني -في غير هذا المجلس-: أن بعض أهلِ الغُلوِّ الذين أخذهم هذا النَّفَس غير النَّفيس، وهذا الأسلوب السيِّئ التَّعيس في التَّضليل والإسقاط والتَّبديع -بغير ضوابط ولا شُروط- أنَّهم كانوا يَمتَحِنون بعض المهتَدين الجُدد في بلادٍ ضعيفٍ فيها الإسلامُ، أو في بلاد -أصلًا- ليست إسلاميَّة!! فتراهم أوَّل ما يَمتَحنون: ماذا تقول في فلان؟.. يقول: لا أعرفُ فلانًا، أصلًا أنا لا أعرفه.. فيقولون: إذا لم تُبدِّعه؛ بدَّعناك، وإذا لم تُسقِطه أسقطناك!! وللأسف!! وحدَّثني من أثقُ به: أن بعضًا من هؤلاء ارتدُّوا، وخرجوا عن الملَّة، وتركوا دِين الإسلامِ بالكليَّة!! نسألُ اللهَ العافية. قال: [[ ويُشبهُ هذا مقولةُ بعضِ النَّاس ]] يعني: إمَّا كمال وإما ضياع! إمَّا نورٌ تامٌّ، وإمَّا ظلام. [[ ويُشبهُ هذا مقولةُ بعضِ النَّاس: الحقُّ كلٌّ لا يتجزَّأ؛ فخُذوه كلَّه، أو دعوه كلَّه؛ فإن أخذه كلَّه.. ]] الشيخ يُعلِّق.. هذه الجملة: ((الحقُّ كلٌّ لا يتجزَّأ؛ فخُذوه كلَّه، أو دعوه كلَّه))؛ هذه المقولةُ ينتقدُها الشيخُ؛ يقول: [[ فإن أخذه كلَّه حقٌّ، وتركه كلَّه باطلٌ ]] لماذا باطل؟ لأنه مِن الممكن أن يكونَ معه شيءٌ من الحق؛ فحينئذٍ: إذا تركناهُ كلَّه؛ نترك الباطل ونتركُ ما فيه من بقايا الحق؛ وهذا خلاف الشَّريعة، وخلاف الأدلَّة، وخلاف ما يَشهد له العقلُ والنَّقل. لكن: قد يُجدي ذلك وينفع في أناسٍ يُحكِّمون العقل والنَّقل. لكن: في أناسٍ يَغِيبون؛ بل يُغيَّبون، ويُغيِّبون هذا العقل والنَّقل -إلا مَن رحمَ الله-؛ فقلَّ أن يُجدي ذلك نفعًا فيهم، أو أثرًا بهم. قال: [[ ومَن كان عنده شيءٌ من الحقِّ يوصَى بالإبقاء عليه، والسَّعي لتحصيل ما ليس عنده مِن الحق ]] هذه هي المعادلة الشَّرعيَّة المنضبطة، وهذه هي القاعدةُ الدِّينيَّة الرَّاسخة، أما: أسود أو أبيض -فقط-، وإلغاء ما بين اللَّونَين، وما بين الدَّائرتَين من درجاتٍ كبيرات؛ فهذا عينُ الظُّلم، وعينُ الباطل. وأؤكِّد -ها هنا-: أن شيخَنا الشيخ العبَّاد -حفظهُ اللهُ ورعاه- إنَّما يتكلَّم -في هذه التَّأصيلات-كلِّها- في إطار أهلِ السُّنة، لا يتكلَّم عن أحوالٍ مبتَدَعة، ولا يتكلَّم عن أشخاصٍ مبتَدِعين؛ حتى لا يأتي مشوِّشٌ، أو مُلبِّس، أو مُفتَرٍ، أو مُخادِعٌ؛ ليُدلِّس على النَّاس بكلماتٍ ظاهرُها فيه الرَّحمة، وباطنُها من قِبَله العذاب. قال: [[ والهجرُ المحمودُ: هو ما يترتَّب عليه مصلحةٌ، وليس الذي يترتَّب عليه مفسدة ]] وهذا -أيضًا- مما غاب وغُيِّب عن كثير من النَّاس من أهل السُّنَّة الذين غَلَوا وانحرفوا عن جادَّة هذا الحقِّ السَّاطعِ، وهذا النَّهج الرَّائع في أصول التَّعامل والمعاملة في إطار الاجتِهاديَّات الخلافيَّة السَّائغة بين أهلِ السُّنة فيما بينهم. فبعض النَّاس قد يَهجر على أقلِّ قليل -دون مراعاةٍ لأي ظرف، ودون تنبُّهٍ لأيِّ أثرٍ، ومِن غيرِ موازنةٍ شرعيَّة صحيحةٍ بين مصالح ومفاسد-.. المهم: أن فلانًا يُهجر! أمَّا: ماذا يترتَّب على هَجرِه -من قطيعة، أو مِن خللٍ، أو مِن فتنةٍ، أو مِن بلاء..-؛ فهذا قد يكونُ آخرَ ما يُفكِّر فيه، أو يَنظُر إليه، أو -حتى- يَرِد على ذِهنه. لا حول ولا قوَّة إلا بالله. ثم قال: [[ قال شيخُ الإسلام في "مجموع الفتاوى" (28/173): "ولو كان كلَّما اختلف مسلمان في شيء تَهَاجَرا؛ لم يبقَ بين المسلمين عصمة ولا أُخوَّة " ]] طبعًا: الكلام -أؤكِّد- مضبوطٌ بأصلَين: الأصل الأوَّل: أن هذا في إطار السُّنة وأهل السُّنة. والأصل الثَّاني: أنَّه في الخلافيَّات الاجتِهاديَّة السَّائغة التي لا تُناقضُ أصلًا، ولا تُبطِل أُسًّا. أمَّا إذا كان هذا بين سُنِّيٍّ ومُبتدِع؛ فالحالُ يختلف. إذا كان هذا في قضيَّة من الأصول المُسلَّمة في قواعدِها بين أهل السُّنة؛ فهذا -كذلك- يختلف. نعم. قال: [[ وقال -أيضًا- (28/206): "وهذا الهجرُ يختلف باختلافِ الهاجِرين -في قوَّتهم وضعفِهم، وقِلتهم وكثرتِهم- ]] وأنا أقول -زيادة-: في زمانهم، وفي تَعدُّد بُلدانِهم، وفي ظُروفِهم.. كل هذه معايير. هل الذي نستطيع أن نفعله هنا نستطيعُ أن نفعله في بغداد هذه الأيام؟ الجواب: لا. هل الذي يستطيعُه أهلُ مكَّة والمدينة يستطيع أن يفعلَه أهلُ تونس؟ الجواب: لا. هل الذي يستطيع أن يفعله أهل نجدٍ اليوم كان باستطاعتهم أن يفعلوهُ قبل مئتي سنة؟ الجواب: لا. إذن: الزَّمان له اعتِبار، والمكان له اعتِبار، والأعيان لهم اعتِبارُهم، والضَّعف والقوَّة له اعتِباره، والقِلة والكثرة لها اعتِبارُها، وآثار كلٍّ من ذلك؛ أيضًا: لها اعتبارُها، ولها آثارُها، ولها نتائجُها. أما مَن عمِي عن ذلك -كلِّه-، يغضُّ بصرَه متعمِّدًا ليس متأوِّلًا -فضلًا عن أن يكونَ مجتهِدًا- ضاربًا لتأصيلات أهلِ العلم وأهل السُّنة عُرض الحائط؛ فهذا لا يُقال: إنه مجتهد؛ بل هذا مُتعدٍّ، ومُتجاوزٌ قدْرَه؛ فلْيتُب إلى الله من هذه الفتن والبلايا التي نثرها ونشرها؛ يكاد يكونُ في العالَم -كلِّه-شرقًا وغربًا، في بلاد المسلمين، وفي بلاد غير المسلمين-. قال: [[ فإن المقصودَ به زجر المهجور وتأديبُه، ورجوع العامَّة عن مثل حالِه ]] هذا هو مقصود الهجر؛ فهو مقصود شرعيٌّ شريف، ومَطلب دينيٌّ عفيف، له نتائجُه المبارَكة، وله ثمارتُه الناضِجة؛ ليس كما هو جارٍ -اليوم-بِغير علمٍ، ولا هُدًى، ولا بصيرة-؛ مما شتَّت كلمة أهل السُّنة في أطراف المعمورة؛ حتى كادتْ كلمة (أهلِ السُّنة والجماعة) لا تَنطبِق عليهم؛ بسبب ما وَردهم مِما ليس مِن منهجِهم من التفرُّق، والتَّفرقة، والتَّشتيت باسم الحِرص على السُّنة!! ووالله؛ إن هذا ليس بِحرص؛ إلا كحِرص الدُّب على صاحبِه لما رأى ذُبابةً على وجهِه وهو نائم، فأراد أن يَنام صاحبُه دون أن تؤذيَه هذه الذُّبابة، فأتى بصخرةٍ ليضربَ الذُّبابة على رأسه؛ فهشَّم منه الرأس، وحطَّم الأضراس!! هكذا أحوال هؤلاء الذين يَغلطون ويغلطون ويغلطون وهم يَحسبون أنَّهم يُحسِنون صُنعًا!! ومع ذلك: فنحن -إلى الآن- لا نُعاملهم بِمثل ما عاملوا به غيرَهم؛ فلا نُبدِّعهم، ولا نُضلِّلهم، ولا نُخرِجهم من أهلِ السُّنة؛ ولكننا نُنبِّه على مَسلكيَّاتِهم الخطيرة، ونحذِّر من سُلوكيَّاتهم المريرة التي لم تُنتِج إلا البلاءَ تلوَ البلاء. والكلام لا يزال لشيخِ الإسلام.. قال: [[ فإن كانت المصلحة في ذلك راجحةً -بحيثُ يُفضي هجرُه إلى ضعفِ الشرِّ وخِفيته ]] يعني: وزواله. [[ كان مشروعًا ]] هذا ضابط متقَن؛ لأن الهجرَ إنما يُعرف بآثارِه، وليس هو أمرًا مطلوبًا لذاته. قال: [[ وإن كان لا المهجور ولا غيره يَرتدعُ بذلك -بل يزيدُ الشرُّ- ]] كما هو الحال -وللأسف- من بعضِ مَن هُجِّروا وبُدِّعوا، أو فيمَن هجِّر وبُدِّع في بعض البلاد؛ حيث تفرَّقت الكلمة، وتشتَّت القلوب، وتنازعت النُّفوس، وضعُفت الهيبةُ؛ حينئذٍ: فإذا لم تكنْ هذه سيئات وشرًّا؛ فلا يوجد سيِّئةٌ ولا شرٌّ!! قال: [[ وإن كان لا المهجور ولا غيره يَرتدعُ بذلك -بل يزيدُ الشرُّ-، والهاجر ضعيف -بحيثُ يكون مفسدةُ ذلك راجحةً على مصلحتِه-؛ لم يُشرع الهَجرُ".. ]] طبعًا قوله: ((والهاجرُ ضعيف)) -هنا-؛ هذا بيانٌ لصورة، وليس بيانًا عامًّا؛ بمعنى: لو كان الهاجرُ [قويًّا]؛ لكن أثر هذا الهجرِ سيكون سلبيًّا.. النَّتيجةُ واحدة. الهاجرُ قوي؛ لكن: في قِلة، وأهل الأهواء والبِدع أكثر.. أيضًا: يُنظر إلى المفسدة. هذه هي الضَّوابط. إلى أن قال -ولا يزال النقلُ من شيخِنا الشيخ العبَّاد-حفظهُ الله-عن شيخ الإسلام ابن تيميَّةَ-رحمهُ الله-، قال: [[ " إذا عُرف هذا: فالهِجرةُ الشَّرعيَّة هي مِن الأعمال التي أمر الله بها ورسولُه، فالطَّاعة لا بُد أن تكونَ خالصةً لله، وأن تكونَ موافقةً لأمرِه؛ فتكونَ خالصةً لله صوابًا ]] وهذان هما شَرطا قبول أيِّ عمل يتقرَّب به أيُّ عبدٍ لله -تبارَك وتَعالى-: الإخلاصُ لله، والموافقةُ لسُنَّة رسول الله -صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه-. قال: [[ فمَن هجر لهوى نفسِه، أو هجر هجرًا غير مأمور به؛ كان خارجًا عن هذا ]] حتى هذه الحسبة، وهذه النظريَّة في تمييز آثارِ الهجرِ -إن كان شرًّا؛ فشَرٌّ، أو خيرًا؛ فخيرٌ، أو نتيجة طيِّبة؛ فيُأمر به، أو نتيجة سيئةٍ؛ فيُنهى عنه-؛ وكل ذلك: بحسب غلبة الظنِّ -من جهة-، أو اليقين الواقع -من جهةٍ أخرى-. حينئذٍ: هؤلاء الذين يَهجرون لهوى أنفسِهم، هؤلاء الذين يَهجُرون هجرًا غير مأمور به؛ هم -أصلًا- خارِجون عن هذه النظريَّة بصورتَيها. وانظروا بماذا ختم شيخُ الإسلام كلامَه، والذي انتقاهُ شيخُنا -حفظهُ الله-، قال: [[ وما أكثر ما تفعل النُّفوس ما تَهواه؛ ظانَّةً أنَّها تفعلُه طاعةً لله" ]] كم من الناس اليوم مَن يُبدِّعون إخوانَهم، ويُضلِّلونهم، ويُسقِطونهم، ويَهجُرونهم.. وهم يَظنون أنَّهم في ذلك يَنصُرون السُّنة!! ولكنَّ الشَّهوة الخفيَّة، والهوى المبطَّن هو الذي يُحرِّكهم -وللأسف-، وهو الذي يأخذُهم ذات الشِّمال وذات اليمين؛ وإلا: لو نظروا -فقط- في الآثارِ والنَّتائج؛ لعرَفوا سوءَ صنيعِهم، وبلاءَ فِعلِهم، وخطرَ عملِهم!! وكم مِن مرَّة ومرَّة سمعنا شيخَنا الجليلَ الشَّيخ الإمام حسَنة بلاد الشَّام شيخَنا الهُمام أبا عبدِ الرَّحمن محمَّد ناصر الدِّين الألباني -رحمهُ الله، وجمعنا وإيَّاكم وإيَّاه في جنَّة الله بِصُحبة النَّبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالِحين، وحَسُن أولئك رفيقًا-.. كم مِن مرَّة ومرَّة كان يقول: يُروَى في أخبار بني إسرائيل.. والنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- يقول: " حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرج "؛ طالما أنها لا تُخالف، أو أنها فيها حِكمة، وما أشبه. قال -فيما يُروَى في أخبار بني إسرائيل وكُتبهم-: أن عيسى ابن مريم -عليهِ الصَّلاة والسَّلام- حذَّر حواريِّيه -ذات يومٍ- قائلًا إنه سيكون أنبياءُ كذَبة، قالوا: كيف نعرفُهم؟ قال: " مِن ثِمارِهم تَعرفونهم ". فمَن أخطأ في الفهم، ومَن أخطأ في التَّصوُّر، ومَن أخطأ في التَّفكير -وهو يَحسب أنَّه يُحسِن صُنعًا-؛ فلْيتدبَّر النتائج، ولْيتأمَّل الثَّمرات، ولْيدرُس هذا الواقع المُرَّ الذي أنتجَه تهوُّره، وأثمرتْه زِراعتُه، وأفسدتهُ صنائعُه.. ولا حول ولا قوَّة إلا بالله. كل ذلك في بُعدٍ سحيق عن النظريَّة والتَّطبيق، وعن النَّهج والتَّحقيق. ورحم الله شيخَ الإسلام ابنَ تيميةَ القائل: (العلمُ: إمَّا قولٌ مصدَّق، أو نقلٌ محقَّق، وما سوى ذاك؛ فباطلٌ مُزوَّق). نعم؛ باطل مزوَّق تحت شعار نُصرة أهل السُّنة وردِّ أهلِ البِدع، حتى وصل هذا الباطل إلى رُؤوس أهلِ السُّنَّة في كثير من البلدان، وإلى [...] في عديدٍ من الدُّول، من غير رأفةٍ، ولا رحمةٍ، ولا شفقة، مِن غير تناصُح كافٍ وصادقٍ؛ إلا بالتربُّص والتَّصيُّد والتَّلصُّص.. ولا حول ولا قوَّة إلا بالله. قال: [[ وقد ذكر أهل العلم ]] رجع الكلام لشيخنا عبد المُحسن العبَّاد -حفظهُ الله ورَعاه-، قال: [[ وقد ذكر أهل العلم: أن العالِم إذا أخطأ لا يُتابَع على خطئِه، ولا يُتبرَّأ منه، وأنَّه يُغتَفر خطؤُه في كثير صوابِه ]] هذا عند أهل الغُلو يقولون فيه-بلسان الحال والمقال-: (حديث خُرافةٍ يا أم عمروِ)!! إلا في إطار مَن يؤيِّدهم، ومَن يوافقُهم، ومَن يلتقي معهم. أما أن تكونَ هذه المعاملة الرَّحيمة الرَّفيقة الشَّفيقة عامَّةً بنورِها، شاملةً بهَديِها؛ فهذا ليس عندهم!! -لا بالخيال ولا بالأحلام، لا في اليقظة ولا في المنام!!-. قال:
[[ ومِن ذلك ]] يعني: في كلام وتقريرات أهل العلم: أن العالِم إذا أخطأ لا يُتابَع في خطئه -أو على خطئِه-، ولا يُتبرَّأ منه؛ وإنَّما يُغتفر الخطأ في كثيرِ صوابِه. هذه بعضُ تقريرات هؤلاء العلماء. ونكتفي بهذا القدْر، ونُتمِّم تقريرات علمائِنا وأئمَّتنا التي نقلها أستاذُنا وشيخُنا -حفظهُ اللهُ ورعاهُ- الشيخُ عبد المُحسن -في المجلس القادم-. سائلًا ربي -تبارك وتَعالى- لنا ولكم ولِلمسلِمين -أجمعين- العفوَ والمغفرة؛ إنه -سُبحانه- سميع مُجيب. وأسأل الله -تعالى- لشيخِنا -حفظَه الله- أن يزيدَه من فضله، وأن يُبصِّره أكثر وأكثر، وأن يَنصره أعظم وأعظم وأوفر؛ إنَّه -سُبحانه- سميع مجيب. وآخِرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالَمين. |
#3
|
|||
|
|||
[ تفريغ ] "شرح رسالة (ومرة أخرى: رفقا أهل السنة بأهل السنة)" - علي الحلبي (3)
[ المجلس الثالث] إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُها، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. وبَعْدُ: فهذا -أيُّها الإخوة- لقاؤُنا الثَّالث الذي نَشرح فيه رسالة شيخِنا العلامة المحدِّث الشيخ عبد المُحسن بن حمَد العبَّاد البدر -حفظهُ الله ورَعاهُ-، وهو مُحدِّث المدينة النبويَّة -حاليًّا-ولا نُزكيه على الله-. ولا يَزال كلامُه في ضبطِ وُجوه التَّصرُّفات والسُّلوكيَّات التي يَنبغي أن توجَد للرَّحمة والحِلم والعلم بين أهل السُّنَّة فيما بينهم. وقبل أن أُتمِّم البحث، وأُكمِّل الشَّرح؛ فأذكرُ فائدة حديثيَّة فِقهيَّة وردَ ذِكرُها في درسٍ مضى مِن شروحِنا لـ"الإبانة"، واتَّصل بي بعضُ الإخوة -قريبًا- يستفصلُ عن المسألةِ نفسِها، وهي: زيادةُ البَسملة في حديث دعاء دخولِ المسجد؛ مُشيرًا إلى أنَّ شيخَنا الشَّيخ الألباني -رحمهُ الله- ضعَّف هذه الزِّيادةَ في "سلسلةِ الأحاديث الضَّعيفة". وفعلًا: راجعتُ "السِّلسلة الضَّعيفة"؛ فوجدتُ شيخَنا -رحمهُ الله- يُضعِّف هذه الزِّيادة. لكن رأيتُ أمرًا آخر -وهو الذي دفعني لهذه الإبانة، ولهذا التَّوضيح-: وهو أنَّ شيخَنا -رحمهُ الله- صحَّح هذه الزِّيادة من حديثِ فاطمةَ -رضيَ اللهُ عنها- في "صحيح سُنن ابن ماجه"، فما ضعَّفه في "سلسلة الأحاديث الضَّعيفة"؛ صحَّحه في موضعٍ آخر ومن طريقٍ آخر. فالعملُ بالبسملة والذِّكر لها عند الدخول؛ فإنَّ هذا -والحالةُ هذه- ثابتٌ لا إشكالَ فيه، وتضعيفُه حديثيٌّ محض، أمَّا تصحيحُه؛ فهو فِقهيٌّ، وبطُرُق الأحاديث ورواياتِها. وصلنا إلى كلامِ شيخِنا الشيخ عبد المحسِن -حفظَه اللهُ ورعاهُ، وأكرمَه إلى مزيدِ هُداه- وهو يقول: [[ وقد ذكر أهل العلم: أن العالِم إذا أخطأ لا يُتابَع على خطئِه، ولا يُتبرَّأ منه، وأنَّه يُغتَفر خطؤُه في كثير صوابِه ]]هذا هو العدل مرَّتين: المرة الأولى: العدلُ في العلم وأحكامِه. والمرَّة الثَّانية: العدلُ في الحُكم على أئمَّته وعلمائِه والدَّاخلين أبوابَهم. أمَّا أنْ يُؤخَذ الإنسانُ بخطأ، ثم يُبدَّع ويُضلَّل، ويُتبرَّأ منه -بسببِ هذا الخطأ-؛ فهذا كلامٌ باطل. ونُكرِّر: أن كلامَنا -كلَّه- مُتعلِّق في إطارِ المسائل الاجتِهاديَّة -التي تصدُر عن اجتِهادٍ- في المسائل السَّائغة، لا نتكلَّم عن شؤون الفِسق والانحرافِ السُّلوكي، أو الأخلاقي، أو ما يكونُ مِن ذلك مِن الكذب، أو الافتراء، أو غير هذا وذاك..؛ حتى لا تختلط الصورةُ أمام إخوانِنا -جزاهمُ الله خيرًا-. قال: [[ ومِن ذلك ]] يعني: من نصوص أهل العلم في تخطئةِ المُخطئ دون هدرِه، ودون التبرؤِ منه. قال: [[ ومِن ذلك: قول شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (3/349) -بعد كلام سبق-: "ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولًا يُفارقون به جماعة الإسلام، يُوالون عليه ويُعادون؛ كان مِن نوع الخطأ، والله -سُبحانه وتعالى- يَغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك ]] يعني: لو أن أحدًا من النَّاس وقع في بدعة؛ لكنَّه جعل هذه البدعةَ التي وقعَ فيها في إطارِها؛ لا يتجاوزه، ولا يجعلها مسألةَ ولاءٍ وبراء، لا يُحارِب عليها، ولا يُجادلُ عنها؛ وإنَّما هي مسألة اجتِهادٍ خرجتْ منه، أو صدرت عنه؛ فنحنُ نُخَطِّئه؛ لكنْ: لا يكون منَّا له الهجرُ، أو التبرُّؤ، وما أشبه ذلك. قال -والكلام لا يزال لشيخ الإسلام-رحمهُ الله-: [[ ولهذا وقع في مثل هذا كثيرٌ من سلف الأمَّة وأئمَّتها؛ لهم مقالات قالوها باجتِهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنَّة؛ بخلاف مَن والى مُوافِقَه، وعادَى مُخالفَه وفرَّق جماعة المُسلمين..." ]] أنا أقول: مَن كان على مِثل هذه الحال: أنَّه يُوالي مَن وافقَه، ويُعادي من خالَفه، ويكون أثر هذه الموالاة، وتلكم المُعاداة تفريق جماعة المسلمين-؛ فهذا أولى بأن يُهجر، وأولَى بأن يُتبرَّأ منه؛ بدلًا مِن أن يكونَ هو الهاجرَ، أو المُسقِط، أو المتبرِّئَ ممن أخطأ خطأً اجتِهاديًّا في إطار ما يسوغُ الخلاف فيه اجتِهاديًّا ممن هو أهلٌ للاجتِهاد -أصالةً-. قال: [[ وقال الذهبي في "سير أعلامِ النُّبلاء" ]] طبعًا: نحن عندما نَذكُر الإمام الذَّهبي يجب أن نتذكَّر أنَّه تلميذُ شيخِ الإسلام ابن تيميَّة، فهذا المنهج الذَّهبيُّ عند الإمام الذَّهبي إنما تلقَّاه وتلقَّنه من شيخ الإسلام ابن تيميَّة ومؤلفاتِه وسلوكيَّاته وتصرُّفاتِه التي تخرج عن ضبطٍ دقيق، وعن انضِباطٍ وثيق -والله يرحمُهما-. قال: [[ وقال الذهبي في "سير أعلامِ النُّبلاء" (14/39): " ولو أنا كلَّما إمامٌ في اجتهاد في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له ]] يعني: اجتِهاد [[ قُمنا عليه وبدَّعناه وهجَرناه؛ لَمَا سلِم معنا لا ابن نَصر، ولا ابن مَندَه، ولا مَن هو أكبر منهما!! ]] ذكرَ ابنَ نصرٍ وابنَ مَنده؛ لأن هذَين الإمامين -وإن كانا مِن أئمَّة أهلِ السُّنة، وإن كانا مِن أكبر عُلماء السُّنة والمؤلِّفين والمصنِّفين في باب العقيدة-؛ فإنَّهما قد وقعَا في بعضِ أخطاء الاعتِقاد مِن مسائل العِلم، لم يكنْ هذا الخطأُ من أيٍّ منهما خطأ أصليًّا يدلُّ على انحِرافٍ أصليٍّ. هناك نوعانِ من الخطأ في العقيدة -أيُّها الإخوة-: خطأ يدلُّ على انحِراف أصلٍ. وخطأ يدل على خللٍ في الفهم قد يصدُر من الإنسان المرَّة أو المرَّتين، وما أشبه؛ فهذا أمرٌ يُحتَمل، وهذا أمرٌ قد يكونُ سائغًا -مع التَّخطئةِ للمُخطئ، ومع التَّغليطِ للغالِط؛ لكن: لا يُتَّهم بأنَّه من أهلِ البِدع، لا يُتَّهم بأنَّه خارجٌ عن السُّنة وأهلِ السُّنَّة، لا يُعامَل بالهجرِ، أو غير ذلك. قال: [[ والله هو هادي الخلق إلى الحقِّ، وهو أرحمُ الرَّاحِمين، فنعوذ بالله من الهوى والفَظاظة " ]] الهوى مُصيبة! فكيف إذا ضُمَّ إلى الهوى: الفظاظة؟!! وهذه الفظاظةُ قد لا يجعل أحبُّ النَّاس إليكَ يتقبَّل منك؛ فكيف إذا كانت هذه الفظاظةُ مستَعمَلةً مع إنسانٍ مُخالِفٍ لك، تريد هدايتَه، تريد إصلاحَه، تريدُ دعوتَه؛ فمِن باب أولى وأولى: أن تكونَ هيِّنًا ليِّنًا في طرحِك، أن تكونَ لطيفًا رفيقًا في أدائك، وبخاصَّة -وأكرِّر وأؤكِّد-: أن ذلك -كلَّه- مُتوجِّه إلى مسائل العلم، والاجتِهاد فيها، والخطأ المتعلِّق بها، وما أشبه ذلك. والله ربُّنا -جلَّ في عُلاه، وعَظُم في عالي سماه-، ماذا يقول؟ يُخاطِب مَن في مَن؟ ربُّ العالَمين يُخاطِب رسولَه في كتابِه تجاه أشرفِ النَّاس وأعظمِهم -وهم الصَّحابة الكرام-رضيَ الله عنهم-: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَليظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِن حَولِك فاعفُ عنهم واستَغْفِر لَهُم وَشاوِرْهُم في الأَمْرِ} لم يكنْ -فقط- ثمةَ نفيٌ للسَّلبيَّات؛ وإنَّما كان -مع نفي السَّلبيَّات- إثباتُ الإيجابيَّات؛ حتى يتمَّ الأمرُ على وجهِه، وحتى تكتملَ الصورة من سائرِ أطرافِها. قال: [[ وقال -أيضًا- ]] -والكلام للإمام الذَّهبي في "السِّير" في (14/376)-.. قال: [[ " ولو أن كلَّ مَن أخطأ في اجتهاده -مع صحَّة إيمانِه، وتوخِّيه لاتِّباع الحق- ]] إذن: هذان شرطان أساسيَّان. الخطأ إذا كان صادرًا من إنسان إيمانُه غير صحيح، أو عقيدتُه غير صحيحة، أو منهجُه مُنحرِف؛ فإنَّ الخطأ الذي يصدُر منهُ يُلحَق بهذا الانحِراف في إيمانِه، أو في اعتِقادِه، أو في منهجِه. أمَّا إذا كان اعتِقادُه صحيحًا، وإيمانُه صحيحًا، ومنهجُه صحيحًا، وأخطأ خطأ ما؛ فهذا لا بُدَّ أن يُستعمَل فيه حديثُ النَّبي الكريم -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " أقيلوا ذوي الهَيئاتِ عثراتِهم ". وفي ذلك من الآثارِ والنُّصوص عن السَّلف الصَّالح في احتمال خطأ المُخطئ في القضايا الاجتِهاديَّة، في القضايا العِلميَّة؛ كما قال الإمامُ مالكٌ: " ما مِنَّا إلا رادٌّ ومردودٌ عليه؛ إلا النَّبي -صلى اللهُ عليه وسلَّم- ". قال: [[ " ولو أن كلَّ مَن أخطأ في اجتهاده -مع صحَّة إيمانِه، وتوخِّيه لاتِّباع الحق- أهدرناه وبدَّعناه؛ لقلَّ مَن يَسلم من الأئمة معنا! رحم الله الجميعَ بمَنِّه..." ]] إذا كان هذا بأئمة العلم؛ فكيف بعامَّة العلماء؟! فكيف بطلاب العِلم ممَّن يُعرفون باستِقامةِ المنهج والحرص على الحقِّ واتِّباعه وسُلوكه؟!! فهذا أولى وأولى أن يُعذَر؛ لأنَّه مظنَّة الخطأ؛ باعتِباره حدَثًا، أو حديثًا في العلم والمعرفة، فإذا كان -هنالك- شيء من المعذرة للأئمَّة والكبار؛ فأولى وأولى أن تكونَ المعذرةُ لمَن دونَهم، وبالشَّرط نفسِه. قال: [[ وذكر ابن الجوزي: أن مِن التَّجريح ما يكون الباعِث عليه الهوى؛ قال -في كتابه "صيد الخاطر"، (ص143)-: "لقيتُ مشايخ أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم ]] هنالك الإمام، هنالك العالِم، هنالك طالب العلم القوي، هنالك العِلم المبتدِئ.. [[ وكان أنفعهم لي في صحبتِه: العاملُ بعِلمه -وإن كان غيره أعلم منه- ]] ليست القضيَّة -أيُّها الإخوة- بكثرةِ العِلم؛ كما قال بعضُ أئمَّة السَّلف -وأظنُّه: سفيان الثَّوري، أو الحسن البصري-، قال: " ليس العلم بكثرةِ المسائل؛ إنَّما العِلم الخشية ". ما فائدة أن تحفظَ لتكونَ نُسخةً زائدةً من شريطٍ أو من كتابٍ أو مِن قُرص؛ ثم لا يكون منك العملُ بالعلم، ولا يصدرُ عنك نورُ العلم، ولا تقوم بحقوقِ وواجباتِ هذا العِلم لتُخالف ما تُعلمه النَّاس وما تُلقِّنه لهم؛ فتبهرُهم من جهةٍ، وتفجعهم من جهةٍ أخرى!! بعيدًا عن الصِّدق، وبعيدًا عن الحِلم، وبعيدًا عن السَّداد والاستقامة؛ وهي صفاتٌ يوفِّق الله إليها مَن استقام على أمرِه، ومن اتَّبع هدي نبيِّه -عليه الصَّلاة والسَّلام-ولو كان قليلَ العلم-. " ليس العِلم بكثرةِ المسائل؛ ولكنَّ العلم الخشية ". هذا الذي يجب أن نتفهَّمه، وأن نعرِفه، وأن نُدركَه، وأن نتذكَّره، وأن نُذكِّر به، وأن نتذاكرَ فيه -بشأنِه-.. وكُلُّنا ذوو خطأ؛ لكن: فرقُ بين مَن يخطئ ثم يُنيب ويرجع ويتراجع، وبين مَن يخطئُ فيُصرُّ ويستكبِر ويكذب ويُكذِّب؛ تمشيةً لحالِه، وتسويغًا لأحوالِه!! هذه المصيبة!! لذلك: ماذا كانت كلمةُ الإمام ابن الجَوزي؟ وهي كلمةٌ واقعيَّة، يُبيِّن فيها أحوالًا حدثت معه، ليست مجرَّد نظريَّات.. كلنا قد يتكلَّم في النَّظريَّات، في الصَّبر، في الحِلم؛ لكنَّه إذا ابتُلي بأقلِّ أمرٍ؛ فإنَّه يَثور ويُثَوِّر من معه؛ فبالتَّالي يكون قد فشل في أوَّل امتحان. لكن: إذا كان مثل هذا الإنسان ذا عِلمٍ -ولو قليل، ولو كان قليلًا هذا العلم-؛ لكن: معهُ العملُ به؛ إخلاصًا لله، ومُتابعةً لسُنَّة رسول الله -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم-؛ فإن قليلَ العلم -على هذا النَّحو- خيرٌ -بألفِ مرَّة ومرَّة- من كثيرِ العلم قليلِ العمل -الذي يَفقد نورَ الإخلاص، ويَفقد حلاوةَ السُّنَّة، ويَفقدُ الصِّدق مع نفسِه، والصِّدق مع ربِّه-قبل أن يَفقد الصِّدق مع الآخرين-. قال: [[ ولقد لقيتُ جماعةً من علماء الحديث يَحفَظون، ويَعرِفون، ولكنهم: كانوا يتسامحونَ بِغِيبةٍ، ويُخرجونها مَخرج جرحٍ وتعديل ]] الجرح والتَّعديل له ضوابطُه، وله أُصوله. والغِيبة الجائز منها: له ضوابطه، وله أصوله. أما أن تكونَ نيَّتُك التَّشفِّي، وأن تكون نيَّتك البُروز، وأن تكونَ نيَّتك الاستعلاء والتَّطاوُل، ثم إذا بك تحشُر ذلك تحت طائلة الجرح والتَّعديل؛ فبُعدًا لك وسُحقًا!! على هذه المعاني الفاشلة، وعلى هذه الأهواءِ الباطِلة التي تجعلُ الحقَّ باطلًا، والباطلَ حقًّا -بسبب هذه الأهواء-. لذلك: ألَّف الإمامُ الشَّوكانيُّ -رحمهُ الله- رسالةً ماتعةً جميلةً سمَّاها: "رَفع الرِّيبة عمَّا يجوزُ وما لا يجوزُ من الغِيبة". الأصلُ في الغِيبة أنَّها محرَّمة؛ لكن: يُستثنى من هذا التَّحريم مُسوِّغاتٌ تجعل صُوَرًا منه مُباحةً؛ بل قد تكون واجبةً -في بعضِ الأحايين-، مِن باب حِفظ الأمَّة من أن يَغتَرُّوا بأمثال هذا المُعتدي، وأمثال هذا المُكابِر، وأمثال هذا الظَّالِم لنفسِه -قبل أن يَظلم غيرَه-. ولذلك: قال قائِلهم -من أهل العلم-: القدحُ ليس بِغِيبةٍ في سِتَّةٍ .. متظلِّمٍ ومُعرِّفٍ ومحذِّرِ ومُجاهرٍ فِسقًا ومُستفتٍ ومَن .. طلب الإعانةَ في إزالةِ مُنكرِ فهذه ست بستٍّ تجوز -بل تجب-في بعض الأحيان- حفاظًا على سلامة الأمَّة، وحفاظًا على نقاء صُدورِها، وحفاظًا على سلامةِ مجتمعِها مِن أن يدخلَه مَن ليس أهلًا له.. مِن أن [يتسنَّم] فيه غاربه، أو أن يَستعليَ على ذُراهُ بعضُ مَن لا يستحقُّ ممن قد يُغرِّر النَّاس بشيءٍ مما ذكرهُ المؤلِّف من الحِفظ أو المعرفة التي لا تَقوى تدفعُها، ولا هدًى يُؤيِّدها -والعياذُ بالله-. فكيف إذا اجتمعتْ هذه الخصال السِّت -أو بعضها- في فَرد يحسبُ أنَّه من المُحسِنين صُنعًا؛ يَظهر للنَّاس على صِفةٍ، وحقيقتُه على صفةٍ أخرى؟!! وهذا حال ما ذكرهُ الإمامُ ابن الجوزي -فيما ذكرهُ شيخُنا الشَّيخ عبد المحسن-حفظهُ الله ورَعاه-. قال: [[ ولقد لقيتُ عبد الوهَّاب الأنماطي؛ فكان على قانون السَّلف، ولم يُسمَع في مجلسه غِيبة..." ]] كونُه لم يُسمَع في مجلسِه غِيبة: لا ينفي هذا أن يكونَ عنده الجَرح والتَّعديل؛ لأن الغِيبة محرَّمة؛ بينما الجرح والتَّعديل مُباح، وقد يكون واجبًا -في بعضِ الأحيان-. فلا نخلط. بعضُ النَّاس: من شدَّة وَرَعِهم الكاذِب؛ قال: (والله -يا أخي- أنا لا أستطيع أن أستعيذَ بالله من الشَّيطان الرَّجيم حتى لا أستغيبَه)!!! هذا ورعٌ بارِد!! وكلام لا وجهَ له -لا في عقل، ولا نَقل-!! وكذلك له أمثال من التَّورُّعات التي لا تقوم على ساقٍ، ولا تُبنَى على أصلٍ. قال: [[ وقال -في كتابه "تلبيس إبليس" (2/689)-: "ومِن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث ]] إذن: نحن عندما نفتخرُ أنَّنا مِن أهل الحديث، أو أننا من أصحابِ الحديث -وحُقَّ لنا: أن نَفخر، وحُقَّ لنا أن نفتخر؛ بما يزيدُنا فيه ربُّنا ثباتًا على هذا المنهج، واستقامةً عليه-؛ لكن-في الوقت نفسِه-: يجبُ أن نعلمَ أن منهجَنا -وإن كان تقيًّا نقيًّا-؛ لكن قد يُصيبُنا الخلل، وقد يُصيبُنا الزَّلل، وقد يصيبُنا الهوى، وقد يُصيبنا الانحراف، وقد يأتينا التَّلبيس، وقد يأتينا التدليس! ونحن نحسب أنَّنا من المُحسِنين صُنعًا!! قال: [[ " ومِن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث ]] أي: على بعضِهم -بداهةً-. [[ قدح بعضهم في بعض؛ طلبًا للتَّشفِّي ]] فقط إرضاءً للقلوب المريضة، ومُتابعةً للنُّفوسِ الضَّعيفة، والأهواءِ البغيضة. [[ ويُخرجون ذلك مَخرج الجرح والتَّعديل الذي استعمله قُدماء هذه الأمَّة للذَّبِّ عن الشَّرع ]] إذن: فرقٌ بين أن يكونَ منكَ نقدٌ أو طعن تطلبُ منه التَّشفِّي، وتسير وراءَه -لا أن يسيرَ وراءك-. والفَرق الآخر: مع مَن ينتصر للدِّين بالجرح والتَّعديل، ينتصرُ للشَّرع الحَكيم في الجرح والتَّعديل -ضمن ضوابطِه، ودقائقِه، وشُروطه-ليس بالهوى؛ وإنَّما بالهدى-. قال: [[ وإذا كان هذا في زمن ابن الجوزي المتوفَّى سنة (597هـ) وما قاربَه؛ فكيف بأهل القرن الخامس عشر؟!! ]] من باب أولى: أن يكونَ -ثمةَ- هوًى أكثر، وأن يكونَ -ثمَّة- انحراف أكثر، وأن يكونَ -ثمَّة- زَيف أكثر -ولو تحت يافِطات برَّاقة، أو أسماء لمَّاعة-!! وهذا -أيُّها الإخوة- ما جعل شيخَنا الشيخ أبا عبد الرحمن محمَّد ناصر الدِّين الألباني -تغمَّده الله برحمتِه، وجمعنا وإياكم وإياهُ في جنةِ الله، في صحبة النَّبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالِحين-وحسن أولئك رفيقًا-؛ هذا الذي جعله يقول -ولنِعمَ ما قال!-: " هذا الزَّمان ليس زمانَ هجْر "؛ لماذا؟ لأنَّ كثيرًا من الأهواء تضطربُ على أصحابِها؛ فتظنُّ أنها تهجُر لله، وتكون هاجرةً للهوى! تكون هاجرةً للشَّخصيَّة! تكون هاجرةً للذات! ليس -في ذلك- ذلك التأثير المرضي المبني على نُصرة الشَّرع وحمايةِ الدِّين. ومع ذلك -حتى تنضبطَ الصُّورة-، أقول: في الوقت الذي كان شيخُنا -رحمهُ اللهُ- يقول: " هذا الزَّمان ليس زمانَ هجْرٍ "؛ لكنَّه استعمل الهَجر، وطبَّق الهجر، ونفذ الهجرَ، ومات وهو هاجِرٌ لأناس، ومات أناسٌ وهو هاجِرٌ لهم، أو مهجورون مِنه.. ولا نُريد أن نَذكُر أسماءً؛ فقد أفضَوا -جميعًا- إلى رحمةِ الله؛ لكنَّنا نَذكُر ذلك؛ حتى لا يفهَمَ واهِم، أو يتوهَّم فاهم: أنَّنا نمنع الهجرَ بالكليَّة. فالهجرُ إذا دُرس، وكان مَبنيًّا على نظرةٍ شاملةٍ لمعرفة المصالح والمفاسِد، وكان فيه التَّشاوُر والتَّناصُح والتَّواصي في ذات الله، وكانت دواعي الهوى بعيدةً، وأسباب التَّشفِّي بعيدةً -أيضًا-؛ حينئذٍ: يكون هذا الهجرُ مشروعًا؛ بل قد يكون -في بعض الأحيان- واجبًا. فلا نَخلِط. وكذلك: الجرح والتَّعديل قد يكون واجبًا. لا نَخلط بين وجوب الجرح والتَّعديل -أحيانًا-، وبين تحريم الغِيبة -دائمًا-؛ فقد يختلطان على بعضِ الأذهان، وليس ذلك بجيِّد. قال: [[ وقد صدر -أخيرًا- ]] والكلام لا يزال لشيخِنا الشيخ عبد المُحسن. [[ وقد صدر -أخيرًا- رسالة قيِّمة بعنوان: "الإبانة عن كيفيَّة التَّعامل مع الخلاف بين أهل السُّنة والجماعة"، تأليف: الشيخ محمد بن عبدِ الله الإمام -من اليمن-، وقد قرَّظها خمسة من مشايخ اليمن ]] نعم. هذه رسالة -يعني- كتاب في نحو مئتي صفحة -أو زيادة-، وهو كتاب طيِّب، وكُتب على غِلافه -مما لم يذكرْهُ شيخُنا-حفظهُ الله-: ( راجعَه: الشَّيخ ربيع بن هادي ). فالأصلُ أن يكون ما في الكِتاب -بالجُملة-.. ولا نُلزِم غيرَنا كما ألزمونا لغيرِ وجهِ حقٍّ.. لا عِصمة إلا لرسول الله-صلى اللهُ عليهِ وسلَّم-، ولا كمالَ إلا لكلامِ الله وعظمةِ الله -سُبحانَه وتعالى-؛ وبالتَّالي: فكلُّ مَن راجع، أو قرَّظ، أو أقرَّ، أو أثنى على كتاب؛ لا يَلزمه أن يكونَ مُثنِيًا على كلِّ كلمةٍ فيه، أو على كلِّ معنًى فيه، أو كلِّ حرفٍ فيه.. فإذا قيلَ: هذا مما تُؤيِّده وأقرَّ؛ الحمدُ لله: هذا يَلزمه. أما إذا قيل: هذا يَلزمُك -باعتِبارك أنَّك قرَّرت، أو أثنَيتَ، أو راجعتَ..-، وقلتَ: لا يَلزمني هذا، أنا إنما مدحتُ الكتاب بالجملة، وهذا الكتاب مهما مدحتُه -أو مدحه غيري-؛ لا بُد أن يكونَ فيه خلل؛ لأن المؤلِّف له بشرٌ كالبشَر -يُخطئ ويُصيب، ويَعلم ويَجهل-. فنحن نقول: يَلزَم فضيلةَ الشَّيخ المُراجع لهذا الكتاب أن يقولَ بكلِّ ما فيه؛ إلا إذا نفَى وقال: (أنا لا أقول)؛ فحينئذٍ: نَعذُره، وقد نعتذِر له. على أنَّني أقول: هذا الكتاب -حقيقةً- كتابٌ جيِّد، وهو يكادُ يكونُ نسخةً ثانيةً -بِنُقوله ومقاصدِه- عن كتابي "منهج السَّلف الصَّالح في ترجيح المصالح، وتطويحِ المفاسد والقبائحِ، في أصولِ النَّقد والنَّصائح". فعنده مئة نقلٍ عن ابن تيميَّة؛ أنا عندي مئة نقلٍ وعشرة نُقول. عنده أربعون نقلًا عن ابن القيِّم؛ عندي ثمانيةٌ وأربعون.. وعلى هذا فقِس. وكتابي قبل كتابه بِسَنةٍ كاملة، وقد أوصلتُ كتابي إليه قبل أن يُطبَع، ولا أُمانع -أبدًا- أن يَستفيد هذا الأخُ الفاضل -أو غيره- مما أكتب؛ لأنَّ هذه المقالات العلميَّة النيِّرة المبارَكة؛ ليست حِكرًا على زيدٍ أو عمرٍو؛ بل هي نورٌ ينتشر، وأنوارٌ لا تندثِر.. لكن: الأهم مِن العلم بها: العملُ بمقتضاها؛ حتى يكتملَ النُّور، لا أن يكونَ الأمرُ كما ورد في الحديث: " مثلُ الذي يُعلِّم النَّاس الخيرَ وينسى نفسَه؛ كمثلِ السِّراجِ يضيءُ للنَّاسِ، ثم يَحرِق نفسَه ". فالأمرُ خطير!! وواللهِ؛ إن الجهلَ لأهوَن -ألفِ مرَّة- مِن علمٍ لا يَهدي صاحبَه.. من علمٍ لا ينفع القائمَ به.. من علمٍ يتكثَّر فيه القائلُ به على غيرِه؛ ليُسيطِر عليهم، أو يتعاظَم عليه، أو أن يكونَ له منهم مآرب شخصيَّة، ومقاصد دُنيويَّة، لا ينالُها بطاعةِ الله؛ وإنَّما يتناولُها بمعصيةِ الله. قال: [[ وقد اشتملت ]] هذه الرسالة -"الإبانة"-.. [[ على نُقول كثيرة عن علماء أهلِ السُّنة -قديمًا وحديثًا-ولا سيَّما شيخ الإسلام ابن تيميَّة، والإمام ابن القيم ]] (ولا سيَّما): يأتي بعدها رفعٌ، ويأتي بعدها نصب. يجوز أن نقول (ولا سيَّما) بمعنى: أخص؛ (ولا سيَّما شيخَ الإسلام)، ويجوز أن أقول: (ولا سيَّما شيخُ الإسلام) [[ وهي نصيحة لأهل السُّنة لإحسان التَّعامل فيما بينهم ]] أنا أقول: يا إخواني! واللهِ الذي لا إله إلا هو: لو أنَّنا طبَّقنا عُشرَ ما نعلم -حتى به نعمل-؛ لفُزنا، ولَسُدنا. والنَّبي -صلى اللهُ عليه وسلَّم- ماذا يقول؟ " والذي نفسي بيدِه: لا يؤمِن أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيهِ ما يُحبُّ لنَفْسِه ". هل تُحب أن تُغرِّر في النَّاس؟ هل تُحب أن يُغرِّر فيك النَّاس؟ فلماذا تحب أن تُغرِّر فيهم؟! هل تُحب أن تجعلَ النَّاس أُلعوبةً بين يديك؟ أو أن تكونَ ألعوبةً بين يديهم؟ فما بالك ترضى لنفسِك ما لا ترضاهُ لغَيرِك؟!! لو كان عندنا العلمُ والعملُ والإخلاص -في هذا الحدِّ الأدنى: في العشرة في المئة-فقط-؛ لسُدْنا وربِحنا. والنَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يقول.. ويكأنَّ هذا الحديث ينطبق على جوانب كثيرةٍ من واقعِنا -ووقائعِنا-.. يقول النَّبي الكريم -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم- يُخاطِب أصحابَه الكرام -رضيَ اللهُ عنهم وأرضاهُم-: " إنَّكم في زَمانٍ كثيرٍ عُلماؤُه، قليلٍ خُطباؤُه، وسيأتي زمانٌ على أمَّتي كثيرٌ خُطباؤُه، قليلٌ عُلماؤُه، إنَّكم في زمانٍ مَن تركَ فيه مِعشارَ ما أُمِرَ به؛ فقد هلَك، وسيأتي زمانٌ على أمَّتي مَن عمِل فيه بِمعشار ما أُمر به؛ فقد نجا ". حتى هذا المعشار والذي كان التَّرك له سببًا للهلاك؛ فصار في آخر الزَّمان العملُ به بابًا للنَّجاة! حتى هذا المعشار الذي هو سبيل نجاةٍ؛ فإنَّ خُذلان الله لبعضِ خلقِه؛ جعلهم لا يستطيعونَ القيامَ -ولو بهذا المعشار-!! فمَن كان على هذه الحال: يجب أن يبكيَ بدل الدَّمع دمًا، وأن يُغلِق على نفسِه بابَه، وأن يقرأ قرآنه، وأن ينظر فيما حفِظ واستظهَر مما ليس له نورٌ على جوارِحِه، أو وقائع -في حاله وأحواله-؛ حتى يَعُود، وحتى يَرجِع، حتى يَتوب، وحتى يُنِيب؛ حتى يَعلَم أنَّه صَدَق مع نفسِه لِيَصدُق مع غيرِه، فإن لم يَصدُق مع نفسِه ومع غيرِه؛ فلن يَصدُق مع ربِّه -تبارَك وتعالى-. لذلك قوله: [[ وهي نصيحة لأهل السُّنة لإحسان التَّعامل فيما بينهم ]] والله؛ لا نحتاج إلى كثيرِ نصيحة؛ بقدرِ ما نحتاج إلى العمل بشيءٍٍ قليلٍ من هذه النَّصائح. وأمَّا أن تسمعَ، وأن تُطأطِئَ رأسكَ، وكما يُقال -في بعض البِلاد-: (كمثل طاعةِ القُرود)!! تُطأطِئُ رأسَك، ولا ترفعُ لها حقًّا، ولا تُقيمُ لها وزنًا؛ فهذه طامَّة كُبرى -نسأل الله أن يُنجِّينا وإيَّاكم-. قال: [[ وقد اطَّلعتُ على كثير مِن مباحث هذه الرِّسالة، واستفدت منها الدلالة على مواضع بعض النُّقول التي أوردتُها -في هذه الكلمة- عن الإمامَين ابن تيميَّة وابن القيِّم ]] رحمهما الله. [[ فأنا أوصي بقراءتِها والاستفادة منها ]] قال: [[ وما أحسن ما قاله ]] أي: المؤلِّف. [[ في هذه الرِّسالة -(ص170)-: "وقد يُجرِّح المعتبرُ بعضَ أهل السُّنة ]] المعتَبَر: يعني العالِم المعتَبَر المُنضبِط، الذي ليس من أهلِ التَّشدُّد، وليس من أهلِ التَّساهل؛ إنما هو مُعتَبر؛ أي: مُنضبِط. [[ "وقد يُجرِّح المعتبرُ بعضَ أهل السُّنة، فتنشب فتنُ الهجر والتَّمزيق والمضاربات، وقد ينشب القتال بين أهل السنَّة -أنفسهم-، فعند حصول شيء من هذا ]] لم يقل: فعند حصول هذا. عبارة دقيقة جدًّا، وجميلة جدًّا -جزاهُ اللهُ خيرًا في كتابتِها، وجزى اللهُ خيرًا شيخَنا في التَّنبيه عليها، واقتِناصِها، والتَّذكير بها، والإفادةِ منها، وبها-. يعني: لا يَلزم لتَرك تجريح هذا المُعتَبَر أن يحصل هجرٌ وتمزيق ومضارَبات وقتال؛ بل لو حصلَ شيءٌ من ذلك؛ لكفَى في طيِّ صفحة هذا التَّجريح الذي يؤثِّر هذا التَّأثير. ولا يزال كلامُنا في مسائل العلم، في الاجتِهاديَّات من المسائل -لا في مسائل الأهواء، ولا في المسائلِ الشَّخصيَّة، ولا في مسائل الفِسق والفُجور والكذب والدَّجل والتلبيس والتَّدليس-. كلامُنا في مسائل اجتِهاديَّة يخطئ فيها العالِم -أو طالب العلم- عن نظرٍ؛ فنخطِّئه ولا نهدُره أو نَهجُره. قال: [[ فعند حصول شيء من هذا؛ يُعلم أن الجرح قد أدَّى إلى الفتن؛ فالواجب: إعادة النَّظر في طريقة التَّجريح، والنَّظرُ ]] أو: النَّظرِ؛ يجوزُ الوجهان. [[ في المصالح والمفاسد، وفيما تدوم به الأخوَّة، وتُحفظ به الدَّعوة، وتُعالج به الأخطاء، ولا يَصلح الإصرارُ على طريقةٍ في الجرح ظهر فيها الضَّررُ" ]] أنا أقول -أيضًا: هذه لفتةٌ ذكيَّة وزكيَّة-: لم يُركِّز الكاتِب-جزاهُ الله خيرًا-في كلِمته- على تركِ خطأ المُخطئ؛ بقدرِ ما ركَّز على طريقةِ معالجة خطئِه التي أوقعت الأمَّة في فتنة-. وأنا أقول -وأشهِد الله على ما أقول-، وإني أسافرُ كثيرًا، وألتقي -سواء بالهاتف، أو في الإنترنت، أو في المراسَلات- بكثير من الإخوان، في كثير من البلاد.. أقول: لم [...] بالدَّعوة السَّلفيَّة المُبارَكة من أبغضِ النَّاس إليها ومن أشدِّ خصومِهم فيها ما حصل مِن جهةِ بعضِ دُعاتِها تحت اسم الجرح والتَّعديل!، وتحت اسم نصرة السُّنة!؛ حتى صار ذلك -كما قلتُ في بعضِ المجالِس- أشبه بحال ذلك الدُّب الذي له صاحبٌ أنقذه من بعضِ الأشراك، ومن بعضِ المصائب التي حلَّت فيه، فبقي هذا الدُّب يحفظ وُدًّا لصاحِبه، فإذا به ينام، فرأى الدبُّ على رأس صاحبِه ذُبابة، فأراد أن يقتل الذُّبابة -حتى يرتاحَ صاحبُه-، فأمسك بصخرةٍ، فضربَ بها الذُّبابة، فحطَّم الأضراس، وهشَّم منه الرَّاس! هذا حال الغُلاة الذين يَظُنُّون أنَّهم يُحسِنون صُنعًا في نُصرة السُّنة، وإحياءِ منهج العِلم، والجَرح والتَّعديل.. -دون قواعد، ولا ضوابط-.. لذلك: جاءت هذه الكلمات الذَّهبيَّة من شيخنا الشيخ عبد المحسن -حفظهُ الله ورعاه-؛ لاستدراكِ ما يُمكن استِدراكُه في هذه الفتنة العمياء، وهذه المِحنة الصَّمَّاء التي يتكلَّم أهلُها كأنَّهم أوصياءُ على الملَّة، وكأنَّهم حُرَّاس هذه الدَّعوة، وهم -إن كان لهم أكثر ما يكون-؛ فلا يَعْدُون أن يكونُوا كغيرِهم. أما أن يكون كلامُ الواحدِ منهم، أو أن يُظن أن كلامَ الواحدِ منهم -ولو بلسانِ الحال، وأحيانًا: بلسان المقال-: أنَّه لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيه ولا مِن خلفِه؛ فهذا عين الفساد، وعين الإفساد!! في الوقت الذي يتَّهمون به غيرَهم بشيء من هذا الفساد، أو ذلك الإفساد!! فكيف الحال فيمَن قال: ( أنا لستُ معصومًا؛ لكنْ: لا أعرفُ لي خطأً في المنهج )!! فأيُّ عصمةٍ مدَّعاة أكبر مِن هذا وأكثر مِن هذا؟!! ولو تهرَّبتَ -بلسانِ القول- من أنَّك لستَ بمعصوم؛ لكنَّ الواقع الذي تُمارِسُه، ويُمارَس عليك؛ هو في أعلى درَجات العِصمة التي يكاد يكون التَّشبُّه فيها، والتَّشبيه بشأنِها كأئمَّة الشِّيعة الثلاثة عشر -ولا أقول: الاثني عشر-. قال: [[ وما مِن شكٍّ أن المشايخ وطلبة العلم الآخَرين من أهل السُّنة يَشعرون بما شعر به هؤلاء الإخوة اليمنيُّون ]] ليس اليمنيُّون -فقط-؛ بل الشَّاميُّون، والنَّجديُّون، والمصريُّون، والغربيُّون، وفي بلاد أوروبا وأمريكا.. حتى -واللهِ- امتُحِن بعضُ النَّاس بشيءٍ من هذه المسائل؛ فارتدُّوا عن الدِّين!! في عُنق مَن هذا البلاء؟!! وفي ذمَّة من هذه اللأواء؟!! ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله. قال: [[ وما مِن شكٍّ أن المشايخ وطلبة العلم الآخَرين من أهل السُّنة يَشعرون بما شعر به هؤلاء الإخوة اليمنيُّون، ويتألَّمون لهذه الفُرقة والاختِلاف، ويَرغبون تقديم النُّصح لإخوانهم، وقد سبق إليه الإخوة اليمنيُّون؛ فجزاهم الله خيرًا ]] أقولها لليَمنيِّين، والشَّاميين، والحِجازيِّين، والنَّجديِّين، والمِصريِّين، وغير هؤلاء وأولئك من جميع المسلمين الدُّعاة إلى منهج السَّلف الصَّالِحين: إن لم تُترجِموا هذه الآثار، وهذه المقولات الكِثار، بحُجَّة واقتِدار -في واقعٍ ملموس، وحالٍ محسوسٍ-؛ فحينئذٍ: يكون كلامُكم حُجَّة عليكم، ويكونُ وبالًا عليكم، ويكون ظُلمًا منكم لأنفسِكم -قبل أن يكون ظُلمًا منكم لغيرِكم-. قال: [[ ولعل لهذه النَّصيحة نصيبًا من قولِه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: "الإيمانُ يَمان، والحِكمة يَمانيَّة" رواهُ البخاري (3499)، ومسلم (188). والمأمول: أن تكون هذه النَّصيحة من الإخوة اليمنيين مُحققةً للغرض مِن كتابتِها ونشرها ]] " الإيمانُ يَمان، والحِكمة يَمانيَّة ": هذا حديثٌ صحيح -على العين والرَّأس-؛ لكن: له إطارُه، وله مِقدارُه. فقد رأينا من بعضِ اليمنيِّين حماقة! نعم.. عند [بعضِ] الشَّاميِّين حماقة! وعند بعضِ المصريِّين حماقة! وعند بعض الحِجازيِّين حماقة! لكن: نتكلَّم عن هذا الإطار.. فهذا الذي يَنظر من أجلِ قولٍ قالَه، أو اجِتهادٍ اجتهدَه، لا يَهمُّه خرابُ الدُّنيا في سبيل أن يَثبتَ قولُه!! أليست هذه حماقة؟!! لو كان يمنيًّا، أو غير يمنيٍّ.. مع احتِرامِنا وتقديرِنا لإخوانِنا في اليَمن، وأكثرهم أصحابُ حكمةٍ -فعلًا-، وأكثرهم أصحابُ يُمنٍ -فعلًا-؛ لكن: عليهم أن يكونوا شُجعان، عليهم أن يكونوا أصحاب جُرأة، عليهم أن يكون دعاةً إلى الحقِّ بالحقِّ؛ كما قال النبيُّ -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " إنَّ لصاحبِ الحقِّ مقالًا ". أما ازدواجيَّة المعايير والمكاييل -مِن هُنا وهُناك وهنالِك- في أن تُطبِّق هذه المعايير على زَيد، في الوقت الذي تَغُضُّ فيه الطَّرف عن عمرٍو!! فهذا ظُلم ثلاثيٌّ!! ولا حولَ ولا قوَّة إلا بالله. وقد أعجبتني كلمة قالها بعض المندَفِعين -ولا أقول: بعض الحمقى-.. وأحيانًا -كما يُقال في المثل- نستفيدُ منه جانبًا، ولا نُلبِسُه -كلَّه- الواقع..؛ يقولون: خُذوا الحكمةَ من أفواهِ المجانين!! فليس كلُّ أحمق يخرج منه الباطل، وليس كل مُتسرِّع يخرج منه الباطل.. فقد خرجتْ كلمةٌ من متسرِّع، ومن إنسان يغلبُ لسانُه عقلَه؛ فإذا به يقول: ( إما أن ترجِعوا عن تغليطِ كتاب منهج السَّلف الصَّالح والتَّبديع له؛ وإمَّا أن تُبدِّعوا وتجرِّحوا كتاب محمد الإمام: "الإبانة". أما أن تنتقدوا هذا الكتاب، وتُثنوا على هذا الكتاب، وهما مِن مشكاةٍ واحدة؛ فهذا عين الاضطراب، وعين التناقض!!)!! لذلك قلنا: نحن بحاجة إلى صِدق، نحن بحاجة إلى شجاعة، نحن بحاجة إلى عمل بهذا العِلم، من غير أن يكونَ لنا قول على قول -من غير بيِّنةٍ ولا حُجَّة-. قال: [[ ولا أظن أن أحدًا من أهل السُّنة يُؤيِّد هذا النَّوع من التَّجريح، والاهتمامَ بالمتابعة عليه، وهو لا يُثمر إلا العداوة والبغضاء بين أهل السُّنَّة، وغِلَظ القلوب وقسوتها ]] نعم والله؛ إن هذا هو الواقع. يقول: إن هذا النَّوع من التَّجريح، والاهتِمامَ بالمتابعةِ عليه: (هذا مبتدِع، ومن لم يبدِّع المبتدع؛ فهو مُبتدِع، ومن سكتَ عن هذا الذي لم يبدِّع المبتدع؛ فهو مبتدِع)!! وهكذا دوالَيك..! في فتنةٍ لها أوَّل وليس لها آخِر!! لا يدعمُها حقٌّ، ولا [...] هدًى، ولا يلفها [...]. قال: [[ ولا ينتهي عجب العاقل: أنه في الوقت الذي يَسعى فيه التَّغريبيُّون للإفساد في بلاد الحرَمين بعد إصلاحِها ]] بل أقول: للإفساد في بلاد الدُّنيا -تغريبًا، وإبعادًا، وإغراقًا في الشَّهوات والملذَّات، والفتن والمحن تحت اسم الحضارة، وتحت اسم التقدُّم، وتحت اسم الانفتاح، وتحت اسم المساواة..!! [[ ولا ينتهي عجب العاقل: أنه في الوقت الذي يَسعى فيه التَّغريبيُّون للإفساد في بلاد الحرَمين بعد إصلاحِها -ولا سيَّما الكارثة الأخلاقيَّة في منتداهم في جدة-الذي سمَّوه-زورًا-: "منتدى خديجة بنت خُويلد"-والذي كتبتُ عنه كلمةً بعنوان: "لا يليقُ اتِّخاذ اسم خديجةَ بنتِ خوَيلد عنوانًا لانفِلاتِ النِّساء"؛ أقول.. ]] هذه جُزئيَّة خاصَّة متعلِّقة بفِتن الشَّهوات؛ لكنَّه ضربَها مثلًا على ما يقعُ من النَّاس مِن شُبُهاتٍ يُغفلون فيها موضوع الشَّهوات.قال: [[ في هذا الوقت يكون بعضُ أهل السُّنة مُنشغِلين بِنَيل بعضهم مِن بعض، والتَّحذير منهم! ]] وهذا من الخذلان، وهذا من عدم التَّوفيق، والأصل: التفريق بين المسائل العلميَّة الاجتِهاديَّة -من جهة-، ومسائل التَّبديع والتضليل التي تخالف أصولَ أهل السُّنة، أو مسائل الكذِب والافتراء، والفسق والشَّهوات -من جهةٍ أخرى-. فلا نُساوي بين الاجتِهاديَّات وبين غيرها مما يُخالفها. قال: [[ وأسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يُوفِّق أهلَ السُّنَّة في كلِّ مكانٍ للتمسُّك بالسُّنَّة، والتَّآلف فيما بينهم، والتَّعاون على البِر والتَّقوى، ونبذ كل ما يكون فيه فُرقة أو خلاف بينهم ]] آمين آمين لا أرضى بواحدةٍ .. حتَّى أبلِّغهم ألفَين آمِينا [[ وأسأله -تَعالى- أن يُوفق المسلمين -جميعًا- للفِقه في الدِّين، والثَّبات على الحق.
وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِه، وصحبِه ]] وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالَمين. نسأل الله لنا ولكم الثَّبات، وحُسن الختام، والوفاة على الإيمان؛ إنَّه سميع مُجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالَمين. الشرح صوتيًّا من موقع الشيخ علي الحلبي -حفظه الله-. |
#4
|
|||
|
|||
للتحميل على وورد
للتحميل على (بي دي إف) لتحميل رسالة العلامة العباد -مضبوطة ومنسقة-:تنبيه: قمتُ بحذف بعض الكلمات التي يذكرها الشيخ -غالبًا- قبل أن يقرأ العبارة من المتن المشروح؛ كقوله: (قال.. وما يزال الكلام لـ..) وما أشبه، وأبقيت ما لا بد منه. من هنا |
الكلمات الدلالية (Tags) |
تفريغات أم زيد |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|