تفريغ الدرس الخامس/الجزء الثاني.....:
[الـدَّرس الخـامـِس]
(الجزء الثَّـاني)
12. الدِّيــنُ مَـبْـنِــيٌّ عَـلَى المَصـالِــحِ ... فـي جَـلْبِـهَـا وَالـدَّرْءِ لِلْقَبـائِــحِ
13. فَـإِنْ تَــزاحَــمْ عَـدَدُ المَصـالِــحِ ... يُـقــدَّمِ الأَعْــلَى مِـنَ المَصَــالِــحِ
إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا ومِن سيئاتِ أعمالِنا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يضللْ فلا هاديَ له. وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شَريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أما بعد:
عبَّر الناظم في قولِه:
12. الدِّيــنُ مَـبْـنِــيٌّ عَـلَى المَصـالِــحِ ... فـي جَـلْبِـهَـا وَالـدَّرْءِ لِلْقَبـائِــحِ
على قاعدةٍ كليَّة مهمَّة، وهذه القاعدة تقول: (إن الشارعَ لا يأمرُ إلا بما كانت مصلحتُه خالصةً أو غالبة، ولا ينهى إلا عما كانت مفسدتُه خالصةً أو غالبة).
ولا يوجد شيء في الكون تتساوى فيه المصلحة مع المفسدة؛ لأنه لا يوجَد شيء لا حُكم للشرع فيه، فكلُّ ما غلبتْ مصلحتُه مفسدتَه؛ فهو من شرعِ الله، وكلُّ ما غلبتْ مفسدتُه مصلحتَه؛ فالشرعُ يمنعه، وكل مصلحةٍ خالصةٍ لا شيةَ من المفاسدِ فيها؛ فهي من دين الله، وكلُّ مفسدةٍ خالصةٍ لا شِيةَ من المصالح فيها؛ فدينُ الله تعالى منها بريء.
المصالح والمفاسد لا يُرادُ بها المشاقُّ، كما قال ابن القيم -رحمهُ اللهُ- في كتابه «مفتاح دار السعادة»، قال: «إذا أريد بالمفسدة المشقة؛ فلا يوجد مصلحة خالصة البتةَ»؛ فالمفسدة شيء، والمشقة شيء، ويأتينا الكلام على المشقَّات -قريبًا- في بيت مستقل، في قاعدة مستقلة -إن شاء الله تعالى-.
إذن: هذه القاعدة؛ إن أردنا أن نُفرِّعها فنحتاجُ إلى أمثلةٍ، ونحتاجُ إلى مثالٍ على كلِّ قسمٍ من الأقسامِ التي هي أربعة أقسامٍ:
1.مصلحة خالِصة.
2.مصلحة غالِبة.
3.مفسدة خالِصة.
4.مفسدة غالِبة.
فالمصلحة الخالصة التي لا يوجد فيها أي شيء من المفاسد؛ مثل: الإيمان، والتوحيد، والصدق، والأمانة، والعدل، والإحسان، والبِر، وصلة الرحم، وحُسن الجوار.. هذه كلُّها مصالح خالصة لا مفسدة فيها، وإن وُجدتْ مفسدة؛ فتكون المفسدة في الطريق لا في ذاتِ البِر، قد تبر أو تُحسن لجارٍ وهو يسيئ إليك؛ فالإساءة ليست من ذات البر؛ وإنما المفسدة شيء خارج وعارض، ليس من ذات الطاعة ومن ذات العبادة.
هذه المصالِح الخالِصة.
فالشرعُ؛ كلُّ مصلحة خالصة أتى بها؛ ولذا: الشَّرعُ حَسنٌ في عقولِ كل الخلق، كل أصحاب الفُهوم المستقيمة، والأذواق السليمة، والنَّظر الصَّائب؛ فإنهم يُعظِّمون الأديان، ويعظِّمون من التزمَ بدِين الله -سُبحانهُ وتَعالى-.
هنالك مصالح غالِبة، ولكنَّها تتضمَّن مفاسدَ، فالمصلحةُ الغالِبة إن كانت هي الشَّائعة، وإن كانت المفسدة يسيرة بالنسبةِ إلى المصلحة المتحقِّقة؛ فحينئذٍ: نقدِّم المصلحةَ الغالبةَ، فمصلحةُ الجماعة تقدَّم على مصلحة الفردِ، وهذا ما يُسمى -مثلًا- في الشرع بـ(المُثامنة) في العقار.
يعني: رجل بنى بيتًا، وببيتِه أغلق جميعَ الطرقِ للمسجد! رجل بنى بيتًا، له مصلحة في بيته، لكن إغلاق الطريق للمسجد، ولا يستطيع أحد أن يصل للمسجد إلا من طريق هذا البيت؛ فحينئذٍ: مصلحة الجماعةِ تُقدَّم على مصلحة الفرد؛ فيُؤخذ من أرضهِ عُنوةً لتكونَ طريقًا بالمقدار الذي يصلحُ أن يكونَ طريقًا، وأن يسدَّ حاجةَ الناس، وتملُّك العقار عنوةً مقابل ثمنِه في أعراف التُّجَّار؛ هذا يُسمى عند الفقهاء: (المثامَنة).
تمامًا مثل عضو تآكل، وإن تُرك ولا علاج له، وإن لم يُبتر يهلك جميعُ بدن الإنسان، ففي بتر العضو مفسدة؛ لكن المصلحة الغالبة -مصلحة سائر البدن، وأن يبقى الإنسانُ في حياة-؛ تقتضي أن يُبترَ العضو، فبَتر العضو لسلامة سائر الأعضاء؛ هذا مصلحة غالِبة.
فالشرعُ أتى بالمصالح الخالِصةِ أو بالمصالحِ الغالبةِ.
فكلُّ مصلحةٍ قد تتحقَّق، ولكنَّها مصلحةٌ مغلوبة أو زائلة أو موهومة، أو عند التحقيق هي نشوةٌ آنيَّة ثم يترتَّب على ذلك الضررُ الكبير؛ فهذا ليس بمصلحةٍ معتبرة؛ وعليه: فإن المفسدةَ الخالصةَ في دِين الله حرام.
مثل إيش المفسدة الخالصة؟ مثل الشِّرك مفسدة خالصة، مثل الكذب، مثل الظلم، مثل الخيانة، مثل القطيعة، مثل سوء الخُلق، سوء الجوار..؛ هذه كلُّها مفاسد خالِصة.
وكل المفاسد الخالصة حرام.
ومن عجيبِ شرعِنا أنَّه لم يضعْ حدًّا للإحسان، ولم يضعْ حدًّا للبِر، فالبِر ميدان، والإحسان ميدان آخر يتسابقُ فيه المتسابِقون، وكلٌّ يبر أباهُ على حسب إيمانِه.
فعُمر بن ذر كان بارًّا بأبيه، وكان والدُه يتألَّم من الماء البارد، فسُجن هو وأبوه ذات يوم، ويعلم أن أباه سيصلي الفجر ويتوضأ بالماء البارد في السجن، فبقي طوال الليل يحمل الماء على ضوءِ السِّجن حتى دفَّأ الماء -الفجر-، وأعطاه لوالده حتى يتوضَّأ.
هذا مشروع ولا ممنوع -هذه الصورة-؟ مشروعة، ليش مشروعة؟ لأن البرَّ ميدان فسيح، لا حدَّ له، متروك لمن؟ متروك للناس.
كما أخبرنا النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في الثلاثة الذين تدحرجت الصخرة فغلَّقت عليهم الغار، فقالوا: الجؤوا إلى الله -عزَّ وجلَّ- بصالح أعمالكم -وهذا له صِلة بالنيَّة-، فواحد قال: إنك تعلم يا رب أنه كان لي صِبية، وكنتُ لا أطعمهم حتى أطعِم أبويَّ، وكان عندي أبوان كبيران، فذات يوم جئتُ ووالداي نائمان، فبقيتُ أحمل غبوق لبن، وأنا على رأسِهما، والصِّبية حولي يتصايحون، فقلتُ: والله لا تشربون حتى يشرب الوالدان، فلما استيقظا مع الصباح أشربتُ والديَّ ثم أشربتُ أولادي.
هذا باب عظيم من أبواب البِر؛ أن تقدِّم أبويك على أولادك وعلى زوجك.
فباب البر بابٌ فسيح، وميدان فسيح.
لذا: كان قتادة لما يتكلَّم مع أمِّه يتكلَّم بذُلٍّ، فقيل له: لماذا تتكلَّم مع أمك هكذا؟ قال: الله يقول: {واخفضْ لها جناحَ الذُّل} ينبغي أمام والدَيك أن تكون ذليلًا، ليس البِر أن تطعمها وأن تُسكنَهما، البِر أن تتواضع لهما، {واخفضْ لها جناحَ الذُّل من الرَّحمة} يكون جناح رحمة وجناح ذُل للوالدَين، فمهما سمَوتَ ومهما ارتفعتَ، ومهما علا راتبُك، وعلتْ منزلتُك وشهادتُك؛ أنت أمام أبوَيك ضمَّ الأجنحةَ هذه، وكنْ ذليلًا رحيمًا بأبوَيك.
فباب البِر باب مصلحة خالصة، ولا يمكن أن نحصر صُوَر البر، والشرعُ تركه ميدانًا فسيحًا.
لذا: قال بعض الصالحين، قال: كيف بِرُّك بأبيك؟ قال: بِرِّي بوالدِي أن لا أمشي بليل إلا أمامه، وأن لا أمشي بنهارٍ إلا وراءَه، وأن لا أصعدَ ظهرَ بيتٍ هو تحته! ما أرتفع على أبويَّ.
فهذا البِر ميدانُه فسيح.
فالمصلحةُ الخالصة من دين الله، المصلحة الراجحة من دين الله، المفسدة الخالصة ليست من دين الله، والمفسدة الغالبة ليست من دين الله.
فيه أشياء قد تكون فيها مصالح، لكن هذه المصالح قليلة بالنسبة إلى مفاسدِها، وقد تكون مفسدة شخصيَّة تُعارض مصلحةَ عموم الناس؛ فالمصلحة العامَّة تقدَّم على المصلحة [الخاصة].
لذا قال الله -عزَّ وجلَّ-: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، هل الخمر والميسر فيه نفع؟ نعم فيه نفع بنصِّ القرآن: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ} الخمر فيه منافع، الخمر فيه تجارة، والقِمار -وهو المَيسر- فيه لهو.
تعرفون الفرق بين القِمار والمَيسر؟
كل لهوٍ باطل يُسمَّى مَيسرًا، فإن صحبَه أكلُ مال؛ فهو قِمار.
ما هو السِّر في أن قرَن اللهُ المَيسرَ مع الخمر؟ الإدمان، فالخمر الكأس يحتاج إلى كأس، والمَيسر الدِّستت يحتاج إلى دست، واللعبة تحتاج إلى لعبة؛ فيصعب فطام النفس عن الخمر، ويصعب فطام النفس عن لهو الباطل.
فإن كان مع اللهو الباطل أكل مالٍ من طرفٍ دون طرفٍ، بمحض الحظ والصُّدفة؛ فينقلبُ الميسرُ قِمارًا.
فكلُّ ميسرٍ قمار، وليس كلُّ قمارٍ ميسرًا.
وهذا التقسيم للإمام ابن قُتيبة في كتابه المطبوع: «الميسر والأزلام»، وعقد الإمام الخرائطي في كتابه «مساوئ الأخلاق» بابًا، ومن يقرأ آثار السلف يجد أن الأمر معروف عندهم على هذا الحال، وهذا الذي قعَّده الإمام ابن القيِّم أيضًا في كتابه «الفروسية» -رحم الله الجميع-.
فالله -عزَّ وجلَّ- يقول: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} فالله -عزَّ وجلَّ- يذكر الجواب قال: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} الذي يشرب الخمر ويلعب الميسر آثم، إثم عظيم، ولكن الله عوَّدنا أن نُنصِف، أن نكون أهل نصَفة، أهل عدل، أن نأخذ الأشياء على حقائقها؛ فمن باب العدل الله قال: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} وأيضا فيهما إيش: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فالناس كانوا يتاجِرون وكان يُحصِّلون الأموال، ويُدخلون الأنسَ على النَّفس بالميسر، وتُصيب شاربَ الخمر النشوةُ وتزيد الشهوة، والحمد لله لم نذُق الخمر، وإن شاء الله لا نذوقه إلا في الجنَّة، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم مِن أهل الجنان إن شاء الله، لكن هكذا يقول القائلون الذين جرَّبوا، وحتى العلماء المفسرون يذكرون هذه الأشياء؛ فهذه منافع للناس.
وحتى بعضهم يقول: في الشتاء تُعطي الخمرُ الدفء، وبعضهم -نسأل الله العفو والعافية- بعض الأطباء الفجَرة الفسَقة يوصفون للناس لمن معهم الحصوة في الكِلية يقولون: اشرب الخمر! الله أكبر! الخمر؟! مع أنه لا ميزة للخمر عن غيرِها، يعني كل السوائل في هذا الأمر سيَّان! لكن هم يخصِّصون الخمر من شدة حنقه على دين الله، وكُرهه لأصحاب الاستقامة وأصحاب الدِّيانة -نسأل الله -سُبحانهُ وتَعالى- العفو والعافية-.
فالله -عزَّ وجلَّ- قال: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} ثم قال -سُبحانهُ وتَعالى- ليُبين لنا هذه القاعدة، قال: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} إذن العبرة بالغالب.
فإذا كانت المصلحةُ هي الغالبة؛ فهي حلال.
يعني: الآن الدخان: الدخان فيه منافع، فيه تجارات، و-نسأل الله العافية- نرى بعض المحلات كلها دخان -بيت المدخِّن وإلى ما شابه من هذه الأسماء-، وبعض الناس يزرع الدخان، فيتكسَّب من الدخان، لكن لو قارنَّا بين الدخان بين مصالحه ومفاسده؛ إيش نرى؟ أيهما الغالب المصالح ولا المفاسد؟ إذا كان المصالح غالبة حلال، وإذا كانت المفاسد غالبة؛ حرام.
يعني: لو نأخذ الفلفل الحار: الفلفل الحار فيه مفاسد؟ فيه ضرر، لكن هذا الضرر يشمل كل الخلق؟ يشمل قسمًا من الناس، من معه قرحة -مثلًا-، مع أن الأطباء -سألت البعض- فقالوا: أسرع علاج لمن معه القرحة الشيء الحار، لكن هو علاج مع ألم شديد، وأنا كنتُ أتوهَّم أن الحارَّ مؤذٍ للمعدة، فقالوا: لا، الحار ليس مؤذيًا للمعدة، الحار أنجع شيء لعلاج القُرَح، لكن فيه ألم شديد.
بغض النظر هل صح هذا أم لم يصح، العبرة بالغالِب.
مَن يتضرر من أكل اللحم؛ فيحرُم في حقِّه أكل اللحم؛ للضرر لا لذات اللحم.
فالحرام قسمان: حرام لذاتِه، وحرام لغيرِه.
لكن إن أردنا أن نسقط الحُكم على الشيء: فالشيء إن كانت المفسدةُ خالصةً أو غالبة؛ فهي حرام، وإن كانت المصلحة خالصة أو غالبةً؛ فهي من ضمن ما شرعَ اللهُ -سُبحانهُ وتَعالى-.
فالله -عزَّ وجلَّ- لا يُحلِّل شيئًا تكون مفسدتُه خالصة أو غالبة.
وهذه المسألة مهمَّة -ولا أريد أن أخوض فيها، لكن لا بد أن نتعرض لها-:
المصلحة والمفسدة بم تُعرف؟
هذه مسألة مذكورة في كتب التوحيد، ومذكورة في كتب الأصول، وهي المسألة التي تسمَّى (التحسين والتقبيح)، والعلماء يقولون: التحسين والتقبيح هل هو عقلي أم شرعي؟
العلماء اختلفوا، والاختلاف اختلاف أصل من أصول مهمة، ولذا المسألة لم تُدرج فقط في كتب الأصول؛ وإنما ذكرتْ أيضا في كتب العقائد؛ لشدة الاختلاف فيها -من جهة-، ولالتباس الحق فيها -من جهة-، ولثمارها وتعلُّقاتِها -من جهةٍ أخرى-؛ إذ يبحثونها في بعضِ فروع العقائد.
فمثلا: التحسين والتقبيح عند المعتزلة عقلي، ولأنه عقليٌّ محض يوجِبون على اللهِ أشياء؛ يقولون: يجب على الله أن يبعثَ رسولًا، ويقولون: الله -عزَّ وجلَّ- لا يجوزُ في حقِّه أن يبعثَ رسولًا كاذبًا، ولا يجوزُ في حق الله أن يُجري المعجزةَ على يدِ مَن هم من أولياء الشيطان.
فالتحسين والتقبيح عند المعتزلة عقلي محض.
قابلهم رجلٌ كان منهم ثم في أواخر حياتِه تداركه الله برحمتِه فتبرأ منهم، وهو الإمام أبو الحسن الأشعري -رحمهُ اللهُ-، فكان يقول -وهذا ردة فعل عن قولِهم-: لا يجب على اللهِ شيء، فالله -عزَّ وجلَّ- لا يُسأل، والناس يُسألون، فكان يقول: التقبيح والتحسين تمييز المفسِد من المُصلِح، والحسَن من القبيح أمرٌ شرعي محض، ولا صلةَ للعقل فيه.
فالمسألة أصبح فيها غُلو، وأصبح فيها تقصير جفاء، فحتى كان الأشاعرة قرَّروا في كتبهم أن الله يُمكن أن يبعث رسولًا كاذبًا، وأن الله -عزَّ وجلَّ- يُمكن أن يُجريَ معجزةً على يد دعِي.. قال: الأمر شرعي محض، ويُمكن الله -عزَّ وجلَّ- يُحلل الخمر، ويُمكن أن يحرِّم الخبز.
والصواب وسط بين القولَين، وهذه مسألة جلَّاها ببيانٍ رائع للغاية الإمام ابن القيم -رحمهُ اللهُ- في كتابه «مفتاح دار السعادة» فقال: المصلحة والتحسين والتقبيح يكشف عنه الشرعُ، والعقل يَقبَله ولا يردُّه، فالعقل السليم لا يُسوِّي بين العذرة والخُبز، ولا يمكن أن يقول أن العذرةَ يمكن أن يكون أكلها حلال، فالشرعُ هو الذي يحكم، والعقل يكشف، والعقل والشرع ليسا بمتعارضَين، فالحكم للشرع، وهو يوافق العقلَ، فلا تعارُض -أصلًا-، لكن الذي يحكُم بالحِل هو الشرع، العقل وفقه القاعدة، سبرنا كل أوامر الشرع، وكل ما أحله الشرع؛ فوجدنا أن الشرعَ لا يُحل إلا المصلحة الخالِصة أو الغالِبة.
فالحُكم للشرع، والعقل يكشف عن المصلحة، وسبرنا كل الأشياء فوجدنا أن الشرعَ لا يحرِّم إلا المفسدةَ الخالصةَ أو الغالبة؛ فلماذا هذا التناكد بين العقل وبين الشرع؟
ولذا: شيخ الإسلام في هذه المسألة جلَّاها في إحدى عشر مجلدة سمَّاه: «درء تعارُض العقل والنقل» وبيَّن فيه النصَّ الصريح لا يُخالفُ العقل الصحيح، وإذا وقع تعارُض: فإما النص غير صريح، وإما العقل غير صحيح، المجنون هو الذي يعارِض؛ وإلا: الشرع والعقل متوائمان، ومؤتلِفان، وليسا بمختلِفين.
فلما نقول: مصلحة غالِبة.. خالصة، مفسدة خالصة غالبة؛ بميزان الشرع الذي يُدركه العقل.
ولإدراك العقل قعَّد العلماء هذه القاعدةَ؛ فقالوا: المصلحة الخالصة أو الغالبة حلال، والمفسدة الخالصة أو الغالبة حرام، الأولى في دائرة المشروع، والثانية في دائرة الممنوع.
فالشرع يحكم، والعقل يكشف، فخلَّص الحقَّ بين دمٍ وفرثٍ لبنًا سائغًا للشاربين، خلَّص الحقَّ في المسألة من بين هؤلاء ومن بين هؤلاء، ووضَّحها توضيحًا كثيرًا.
نحن لا نشك أن المصالح درجات، وأن المفاسد درجات، وهذا الامر ينبغي أن يُعلم: ظلم دون ظلم، حرام دون حرام، كُفر دون كفر، فليس الكفر كله واحد، فالمصالح لمَّا نحكم أنها الغالبة إما في النوع وإما في العدد، وكذلك المفاسد، فليس التوحيد كالمسائل الفقهية.
الله يقول: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، القرآن فيه آية أفضل من آية، مع أنه كله كلام الله -سُبحانهُ وتَعالى-، وكذلك المصالح وكذلك المفاسد.
لذا: أتى الناظم -رحمهُ اللهُ- تعالى- ببيتٍ فيه بيان ازدحام المصالح وازدحام المفاسد، كيف نأتي بالازدحام.
ففي «الصحيحين» من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: سئل النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: أي الذنب أعظم؟ فقال: «أن تُشرك بالله وهو خلقكَ»، أو قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خَلَقك» فهذا أعظم الذنب «وأن تقتلَ ولدَك مخافةَ أن يَطعمَ معك، وأن تُزانيَ حليلةَ جارِك»، يعني: الزنا في المرأة الغريبة حرام؛ لكن في مرأة الجار؛ أشد حُرمة؛ لأن هذا من دواعي التكرار، والمرأة البعيد التكرار خفي، تَقتل؛ حرام؛ لكن أن تقتل ولدك؟! هذا حرام زائد، هذا يُخالف الشرعَ والطبع، الإنسان مطبوع على الرِّقة والرحمة بالولد، فأنت لَما تقتل الولد؛ رُفعت الرحمة من قلبك؛ فخالفتَ أمر الشرع والطبع الذي طبع الله الناس {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، وكذلك أن تعبد وأن تجعل لله ندًّا وهو الذي قد خلقك وسوَّاك ورزقك، فأن تُشرك به؛ هذا من أعظم الذنب.
فالمفاسد درجات، وأيضا المصالح درجات، فليست كل الأوامر بدرجة واحدة، وليس من فوَّت الصلاة كمن قطع الرحم، مع أن هذا حرام وهذا حرام، ليس من ترك الأمر بالمعروف كمَن ترك الزكاةَ، وهكذا.
فالشاهد -بارك الله فيكم-: أن الشرعَ جاء بمصالح وجعل المصالح على درجات، وحرَّم المفاسدَ وجعل المفاسد على درجات.
تبقى مسألة وهي: إذا كانت المصالح قد تزاحمت، ومعنى المزاحممة: المضايقة.
يقول الناظم:
13. فَـإِنْ تَــزاحَــمْ عَـدَدُ المَصـالِــحِ ... يُـقــدَّمِ الأَعْــلَى مِـنَ المَصَــالِــحِ
إن اجتمع في المحل الواحد في الوقت الواحد مُلابَسات وظروف، لا تستطيع أن تؤدِّي إلا مصلحة، فتزاحمت عليك عدة مصالح؛ إيش المطلوب منك؟
عبَّر الناظمُ بهذا البيت -البيت الثالث عشر- على قاعدة مذكورة في الكتب الفقهية وتنص هذه القاعدة فتقول: (إذا تزاحمت المصالحُ يُقدَّم أعلاها)، إذا المصالح تزاحمت يقدَّم أعلى هذه المصالح، فإذا كنتُ لا بد أن أترك بعض المصالح؛ فلا أترك الأعلى للأدنى؛ وإنما أترك الأدنى للأعلى.
إيش يعني؟
يعني: لو تعارض معك واجب مع سُنة، أنت مديون، وقد حلَّ أجلُ الدَّين، أعطيت موعدًا للدَّين، وجاءك فقير تريد أن تتصدَّق عليه، أيهما يقدَّم في شرع الله؟ أن تسدد دَينك أم تتصدَّق على الفقير؟ سداد الدَّين -في كل حال-، تَعبُد الله -عزَّ وجلَّ- في سداد الدَّين وتترك الصدقة على الفقير؛ لماذا؟ تزاحمت عليك المصالح: التصدُّق على الفقير مصلحة، وسداد الدَّين فرض، والصدقة على الفقير سُنة؛ فأنا أقدِّم الفريضة.
رجل راتبه محدود، وعنده -بارك الله- أولاد، ونفقة الأولاد واجبة، والنبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يقول في الحديث الصحيح: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول» يَحرُم عليك أن تضيِّع أولادك، يجب عليكَ النفقة، لكن لكن أنت مرتِّب أمورك يعني بالكاد آخر الشهر يأتي راتب على هذا الحال، تعارَض النفقة على العيال مع الصدقة، إيش تقدِّم؟ النفقة على العيال، أنا أعبد الله بالنفقة على أولادي، والنفقة على عيالي فرضٌ عليَّ، وأتقرب إلى الله بالنفقة على العيال أكثر وأشد من تقرُّبي في أن أتصدَّق على الفقير.
وهذه المسألة كثير من الآباء ما ينتبهون إليها، لا ينوون في أعمالهم وفي نفقاتهم لا يُحصِّلون النيَّة.
حتى الوالد الغني: إن مات وترك أولادًا، والأولاد يرِثون كما فعل سعد رضي الله عنه، سعد قرب الموت، ولما يقرب الموت يخاف الإنسان، ولما يخاف يحب أن يكثر من الصالحات، فإيش فكَّر سعد؟ يخرج من كل ماله صدقة، فجاءه النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فأرشده النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- إلى الثُّلث، ما تخرج أكثر من الثلث، حرام على أغنى الأغنياء أن يخرج أكثر من الثلث، والثلثان لمن؟ للورثة، وقال النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- معلِّمًا مربِّيًا أصحاب الأموال، قال: «إنك أن تذرَ ورثتك أغنياء؛ خيرٌ من أن يتكفَّفوا الناسَ»، أنت أيها الأب يا من تملك المال، إن تركتَ الميراث للأولاد هذا أجر، هذا فيه ثواب، هذا أحبُّ إلى الله من التصدُّق فيه، هذا أحب إلى الله من الصدقة، لكن أين النية؟ وأين الفقه؟ أين الإنسان الذي يفقه هذه المسألة وأن يفعل هذا بنِية حتى يحصِّل الأجر، والنبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يقول: «لا ثواب لم لا نيَّة له».
فنحن إن تعلَّمنا فنهنأ بدِيننا، نهنأ بالفقه، فالفقه يُدخل علينا سَعة، يصحح مفاهيمَنا، ويصحح تصرُّفاتِنا.
فالشاهد: أن المصالح إن تزاحمتْ ففي الشرعِ يقدَّم أعلى المصالح، المصلحة التي قرَّرها الشرعُ، وأيضا لا يكشف عنها العقل كما قرَّرنا في شرح البيت السابق.
كذلك: إذا تعارضَ حج نذرٍ -نذر رجل أن يحج- وحجة الإسلام، هذا تعارُض واجب مع واجب، فحج النذر ليس من أركان الإسلام، وحجة الإسلام من أركان الإسلام، فإن تعارَض واجب مع واجب؛ قدَّمنا ما يقدِّمه الشرعُ.
واحد نذر أن يحج ولم يحج بعد، فجاء يستفتي قال: يا شيخ إيش رأيك أقدِّم حج النذر ولا حجة الإسلام؟ إيش نجيبه؟ نقدِّم أعلى المصالح، إيش أعلى المصالح؟ حجة الإسلام، وليش حجة الإسلام أعلى المصالح؟ لأنها رُكن، والوفاء بالنذر واجب ليس ركنًا، فنقول له: أنت الآن حج حجة الإسلام؛ لأن حجة الإسلام هي الركن.
فإن تعارَض واجب مع سُنة؛ قدَّمنا الواجب على السُّنة.
وإن تعارضَ واجب مع واجب؛ قدَّرنا الأعلى من الواجبَين، الذي يجعله الشرعُ أعلى من غيره، مثل إيش؟
الجهاد مع بر الوالدَين، جاء شاب يكتتب في معركة من المعارك ويريد أن يجاهد، فقال له النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم، قال: «فارجع ففيهما فجاهِد».
يا الله! بر الوالدَين يحتاج لجهاد، يحرم أن تقول: أف، يحرم أن ينظر الوالد إليك فتُريه أنك غضبان من أمره، ينبغي أن تبقى على انشراح صدر، وأن تجاهد..
أتدرون من الذي يشعر أن بر الوالدين جهاد؟ من هو؟ الذي يعيش مع والدَيه، أو من يعيش والداه معه، والذي هو حريص على البِر يكونوا عايشين معه وهو حريص على البِر؛ فحينئذٍ في كل لحظة يحتاج أن يبقى على تذكُّر وأن يتذكر أمر الله -عزَّ وجلَّ-، وأن يعظِّم الوالدَين لتعظيم الله لهما، وبر الوالدَين أمر يوافق الطبعَ والشرع.
فهنيئا لمن عنده والدان، من عنده والدان فهنيئا له بالبر، فما أقرب الجنة من البار! فـ«الوالد أوسط أبواب الجنة» كما يقول النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-؛ يعني: أقرب طريق للجنة الوالد، أقرب طريق تصل به إلى الجنة إن كان لك والد فتَبر بالوالد، وكذلك الوالدة الزمها؛ في «السنن الكبرى» عند النسائي يقول النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لبعض الصحابة: «الزمها فإن الجنة عند قدمَيها» وأما «تحت قدمَيها» فرواية ضعيفة، و«الجنة تحت أقدام الأمهات» فحديث باطل، أما «فالزمها فإن الجنة عند قدمَيها» حديث صحيح، فالجنة عند قدمَيها، عند قدم الوالدة؛ فهنيئا لمن له والدان، فالجنة قريبة منهما.
فإذا تعارضَ الجهادُ مع بِر الوالدين إيش يقدَّم؟ يعني اللي يقول بدي أجاهد وعاق لوالديه؛ والله إنه كذَّاب! اللي يقول أنا أريد الجهاد، متى يُفتح باب الجهاد، ويصرخ على الجهاد، وعنده والدان! طيب الوالدان أقرب لك من الجهاد للجنة، مش تريد الجهاد لتدخل الجنة؟ عندك طريق أقرب للجنة من الجهاد، عندك طريق أقرب إلى أن تصل للجنة بسببه، فالعاق إن قال جهاد؛ والله إنه كذاب ليس بصادق مع الله -سُبحانهُ وتَعالى-.
طيب: العلم مع بِر الأبوَين؛ أيهما يقدَّم؟ بر الوالدين ولا العلم؟ [مداخلات]
طيب: هل يجوز الجواب بالظن والتخمين؟ يعني: تجيب بدون علم يجوز ولا ما يجوز؟
يجوز الجواب على السؤال من غير علم؟... أمام الأستاذ يجوز؛ حتى تشغل قريحتك، إن أخطأتَ أصوِّبك، أما في غيابي حرام تتكلم بغير علم، وهكذا كان يصنع أبو حنيفة -رحمهُ اللهُ-.
أبو حنيفة كان يسأل سؤالا، فيجيبون عليه، فيقنِّعهم أنه خطأ، ثم يقنِّعهم أنه صواب، ثم يقنِّعهم أنه خطأ، ثم يقنِّعهم أنه صواب.. هذاحاله -رحمهُ اللهُ- تعالى-، حتى مالك كان يقول: أبو حنيفة -رحمهُ اللهُ- لو أراد أن يُقنِعَك أن أسطوانة هذا المسجد ذهب خالِص؛ لاستطاع؛ يعني: كان عنده قوة مناظرة وقوة قريحة عجيبة، حتى قالوا في مناقب أبي حنيفة الكردري: يوم من الأيام أبو حنيفة مرض، فجاءت امرأة فسألت سؤالا فاجتمع خُلاَّص طلبته فأجابوها الجواب، فلما شفاه الله ورجع إلى حلقته، قالوا له: يا إمام جاءتنا امرأة وسألتنا كذا وجاوبناها بكذا، قال: بماذا أجبتم؟ قالوا: بكذا، فقال لهم: أخطأتم ثم اعترض عليهم، فقنَّعهم أنهم أخطؤوا، ثم قال: أصبتُم فقنَّعهم أنهم أصابوا، وقال: القول كما قلتم! فكان هذا طريقته في التدريس -رحمهُ اللهُ- تعالى-.
أقول: موضوع العلم مع البر للوالدين يحتاج لتفصيل:
قال العلماء -وهذا كلام أبو بكر الطرطوشي في كتابه «بر الوالدين»- قالوا: مقدار العلم الذي تقع به النجاة في معرفة الله ومعرفة المعتقد السليم، إذا وُجد العالِم في البلدة؛ فلا يجوز أن تسافر، ويجب عليك طاعة الوالدَين، وإذا كنتَ لا تستطيع أن تَحمل معتقدًا سليمًا إلا بأن تُسافر -ولو لم يأذن الوالدان-، بمقدار ضبطك للمعتقد السليم بهذا المقدار تُسافر ثم ترجع، أما أن تخرجَ لتتزود من العلم بالفرض الكفائي -لا الفرض العيني-؛ فيَحرُم عليك شرعًا أن تسافر دون إذنهما.
ودليل هذا ما ثبت في «البخاري» في كتاب الصلاة، وبوّب الإمام البخاري في كتاب الصلاة قال: باب وجوب صلاة الجماعة، ثم قال البخاري: قال الحسن -ويريد به البصري- قال: شابٌّ أراد أن يصلي الجماعة فتمنعُه أمُّه، فقال الحسن: يذهب للجماعة ثم يعود فورًا للبيت.
يعني: ما تطيع والدتك في الجماعة، صلِّ وبعد الفرض مباشرة حرام عليك تبقى جالسًا، صلِّ وارجع على طول، تصلي النافلة في البيت، مقدار الفريضة صلِّها ما تطيع والدتك؛ لذا البخاري استنبط من جواب الحسن البصري إن الجماعة؛ قال: باب وجوب صلاة الجماعة، وهذا في «صحيح البخاري».
طيب: الحج والدَّين؛ إيش يُقدَّم؟ رجل عليه دَين وأراد أن يحج؛ إيش يقدِّم؟ الحج ولا الدَّين؟ الدَّين. طيب: الحج ولا الزواج؟ [قال البعض: الزواج]
فيه تفصيل في الأمرَين، اسمعوا التفصيل..
طيب؛ أعطيكم صُوَرًا ستقدِّمون الحج، أنا الآن أعطيكم صُورًا تقولون الحج: رجل غني قال لك: يا بو فلان حجيت؟ قلت: لا، قال لك: حج وحسابك عندي، لا تنفق في حجك ولا قرشًا، أنفق عليك.. تقبل.. حجة الإسلام، والله أوجب الحج لمن استطاع إليه سبيلا، وأنت بهذا الغني الذي يسره الله لك أصبحتَ مستطيعًا، ما تقول: والله ما أريد! حُج معه.
وفي حديث أم حُميد الساعديَّة في «البخاري» قال النبي -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: «والحج من سبيل الله».. {إنَّما الصَّدقاتُ للفقراءِ والمساكين..} ثم قال: {وفي سبيل الله..} الحج في سبيل الله، فيجوز للغني أن يعطي زكاة مالِه لفقير لا يستطيع أن يحج إلا بهذه الزكاة، فهو مِن سبيل الله.
واحد غني قال لك: أنت عليك دين؟ طيب؛ اذهب معي الحج والنفقة على حسابي.
أو رجل طالب علم، إمام مسجد، حملة من الحملات قالت له: تعال تفضل معنا، أنت مرشدنا ما تنفق شيئًا، تخرج معنا على حسابنا، علِّم الحجيج الحج وفقه الحج، وعليه دَين، وجاء وقال: لا يا شيخ لازم أقدِّم الدَّين! قلت: ما عندك فقه! أنتَ قدَّمت مصلحةً موهومة ليست حقيقية، أنتَ لو ما حججتَ ما بتسد الدَّين، الدَّين بقي عليك، ما عندك مال، وعطَّلت على نفسك مصلحة أن تُسقط عن نفسك الحج.
فهذا النوعُ مِمن عليه الدَّين إن حجَّ ولم يُنفق شيئًا من مالِه؛ فلا عبرة بدَينه، يحج؛ لماذا؟ لأنه ما ينفق مالًا.
طيب؛ نأخذ صورةً أخرى: رجل عليه دَين، وجاء موسم الحج وبدأ يبلغ صاحبَ الدَّين أن فلانًا بده يحج، فخشي أن يتحرج فقال له: يا بو فلان سمعتُ بدك الحج؟ فقال: إي والله بدي أحج، فقال: ترى اذهب للحج، وإن حان وقت الدَّين فأنا مسامح، وأنا أيضا بأجلك سَنة، حان الآن موعد الدَّين، جاء الحج تريد أن تحج؛ الله يسهل عليك، حُجّ، وبأجلك سَنة أخرى، إيش نقدِّم الحج ولا الدَّين؟ نقدِّم الحج؛ لأنه أذِن صاحبُ الدَّين.
والنبي عليه الصلاة والسلام قال: «تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقرَ نفيًا، ويحطان الخطايا حطًّا».
ولذا: سُئل بكر بن عبد الله المُزني -التابعي الجليل-: هل يجوزُ لمن عليه دَين أن يحج؟ قال: إن أذن له صاحبُ المال؛ فليحج. ثم قال: فإن الحجَّ أقضى للدَّين.
من أسباب قضاء الدَّين: المتابعة بين الحجِّ والعُمرة، تابع والله يسد دَينك، وفي المتابعة بين الحجِّ والعمرة فيه رزق عجيب لا يعرفه إلا من يسر الله -عزَّ وجلَّ- له اليقين على مثل هذه الأحاديث. أي نعم..
لكن: رجل حان موعد الدَّين، ويطالبك بدَينه، ولا يأذن لك أن تخرج، وأنت لا تستطيع أن تحج إلا بمالك، وإما أن تنفق المال في الحج وإما أن تنفقه في سداد الدَّين، إيش يقدَّم الآن؟ يقدَّم الآن الدَّين، حق العبد يقدَّم على حق الله -عزَّ وجلَّ-، هذه من قواعدهم، الله يغفر حتى للحاج وحتى للشهيد، يغفر القُصور في حقِّه، لكن لا يغفر القصورَ في حقِّ العباد، حتى التوبة في حقِّ العباد حتى يتحال، حتى تؤدَّى الحقوق إلى أصحابها، أو أن يُحلِّل صاحب الحق لمن اعتدى عليه -سواء كان الاعتداء ماديًّا أو معنويًّا-.
طيب؛ الزواج والحج؟ ينظر في حال الشاب غير المتزوج، فعلماء البلاغة يقولون: التخلية قبل التحلية، قبل ما نتحلى بالطيب نتخلى من النجاسة، قبل ما نتحلى بالحج نتخلى من المعصية.
رجل نفسه تنازعه، وعنده شبق، ويتعب تعبًا شديدًا، ويحتاج للمرأة، يقول لي: أحج ولا أتزوج؟ تزوج.
رجل يقول: سِني وكبري، ولا يرد على خاطري وعلى قلبي إلا الخير والطاعة، ولا أجد في نفسي حاجة للنساء؛ إيش نقول له؟ حججت ما فيه مشكلة، لو أنك حججت أسقطت فريضة الحج عنك.
ولذا الشاب الذي لا يعرف كبير شهوة إن حج وقد بلغ؛ حجه صحيح.
ومن عجيب ما وقفتُ عليه في ترجمة تاج الدين السبكي، ولد تقي الدين، قال: حججنا مع الوالد وجئنا طريق الساحل، قال: حتى بِتنا في الجُحفة، قال: وكان والدي في تلك الليلة لما وصلنا واغتسلنا، وأحرم وأراد أن نمشي إلى مكة كان مريضًا، قال: فأقعده المرضُ واضطره للمَبيت في الجُحفة، فبِتُّ مع والدي، قال: واحتلمتُ في تلك الليلة، يعني كان احتلامُه في تلك الليلة، قال: فاحتلمتُ وأحرمتُ وكانت حجة الإسلام! يعني: احتلم اليوم وثاني يوم أسقط الحج!
فالشاهد: إذا كانت النفس فيها شبق وحاجة للزوجة؛ فتقديم الزوجة والزواج مقدَّم على الحج، وإن لم يكن الأمر كذلك فتدخل في تقديم الحج؛ لعموم آيات مسارعة الخيرات التي هي معروفة.
..ولا تنسوا ما ذكرتُه أن العز -رحمهُ اللهُ- كتب كتابًا في تقديم المصالح والمفاسد، وإن شاء الله نقرؤه في أيام في مجلس واحد طويل..
لكن من قواعدهم: أن المصلحة العامَّة تقدَّم على المصلحة الخاصة، والمصلحة المتحقِّقة تقدَّم على المصلحة المنتظَرة.
أَذكُر وأختم بهذا المثل: موضوع الإجهاض: امرأة حامل، أرادت أن تجهض، الإجهاض حرام، اعتداء على مخلوق، لكن الحرام درجات، فإذا كان الجنين نُفخ فيه الروح الحُرمة أشد، وإذا كان الجنين لم تُنفخ فيه الروح فيه حرام؛ لكن ليست حُرمة الإجهاض في الجنين الذي تُنفخ فيه الروح كحُرمة إجهاض الجنين الذي لم يُنفخ فيه الروح.
والعلماء يُحرمون الإجهاض في صورتَيه بقاعدة من القواعد التقديريَّة -مذكورة في كتب القواعد-؛ يقولون: المتوقَّع كالواقع؛ لو تُرك هذا الحمل إن لم يُنفخ فيه الروح فسيُنفخ، وإن كان منفوخًا فيه الروح فسينفصل، فالذي ننتظره نُعامله معاملة الواقع (المتوقَّع كالواقع).
طيب؛ هذه صورة.. فالإجهاض حرام كيفما كان، لكن الحُرمة على درجات.
نأتي الآن لصورة أخرى للإجهاض: أطباء ثقات قرّروا أن المرأة إن حملت هلكت، وقوي تقريرُهم هذا بقواعد الطب التي هي سُنة لله -عزَّ وجلَّ- في الإنسان، فأصحبنا الآن أمام أمرَين: أمام مصلحة قائمة متحقِّقة وهي الأم وحياتها قائمة، وأمام مصلحة منتظَرة وهي الجنين، والنفوس مجبولة على حب الأولاد {المالُ والبنون زينةُ الحياة الدُّنيا}، فالدنيا إن لم تُزيَّن بالمال والولد لا تنفِق ولا يكون لها وزن، فالله أنفق الدُّنيا زيَّنها بالمال والولد.
وسمعتُ شيخَنا -مرات وكرات- يقول: عجبي من الناس، يشبعون من الولد ولا يشبعون من المال! والله قال: {المالُ والبنون} يعني الأولاد: ولدان ثلاثة أربعة، قال خلاص يكفي! لكن الأموال مليون ومليونان وثلاث؛ يقول: لا يكفي!!
إذا كان الإنسان له جبل من ذهب أو واد من ذهب -في «صحيح مسلم»-، يتمنى أن يكون له واديان، وإن كان له واديان يتمنى أن يكون له ثلاثة، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.
طيب: عندنا أم، مصلحة قائمة موجودة مخلوقة، وحمل، إن بقي الحمل هلكت، ماتت، بمَن نُضحي؟ نضحي بالأم ولا بالجنين؟ بالجنين؛ ليش؟ الجنين مصلحة منتظرَة، والأم مصلحة قائمة، فالمصلحة القائمة مقدَّمة دائمًا على المصلحة المنتظرة.
فإذن: إذا تزاحمت المصالح إيش يُقدَّم؟ أعلاها، المصلحة العامة، المصلحة الحقيقية، المصلحة القائمة، يُقدَّم على المصلحة الخاصة، وتقدَّم على المصلحة الرجوحة، وتقدَّم على المصلحة المنتظَرة، وتُقدَّم على المصلحة التي تخص فردًا من الأفراد، وهذه لها تفصيل -المصالح عند التزاحم- لها تفصيل طويل يأتينا لاحقًا.
ونكتفي بهذا القدر، لنقف عند البيت الرابع عشر، نشرحه إن شاء الله في درسنا القادم.
انتهى (الجزء الثاني).
تفريغ : أم زيد
من هنـا تجميع روابط الدروس المفرغة