الإشارة إلى ضعف حديث : " ، وَإِنَّ من شَقَاوَةِ الْعَبْدِ تَرَكُهُ الاسْتِخَارَةَ "

[طاهر نجم الدين المحسي]

الإشارة إلى ضعف حديث :
" ِإنَّ مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ اسْتِخَارَتُهُ لِرَبِّهِ ، وَرِضَاهُ بِمَا قَضَى ، وَإِنَّ من شَقَاوَةِ الْعَبْدِ تَرَكُهُ الاسْتِخَارَةَ "
الحمد لله وحده ؛ والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .
وبعد :
لقد رأيتٌ كثيراً ممن كتب في صلاة الاستخارة يذكر هذا الحديث محسّناً له ؛ أو ساكتاً عنه!
وبعضهم ادعى تحسينهٌ تحقيقاً ! لمجيئه من عدة طرق ؛ وجهل ، أو تجاهل أنها لا تصلح للاستشهاد والاعتبار !!
وإليك البيان :
أخرج الإمام أحمد في ( المسند ) ( 1444) ، والترمذي (12079 ) ، والحاكم ( 1/518 ) ، والبيهقي في ( الشعب ) ( 203 ) ، والبزار في ( مسنده ) ( 1/209 ) ، والخطيب في ( الجامع لأخلاق الراوي ) ( 1726 ) ، وابن عساكر .
كلهم من طريق محمد بن أبي حميد عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده سعد بن أبي وقاص قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " ) .
قلت : هذا إسناد ضعيف من أجل محمد بن أبي حميد ، وهو المدني وإلى ذلك أشار الترمذي فقال بعد أن أخرجه : (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن أبي حميد ، ويقال له أيضا : حماد بن أبي حميد ، وهو إبراهيم المديني ، فليس هو بالقوي
عند أهل الحديث " .
وقال الحافظ ابن حجر في " التقريب " : " ضعيف " .
قال العلامة الألباني في ( الضعيفة ) (1906 ) :
(وقال الحاكم : "صحيح الإسناد " . ووافقه الذهبي ، فوهما بشهادة الذهبي نفسه حيث قال في ترجمة محمد بن أبي حميد هذا :
" ضعفوه " . ثم ساق له هذا الحديث .....
ومنه تعلم أن قوله في " الفتح " ( 11 / 153 ) : " أخرجه أحمد وسنده حسن " ، غير حسن ، بل هو ضعيف كما علمت . وقد أشار لهذا المنذري في " الترغيب " ( 1 / 244) حيث عقب تصحيح الحاكم بقوله : " كذا قال " ) .
قلت : هذا الإسناد يصلح للاعتبار إذا جاء من طريق آخر مثله ؛ ولكن ليس الأمر كذلك كما زعم بعض المحققين !
الطريق الثاني للحديث :
أخرج أبو يعلى في ( مسنده ) ( 701 ) ، و البزار في ( مسنده ) ( 1/197 ) ، واللالكائي في ( شرح أصول الاعتقاد ) ( 875 ) ؛ من طريق عمر بن علي بن عطاء بن مقدَّم عن عبد الرحمن ابن أبي بكر بن عبيد الله عن إسماعيل بن محمد عن أبيه عن جده : أن رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : " إِنَّ مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ اسْتِخَارَتُهُ لِرَبِّهِ ، وَرِضَاهُ بِمَا قَضَى ، وَإِنَّ من شَقَاوَةِ الْعَبْدِ تَرَكُهُ الاسْتِخَارَةَ ، وَسَخَطُهُ بِمَا قَضَى " .
قلت : هذا إسناد ضعيف جداً ؛ من أجل عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله ، وهو المليكي ؛ قال الإمام أحمد : منكر الحديث . ، وقال الإمام البخاري : منكر الحديث . ، وقال الإمام النسائي : متروك الحديث . وقال الإمام يحيى بن معين : ضعيف . وقال أبو حاتم : ليس بقوي .
وممن ذهب من العلماء إلى شدة ضعف عبد الرحمن بن أبي أبكر ، العلامة المحدث الألباني في ( الضعيفة ) تحت حديث - ( إِنَّ مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ اسْتِخَارَتُهُ لِرَبِّهِ ، وَرِضَاهُ بِمَا قَضَى ، وَإِنَّ من شَقَاوَةِ الْعَبْدِ تَرَكُهُ الاسْتِخَارَةَ ، وَسَخَطُهُ بِمَا قَضَى ) .
ضعيف .
أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (2/60/701) - والسياق له - ، والبزار أيضاً (1/359/750) من طريق عمر بن علي بن عطاء بن مقدَّم عن عبد الرحمن
ابن أبي بكر بن عبيد الله عن إسماعيل بن محمد عن أبيه عن جده : أن رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : ... فذكره .
قلت : وهذا إسناد ضعيف ، رجاله ثقات رجال الشيخين ؛ غير عبد الرحمن ابن أبي بكر ، وهو : المليكي ، وهو ممن اتفقوا على تضعيفه ، بل ضعفه جداً جمع
من الأئمة ، منهم البخاري ، فقال في "التاريخ " (3/1/260) :
"منكر الحديث " . وكذا قال النسائي . وفي رواية عنه :
"ليس بثقة" . وقال ابن حبان في "الضعفاء" (2/52) :
"منكر الحديث جداً ؛ ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات ، فلا أدري كثرة الوهم في أخباره منه أو من ابنه ؟ على أن أكثر روايته ومدار حديثه يدور
على ابنه ، وابنه فاحش الخطأ ، فمن هنا اشتبه أمره ، ووجب تركه " .
قلت : وثمة علة خفية ، وهي تدليس عمر المقدمي هذا ، فإنه مع ثقته واحتجاج الشيخين بحديثه ، فمن الصعب جداً الاحتجاج بحديث له خارج "الصحيحين " ،
ولو صرَّح بالتحديث ؛ لأنه كان مدلساً كما نص عليه جمع من الأئمة ، وكان تدليسه خبيثاً غريباً من نوعه ، سماه بعضهم : تدليس السكوت! وقد بينه ابن
سعد فقال في "الطبقات " (7/291) :
"وكان ثقة ، وكان يدلس تدليساً شديداً : يقول : "سمعت " و"حدثنا" ، ثم يسكت ، ثم يقول : "هشام بن عروة" ، "الأعمش" ! يوهم أنه سمع منهما ، وليس
كذلك " . انظر "الباعث الحثيث " .
ولذلك قال ابن أبي حاتم (3/1/ 125) عن أبيه :
"محله الصدق ، ولولا تدليسه ؛ لحكمنا له - إذا جاء بزيادة - غير أنا نخاف بأن يكون أخذه عن غير ثقة" .
قلت : وهذا هو الذي أخشاه : أن يكون تلقاه عن راوٍ ضعيف ثم أسقطه ، فقد تقدم في جرح ابن حبان لعبد الرحمن بن أبي بكر شيخ عمر بن علي المقدمي
هذا : أن مدار حديثه على ابنه ... .
واسم الابن هذا . محمد بن عبد الرحمن الجدعاني ، وهو متروك كما قال الحافظ في "التقريب " ، فلربما كان هذا هو الواسطة بين أبيه وبين المقدمي فدلسه .
والله أعلم .
وبالجملة : فهذه علة ثانية لهذا السند خفيت على بعض إخواننا الناشئين في هذا العلم ، وكان هذا من دواعي تخريج هذا الحديث من هذه الطريق ، فقد كنت
خرجته من طريق أخرى ضعيفة أيضاً فيما سبق (4/377/1906) .
ذلك أنني وقفت على بحث للأخ عدنان عرعور بعنوان "صلاة الاستخارة" في مجلة "المجاهد" (السنة الثالثة/ العدد 27/ رجب سنة 1411) ، ذهب فيه إلى تحسين الحديث بمجموع الطريقين ؛ محتجاً بأن عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي هو في جملة من يكتب حديثه - كما قال ابن عدي - قال :
"فمثل هذا يصلح أن يكون متابعاً لمحمد بن أبي حميد ؛ فيكون الحديث حسناً . والله أعلم " .
قلت : كان يمكن أن يكون الأمر كما قال : لو أن المليكي ليس فيه من الجرح إلا ما ذكره عن ابن عدي ، أما والأمر ليس كذلك ؛ فالتحسين مردود بتجريح الإمام البخاري ، ومن ذكرنا معه للمليكي تجريحاً شديداً كما تقدم ، فهل يجوز إهدار أقوالهم والاعتماد على قول ابن عدي فقط مع كونه متأخراً عنهم علماً وطبقة ، مع استحضار أن من كان شديد الضعف لا يتقوى به ؟! أم هي الحداثة في هذا العلم الشريف ؟
هذا أولاً .
وثانياً : لو سلمنا أن المليكي هذا يصلح للمتابعة ، فهل غاب عن بال الأخ أن في الإسناد إليه علة أخرى ، وهي تدليس ابن مقدم الراوي عن المليكي ، وأن تدليسه
كان أخبث تدليس عرف في مجال الحديث كما تقدم . فمن الظاهر أن الأخ لم يتنبه لهذه العلة ؛ وإلا لكان كتمانه إياها تدليساً حديثاً نكبره أن يقع فيه ، وغالب الظن أنه غَرَّه في ذلك كونه من رجال "الصحيحين " كما تقدم ، والاحتجاج بمثله ليس مسلماً على الإطلاق كما هو معلوم من علم المصطلح ، وظني أن هذا ليس مجهولاً عند الأخ الفاضل ، وإنما هي الغفلة وعدم الاستحضار لأحوال الرجال ودقائق الأحوال .
ثم قال الأخ :
"وفات شيخنا الألباني الطريق الآخر فضعَّف الحديث "!
فأقول : جزاك الله خيراً على هذا التنبيه ، ولكن أليس كان من الأولى أن تلتمس لشيخك - كما تقول - عذراً ، كما يقول الأدب السلفي المأثور : "التمس لأخيك عذراً " ؛ فإنك تعلم أن المجلد الذي خرجت الحديث فيه من الطريق الأولى ألفته قبل طبعه وطبع المسندين اللذين فيهما الطريق الأخرى بسنين عديدة ، وأنه لم يكن من الميسور يومئذٍ الرجوع إليهما دائماً وهما لا يزالان في عالم المخطوطات .
ثم رأيت البزار رواه (751) من طريق آخر عن المليكي فقال : حدثنا محمد ابن السكن : ثنا عمران بن أبان الواسطي عنه . وعمران هذا : ضعيف ، ومحمد بن السكن : لم أعرفه ، ويحتمل أن يكون :
"ابن سكين" وهو : أبو جعفر الكوفي المؤذن ، وَهُوَ مَجْهُولٌ كما في "الجرح " وغيره ) .
قلت : طريق عمران هذا يدل على شدة ضعف عبد الرحمن بن أبي بكر واضطرابه في الحديث ؛ فإنه تارة يقول : عن إسماعيل بن محمد بن سعد ؛ وتارة يقول : عن محمد بن المنكدر ؛ وتارة يقول : عن رجل من قريش عن إسماعيل ، كما عند البزار .
وهذه علة أخرى من علل الحديث .
وقد اغتر بعض من حسّن الحديث بما جاء في مسند الشاشي ( 185 ) حدثنا الحسن بن علي بن عفان ، نا عبد الله بن يعقوب المدني ، ومسكنه بالسوارقية ، نا عتيق بن يعقوب بن أبي فديك ، عن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، عن سعد مرفوعا به .
وجعلها طريقا ثالثة ؛ مع اعترافه بأن في الإسناد إشكالا .
قلت : وهذا خطأ ناشئ من قلة التحقيق ، أو الحداثة في هذا العلم ؛ فإن في الإسناد سقط واضح لكل من طالعه
وقد كفانا معرفة هذا السقط الإمام الحافظ البيهقي في ( الشعب ) (203 ) : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا يحيى بن منصور القاضي حدثنا الحسن بن علي بن القاسم الشاذياخي حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا ابن أبي فديك حدثنا ابن أبي حميد ح
و أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي أنا أبو الحسن بن صبيح ثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن ثنا إسحاق بن إبراهيم ثنا أبو عامر العقدي ثنا محمد بن أبي حميد عن إسماعيل بن محمد بن سعد يعني ابن أبي وقاص عن أبيه عن جده .
وأما قول بعض مَن حسّن الحديث :
فبهذا يكون مدار الحديث على ثلاثة محمد بن أبي حميد وهو ضعيف ، وعبد الرحمن بن أبي بكر وهو ضعيف ، ومحمد بن إسماعيل بن مسلم وهو صدوق .
فوا أسفاه من أين جاء بطريق محمد بن إسماعيل بن مسلم الصدوق ، وهو لم يذكرها ؛ لعله سبق ذهن ، أو قلم .
وخلاصة القول : أن للحديث طريقين فقط ؛ طريق ابن أبي حميد ، وطريق عبد الرحمن بن أبي بكر وقد عرفت أن طريقه لا يصلح للاستشهاد والاعتبار . والله أعلم .

وكتب :
طاهر بن نجم الدين بن نصر المحسي

[أبو مصعب السلفي المغربي]

بوركت اخي احسن الله اليك

[لؤي عبد العزيز كرم الله]

لقد ارتقيت مرتقي صعبا أخي طاهر
زادك الله علما وفقها وأسأل الله أن يمن علي أهل السودان بمحدث يجدد لهم سنة نبيهم ويحي فيهم منهج السلف الصالح منهج العدل والرحمة والشفقة والإنصاف دون تعصب وتحزب واعتساف.

[شاكر بن خضر العالم]

ما شاء الله وبارك ...
يعلمُ الله أنَّكَ أدخلتَ السرورَ على قلبي بهذه المشاركة العلمية أخي طاهر ..
زادكَ الله من فضله..

[طاهر نجم الدين المحسي]

جزاكم الله خيرا إخواني الفضلاء ؛ الله أسأل أن أكون عند حسن ظنكم بي ، ونفع الله بكم جميعا ، وزادكم علما وفضلا . وبوركتم دوما .

[طاهر نجم الدين المحسي]

للفائدة ...