أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
11452 139530

العودة   {منتديات كل السلفيين} > منابر الأخوات - للنساء فقط > منبر الصوتيات والمرئيات والكتب و التفريغات - للنساء فقط

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 08-07-2010, 12:44 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي


[الحادية عشرة]


إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالنَّا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إِلَه إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أما بعدُ:

فإنَّ أصدقَ الحَديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ --صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم--، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ، أما بعدُ:

فاللِّقاءُ مُتجدِّدٌ بالخيرِ والبركةِ -إن شاءَ اللهُ- في هذه الأيَّامِ الجليلةِ المُباركةِ، في هذه الأيَّام الخيِّرة والتي نتذاكَرُ فيها أحكامَ الكِتابِ والسُّنَّة الواردةَ في هذا الشهر العظيمِ؛ شهر رمضان، وما يتَّصلُ به مِن فِقهٍ للصِّيامِ والقِيامِ.
هنالك أشياءُ يُباحُ للصَّائمِ فِعلُها في نهارِ رَمضان؛ فقد يتصوَّرُها بعضُ النَّاس مَمنوعاتٍ، أو مُحرَّماتٍ؛ ولكنَّها -في الحقيقةِ- تجوزُ ويَصلحُ أن تُفعل.

وقبل أن نَذكرَ المُباحاتِ؛ لا بُدَّ أن نَذكرَ المحرَّماتِ، والمُحرَّمات نَقسِمُها قِسمَيْن:

القِسم الأوَّل: أفعالٌ لا تَجوزُ، ولكنَّها ليستْ مُفسدةً للصَّوم.

- وأفعال مُفسدةٌ للصَّوم؛ سنذكرُها فيما بعدُ -إن شاءَ اللهُ-تَعالى-.

أمَّا أوَّلُ شيءٍ نذكُرهُ في بابِ ما يجبُ على الصَّائمِ تَركُه ومُجانبتُه -وإنْ كان غيرَ مُفسِدٍ للصَّوم، ولا مُبطِلٍ له-؛ لكنَّه -لا شكَّ، ولا ريبَ- مُوقِعٌ لِلإثم، ومُوقعٌ للمَعصية -والعِياذُ باللهِ -تَباركَ وتَعالَى-.

فاللهُ -سُبحانَه وتَعالى- خاطبَ عبادَه قائلًا: {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

إذًا: مِن أعظمِ ثَمراتِ الصِّيام: التَّقْوى -تَقوَى اللهِ-تَباركَ وتَعالَى-، والتَّقوى -كما فسَّرها بعضُ أئمَّة العِلم-: (عملٌ بِطاعةِ الله، ابتِغاءَ مَرضاةِ الله، وطمَعًا بما عندَ الله، وهي -أيضًا- انتهاءٌ عمَّا نهى اللهُ ورسولُه عنه، ابتِغاءَ مَرضاةِ اللهِ -تَباركَ وتَعالَى-).

لذلك: قال النَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «الصِّيامُ جُنَّةٌ»؛ أي: وِقاية وسترٌ.

كيف يكون الصِّيامُ جُنَّةً ووقايةً و[سَترًا] ولِسانُكَ -أيُّها المسلمُ- تَقومُ فيه بِما يُخالفُ شَرعَ اللهِ -مِن سبٍّ، أو لَغْوٍ، أو رَفثٍ، أو قَولٍ بالباطلٍ، أو كذِبٍ، وغير ذلك-؛ لذلك قال النَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «رُبَّ صائمٍ ليس لهُ مِن صيامِه -أو حظُّه مِن صِيامِه- الجوعُ والعَطشُ»! أسهلُ شيءٍ أن تجوعَ وأن تَعطشَ؛ لكنَّ الصَّعبَ والعَسيرَ -مما ليس بالسَّهل ولا باليسير-: أن تُمسِك لسانَك.

وقد رأى عُمرُ بنُ الخطَّاب -رضيَ اللهُ عنه- يومًا- أبا بكر الصِّدِّيق مُمسِكًا بلسانِ نفسِه، وقال له عُمرُ: يا أبا بكرٍ! ماذا تَفعلُ؟ قال: (لقد أَوردَني -هذَا- الموارِدَ)؛ أي: أوقعني في المصائب! وهذا مَن القائل؟! أبو بكر الصِّدِّيق -رضِيَ اللهُ عنهُ- الذي لو عُدَّت رواياتُه في الأحاديث عن النَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-؛ لَعُدَّت وأُحصِيتْ، ولو عُدَّتْ كلماتُه وجُمَلُه التي نُقلتْ في الكُتب؛ لَعُدَّت وأُحصِيَتْ، ومع ذلك يقول: (لقد أَوردَني -هذَا- الموارِدَ)؟!!

فكيف الشَّأن -حفظكُم الله-جميعًا- فيمَن يَكثر كلامُه، ويكثر سقَطُه -نسأل الله العافية-.

لذلك: كان توجيه النَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- واضحًا جدًّا: «مَنْ كانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليومِ الآخرِ؛ فلْيَقُلْ خَيرًا، أو لِيَصمِتْ»؛ ليس أمامَك إلا طرِيقان: إمَّا أن تَقولَ بِالخيرِ -مِن علمٍ، أو تعليمٍ، أو نصيحةٍ، أو تواصٍ بالحقِّ وتَواصٍ بالصَّبرِ، مِن أمرٍ بمعروفِ ونهيٍ عن مُنكَر، أو الصَّمت، وليس بين هذَيْن إلا المباحُ مِن الكلام الذي ليس فيه عليكَ وِزرٌ، وقد لا يكونُ لكَ فيه أجرٌ.

فالنَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقولُ: «مَن لَم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بهِ؛ فلَيْس للهِ عزَّ وجلَّ حاجةٌ أنْ يَدَعَ طعامَهُ وشَرابَه».

الإمامُ ابنُ حزمٍ خالف جماهيرَ أهلِ العلم؛ فقال: (الذي يقولُ الزُّورَ، أو يعملُ به؛ فإنه فاسِدُ الصَّوم، وصِيامُه باطلٌ)؛ هذا -الحقيقة- فيه غُلُو، وإن كان -لا شكَّ، ولا ريبَ- أنَّ فاعِلَ ذلك قد انتقَصَ مِن صَومِه، وقد أثَّر فِعلُه ولَغْوُه وخَطلُ كلامِه وفسادُ قولِه على أجرِه؛ بحيثُ قد لا يكادُ يَبقى له منهُ شيءٌ -نسألُ الله العافيةَ-.

وفي «صحيحِ ابن خُزيمة»: عن أبي هريرةَ -رضيَ اللهُ-تَعالى-عنهُ- قال: قال رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «لَيسَ الصِّيامُ مِنَ الأكلِ والشُّربِ»؛ أي: ليس الصِّيامُ مِن الأكلِ والشُّرب -فقط-؛ «وإنَّما الصِّيامُ مِنَ اللَّغوِ والرَّفثِ»؛ اللَّغوُ: هو الكلامُ الذي لا فائدةَ منه، والرَّفَثُ: هو الكلامُ القَبيحُ! وللأسف: ما أكثر النَّاس الذين يقولون القَول القبيحَ!! بل في بعض البلادِ -وللأسف!-نعوذُ باللهِ مِن الخذلان! نعوذُ بالله من شرِّ الشيطان! نعوذُ بالله من فَساد الإيمان!-؛ في بعض البلادِ مَن يسُبُّ الدِّينَ والرَّبَّ والنَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في نهارِ رمضان!! وقد يكون بعضُهم -لِسَفهِه، وطَيْشِهِ، وسُوءِ نفسِه، وخُبثِ طويَّتهِ- قد يكونُ صائمًا!! أيُّ صيامٍ هذا -وقد تلبَّس بهذا القَولِ الشَّنيعِ، وبهذا اللَّفظ الفظيعِ-والعياذ بالله -تَباركَ وتَعالَى-؟!

لذلك: جاء هذا الحديث عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصحبه أجمعين-.

إذًا: الصِّيام جُنَّة، وهذه الجُنَّة هي الوقايةُ والصِّيانةُ، وهذه الوقاية والصِّيانةُ هي المُوصِلةُ لك إلى التَّقوى، وإلى أن تكونَ مِن المتَّقين، وهي مِن أعظمِ وأجلِّ مَراتبِ الصَّائمين.

أما ما يُباح فِعلهُ: فأمورٌ:

أمَّا الأمرُ الأوَّل: أن يُصبحَ جُنُبًا -مِن احتلام، أو مِن مُقارفةِ أهلٍ-، وهذا شيءٌ حصل مع النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.

فعن عائشةَ وأمِّ سلمة -رضِيَ اللهُ عنهُما-: «أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- كان يُدركهُ الفجرُ وهو جُنُبٌ مِن أهلِه، ثم يَغتسلُ ويَصومُ» -والحديثُ في «الصَّحيحَين»-.

لكنْ هنا نُنبِّه إلى شيءٍ: بعضُ النَّاسِ قد يسمَعُ هذا الكلامَ، ويتوهَّم أنه يجوزُ أن يطلعَ عليه الفجرُ، ثم أن لا يستقيظَ إلا -مثلًا- في الضُّحى، أو بعد طُلوعِ الشَّمس، أو في الظُّهر، وبعضُهم يزيد إلى العَصر! هذا لا يجوز؛ لماذا؟ الصِّيامُ قد يكونُ صحيحًا؛ لكنْ انتَبِه: لقد فوَّت فريضةَ صلاةِ الفجر، وتَفويتُ صلاةِ الفجرِ مِن أعظم الكبائر؛ كما قال النَّبيُّ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «لا تَترُكَنَّ صَلاةً مُتعمِّدًا وإن حُرِّقْتَ وإنْ صُلِّبْتَ؛ فإنَّه مَن تَركَ صَلاةً مُتعمِّدًا؛ فقد بَرِئتْ مِنهُ ذِمَّةُ الله»؛ فأيُّ خللٍ أعظمُ، وأيُّ فسادٍ أشدُّ، وأيُّ إثمٍ أكبرُ وأكثرُ في هذا التَّساهل؟!

قد يقول قائل: أنا فاتني النَّوم غَلَبني النُّعاس، مع أنَّني اتَّخذتُ الأسبابَ، ووضعتُ السَّاعة، لكنِّي لم أستيقظ؛ لأني مُرهق، لأني مُتعب؛ فلم أتعمَّد هذا النَّوم؛ فالنَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقول: «ليسَ التَّفريطُ في النَّوم إنَّما التَّفريطُ في اليَقظةِ».

أيضًا السِّواكُ بالنِّسبةِ للصَّائمِ: بعضُ الفقهاء يقولُ: السِّواك بعد الزَّوال -يعني: من الظُّهر فما فوق- مكروهٌ؛ لأن النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- يقول: «لخلوفُ فَمِ الصَّائم أطيبُ عندَ اللهِ مِن رِيحِ المسكِ»، فيقولون: إذا تَسوَّك تذهبُ هذه الرَّائحةُ.

وهذا غلطٌ مِن جِهتَين:

الجِهةُ الأولى: أنَّ النَّبيَّ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «لولا أنْ أشُقَّ على أمَّتي لأمرتُهمْ بِالسِّواكِ عِند كلِّ وضوءٍ»؛ فلم يخصِّص -لا صائمًا ولا غيرَه-، ولم يُخصِّص -لا زوالًا ولا قبله-؛ إذًا: النَّص عامٌّ.

وأمَّا أن يُقال: بأن رائحةَ الصِّيام تذهب؛ فلْنقلْ: إذا ذهبتْ؛ فكانَ ماذا؟! فضلًا عن أنَّها -في الحقيقةِ- لن تذهَبَ؛ لأنَّ هذه الرَّائحةَ تَنبعثُ مِن المعدةِ ولا تنبعثُ مِن الفَم؛ وإلا: لو أردنا أن نأخذَ هذا الكلامَ على ظاهِرِه؛ نمنعُ النَّاسَ مِن أن يتمضمَضُوا في رمضان -حتى لا يذهبَ الخلوفُ-! هذا غيرُ صحيح.

وبلغني: أنَّ بعضَ النَّاسِ إذا أرادوا أن يتمَضْمَضُوا في رمضانَ بَلُّوا شيئًا من الماء في أيديهم ومَسحُوا على أفواههم!! هذا يُخشَى أن يكونَ وُضوؤُهُ باطلًا!

تتمضْمضُ وتَستَنشِقُ؛ لكنْ: كما قال النَّبيُّ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «بالِغْ في الاستِنشاق إلا أنْ تكونَ صائِمًا»؛ إذًا: أنتَ مأمورٌ بالاستِنشاق كما أنتَ مأمورٌ بالمضمضةِ لكنْ مِن غير مُبالغةٍ، المبالغة تكون في غيرِ الصِّيام.
.... [انقطاع!!] .... *

من هنا لسماع الحلقة الحادية عشرة
(جزى الله خيرًا من وفرها على الشبكة)




_________________
* ينظر تتمَّة الكلام حول (ما يُباح للصائم فعله): صفة صوم النبي في رمضان، (ص54-56)، من هنـا لتحميل الكتاب.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 08-07-2010, 12:45 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

[الحَلْقة الثانية عشرة]



إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالنَّا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إِلَه إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أما بعدُ:

فإنَّ أصدقَ الحَديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها،وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ، أما بعدُ:

فهذا -أيُّها الإخوة المُشاهِدون! وأيتُها الأخَوات المُشاهِدات!- لقاء علميٌّ جديد نتناولُ فيه أحكام شهر رَمضان، وما يتَّصل به مِن فقه الصِّيام والقِيام وغير ذلِك.

ذكرنا -في المجلس الماضي- ما يتعلَّق ببعضِ الممنوعات، وببعض المباحات -أعني: الممنوعات أثناء الصِّيام، والمباحات أثناء الصِّيام-، وذكرنا: أنَّ الممنوعات قِسمان: القِسم الأول: ممنوعات ومحرَّمات لا تُبطِل الصِّيام، وذكرنا -مثلًا- الغِيبة والنَّميمة؛ هذه وإن كانت محرَّمة على غير الصَّائم؛ فإن حُرمتها على الصَّائم أشد، لكن لو فعلها الصَّائم؛ فإنها لا تفسد صَومه.

لكن هُنالِك ممنوعات تفسد الصِّيام، وتوجِب على الصَّائم أن يَفسُد صَومُه؛ وبالتَّالي: أن تترتَّب عَليهِ بعض الأحكام المتَعلِّقة بهذا الأمر.

من ذلِك وأشهرُه: الأكل والشُّرب مُتعمِّدًا. فالله -عزَّ وجلَّ- يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]؛ فمنذ وقت الفَجر إلى وقت المَغرِب؛ الصَّائم ممنوع مِن الطَّعام والشَّراب أن يتعمَّد ذلِك.

قد يَنسى بعضُ المُسلِمين بعضًا مِن الأحكام، أو يغفل عن ذلِك، وبخاصَّةٍ في الأيَّام الأولى مِن رَمضان قد يَنسى الإنسَان نفسَه ويأكُل؛ لأنه لم يَعتدْ على الصِّيام -بعدُ- كما كان مُعتادًا على الطَّعام والأكل والشُّرب؛ فالنَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قَالَ -في هؤلاء-: «إذا نَسِي أحدُكُمْ فَأَكَلَ وشَرِب؛ فَلْيُتِمَّ صَومَه؛ فإنَّما أطعمه الله وسقاهُ».

إذًا: مَن أكل أو شَرب ناسيًا؛ فَليُتِمَّ صَومه ولا شيء عَليهِ، حتى لو أكل وشَبِع، حتى لو أكل لقمةً واحدة، أو غير ذلِك.

وهنا فائِدتان:

الفائدةُ الأولى: أن بعض النَّاس -يَجتهدون من عند أنفسهم- يقول الواحِد منهم: إذا رأيتَ إنسانًا قد نَسِي فأكل أو شَرب؛ فلا تُنكر عَليهِ؛ فإنما أطعمه الله وسقاه!

هذا غير صحيح، هذا لا يَجوز؛ بل أن لا تعلم هل هذا مُتعمِّد أم ناسٍ أم غير ناسٍ؟!

كما لو كان أحدٌ نائمًا في صلاةِ الفَجر فأذَّن؛ هل تقولُ: «إنَّما التَّفريط في اليَقظة، وليس التَّفريط في النَّوم» -كما قَالَ النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، وأن النَّائم مرفوع عنهُ القلَم، أو أنك تُوقِظه؟ وكذلِك الحال -سواء بِسَواء-؛ فيجب أن تَنهاه، فإذا كنتَ حَسَن الظن به أن تُذكِّره: تقول له: أنت تأكل وتَشرب؛ وبالتَّالي أنتَ تقدح في صومِك وتُبطله وتُفسده. هذه النقطة الأولى.


النقطة الثَّانية: بعض أهلِ العِلمِ لا يجعل الحُكم -في هذا الحَديثِ- عامًّا؛ وإنما يجعله خاصًّا بمَن كان في صومِ الفَريضَة؛ أما النَّافلة فيقول: لا يَدخل النَّص في ذلِك.

وهذا غير صحيح؛ بل نقولُ: إذا كان هذا في الفَرض، ففي النَّافلة مِن باب أولى؛ لأن ما يُتعامَل في الفَرض به أقوى مما يُتعامل فيه في النَّافلة.

فهاتان النُّقطَتان أحببتُ أن أنبِّه عَليهِما؛ مُذكِّرًا بقول النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-: «إنَّ اللهَ وضع عن أمَّتي الخطأَ والنِّسيان وما استُكْرِهُوا عَليهِ»، وهذا الحَديثِ رواه الإِمام الدَّارقُطني والحاكم وغيرهما مِن أئمة العِلم.
وأما حديثُ: «إذَا أَكَلَ أحدُكُم أو شَرِب ناسيًا»؛ فهو حديثٌ متَّفقٌ على صحَّته.

النَّوع الثَّاني مِن المُفَطِّرات: تعمُّد القَيء.

القَيء مَعروف؛ ما يَقذفه الإنسَان مِن بطنه مما يكون ذا رائحةٍ كريهة وما أشبه؛ إمَّا لفساد ما في المعدة، أو لوُجود طارئ، أو ما أشبه ذلِك؛ فالنَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقول: «مَن ذَرَعهُ القَيءُ فَليس عَليهِ قضاء، ومَن استقاء؛ فَليَقْضِ» (مَن استقاء): أي مَن تعمَّد؛ أما (مَن ذرعَهُ القَيء): أي من غلبه القيء. وهذا الحَديث في «سُنَن أبي داود»، وفي «سُنَن الإمامِ التِّرمذِي».

بعض النَّاس قد يقول: والله أنا ممكن أكون تسحَّرتُ وثقَّلتُ في الطَّعام فوجدتُ -يعني- شيئًا في معدتي هكذا؛ فأريد -يعني- أن أتعمَّد القيء حتى أرتاح! نقول: إذا ارتحتَ في شيء؛ فإنَّك تَعِبتَ في آخَر، قد ترتاح من هذا الأمر؛ ولكن أنتَ تعمَّدت القيء، ونَصُّ النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-في ذلِك- واضح «فَلْيَقْضِ»؛ بينما إذا غلبكَ القيء، وكان ذلِك دون قُدرةٍ منك ودون إِعمالٍ منك؛ فهذا -حينئذٍ- لا شيء فيه.

أيضًا: الحيضُ والنِّفاس:

إذا جاء المرأةَ حيضُها، أو جاء نفاسُها؛ فحينئذٍ نقول: بأنها تُفطِر، والحيض والنِّفاس من المُفَطِّرات، حتى لو لم يَبقَ لغروب الشَّمس إلا دقيقة واحدة.
بعضُ النِّساء تقول: أنا حِضتُ قبل الشَّمس بخَمس دقائق، وأريد أن أُتمِّم!
إتمامك وعدمُه -في ذلِك- سواء؛ لأن هذا ناقضٌ للصِّيام؛ سواء فيه الحيضُ، أو النِّفاس على حدٍّ سواء.

لذلِك: مَن صامَت لا يُجزِئُها؛ هذا جوعٌ وليس بِصيام؛ لأن الصِّيام له نيَّة شرعيَّة، وله أحكامُه، وله قواعدُه الشَّرعيَّة، ليس بالأهواء ولا بالأذواق.
والنَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- عندما سئل عما ورد عنهُ مِن قولِه: «ما رأيتُ مِن ناقِصاتِ عقلٍ ودينٍ» أي: النِّساء، فسأله بعض الصَّحابَة -رضيَ اللهُ عنهُم-: كيف نُقصانُ عقلِها ودِينِها؟ قَالَ: «أليس إذا حَاضَتْ لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟» قلنا: بلى؛ قَالَ: «فَذلِكَ نُقصَانُ دِينِها».

إذًا: نُقصان الدِّين هذا ليس مِن باب الذم؛ وإنما مِن باب الفِعل، ومِن باب الواقع: أن المرأة إذا حاضت أو نُفسَت فإنها لا تَصومُ ولا تُصلِّي؛ لكن: إذا طَهُرتْ -مِن حيضِها، أو مِن نِفاسِها-؛ فإنها تقضي الصَّوم، ولا تقضي الصَّلاة.

فجاء عن مُعاذة -وهي إحدى التَّابعيَّات- سألت أمَّ المؤمنين عائِشَة -رضيَ اللهُ عنهَا- قَالَت: (ما بالُ الحائض تقضي الصَّوم ولا تقضي الصَّلاة؟) يعني: وضعت إشكالًا قد يَرِدُ على العقل، وقد يَرِدُ على الذِّهن (ما بالُ الحائض تقضي الصَّوم ولا تقضي الصَّلاة؟)، قَالَت عائِشَة -رضيَ اللهُ عنهَا-: (أحَرُوريَّةٌ أنتِ؟!) يعني: أأنت مِن أتباع حَروراء الخوارج الذين خالفُوا النُّصوص، وخالَفُوا الأمَّة وحكَّمُوا العُقول على الشَّرع؟! والأصْل أن الشَّرع هو الحاكم على العقل، والعقل تابعٌ للشَّرع، وفي هذا أبحاثٌ طويلة ورائعة جدًّا ذَكرها شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في «دَرء تَعارُض العقل والنَّقل»، وذكرها تلميذُه الإِمام ابنُ القيِّم في «الصَّواعِق المرسَلة على الجهميَّة والمعطِّلة».

قالت: (أحَرُوريَّةٌ أنتِ؟!) قَالَت: (لستُ حَروريَّة ؛ ولكني أسأل)؛ فقَالَت عائِشَة -رضيَ اللهُ عنهَا-: (كان يُصيبُنا ذلِك) أي: الحيض أو النِّفاس -أي: نساء المُسلِمين- (فنُؤمَر) أي: يأمرنا رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- (بقضاء الصَّوم، ولا نُؤمَر بِقضاءِ الصَّلاة)، وهذا حديث مُتَّفق على صحَّته.

إذًا: حيث وَرد الأثَر بَطل النَّظر، وإذا جاء نَهرُ الله؛ بطل نَهر مَعقِل، كما قَالَ تَعالَى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّساء: 65]؛ لا بُدَّ -لنا- من التَّسليم المطلَق بما وردنا في كتاب الله، وبما صحَّ -عندنا- مِن حديث رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-؛ أما أن نقول: (كيف؟! ولماذا؟! وبسبب ماذا؟!)؛ فهذا -كلُّه- لا وجه له في الدَّليل، ولا مكان له في الهَدي والتَّنزيل.

أيضًا من المُفَطِّرات -الَّتِي يجب أن تُعلم-:

مُواقعة الرَّجل أهلَه في نهار رَمضان؛ فهذا من المُفَطِّرات، وليس فقط من المُفَطِّرات؛ بل عَليهِ الكفَّارة المغلَّظة، فمَن حصل معه مثلُ هذا الفِعل في نهار رَمضان؛ وجب عَليهِ أن يقضي يومًا، وأن يكفِّر بصِيامِ شَهرَين مُتتاليَين؛ أن يصومَ شَهرين قمريَّين مُتتاليَين؛ يعني: شهرين هِجريَّين، عقوبةً على هذا النَّقض، وعلى هذا الهتك لحرمة الصِّيام في شهر رَمضان.

لو قَالَ قائل، أو سأل سائل:

لو حصل هذا الأمر في صِيام نافِلة؟ نقول: لو حَصل في صِيام نافلة؛ فالرَّسُول -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقول: «الصَّائمُ المتطوِّع أميرُ نَفسِه: إن شاءَ صَام، وإن شاءَ أفطَر»، لكن لا يَجوز هذا في صِيام الفَريضَة، في صِيام شهر رَمضان؛ فرَمضان له حُرمتُه، وله حِكمتُه، وله مَهابتُه، وله مَنزلتُه، لا يَجوز هذا -بأي حالٍ من الأحوال، ولا تحت أي ظرفٍ من الظُّروف-، فمَن فعل ؛ فهو آثم، ويقضي يومًا، ويُكفِّر -عن فعله الشَّنيع- بصِيام شهرين مُتتاليين.

والله -عزَّ وجلَّ-يقول: {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] يعني: كما قَالَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- في الآية الأخرى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] {لَيْلَةَ الصِّيَامِ} في اللَّيل هذا شيء أباحه الله -عزَّ وجلَّ-، أما في نهار رَمضان من وقت الفَجر إلى وقت المَغرِب؛ فهذا لا يَجوز -بأي حال من الأحوال-.

وهنا حديث فيه طُرفة، وفيه لُطف، وفيه -يعني- جَمال، وبيان للرَّحمة الإلهية، وهو في «الصَّحيحَيْن»:

عن أبي هُرَيرَة -رضيَ اللهُ-تَعالَى-عنهُ-: أتاه رجل فقَالَ: يا رسولَ اللهِ! هلكتُ -وفي رواية: احترقتُ-، قَالَ: «وما أهلككَ؟» قَالَ: وقعتُ على امرأتي في رَمضان! قَالَ: «هل تستطيع أن تُعتِقَ رقبةً؟»، رسول الله -عليه الصلاةُ والسَّلام- يقول له: «هل تستطيع أن تُعتِقَ رقبةً؟»؛ يعني: مِن العبيد الذين هم ليسوا بأحرار، هل تَستطيع أن تُنفِق نفقةً تُحرِّر بها هذا العَبد؟ قَالَ: لا. قَالَ: «هل تَستطيع أن تصوم شهرَين مُتتابعين؟» قَالَ: لا. قَالَ: «هل تَستطيعُ أن تُطعِمَ سِتِّين مِسكينًا؟» قَالَ: لا، فقَالَ له -عَليهِ الصَّلاة والسَّلام-: «اجلِس» فجلس، فأُتي النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- بِعَرَق فيه تَمر؛ يعني: وعاء مليءٌ بالتَّمر، قَالَ: «فتصدَّق بهذا»؛ من الذي أعطاه؟ رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-، ومَن الذي أمره بالصَّدقة؟ رسولُ الله -صلى اللهُ عليهِ وسلَّم-، قَالَ: يا رسولَ اللهِ! ما بين لابَتَيْها أحدٌ أفقر مِنا! يعني ما بين طرفي المدينة أفقر مني ومِن زوجتي! قَالَ: فضحك النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- حتى بدت نَواجذُه.

النَّواجِذ: هي الأسنان الظاهرة في الإِمام، بعض النَّاس يتصوَّر النَّواجذ هي الطَّواحين أو الأضراس الدَّاخلية، لا؛ النَّواجذ هي الأسنان الَّتِي تبدو من طرفي واجهة الفم.

قَالَ: فضحك النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- حتى بدتْ نَواجذُه؛ فقَالَ له -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «خُذهُ فَأطْعِمْهُ أهلَك»؛ هذه هي رحمة رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- الذي وصفه ربُّه -سُبحانه وتعالى- بأنه بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم.

نقطةٌ أخرى نذكرُها -مِن باب الأمانة العِلميَّة-:

وهي حقن التَّغذية، أو إبر التَّغذية، أشرنا -في مجلس ماضٍ- أن هذه مسألة عصريَّة خلافيَّة، ورجَّحنا أن القولَ بأن الإبرَ التَّغذويَّة لا تُفطِّر؛ ولكنَّني أقولُ -الآن-: في غالب الأمر ومُعظمِه لا يَحتاج هذه الإبرَ التَّغذوية -أو المغذِّيَة- إلا مَن وجب عَليهِ الفِطرُ؛ لأنه إنْ لم يُفطِر؛ فإنه يكونُ -والحالة هذه- يكونُ مُوقِعًا نفسَه في التهلكة! وهذا لا يَجوز -بأي حال من الأحوال-.

إذًا: يَحتاط الإنسَان لنفسه -في هذا الباب- بأن لا يتصرَّف مثل هذا التصرُّف إلا في الوقت الذي يكون فيه هذه الحاجة الَّتِي تُبيح له -أصلًا- الفِطر؛ حينئذٍ: تكون المسألةُ صُوريَّةً أكثر منها حقيقيَّة.

هذا هو الإسلام، هذه هي رحمةُ الإسلام، هذه رحمةُ نبيِّ الإسلام -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- الذي قَالَ فيه ربُّه: {وَمَا أَرْسَلْناكَ إِلا رَحْمَةً لِلعالَمينَ} [الأنبياء: 107]، والذي قَالَ عن نفسِه -صلواتُ ربي وسَلامُه عَليهِ-: «إنَّما أنَا رَحمةٌ مُهداةٌ».

نسألُ الله العظيم، ربَّ العرش العظيم؛ أن يوفِّقَنا -وإياكم، وإياكن، وجميع المُسلِمين- لما فيه هُداه، واتِّباع نبيِّه ومُصطفاه -صلى الله عَليهِ، وعلى آله، وصحبه-أجمعيَّن-.

وآخِرُ دَعوانا أنِ الحَمدُ للهِ ربِّ العالَمِين.

والسَّلامُ عَليكم ورَحمةُ اللهِ وبَركاتُه

من هنا لسماع الحلقة الثانية عشرة
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 08-07-2010, 11:35 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

[الحلقة الثالثة عشرة]


إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالنَّا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إِلَه إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أما بعدُ:
فإنَّ أصدقَ الحَديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ، أما بعدُ:
فيا أيُّها الإخوة المُشاهِدون، ويا أيتُها الأخوات المُشاهِدات: السَّلامُ عَليكم ورَحمةُ اللهِ وبَركاتُه.
هذا لقاء علمي نافع -إن شاءَ الله- نتفقَّه فيه في دين الله -عزَّ وجلَّ-، كما قَالَ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-: «مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفقِّههُ في الدِّينِ».
هُنالِك أشياءُ وأحكام أراد اللهُ -عزَّ وجلَّ- منها في عبادِه ولهم اليُسرَ؛ كما قَالَ -تَعالَى-: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]؛ لكنْ: إرادةُ اليُسر هذه، وإرادة عدم العُسرِ تلك؛ كلتاهما مُرتبطتان بالشَّرع الحكيم، كما قَالَ النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «يَسِّروا ولا تُعَسِّروا»؛ أي: ضِمن ما جاء به الشَّرعُ؛ أمَّا أن نجعل لِعقولنا المنزلة، ولأهوائِنا المكانةَ الَّتِي نستحسنُ فيها ونُيسِّر فيها بِحسب ما نزعُم، وبحسب ما نتخيَّل أشياء مِن الدِّين وليست هي مِن الدِّين، أشياء من التَّيسِير وليست هي من التَّيسِير، أشياء من التَّسهيل -في بعضِ الأمور- والرُّخَص وليست هي مما سهَّل اللهُ -تَعالَى- به، أو رسوله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- في موضوع الرُّخَص؛ فهذا لا يَجوز؛ الأمرُ كلُّه مَنوطٌ بأحكام الله، ومَنوط بما صحَّ وثبت عن سُنَّة رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-.

فهُنالِك -كما قلتُ- رُخَصٌ في الصَّوم يجب أن نَذكرَها، ونتنبَّهَ إليها، ونُنبِّهَ عَليهِا:

منها: المُسافِر.

فالمُسافِر يَجوز له أن يُفطِر، كما يَجوز له أن لا يُفطر -بحسب الأوفق له، والأفضل له-.

بعض النَّاس يقول لك: واللهِ؛ أنا سفري سريع، ولا يُتعِبني ولا أجدُ مشقةً.

فنقول: يَجوز أن تصوم؛ لكن: يَجوز أن تُفطِر؛ فلو أفطرتَ لا أحد يُنكر عليك؛ وقد ورد عن الصَّحابَة -رضيَ اللهُ-تَعالَى-عنهُم- أنهم كانوا يُسافِرون، قَالَ الصَّحابي: (فمِنَّا الصَّائم ومِنا المفطِر، فما كان يُنكر مُفطِرُنا على صائمِنا، ولا يُنكِر صائمُنا على مُفطرِنا)، لذلِك: النص القُرآن: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].

وهُنالِك صحابيٌّ اسمه حمزةُ بن عمرو الأسلمي -رضيَ اللهُ عنهُ- سأل رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- قال: (يا رسولَ الله! أأصوم في السَّفر؟)، وكان كَثِير الصِّيام -رضيَ اللهُ عنهُ-، وهذه خصلة نادرة! والصِّيام غنيمة مِن غنائم الخير يغتنمُها المُسلِم في شبابِه، وفي قوَّته، وفي صِحتِه، وفي الأيَّام المبارَكة الَّتِي فيها مِن الأجرِ والخير له ما لا يَعلمُه إلا الله. .

كان حمزة بن عمرو الأَسلمِي كَثِير الصِّيام، فسأل رسول الله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- هذا السؤال: (أأصومُ في السَّفر؟) فقَالَ له -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «صُمْ إن شئتَ، وأفْطِر إن شِئتَ»؛ فجعل الأمر متَعلِّقًا بمشيئتِه، ورغبتِه، والأحسنِ له، والأوفَق به، والأرفق به -أيضًا-.

والله -سُبحانَهُ وتَعالَى- أوحى على لِسَان نبيِّه -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-كما في الحَديثِ الذي رواهُ أحمد وغيره- قولُه -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «إنَّ اللهَ يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُهُ كما يُحبُّ أن تُؤتَى عزائِمُه», وفي رواية: «إنَّ اللهَ يُحبُّ أن تُؤتَى رُخصُه كما يَكرهُ أن تُؤتَى مَعصِيتُه».

إذًا: حتى الذي اعتاد في السَّفر الصِّيام يُسنُّ له -أحيانًا- مِن باب هذه المحبَّةِ الإلهيَّةِ للرُّخصَة -أحيانًا- أن يترخَّص في هذا السَّفر في بعض وقتِه وفي بعض أيَّام صَومِه؛ هذا مِن باب استعمال السُّنَّةِ كما ورد عن رسولِ الله -صلى الله عَليهِ وعلى آله وصحبه وسلم-.

وهُنالِك عن أبي سعيد الخدري -رضيَ اللهُ-تَعالَى-عنهُ-: أنه قَالَ -كما في «سُنَن التِّرمذِي»-: (كان الصَّحابَة يَرَون أنه مَن وجد قوةً فصام؛ فحَسَنٌ، ومَن وجد ضعفًا فأفطرَ؛ فحَسَنٌ)؛ هذا يُشير إلى ما ذكرتُه -قبل قليل-؛ وهو الأرفق به، والأوفَق له. الأوفق والأرفق إذا كنتَ ذا قوة: أن تصوم، لو أفطرت لا نُنكر عليك؛ لكن نتكلم -الآن- عن الأفضل. والأوفق والأفضل إذا وجدتَ ضعفًا ووَهنَ جِسمٍ، وأن ذلِك قد يُضعفُك أو يُمرِضك، أو -على الأقل- يُقلِّل حركتَك ونشاطَك -طبعًا نتكلم عن المُسافِر الذي له الرُخصَة الأصْليَّة-؛ فحينذٍ نقول: إفطارك أفضل، لو صمتَ لا نُنكر؛ لكن الأولى والأفضل -طالما أنه قد يُؤدي إلى شيء من الوَهَن- أن تُفطر خير لك. والله تَعالَى أعلم.

هنا نُقطة: وهي أن النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- قَالَ: «ليسَ مِن البِرِّ الصِّيام في السَّفر»، وهذا حديث في «الصَّحيحَيْن».

هُنالِك بعض الكتب الفِقهية تَروي هذا الحَديثَ بِلفظٍ آخَر؛ وهو لغةُ حِمْيَر- يَقلِبون اللامَ مِيمًا، ويَجعلون ذلِك منقولاً عن النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-: «ليس مِن امْبِرِّ امْصيام في امْسَفَر». نفس الحَديثِ لكن بِقلب اللام ميمًا، وهي لغة حِمْيَر من أهل اليمن؛ لكن هذه الرِّوايَة لا تَصِح ولا تثبت عن النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وآله وسلَّم-؛ وإنما الصَّحيح الثَّابت: رواية «الصَّحيحَيْن»: عن جابر -رضيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: «ليس مِن البِرِّ الصِّيامُ في السَّفر».

بعضُ النَّاس يَستدل بهذا النَّصِّ مُفضِّلًا الفِطر على الصِّيام: «ليس مِن البِر الصِّيام في السَّفر»؛ إذًا الفِطر هو الأفضل. وهذا كلام يحتاج إلى نَظر.

فلهذا الحَديثِ سبب وُرُودٍ: الرَّسُول -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- لما قَالَه كان هُنالِك وضْعٌ مُعيَّن وحالة معيَّنة؛ وهي: أنه جاء الرَّسُول -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- إلى رجل مُغمًى عَليهِ، وقد ظُلِّل عَليهِ، أتوا عَليهِ النَّاس ووضَعُوا ظِلًّا -[شيئًا] ينفي عنهُ الشَّمس وحرارتها-؛ فسأل النَّبي -عَليهِ الصَّلاة والسَّلام-مِن رحمته بأمَّتِه-صلوات الله وسلامُه عَليهِ-: «ما شأن هذا الرَّجل؟»، قَالَوا: (صائم في السَّفر). صائم في السفر؛ يوقعك السَّفر بهذا الشَّيء الذي يكاد يوقِعُك في الهلاك؟! فقَالَ -حينئذٍ -عَليهِ الصَّلاة والسَّلام-: «لَيس مِن البِرِّ الصِّيام في السَّفر»، كأنه يقول: مَن كان على مِثل هذا الحال؛ فليس مِن البِرِّ الصِّيام في السَّفر له؛ أمَّا مَن قَدر، وليس عَليهِ حرج، ولا هو مُوقِع لنفسِه بمثل هذا الإنسَان -رضيَ اللهُ عنهُ وأرضاهُ-؛ فحينئذ نقول له: الأمر واسع؛ إذا صمتَ أفضل، وإذا أفطرتَ فيَجوز لك، أمَّا إذا كان الصِّيام سيوقعك بمثل هذه الصورة وبمثل هذه الحالة؛ فهذا لا يَجوز.

بعض النَّاس يقول في موضوع الصِّيام في السَّفر، أو في حدِّ السَّفر، يقول: قديمًا كان السَّفر على الخيول -مثلًا-، أو على الدوابِّ والجمال، واليَوم عندنا أمور كَثِيرة، عندنا: الطائرات، وعندنا الباصات، ووسائل الرَّاحة، وكَثِير من الأمور المسهِّلة؛ فلعل هذه الأحكام كانت لِتلك الأيَّام دون هذه الأيَّام؟!

هذا كلام غلط؛ لأن اللهَ -تَعالَى- يقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، ويقول -سُبحانَهُ وتَعالَى-: {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. إذًا: هذا مَوكُول بِعلم الله -عزَّ وجلَّ-، وعلم الله -عزَّ وجلَّ- علم عظيم شامل لما كان، وما يكونُ، وما هو كائن، وما لم يَكن لو كان كيف كان يكون؛ كل ذلِك معلوم عند الله -تَبارَك وتَعالَى- في عِلمه العظيم الذي كما قَالَ -سُبحانَهُ وتَعالَى-عن نفسِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ليس كعِلمِه عِلم، وهو العليم، وهو الغفور، وهو العلي، وهو العظيم -جل في علاه وعظم في عالي سَماه-.

بقي أن نذكر نقطة أخرى، وهي مهمَّة -أيضًا-: وهو ما يتعلَّق بحدِّ السَّفر.

اختلف أهل العِلم متى يُسمى المُسافِر مُسافِرًا، وفي ذلِك أقوال متعدِّدة؛ لكنَّ القول الذي رجَّحه شيخُ الإسلام ابن تيميَّة -رَحِمهُ اللهُ- يُشير إلى الانتصار إلى قول مَن قَالَ بأن الألفاظ اللُّغَويَّةَ الواردةَ في القُرآن والسُّنَّة يجب أن تُعامَل بحسب ما يَتعارف عَليهِ الصَّالحون مِن النَّاس.

لم يأتِنا حدٌّ يُضبط به المَرَض، كما لم يأتِنا حدٌّ يُضبَط به السَّفر؛ لكنْ: تَعارُفُ النَّاس على سَفرٍ معيَّن وعلى مسافة معيَّنة أنها سَفر؛ فهي السَّفر.

وهذا العُرف قد يختلف باختلاف الزَّمان والمكان؛ اختلاف الزَّمان أيَّام رسول الله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، حتى ما بعده أيَّام أن لم يكن هُنالِك -مثلًا- إلا القطارات البخاريَّة، أيَّام لم يكن هُنالِك إلا السَّيَّارات القديمة، أو الدَّراجات؛ هل هي كمِثل هذه الأيَّام؟! الجواب: لا. والله أعلم ماذا يُخبِّئ الغيبُ لنا مِن أمور قد تختلف بها أعرافُ النَّاس وأنظارهم في إدراك مسألة معيَّنة، أو لفظٍ لُغويٍّ مُعيَّن بحيث يكون العُرف هو الضَّابط له.

إذًا: الأصْل في المُسلِم الذي رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمَّدٍ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- نبيًّا ورسولًا أن يُقِرَّ، وأن يستسلم، وأن يَقول بلِسَان الحال والمقَالَ: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] لا خيرةَ أمام النَّصِّ، ولا اختيار أمام الحُكم الشَّرعي؛ فالحكم الشَّرعي إنما نتلقَّاهُ لنُنفِّذَه، إنما نقبله لِنلتَزِمَه، لا نأخذ الحُكم ثم نُفكِّر في المصالح والأمور الشَّخصيَّة والأمور الذاتيَّة: (هذا حسن! وهذا أحسن! هذا مقبول! وهذا غير مقبول!)؛ هذا باطل! ليس على هذا الصَّحابَة، وليس على هذا التَّابعون، وليس على هذا تابِعوهم، وهم خير النَّاس، وهم أعظم النَّاس، وهم جِيل القُدوة، وهم جيل الأُسوة، والجيل الأكمل الأتمُّ -رحمهم الله، ورضيَ اللهُ عنهُم أجمعين-.

فلذلِك الواجبُ علينا -نحن المُسلِمين- إذا تلقَّينا الحُكم عن الله أو عن رسولِه: أن نَقبلَ ذلِك.
كذلِك -أيضًا- المريض. ما قلناه في المُسافِر نقولُه في المريض: كل مريض مرضًا قد يُؤثِّر عَليهِ فيه صَومُه؛ فيجب أن يُفطر. فإذا أفطر يجب أن يَقضي، إلا في حالة واحدة: إذا كان مرضُه مُزمنًا؛ بحيث لا يُرجى بُرؤُه ولا يُرجى شفاؤه، فمَن كان مريضًا مرضًا مزمِنًا -لا يُرجى شفاؤُه، ولا بُرؤه-؛ فأرجح الأقوال فيه عند أهل العِلم: أنه يُطعِم عن كل يوم مِسكينًا.

وكذلِك -كما ذكرنا قبل قليل- الحائض والنُّفَساء -أيضًا- يجبُ أن تُفطِرا -لا نقول كما قُلنا في المُسافِر يَجوز أن يُفطر-؛ الحائض والنُّفَساء يجب أن تُفطِرا؛ لأن النَّصَّ في ذلِك واضح -كما ذكرنا-.

انتهينا من موضوع الحائض والنُّفَساء، والنَّصُّ فيها واضح.

الشيخ الكَبير والمرأة العجوز؛ بحيث لا يستطيعان الصِّيام، وهما فانِيان؛ هذان يَدخلان في ضمن قوله -تَعالَى-: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]؛ وبالتَّالي كما قَالَ ابن عبَّاس: (الشيخ الكَبير، والمرأة الكَبيرة لا يستطيعان أن يصوما؛ فيطعمان مكان كل يوم مسكينًا).

وما قلناه في الشَّيخ الكَبير والمرأة العجوز الفانية؛ نقولُه في الحامل والمرضع؛ فالحامل والمرضِع -أيضًا- تُفطِران -لسبب ما هم عَليهِ من وَهن، ومن ضعف، ومن ظرف، {وَهْنًا على وَهْنٍ}-، وتُطعمان مكان كلِّ يوم مسكينًا.

وفي ذلِك آثار متعدِّدة عن السَّلف، وإن كانت المسألة خلافية؛ لكن الرَّاجح هو هذا.
وأقولُ هذا، وأسأل الله -لي ولكم- التَّوفيق والسَّداد.
والسَّلامُ عَليكم ورَحمةُ اللهِ وبَركاتُه.

من هنا لسماع الحلقة الثالثة عشرة
رد مع اقتباس
  #14  
قديم 08-09-2010, 10:31 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

[الحَلْقة الرابعة عشرة]




إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالنَّا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إِلَه إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أما بعدُ:

فإنَّ أصدقَ الحَديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ، أما بعدُ:

فهذا -إخواني المشاهدين! وأخواتي المُشاهِدات!- لقاء نتفقَّه فيه في دين الله -عزَّ وجلَّ-، والنَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- يقول: «طلبُ العِلم فريضةٌ على كل مُسلم».

ذكرنا الإفطار بالنِّسبَة للصَّائم، ومتى يفطر، وأن ذلِك مرتبط بغروب الشَّمس، كما قَالَ النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-: «إذا أقبلَ اللَّيل مِن ها هنا، وأدبر النَّهارُ مِن ها هنا؛ فقد أفطر الصَّائم»؛ فهذه ثلاث صِفاتٍ هي الموجِبة -باجتماعها- لفِطْر الصَّائم.

قوله: «فقد أفطَرَ الصَّائمُ»؛ أي: حُكمًا؛ صار في حُكم المفطِر -حتى لو لم يأكُل-، فبعض النَّاس يقولون: نحن نريد الاحتِياطَ! فيَزيدون! فهذا الاحتياطُ جُوعٌ زائد! فالحُكم: أنك مُفطِرٌ بِمجرَّد غِياب الشَّمس الغِيابَ الحقيقيَّ عن عينَيْك والذي فيه إقبالُ اللَّيل وإدبارُ النَّهار -جميعًا-.

وروى عبدُ الرزَّاق الصَّنعانيُّ -رَحِمهُ اللهُ- في «مُصنَّفِه» عن التَّابعي عمرو بن ميمون الأودي -رَحِمهُ اللهُ- قَالَ: (كان أصحاب رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- أسرع النَّاس إفطارًا، وأبطأهم سُحورًا). وذكرنا ما يتعلَّق بتأخير السُّحور -مِن قبلُ-.

والنَّبيُّ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- يقولُ -كما يَرويهِ سَهلُ بنُ سعدٍ -رضيَ اللهُ عنهُ-في «الصَّحيحَيْن»- قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-: «لا يَزالُ النَّاسُ بِخيرٍ ما عجَّلوا الفِطْرَ»؛ فانظروا إلى رَبطِ الخيريَّة بتعجيلِ الفِطرِ.

وهذه السُّنَّة، وهذا التَّعجيل: المَقصُود به عدمُ التَّأخُّر عن الطَّعام أو الشَّراب بعد غُروب الشَّمس، فلا يَجوز أن يَتوهَّمَ مُتوَهِّمٌ أنه بِتعجيلِه يَجوزُ أن يَكون ذلِك قبل غروبِ الشَّمس! هذا يُعرِّضُ صِيامَه للفسادِ -عِياذًا بالله-.

وأيضًا: في روايةٍ أُخرى عن سَهل بنِ سعدٍ -رضيَ اللهُ-تَعالَى-عنهُ-نفسِه- في «ابنِ حبَّان»- قَالَ: «لا تَزالُ أمَّتي على سُنَّتي ما لم تَنتظِر بِفِطرِها النُّجومَ».

بعض النَّاس يؤخِّر! وهذا -للأسَف!- بعض الفِرَق المنتسبةِ إلى الإسلام تَفعلُه في المَغرِب، ليس-فقط- في الإفطار؛ بل حتى في الصَّلاة! وهذا: الأصْل أنه لا يَنبغي؛ لذلِك قَالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «لا تَزالُ أمَّتي على سُنَّتي ما لم تَنتظِر بِفِطرِها النُّجومَ». . مِن باب الاحتياط! ومن باب التحقُّق! ولا أدري إلى غير ذلِك مِن أشياء ما أنزل اللهُ بها من سلطان.

وروى الإِمام أبو داود في «سُنَنه»: عن أبي هُرَيرَة -رضيَ اللهُ-تَعالَى-عنهُ- قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-: «لا يزالُ الدِّينُ ظاهِرًا» أي: مُنتصِرًا، ومرفوعًا لِواؤُه، وعاليةً رايتُه «ما عجَّل النَّاسُ الفِطر»؛ لأن اليهود والنَّصارَى يُؤخِّرون، ونحن مُطالَبون بمُخالفة اليهود والنَّصارَى، وبِموافقة نبيِّ الإسلام ورِسالة الإسلام وهَديِ الإسلام ورَحمةِ الإسلام الَّتِي هي الدِّينُ الوَسَط، من غيرِ غُلوٍّ ولا تَقصير، ولا إفراطٍ ولا تفريط، كما قَالَ -سُبحانَهُ وتَعالَى-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

وروى أبو الدَّرداء -رضيَ اللهُ عنهُ-: عن رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-كما في «مُعجمِ الطَّبراني الكَبير» بالسَّند الصَّحيح- قَالَ: «ثلاثٌ مِن أخلاق النُّبوَّة»، وأخلاقُ النُّبوَّةِ: هي الحدُّ الأعلى الذي ما بعدَهُ حَدٌّ في أخلاق بني الإنسَان وفي آدابِهم وفي سلوكيَّاتهم، فكيف إذا عرفنا أن رسولَ الإسلام -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقولُ: «إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ مَكارمَ الأخلاق»، «إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ صالحَ الأخلاق»، «إنَّما بُعثتُ لأتمِّمَ حَسنَ الأخلاق»؛ كل ذلِك بيان لأهمية الخلُق.

قَالَ أبو الدَّرداء: قَالَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-: «ثلاثٌ مِن أخلاق النُّبوَّة: تَعجيلُ الإفطار، وتأخيرُ السُّحور، ووضعُ اليَمين على الشِّمال في الصَّلاة».

هذه من أخلاق النُّبوَّة الَّتِي قصَّر فيها، وتساهل بشأنها كَثِير من النَّاس -وللأسف الشَّديد!-.

النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- كان يعجِّل فِطرَهُ؛ وذلِك قبل الصَّلاة، وليس المَقصُود بالفِطرِ يعني أن تُوضَعَ الموائدُ وأصنافُ الشَّرابِ والطَّعام -كما يفعلُ أكثرُنا-؛ ولكنَّ المَقصُودَ بالفِطرِ هو شيء من التَّمر، أو شيءٌ مِن الماء، ثم يُصلِّي، ثم إذا أراد أن يرجعَ بعد الصَّلاة؛ فليفعلْ ما يشاء.

فالرَّسُول -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- كما يَروي أنس -رضيَ اللهُ عنهُ-في «مُسنَد الإِمام أحمد»، و «سُنَن أبي داود»- قال: (كان النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- يُفطِر قبل أن يُصلِّي عَلى رُطبات)؛ الرُّطَبُ: هي البلَحُ عند نُضجِه قبل أن يصير تمرًا، هذه هي الرُّطب (فإن لم يكن رُطبات؛ فتَمراتٌ)؛ التَّمر: هو المجفَّف، «فإن لم يكن تمرات؛ حسا حسواتٍ من ماء» شرِب جرعات يسيرة من الماء -صلى الله عَليهِ وآله وسلم-.

لذلِك: الحث على الفِطر بالتَّمر له فوائد -حتى- طبية؛ لأن الإنسَان يَفقِد السُّكرِّيَّات، وبالتَّالي إذا أفطر عَلى رُطبات أو على تَمر؛ فإنه سرعان ما يستعيد نشاطَهُ بهذه الرُّطبات، والله -تعالى- يقول: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-، حتى النَّاحية البدنيَّة أَوْلاها رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- الاهتمام والتَّنبيه.

مِن السُّنَّةِ إذا أفطر أن يَدعوَ: فالنَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يقولُ: «إن للصَّائِمِ عِند فِطرِهِ لدَعوةً لا تُرَدُّ» وهذا الحَديثِ رواه ابن ماجة وغيرُه.

وأفضل الدُّعَاء ما ورد عن رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- لما قَالَ: «ذَهَبَ الظَّمأ، وابتلَّت العُروقُ، وثبت الأجرُ إن شاءَ اللهُ»، هذا الدُّعَاء هو الثَّابت عن النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-.

بعض النَّاس يَروي دعاءً آخر: (اللَّهمَّ! لك صُمتُ، وعلى رِزقك أفطرتُ) هذه الزِّيادَةُ -في الحقيقةِ- لا تصحُّ ولا تَثبت عن رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-، وكما قَالَ عبدُ الله بنُ المبارَك: «في الحَديثِ الصَّحيح غُنيَةٌ عن الحَديثِ الضَّعيف».

وعن أبي هُرَيرَة أن رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- قَالَ: «ثلاثُ دعواتٍ مُستجابات: دعوةُ الصَّائم، ودعوةُ المظلوم، ودَعوة المُسافِر»؛ فالصَّائم يَجوز أن يدعو بهذا الدُّعَاء المشروعِ المسنون المتَعلِّق بالفِطر، ثم يَجوز أن يدعوَ لنفسه أو لغيره مِن خيرِ الدُّنيا والآخرة.

أيضًا: هُنالِك دعاء آخر؛ لكنه ليس متَعلِّقًا بنفسِك -أيُّها الصَّائم!- ولكنه متَعلِّق بالآخرين؛ فنحن نرى أبواب الخير تُفتح، وتراحُم النَّاس يَكثُر -ولله الحمدُ- في شهر رَمضان، فيدعو النَّاس بعضُهم بعضًا، ويَتزاوَرون، ويُفَطِّر بعضُهم بعضًا؛ حتى السُّحور -أحيانًا- يدعو بعضُ النَّاس بعضَهم على طعام السُّحور؛ مِن باب الرَّحمَة والمودَّة الَّتِي يجبُ أن تكونَ في الأمَّة.

فالنَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قَالَ: «مَن فطَّر صائمًا كان له مِثلُ أجْرِهِ غير أنَّه لا ينقصُ مِن أجر الصَّائم شيئًا»، وهذا الحَديثِ رواه أحمد -رَحِمهُ اللهُ- في «مُسنَده».

إذًا: إذا فطَّرتَ صائمًا كان لك مِثلُ أجرِهِ.

وأنت -أيُّها الصَّائم الذي دَعاك أخوكَ- إذا أفطَرتَ عند الدَّاعي لكَ؛ يُسَنُّ لك أن تدعوَ له؛ فالنَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- علَّمنا دعاءً أننا إذا طعِمنا عند أحدٍ مِن النَّاس طعامًا -سواء كان طعام إِفطارٍ أو غير إفطار- أن نقولَ: «أكلَ طعامَكُم الأبرارُ، وأفطَر عِندكُمُ الصَّائِمون، وصلَّت عَليكُم المَلائِكة».

وفي حديث آخَر: علَّمنا رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- أن نقول: «اللَّهمَّ! اغفِرْ لهم، وارحَمْهُم، وبارِك لهم فيما رَزَقتَهُم».

الرِّوايَة الأولى فيها تَنبيهٌ «أكلَ طعامَكُم الأبرارُ، وأفطَر عِندكُمُ الصَّائِمون، وصلَّت عَليكُم المَلائِكة»: بعض النَّاس يَزيد: «وذَكَرَكُم اللهُ فيمَن عندَه» هذه الزياة لا تصحُّ -أصلًا- في هذا الحَديثِ؛ بل لم تَرِد مُطلقًا؛ وإنما وردت في حديثٍ آخر ليس له علاقَة ولا أدنى صلةٍ بهذا الحَديثِ.

إذًا: السُّنَّة في ذلِك أن تُجازي أخاك الدَّاعي لك بهذه الدَّعوة الطَّيِّبة الَّتِي يَكتب الله -عزَّ وجلَّ- لك فيها الأجر.

هنا -أيضًا- أمرٌ مُهمٌّ جدًّا، وهو متَعلِّق بموضوع الصِّيام والإفطار، وهي متَعلِّقة بالقَضاء:

ذكرنا مَن أفطر لعُذرٍ شرعيٍّ؛ فهذا الذي أفطر لعُذرٍ شرعيٍّ عَليهِ القَضاء، حتى الذي تعمَّد الفِطرَ ونقْضَ الصِّيام؛ هذا آثِم؛ لكن عَليهِ القَضاء.

بعض أهلِ العِلمِ يقول: يأثم ومِن شدة إثمِه لا نَأمرُه بالقَضاء.

لكن -الحقيقة- أن الرَّاجح عندي -والله-تَعالَى-أعلم-: أن من تعمَّد الفِطر يأثمُ، ويُلزَمُ بالقَضاء؛ كما مرَّ بنا في حديث: «مَن ذَرَعَهُ القَيءُ فليس عَليهِ قضاء، ومَن استقاءَ فَلْيَقْضِ»؛ هذا تعمَّد، إذًا: سواء تعمَّد الفِطر بأنه تعمَّد القيءَ، أو تعمَّد الأكل، أو تعمَّد أن يأتيَ أهلَه -كما في الحَديثِ الآخَر: (أمره بصيام شهرَين مُتتاليين)، وفي رواية: (وليقض يومًا مكانَه).

إذًا: المُفَطِّرات واحدة؛ لكن التَّعمُّد فيه إثم، ويَعظمُ الإثم بِعِظمِ الذَّنب، وأمَّا غيرُ التَّعمُّد وهو العُذر، أو الإفطار بسبب عُذر؛ فهذا عَليهِ القَضاء.

أول نقطة في أحكام القَضاء نذكُرها: ما يتعلَّق بالمبادرةِ؛ فالأصْل: المبادرة بالقَضاء.

كَثِير من النِّساء -وللأسف- تُؤخِّر قضاءَها -عن حيضٍ، أو نفاسٍ- إلى شعبان! وبَعضُهنَّ إلى النِّصفِ الأخير مِن شعبان! هذا مخالف لعموم النُّصوص القُرآنيَّة: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، وفي مِثل قولهِ -تعالى-: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون: 61]، {سَابِقُوا} [الحديد: 21]؛ كل هذا يُبيِّن أنَّنا ينبغي علينا أن نستعجِل.

لكنْ: بعضُ النَّاس قد يكون عنده عُذر؛ فهذا العُذر لو أخَّر بسبب عُذرِه أرجو أن لا بَأس -إن شاءَ اللهُ-تَعالَى-.

لكن: إذا كان غيرَ مَعذورٍ، ثم تَهاوَن في قضائِه حتى يأتي رَمضان الآخَر، ثمَّ أراد أن يقضيَ بعد ذلِك؛ فقد نقلَ الإِمامُ ابنُ قدامةَ في «المُغني» عن الصَّحابَة -رضيَ اللهُ عنهُم-: أنهم كانوا يُلزِمون مَن فعل ذلِك -مُتهاونًا، مُتساهِلًا- بالقَضاء، والكفَّارة (الفدية)؛ فإذا أفطرَ ثلاثة أيَّام يَصومُ ثلاثة أيَّامٍ ويُطعِمُ ثلاثةَ مَساكين. إذا عشرة أيَّام يَصوم عشرة أيَّام مكانَها وعشرة مساكين يُطعِمُهم. لكن هذا -كما قلتُ- إذا أخَّر -عن تَساهُلٍ- إلى ما بعد رَمضان القابِل.

بعض النَّاس -مِن النِّسوة- يَستدلِلنَ بِأثرٍ عن عائِشَة -رضيَ اللهُ-تَعالَى-عنهَا-في «الصَّحيحَيْن»-: أنها قَالَت: (كان يكونُ عليَّ الصَّوم من رَمضان؛ فما أستطيعُ أن أقضيَهُ إلا في شعبانَ).

أوَّلًا: تقولُ: (فما أستطيعُ)؛ هذه إشارة مُهمَّة جِدًّا إلى أنَّها لو استطاعتْ؛ لعَجَّلتْ؛ فلا يَجوز أن نستدلَّ بهذا الحَديثِ -أصلًا- على التَّساهُل، أو التَّهاوُن، وبخاصَّة أن هُنالِك رواية: (لِما كان يَشغلنِي مِن شأن رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-)؛ إذًا: اشتغالها وخِدمتها لِنبيِّها ورسولها وزوجِها -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- كان هو مِن أعظم الأسبابِ الَّتِي لم تجعَلْها تستطيعُ القَضاءَ -رحمها اللهُ، ورضيَ عنهَا، وألحقنا بها في الصَّالحين مِن عباده-.

بالنِّسبَة لهذا القَضاء: هل مَن كان عَليهِ ثلاثة أيَّام؛ هل يصَومها مُتتالِيَة؟ أو أسبوع: هل يصَومه متتاليًا؟ أم يَجوز التَّفريق؟

قَالَ ابن عبَّاس: لا بأسَ أن يفرِّقَ، قَالَ ذلك في تفسير قوله -تَعالَى-: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].

أمَّا ما يُروَى أن الرَّسُول -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قَالَ: «مَن كان عَليهِ صومٌ من رَمضان؛ فَليَسردهُ ولا يُقطِّعه»؛ فهذا حديث ضعيفٌ، ولا يصحُّ عن النَّبي -صلى الله عَليهِ وعلى آله وصحبه أجمعيَّن-.

والإِمام أحمد -الإِمام المبجَّل، إمام أهل السُّنَّة-رَحِمهُ اللهُ- يَروي عنهُ أبو داود صاحب «السُّنَن» -وهو تلميذُه- أنه قَالَ -وقد سُئل عن قضاء رَمضان-: (إن شاءَ فَرَّق، وإن شاء تابَعَ).

إذًا: يَجوز التَّفريق، وإن أحد أراد المتابعة؛ فلا مانع مِن المتابعة، لكنَّنا نتكلَّم عن الجواز، حتى لا يُشدِّدَ بعض النَّاس على أنفسِهم، وقد صحَّ عن رسول الله 0صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- أنه قَالَ: «لا تُشَدِّدوا على أنفسِكُم؛ فيُشدِّد اللهُ عليكم».
ثمة بعض أحكام للقضاء نذكرها في المجلس القادم -إن شاء الله-.
أسأل الله -عزَّ وجلَّ-لي ولكم- التَّوفيق والسَّداد، والهدى والرشاد؛ إنه -سُبحانَهُ- ولي ذلِك والقادر عَليهِ.

وصلَّى اللهُ، وسلَّم، وبارَك على رسولِ اللهِ، وعلى آلِه، وصحبِه -أجمعين-.
وآخِرُ دَعوانا أنِ الحَمدُ للهِ ربِّ العالَمِين.

والسَّلامُ عَليكم ورَحمةُ اللهِ وبَركاتُه.

من هنا لسماع الحلقة الرابعة عشرة
رد مع اقتباس
  #15  
قديم 08-10-2010, 07:08 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

[الحَلْقة الخامسة عشرة -والأخيرة-]



إنَّ الحمْدَ للهِ، نَحمدُهُ، ونَستعينُه، ونَستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا، وسيِّئاتِ أعمالنَّا، مَن يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِي له، وأشهدُ أن لا إِلَه إلا اللهُ، وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، أما بعدُ:

فإنَّ أصدقَ الحَديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها،وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ، أما بعدُ:
فهذا لقاؤنا الأخير -في هذه السلسلة المبارَكة -إن شاءَ اللهُ- في أحكام الصِّيام وفِقه الصِّيام، والَّتِي تناولنا فيها أطرافًا شتَّى مِن مسائل هذه الفَريضَة المهمَّة -في هذا الشَّهر العظيم-.
ولَئن كُنَّا أخذنا على أنفسِنا الاختصارَ والتَّرجيحَ -حسب الدَّليل-؛ لكنَّ القولَ في مسائل الصِّيام لو أردنا أن نَتناولَه بالتَّفصيلِ، وبالشَّرحِ، وبالمناقشة، وبالتَّعليق والتَّعليلِ، والأخذِ والرَّدِّ؛ لأخذ ذلِك جانبًا كَبيرًا من الوقت؛ لكن فيما ذكرنا كفاية -إن شاءَ اللهُ-.
ذكرنا موضوع (القَضاء)، وقلنا بقيتْ أحكام.
الحُكم المتَعلِّق -وهو دقيقٌ في موضوعِ القَضاء-: ما ورد عن النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- مِن قولِه: «مَن ماتَ وعَليهِ صَومٌ صامَ عنهُ وَليُّهُ».

هذا الحَديثُ مَرويٌّ عن السَّيِّدة عائِشَة -رضيَ اللهُ عنهَا- في «الصَّحيحَيْن»، وهنالك حديث آخر عن ابن عبَّاس -أيضًا في «الصَّحيحَيْن»- أنه -رضيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: جاء رجلٌ إلى النَّبي -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-، قَالَ: يا رسولَ اللهِ! إنَّ أمي ماتتْ وعَليها صَومُ شهرٍ؛ فأقضِيهِ عنهَا؟ قَالَ: «نعم، فَدَيْنُ اللهِ أحقُّ أن يُقضَى».

اختلف أهل العِلم في هذين الحَديثَين:

هل المَقصُود بـ(مَن كان عَليهِ صَوم) أيُّ صومٍ -سواء كان صوم رَمضان أم غيره-؟ أم المَقصُود هو صوم النَّذر الذي يُلزِم الإنسَان به نفسَه؟

اختلفَ أهلُ العِلم في ذلِك؛ ولكنَّ الرَّاجح ما تُبيِّنُه الأحاديثُ الأخرى.

فعن عائِشَة -رضيَ اللهُ-تَعالَى-عنهَا-وهي راوية الحَديثِ الأوَّل-: عن عَمْرَةَ، سألت عَمرة عائِشَة: أن أمَّها ماتت وعَليها مِن رَمضان؛ يعني: هُنالِك أيَّام من رَمضان لم تَصُمْها؛ فقَالَ لعائِشَة: أَقضِيهِ عنهَا؟ تَقضي هذه الأيَّام عنهَا لأنَّ أمَّها ماتتْ قبل القَضاء؟ قَالَت: (لا؛ بل تصدَّقي عنهَا مكانَ كلِّ يومٍ نِصْفَ صاعٍ على كلِّ مِسكين)؛ يعني: ما يُشبع المسكين؛ كل يومٍ أفطرتْ فتَفدِي عنهَا هذه الفِدية.

إذًا: لم تأمرها السَّيِّدة عائِشَة بالقَضاء؛ أي أن تقضي عنهَا.

فهذا تفسير من راوية الحَديثِ -رضيَ اللهُ عنهَا-نفسِها-وهي أم المؤمنين عائِشَة-، ومن قواعد أهل العِلم المقرَّرة عندهم: أن الرَّاوي أدرى بِمَرْوِيِّه. فكيف إذا عرفنا أنه قد صحَّ عن ابن عبَّاس -رضيَ اللهُ عنهُ- كما رواه أبو داود أنه قَالَ: (إذا مَرض الرَّجل في رَمضان ثم مات ولم يَصُم؛ أُطعِم عنهُ ولم يَكن عَليهِ قضاء، وإن كان عَليهِ نذرٌ؛ قَضى عنهُ وليُّه).

إذًا: هذا هو التَّفصيل المهمُّ.

إذا كان هذا الصِّيام صِيامَ نَذْر؛ يقضيه عنهُ وليُّه. إذا كان هذا الصِّيام صِيام رَمضان؛ كما قَالَت عائِشَة -رضيَ اللهُ عنهَا-: (يُطعِمُ عن كلِّ يومٍ مِسكينًا).

وقَالَ ابن عبَّاس -أيضًا-: (لا يَصومَنَّ أحدٌ عن أحدٍ، ولا يُصلِّيَنَّ أحدٌ عن أحدٍ)، وإن كان هُنالِك إجماع بين أهل العِلم أن الصَّلاة لا يصلِّيها أحدٌ عن أحد؛ لكن اختلفوا في الصِّيام، والرَّاجح ما ذكرناه.

والإِمام أحمد -رَحِمهُ اللهُ- سألهُ تِلميذه الإِمامُ أبو داود في «سُؤالاتِه» قَالَ: (سمعتُ أحمدَ بن حنبل قَالَ: لا يُصامُ عن الميِّت إلا في النَّذرِ)، قَالَ أبو داود: (قُلتُ لأحمد: فشَهرُ رَمضان؟ قَالَ: يُطعم عنهُ).

إذًا: التَّفصيلُ هو الأصْل في هذا الموضوع.

الآن: لو أن أحدًا مِن النَّاس مات وعَليهِ صِيام نَذْرٍ، وصام عنهُ رِجالٌ بِعددِ الأيَّام؛ فهذا يَجوز.

لو أن أحدًا -مثلًا- نذَرَ ثلاثة أيَّام، ثم مات، وجاءَ ثلاثة مِن أبنائِه فصام كلُّ واحدٍ منهم عنهُ يومًا؛ أيضًا هذا يَجوز.

وأما إذا كان إطعام؛ فـ-أيضًا- يَجوزُ أن يَجمعَ -مثلًا- إذا كان عَليهِ صِيام شهرٍ نذرًا؛ فيجمعُ ثلاثين إنسانًا ثم يطعِمُهم ولو في طعامٍ واحِدٍ.

هُنالِك ما يتعلَّق بلَيلة القَدْر:

لَيلة القَدْر؛ كما قَالَ اللهُ -تَعالَى-: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، وسورة القَدْر سورة كاملة لو أردنا أن نَتناوَلها بالتَّفسيرِ والبَيان؛ لكان لنا شأنٌ آخَر؛ لكن الوقت لا يتَّسعُ لذلِك.

لَيلة القَدْر هي اللَّيلة المبارَكة الَّتِي وَرَدَ ذِكرُها في سورة الدُّخان في قَولِهِ -تَبارَك وتَعالَى-: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ - فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ - أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ - رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدُّخان: 3-6] هذه اللَّيلة المبارَكة ليلةٌ مِن إحدى ليالي العَشْر الأوَاخِر؛ بل مَفاريد وأوتارِ العَشْر الأوَاخِر من شهر رَمضان المبارَك.

وأرجحُ الأقوال في هذه المسألة -وقد اختلف فيها أهلُ العِلم: هل هي ليلة السَّابع والعِشرين، هل هي ليلة التَّاسع والعشرين، الثَّالث والعشرين، الحادي والعِشرين، الخامس والعشرين، أقوال متعددة لأهل العِلم-؛ لكن الأرجحَ -في ذلك-: أنها ليلةٌ مُتنقِّلةٌ في هذه الأيَّام الأوتارِ والأفراد مِن العَشرِ الأوَاخِر.

ولو كانت معروفةً مُحدَّدةً؛ لما كان -هُنالِك- اهتِمام في العشر الأوَاخِر -كلِّها-؛ وإنما اهتمَّ الإنسَانُ في هذه اللَّيلة، وقد كان ذلِك -أعني: الجزمَ بلَيلةِ القَدْر، أو أنها ليلة محدَّدة- كان مذكورًا، ثم نُسِخَ، وكان مَعلومًا للنَّبيِّ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- ثم رُفع عنهُ.

فعَن عُبادةَ بن الصَّامت -رضيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: (خرج رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- بلَيلةِ القَدْر)؛ يعني: ليُخبرَ النَّاس عن لَيلة القَدْر أي ليلةٍ هي، (فتلاحى رَجلانِ)؛ تخاصما، (فتلاحى رَجلانِ من المُسلِمين)، قَالَ: (فقَالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «إنِّي خرجتُ لأخبركُم بِلَيلةِ القَدْر، فتلاحى فُلان وفُلان؛ فرُفعتْ»)؛ أي: رُفع تحديدُها، ورُفع عِلمُها عن رسولِ الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-، قَالَ: «وَعَسى أن يكونَ خيرًا لكم؛ فَالْتَمِسُوها في التَّاسعة والسَّابعةِ والخامِسة»، وفي رواية: «في السَّبع والتِّسع والخَمسِ»؛ كل ذلِك إشارة إلى أنَّها قد تتنقَّل، وليست هي في ليلةٍ واحدة.

كيف يتحرى المُسلِم لَيلة القَدْر؟

يقول النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «مَن قام لَيلة القَدْر إيمانًا واحتِسابًا؛ غُفر له ما تقدَّم مِن ذنبِه».
«مَن قام لَيلة القَدْر إيمانًا» بها، «واحتِسابًا» لأجرها عند ربِّه -تباركَ وتَعالَى-؛ فهذا لا شكَّ الذي قامها بالصَّلاة، والذي قامَها بالذِّكر، والذي قامها في طلبِ العِلم، والذي قامها بالتَّفكُّر والاستغفارِ والصَّلاة على النَّبيِّ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- وغير ذلِك من الأعمال الصَّالحة؛ كلُّ ذلِك يشملُه معنى القِيام؛ فهذا -لا شكَّ، ولا رَيْب- له أجره الذي أخبرنا عنهُ رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-.

وكذلِك الدُّعَاء، وهذا فيه خصوصيَّة: فقد ورد عن السَّيِّدة عائِشَة -رضيَ اللهُ-تعالى-عنهَا- قَالَت: (قلتُ: يا رسولَ اللهِ! أرأيتَ إنْ علمتُ أي ليلة لَيلة القَدْر؛ ما أقولُ فيها؟ فقَالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «قولي: اللَّهمَّ! إنكَ عَفوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عني») رواه التِّرمذِي. إذًا: المُسلِم يسأل ربَّه -عزَّ وجلَّ- العافيَةَ؛ فهذا الدُّعَاء مِن الجوامع فيه فضلٌ دُنيويٌّ، وفضل أُخرويٌّ.

والنَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- كان يتهيَّأ للعَشر الأوَاخِر من رَمضان ما لا يتهيَّأ لغيره؛ فعَن عائِشَة -رضيَ اللهُ عنهَا-كما في «الصَّحيحَيْن»- قالَت: (كان النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- إذ دخلَ العشرُ؛ شَدَّ مِئزَرَهُ، وأحيا ليلَهُ، وأيقظَ أهلَهُ)، يعني أنه يعتزل نساءه ويبتعد عما أحل الله له من ذلِك -ليس للتحريم وإلا النَّص القُرآني واضح: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]-؛ ولكن مِن باب الإقبال والتعظيم لهذه الأيَّام المبارَكة.

أما علاماتُها:

فعَن أُبَيِّ بن كعب -رضيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-: «صبيحة لَيلة القَدْر تطلع الشَّمس لا شُعاعَ لها، كأنها طَسْتٌ حتى تَرتفِع»، الطَّستُ: هو الإناء الذي يُغسَل فيه أو يُعجَن فيه، وهو دائري. يعني: أن دائرة الشَّمس وقُطرَها يكون واضحًا جدًّا وظاهرًا جدًّا حتى الشُّعاع لا يكون موجودًا عند أوَّل ظُهورِها.

وعن أبي هُرَيرَة قَالَ: تذاكرنا لَيلة القَدْر عند رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- فقَالَ: «أيُّكُم يَذكُرُ حين طَلَعَ القَمرُ وهو مِثلُ شِقِّ جَفْنَةٍ» (شِقِّ جَفْنَةٍ)؛ (الجفنة): هي القَصعةُ والوعاء الصَغير -أيضًا-، و(الشِّق): النِّصف. يعني: لا يكون القمرُ بهذا الوصف إلا في الأوَاخِر من الشَّهر القَمَري، لا يكونُ القمرُ تامًّا بدرًا -بطبيعة الحال- فهذا لا يكون إلا في وسط الشَّهر؛ ولكن: يبدأ ينحسر حتى يصبح كالنِّصفِ؛ أو كالشِّقِّ -حتى ليس نصفًا-، كالشِّق؛ يعني: هو أقرب ما يكونُ إلى الهلال.

وأيضًا: ورد عن ابن عبَّاس -رضيَ اللهُ عنهُ-كما في «صحيح ابن خُزيمَة»- أنه قَالَ: قال رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- : «لَيلة القَدْر لَيلةٌ سَمْحةٌ»؛ يعني: رَطْبة، «طَلِقَةٌ»؛ يعني: الجو فيها لطيف، «لا حارَّة ولا باردة، تصبحُ الشَّمس صبيحتَها ضعيفةً حمراء» كما في الحَديثِ الآخر: وهو أنها لا شُعاع لها، وأن قُرصَها ساطع وظاهر وواضِح.

قد يقول قائل أو يسأل سائل:

«لا حارَّة ولا باردة»؛ هُنالِك بلاد باردة جدًّا، وهُنالِك بلاد حارَّة جدًّا ، وهُنالِك بلاد متوسِّطة؟

نقول: الأمر -هُنا- نسبِيٌّ؛ فما تُعامَلُ به البلادُ الحارَّة من التَّوسُّط؛ يكون هو الحُكمُ في مِثل هذا الوَصفِ، وكذلِك البلاد البارِدة، وكذلِك البلاد المتوسطة؛ كلٌّ بِحسَبِها.

الاعتِكاف:

الاعتكاف -أيضًا- سُنَّةٌ مِن سُنَن رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- الَّتِي فعلها في رَمضان.

وذكر الإِمام ابنُ القيِّم في «زاد المعاد» أن مقصودَ الاعتكاف ورُوحَه: (عُكوفُ القَلب على الله -تعالى-، واجتِماعُه عليه، والخلوةُ به، والانقطاع عن الاشتِغال بالخلقِ)؛ هذه حِكمة الاعتكاف؛ لا أن نعتكفَ ثم نُضيِّع اعتكافَنا بالسَّمر والسَّهر والقول بغير فائدة!!

الاعتِكاف: هو العُكوفُ والإقبال. الاعتكاف: هو الانقطاع.

فبعض النَّاس يقضون نِصف الاعتكاف وهم يَشترون -مِن الأسواق- الطَّعام والشَّراب، ويَقضُون ليلة الاعتكاف -أو ليالي الاعتكاف- بِكلامٍ -وإن كان مُباحًا- لكنَّ المقام أعظَم مِن أن يُشتَغَل به في هذا الأمر.

والرَّسُول -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- كما في حديث أبي هُرَيرَة -رضيَ اللهُ-تَعالَى-عنهُ-والحَديثِ في «صحيح البخاري»- قَالَ: (كان رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- يَعتكف في كل رَمضان عشرة أيَّام، فلما كان العام الذي قُبض فيه؛ اعتَكف عِشرين يومًا)، وهذا من إِلهامِ الله -عزَّ وجلَّ- له، كأنَّهاوداع لهذه السُّنَّة الَّتِي يُقصِّر فيها كَثِير من النَّاس.

مع التَّنبيه: إلى أن الاعتكاف يكون جائزًا في السَّنَةِ -كلِّها-.

ومِن شَرط الاعتِكاف: أنه لا يكون إلا في المساجد.

وقد اختلف أهل العِلم: هل هو في أي مسجد؟ هل هو في مسجِد جماعة؟ هل هو في أحَدِ المساجد الثَّلاثة؟ يَذهب بعض أهلِ العِلمِ إلى هذا التَّخصيص لقوله -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «لا اعتكافَ إلا في المساجِدِ الثَّلاثة» وهو حديثٌ صحَّحه الإِمام الذَّهبِي -رَحِمهُ اللهُ-تَعالَى-.

أمَّا صلاة التَّراويح -وبها نختم-:

فهي من سُنَن رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- الَّتِي فعلها وحضَّ عَليهِا بقولِه، وأقرَّها بِسُكوته الشَّريف -صلى الله عَليهِ وسلَّم-، وقد فعلها أيَّامًا، ثم تركها، فلما استقرَّ الأمرُ في عهد عُمر بنِ الخطَّاب -رضيَ اللهُ عنهُ- أحيا ما كان قد تَرَكَه رسولُ الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-، ولا يُقال في هذا الإحياء إنَّه إحداثٌ في الدِّين؛ كيف يكون إحداثًا في الدِّين شيء فَعَلَه رسول الله -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام- وحضَّ عَليهِ بقوله، وأقره بِتقريرِه الشَّريف -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-، وخيرُ الهدي هديُ محمَّد -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم-؛ فقد قَالَت عائِشَة -رضيَ اللهُ عنهَا-وهذا فيما يتعلَّق بِعدَدِ رَكعات التَّراويح- قَالَت: (ما كان رسولُ الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- يَزيدُ في رَمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة)، قَالَ الحافظُ ابن حجر: (وهي أعلم النَّاس به -رضيَ اللهُ عنهَا- بِصلاتِه في ليلِه، في نهارِه، في نافِلتِه، في فريضته).

أسأل الله لي ولكم التَّوفيق والسَّداد والهُدى والرَّشاد، وأن يُعيدَ عَلينا وعليكم هذا الشَّهرَ الكريم بِمَنِّه وقُوَّتِه وفَضلِه، ونحن على عافيةٍ ودِيانةٍ وطاعة واستِقامةٍ؛ إنَّه -سُبحانَهُ- وليُّ ذلِك والقادر عَليهِ.

والسَّلامُ عَليكم ورَحمةُ اللهِ وبَركاتُه

وتقبَّل الله منَّا ومنكُم الصِّيام والقِيام.

وآخِرُ دَعوانا أنِ الحَمدُ للهِ ربِّ العالَمِين.

من هنا لسماع الحلقة الخامسة عشرة والأخيرة


( الحمد لله الذي بنعمته تتم الصَّالحات )

رد مع اقتباس
  #16  
قديم 06-17-2011, 08:45 PM
أم التوأم أم التوأم غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2009
المشاركات: 29
افتراضي

اقتباس:
كما قَالَ النَّبي -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- فيما يَرويهِ أبو أمامةَ الباهِلي -رضيَ اللهُ عنهُ- قَالَ: سمعتُ رسول الله -صلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّم- يقول: " بينما أنا نائمٌ أتاني رَجلان، فأَخَذَا بِضَبُعي " يعني: بِعَضُدي، الضَّبُع: هو العَضُد " فأتَيَا بي جَبَلًا وعِرًا " هذا -كلُّه- في الرُّؤيا، ورؤيا الأنبياء حقٌّ " فقَالَا: اصعدْ! فقلت: إني لا أطيقُه " لا أقدر عَليهِ " فقَالَا: سنسهِّلُه لك، فصعدتُ " تسهَّل، وكل ذلِك رؤيا " حتى إذا كنتُ في سَوادِ الجَبل " يعني: في وسطِه " إذا بأصواتٍ شديدة " أصوات عظيمة " قُلت: ما هذه الأصوات؟ قَالَا: هذا عواءُ أهلِ النَّار، ثم انطُلِق بي " أكمَلوا المسير " فإذا أنا بقومٍ مُعلَّقِين بِعراقِيبِهم " والعَراقيب في الأرجُل " مُشقَّقة أشداقُهم " الأشدَاق: هي جانبا الفَم " تَسِيل أشداقُهُم دَمًا، فقُلتُ: مَن هؤلاء؟ قَالَ: الذين يُفطِرُون قَبلَ تَحِلَّةَ صِيامِهم " يعني: يأكُلون وقد حُرِّم عَليهِم الطَّعام أثناء يوم الصِّيام؛ هذا عذابهم، ورؤيا الأنبياء حق، هذا مَصيرُهم: أن يكونوا على هذا الحال -وبئسَ الحال!-والعياذ بالله-تَبارَك وتَعالَى-.
بداية بارك الله فيك واجزل ثوابك اختي
لقد ساعدتني بطريقة غير مباشرة في بحثي وسهلتي عليا كثيرا
الحقيقة وقفت على هذا الحديث فاردت ان انبهك اخيتي ان كلمة سواء هي الصحيحة وليس سواد
وجدت ذلك في موقع الدرر السنية
هنا
رد مع اقتباس
  #17  
قديم 06-22-2011, 12:31 AM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

وجزاك الله خيرًا وبارك فيك -أختي الكريمة- على تنبيهك.
هناك حلقة ناقصة -هي الحادية عشرة-، وقد وضعتُ مكانها فراغًا، ثم أشرتُ إلى أنها ستضاف قريبًا -إن شاء الله-.
وإني -إن أحيانا الله- عازمة على مراجعة الحلقات ثانية كاملة، ودمجها ببعضها لتكون كمحاضرة واحدة متواصلة -بلا فواصل مقدمات البرنامج وخواتيمه-، وقد استأذنت الشيخ عليًّا -حفظه الله-؛ فأيَّد الفكرة؛ جزاه الله خيرًا.
أسأل الله التيسير.
أكرر شكري -أختي الكريمة-: جزاك الله خيرًا.
رد مع اقتباس
  #18  
قديم 06-22-2011, 05:06 PM
أم التوأم أم التوأم غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Aug 2009
المشاركات: 29
افتراضي

بارك الله فيكِ
هل من الممكن اتحصل على المحاضرة 11 صوتيا؟
وجوزيت خيرا منه ان شاء الله
وشكر الله لكِ
رد مع اقتباس
  #19  
قديم 06-22-2011, 08:15 PM
أم أُنَيْسة الأثرية أم أُنَيْسة الأثرية غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
الدولة: الجزائر
المشاركات: 288
افتراضي

جزاكما الله خيرا وبارك الله فيكما
رد مع اقتباس
  #20  
قديم 06-23-2011, 03:53 PM
أم زيد أم زيد غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 5,264
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم التوأم مشاهدة المشاركة
بارك الله فيكِ
هل من الممكن اتحصل على المحاضرة 11 صوتيا؟
وجوزيت خيرا منه ان شاء الله
وشكر الله لكِ
وفيك بارك الله.
للأسف الحلقة بعد أن قمتُ بتفريغِها -مبدئيًّا- ظهرتْ ناقصة من آخرها، وقد راسلتُ أهل الشأن بهذا، وأنا بالانتظار.
ولعلي أنزل التفريغ ناقصًا!
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
تفريغات أم زيد, رمضانيات

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:42 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.