أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
54444 92655

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > منبر الأئمة و الخطباء > خطب نصية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-21-2019, 12:02 AM
د. عماد البعقوبي د. عماد البعقوبي غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Nov 2014
الدولة: العراق
المشاركات: 42
افتراضي اخلاص القلوب لله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة الجمعة: ١٦ - ١١ - ١٤٤٠

إخلاص القلوب لله تعالى

الخطبة الأولى

إنّ الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران: ١٠٢ ].
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء: ١ ].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } [ الأحزاب: ٧٠ – ٧١ ].
إنّ أحسنّ الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشر الأمور محدثاتها وكلَّ محدثة بدعة وكلَّ بدعة ضلالة وكلَّ ضلالة في النار.
أمَّا بعد:
أحبتي في الله اعلموا رحمكم الله أن الْقَلَبُ هو مَوْضِعُ نَظَرِ الله تَعَالَى، فينبغي ان يوليه العبد اهتماما، ومتابعة، ومداواة، وإصلاحا عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ الله تَعَالَى لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ » [مسلم، برقم: ٢٥٦٤ ].
فلا ينظر الله إلى جسمك ولا طولك ولا إلى هيأتك ولا إلى غير ذلك، بل ينظر إلى قلبك؛ لأنه أَشْرَفُ مَا فِي الإِنسَانِ قَلْبُهُ، فَهُوَ مَحِلُّ نَظَرِ الله سبحانه وتعالى، المَخْصُوصُ بِأَشْرَفِ العَطَايَا مِنَ الإِيمَانِ وَتَوَابِعِهِ. فَعَلَى العَبْدِ أَنْ يَهْتَمَّ بِقَلبِهِ وَيُزَيِّنَهُ بِالتَّوبَةِ وَالإِنَابَةِ إِلَى الله تَعَالَى، وَيُطَهِّرَهُ مِنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُهُ الله تَعَالَى، فَإِنَّ زِينَةَ الظَّاهِرِ مَعَ خَرَابِ البَاطِنِ لا تُغْنِي شَيئاً. قَالَ الله تَعَالَى: { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير} [الأعراف: ٢٦ ].
فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ " أَنْزَلَ لِبَاسَيْنِ: لِبَاسًا ظَاهِرًا يُوارِي العَوْرَةَ وَيَسْتُرُهَا، وَلِبَاسًا بَاطِنًا مِنَ التَّقْوَى، يُجَمِّلُ العَبْدَ وَيَسْتُرُهُ، فَإِذَا زَالَ عَنْهُ هَذَا اللِّبَاسُ؛ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ البَاطِنَةُ، كَمَا تَنْكَشِفُ عَوْرَتُهُ الظَّاهِرَةُ بِنَزْعِ مَا يَسْتُرُهَا " [موارد الأمان: ١٨٣ ].
فأروا الله من قلوبكم خيرا، وأروه منها إيمانا وتصديقا وتسليما وخوفا وخشوعا وتقوى، واتباعا لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وَاللهَ الله فِي إِصْلاحِ السَّرَائِرِ؛ فَإِنَّهُ مَا يَنْفَعُ مَعَ فَسَادِهَا صَلاحٌ ظَاهِرٌ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: { والله يعلم ما فِي قلوبكم } [الأحزاب: ٥١ ].
فَانْظُر أَيُّهَا الأَخُ الحَبِيبُ: مَاذَا يَعْلَمُ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ؟! هل هو عامر بالإيمان والتصديق والإخلاص والتسليم والخوف والخشية والخشوع والتقوى، والحب له ولنبيه لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، و اتباع سنته، فإن كان كذلك فأنت من الصالحين، وأنت من المصطفين الأخيار، وأنت من أولياء الله المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون..
قَالَ اللهُ تَعَالَى: { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } [الحج: ٣٢ ].
وَالمُرَادُ بِالشَّعَائِرِ: " العِبَادَاتُ الظَّاهِرَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ كَبِيرَةً أَمْ صَغِيرَةً؛ مِثْلُ الطَّوَافِ بِالبَيْتِ، وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَالأَذَانِ وَالإِقَامَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ شَعَائِرِ الإِسْلَامِ " [ شرح رياض الصالحين: ٢ /٥٤٢ ].
" فَتَعْظِيمُ شَعَائِرِ الله صَادِرٌ مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ، فَالمُعَظِّمُ لَهَا، يُبَرْهِنُ عَلَى تَقْوَاهُ، وَصِحَّةِ إِيمَانِهِ، لأَنَّ تَعظِيمَهَا تَابِعٌ لِتَعظِيمِ الله وَإِجْلالِهِ " [ تفسير السعدي - تيسير الكريم الرحمن: ٧٤٤ ].
فَالذي " يُعَظِّمُ شَعَائِرَ الله فَيَرَى أَنَّهَا عَظِيمَةٌ في قَلْبِهِ، وَيَقُومُ بِمَا يَنْبَغِي لَهَا مِنَ التَّعْظيمِ بِجَوَارِحِه، فَإِنَّ هذا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ، عَلامَةٌ عَلَى صَلاحِ نِيَّتِهِ وَتَقْوَى قَلْبِهِ، وَإذا اتَّقَى القَلبُ اتَّقَتِ الجَوَارِحُ.
فَعَلَيكَ بِتَعظِيمِ شَعَائِرِ الله فَإِنَّ ذَلِكَ تَقْوَى لِقَلْبِكَ، وَأيضاً يَكُونُ خَيراً لَكَ عِنْدَ الله عَزَّ وَجَلَّ" [شرح رياض الصالحين: ٧ / ١٠١ ].

وقال الله جل وعلا: { ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه } [ الحج: ٣٠ ].
أَي: وَمَنْ يَجْتَنِب مَعَاصِيهِ وَمَحَارِمَهُ وَيَكُونُ ارْتِكَابُهَا عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ، فَلَهُ عَلَى ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وثَوابٌ جَزِيلٌ. فَكَمَا عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ ثَوَابٌ كَثِيرٌ وَأَجْرٌ جَزِيلٌ، كَذَلِكَ عَلَى تَرْكِ المُحَرَّمَاتِ وَاجْتِنَابِ المَحْظُورَاتِ" [ تفسير القرآن العظيم: ٣ / ٣٠١ ].
فلا بد لطالب النجاة وقاصد الله والدار الآخرة من إِخلَاص قلبه لله جل وعلا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ، وَلَيْسَ دَوَاءٌ أَنْفَعَ مِنَ الإِخْلَاصِ للّاهِ، وَهُوَ الدَّوَاءُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } [ يوسف: ٢٤ ].
" فَاللهُ يَصْرِفُ عَنْ عَبْدِهِ مَا يَسُوؤُهُ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الصُّوَرِ وَالتَّعَلُّقِ بِهَا، وَيَصْرِفُ عَنْهُ الْفَحْشَاءَ بِإِخْلَاصِهِ للهِ " [ مجموع الفتاوى: ١٠ / ١٨٨ ].
ولا يقبل اله عز وجل من عبده إلا إذا كان قلبه سليما خالصا لله، قَالَ اللهُ تبارك وتَعَالَى: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء: ٨٨ – ٨٩ ].
" وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم، والأمر الجامع لذلك: أنه الذى قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره. فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله. فسلم في محبة غير الله معه ومن خوفه ورجائه والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل له، وإيثار مرضاته في كل حال والتباعد من سخطه بكل طريق. وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله وحده.
فالقلب السليم: هو الذى سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى: إرادة ومحبة، وتوكلا، وإنابة، وإخباتا، وخشية، ورجاء. وخلص عمله لله، فإن أحب أَحَبَّ فب الله، وإن أبغض أبغض فى الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فيعقد قلبه معه عقدا محكما على الائتمام والاقتداء به وحده، دون كل أحد في الأقوال والأعمال من أقوال القلب، وهى العقائد، وأقوال اللسان؛ وهى الخبر عما في القلب. وأعمال القلب، وهى الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها، وأعمال الجوارح. فيكون الحاكم عليه في ذلك كله دقه وجله هو ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل " [ إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان: ١ / ٧ ].
والقلب السليم: هو السالم من الآفات والمكروهات كلِّها، وهو القلبُ الذي ليس فيه سوى محبة الله وما يحبُّه الله، وخشية الله، وخشية ما يُباعد منه.
وقال الحسن لرجل: داوِ قلبكَ؛ فإنَّ حاجة الله إلى العباد صلاحُ قلوبهم، يعني: أنَّ مراده منهم ومطلوبه صلاحُ قلوبهم، فلا صلاحَ للقلوب حتَّى تستقرَّ فيها معرفةُ اللهِ وعظمتُه ومحبَّتُه وخشيتُهُ ومهابتُه ورجاؤهُ والتوكلُ عليهِ، وتمتلئَ مِنْ ذَلِكَ، وهذا هوَ حقيقةُ التوحيد، وهو معنى " لا إله إلا الله "، فلا صلاحَ للقلوب حتَّى يكونَ إلهُها الذي تألَهُه وتعرفه وتحبُّه وتخشاه هوَ الله وحده لا شريكَ لهُ، ولو كانَ في السماوات والأرض إله يُؤَلَّه سوى الله، لفسدت بذلك السماوات والأرض، كما قالَ تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا} [ الأنبياء: ٢٢ ] " [ ينظر: جامع العلوم والحكم، تحقيق ماهر الفحل: ٢١٩ – ٢٢٠ ].
وأما إن اهمل العبد قلبه فإنه يُؤَدِّي إِلَى هَلَاكه؛ لأنَّ الاعْتِنَاءَ بِالمَظَاهِرِ وَجَعْلَهَا زَاهِيَةً، وَإِهْمَالَ البَوَاطِنِ وَجَعْلَهَا خَاوِيَةً، يُؤَدِّي إِلَى دُخُولِ النَّارِ، وَالعِيَاذُ بِاللهِ تَعَالَى.
قال النووي: " الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته "

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أنّ الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمّة جاثية فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل يقتتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلّمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: إنّ فلانا قارئ، فقد قيل ذاك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال فلان جواد، فقد قيل ذاك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء، فقد قيل ذاك » ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ركبتي، فقال: « يا أبا هريرة: أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة » [ حديث صحيح - سنن الترمذي: ٤ / ٥٩١، رقم الحديث: ٢٣٨٢، صححه الألباني ].

فعُبُودِيَّةُ القَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الجَوَارِحِ؛ لأن " القَلْبُ أَشْرَفُ مِنَ الجَوَارِحِ، فَكَانَ عَمَلُهُ أَشْرَفَ مِنْ عَمَلِ الجَوَارِحِ " [ مفتاح دار السعادة: ١ / ٥٤٠ ].
وَمَنْ تَأَمَّلَ الشَّرِيعَةَ فِي مَصَادِرِهَا وَمَوَارِدِهَا، عَلِمَ ارتِبَاطَ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ بِأَعْمَالِ القُلُوبِ، وَأَنَّهَا لَا تَنْفَعُ بِدُونِهَا، وَأَنَّ أَعْمَالَ القُلُوبِ أَفْرَضُ عَلَى العَبْدِ مِنْ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ، وَهَلْ يُمَيَّزُ المُؤْمِنُ عَنِ المُنَافِقِ، قال شيخ الإسلام رحمه الله: " المنافقون يظهرون بجوارحهم الأقوال والأعمال الصالحة، وإنما عقابهم وكونهم فِي الدرك الأسفل من النار عَلَى ما فِي قلوبهم من الأمراض إِلَّا بِمَا فِي قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الأَعْمَالِ الَّتِي مَيَّزَتْ بَيْنَهُمَا، وَهَلْ يُمْكِنُ أَحَدٌ الدُّخُولَ فِي الإِسْلَامِ إِلَّا بِعَمَلِ قَلْبِهِ قَبْلَ جَوَارِحِهِ، وَعُبُودِيَّةُ القَلْبِ أَعْظَمُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الجَوَارِحِ وَأَكْبَرُ وَأَدْوَمُ، فَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، « مِثْلَ مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَالشُّكْرِ لَهُ، وَالصَّبْرِ عَلَى حُكْمِهِ وَالخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ » " [ مجموع الفتاوى: ١٠ / ٧٥٩ ].
وفسر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وغيره قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} " بأنَّهم لم يلتفتوا إلى غيره " [ جامع العلوم والحكم ت ماهر الفحل: ٢ /٦٠٩ ].
وَلِهَذَا كَانَ الإِيمَانُ وَاجِبَ القَلْبِ عَلَى الدَّوَامِ، وَالإِسْلَامُ وَاجِبَ الجَوَارِحِ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ، فَمُرَكَّبُ الإِيمَانِ القَلْبُ، وَمُرَكَّبُ الإِسْلَامِ الجَوَارِحُ " بدائع الفوائد: ٣ / ١١٤٨ ].
وَلا رَيبَ أَنَّ مُجَرَّدَ القِيَامِ بِأَعْمَالِ الجَوَارِحِ، مِنْ غَيرِ حُضُورٍ وَلا مُرَاقَبَةٍ، وَلا إِقْبَالٍ عَلَى اللهِ: قَلِيلُ المَنْفَعَةِ، دُنْيًا وَأُخْرَى، كَثِيرُ المُؤنَةِ. فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَثُرَ - مُتْعِبٌ غَيرُ مُفِيدٍ " [تهذيب مدارج السالكين: ٢٤١ ].
وَلِهَذَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: { الَّذِي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } [الملك: ٢ ].
وَقَالَ: { إنا جعلنا ما عَلَى الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا } [ الكهف: ٧ ].
وَقَالَ تَعَالَى: { وهو الَّذِي خلق السموات والأرض فِي ستة أيام وكان عرشه عَلَى الماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود: ٧ ].
فلم يقل أيكم اكثر عملا، ولا اشد تعبا، بل قال " أحسن عملا " فحسن العمل هو المطلوب وعليه مدار النجاة والفوز، ورضى الله عز وجل، وحسن العمل هو اخلاصه لله تعال، وموافقته لشرعه وسنة نبيه وخليله وخاتم أنبيائه سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فَإنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَالمَوْتَ وَالحَيَاةَ، وَزَيَّنَ الأَرْضَ بِمَا عَلَيْهَا لِيَبْلُوَ عِبَادَهُ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلًا، لَا أَكْثَرُ عَمَلًا.
وَلِهَذِهِ المَعَانِي الجَلِيلَةِ، لَمْ تُغْنِ الصَّالِحِينَ كَثْرَةُ الأَعْمَالِ بِالظَّاهِرِ، وَقَالُوا: الشَّأْنُ فِي الصَّفْوَةِ لَا فِي الكَثْرَةِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ أَغْفَلُوا مَا فِي القُلُوبِ، فَغَرَّهُمُ العَدَدُ وَالكَثْرةُ، وَمَا يَنْفَعُ رَفْعُ السُّقُوفِ وَلَمْ تُحْكَمْ مَبَانِيهَا؟!

قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله: " إخواني المعول على القبول لا على الاجتهاد والاعتبار ببر القلوب لا بعمل الأبدان رب قائم حظه من قيامه السهر كم من قائم محروم وكم من نائم مرحوم نام وقلبه ذاكر وهذا قام وقلبه فاجر.
إن المقادير إذا ساعدت *** ألحقت النائم بالقائم
لكن العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات والاجتهاد في الأعمال الصالحات وكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *} [الليل: ٥ - ١٠ ] " [. لطائف المعارف لابن رجب: ١٩٢ - ١٩٣ ].
أسأله الله أن يصلح قلوبنا وسرائرنا ويجعلها خالصة له سبحانه ، عباد الله ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب لقلب غافل ساهٍ.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد..

وبعد:

اعلموا رحمكم الله أنَّ الأَعْمَالُ تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي القُلُوبِ، ولَا تَتَفَاضَلُ بِصُوَرِهَا وَعَدَدِهَا، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِتَفاضُلِ مَا فِي القُلُوبِ، مِنَ الإِيمَانِ وَالمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالإِجْلَالِ، فَتَكُونُ صُورَةُ العَمَلَيْنِ وَاحِدَةً، وَبَيْنَهُمَا فِي التَّفَاضُلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَالرَّجُلَانِ يَكُونُ مَقامُهُمَا فِي الصَّفِّ وَاحِدًا، وَبَيْنَ صَلَاتَيْهِمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُقْبِلٌ بِقَلْبِهِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالآخَرَ سَاهٍ غَافِلٌ.
عَنْ عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم: « مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكعَتَينِ مُقبِلٌ عَلَيهِمَا بِقَلبِهِ وَوَجهِهِ، إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ » [ رواه مسلم، برقم: ٢٣٤ ].
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (بَعْدَ ذِكْرِ فَضْلِ الوضُوءِ وَثَوَابِهِ): «فَإنْ هُوَ قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قلبَهُ للّاهِ، إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ » [رواه مسلم، برقم: ٨٣٢ ].
وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ سُورَةٍ بِتَدَبُّرٍ وَمَعرِفَةٍ وَتَفَهُّمٍ، وَجَمعِ القَلْبِ عَلَيْهَا، أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالَى ، وَأَعْظَمُ أَجْرًا، " وَخَيرٌ مِنْ قِرَاءَةِ خَتْمَةٍ بِغَيرِ تَدَبُّرٍ وَتَفَهُّمٍ، وأَنْفَعُ لِلْقَلْبِ، وَأدْعَى إِلَى حُصُولِ الإِيمَانِ وَذَوقِ حَلاوَةِ القُرآنِ " [ ينظر: مفتاح دار السعادة: ١ /٥٥٣ ، والمنار المنيف: ١١ ].
عَنْ أَبِي عِنَبَةَ الخَوْلَانِيِّ رضي الله عنه: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « إنّ للهِ آنيةً مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، وَآنِيَةُ رَبِّكُمْ قُلُوبُ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَأحبُّهَا إِلَيْهِ أَلْيَنُهَا وَأَرَقُّهَا ». [ أخرجه الطبراني وصححه الألباني: ينظر السلسلة الصحيحة: رقم الحدي: ١٦٩١ ].
شَبَّهَ القَلْبَ بِالإِنَاءِ، لأَنَّهُ إِنَاءٌ لِلخَيْرِ وَالشَّرِّ. فَقُلُوبُ الأَبْرَارِ تَغْلِي بِالبِرِّ، وَقُلُوبُ الفُجَّارِ تَغْلِي بِالفُجُورِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا قِيلَ فِي المَثَلِ: وَكُلُّ إِنَاءٍ بِمَا فِيهِ يَنضَحُ.
هَذَا القَلْبُ أَحَبُّ القُلُوبِ إِلَى اللهِ وَأَكْثَرُهَا خَيْرًا، فَبِلِينِهِ يَقْبَلُ الحَقَّ، وَبِرِقَّتِهِ يَرْحَمُ الخَلْقَ، فمَا أعظمَ سعادتَكَ إِن كانَ قَلبُكَ ليِّناً رقيقاً، وإن لم يكن كذلك، فتضرع إلى إلهك ومولاك، واكثر من دعاءه أن يصلح قلبك، ويجدد إيمانك، عَنِ ابْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّ الإيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوفِ أَحَدِكُم كَمَا يَخلَقُ الثَّوْبُ، فَاسْأَلُوا الله أَنْ يُجَدِّدَ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُم » [رواه الحاكم: ١ / ٤ ، وحسنه الألباني رحمه الله فِي السلسلة الصحيحة، برقم: ١٥٨٥ ].
يَخْلَقُ: أَي يَبْلَى.

وأما إن صلح القلب فإنَّ الجوارح كلها ستصلح بصلاحه، فإن " القلبُ مَلِكُ الأعضاء، وبقيَّةُ الأعضاءِ جنودُه، وهم مع هذا جنودٌ طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيءٍ من ذلك، فإنْ كان الملكُ صالحاً كانت هذه الجنود صالحةً، وإنْ كان فاسداً كانت جنودُه بهذه المثابَةِ فاسدةً، ولا ينفع عند الله إلاّ القلبُ السليم " [ جامع العلوم والحكم، تحقيق ماهر الفحل: ٢١٩ ].
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: « ... يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنسَكُم وَجِنَّكُم كَانُوا عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُم، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلكِي شَيئًا، يَا عِبَادِي لَو أَنَّ أوَّلَكُم وَآخِرَكُم وَإِنسَكُم وَجِنَّكُم كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيئًا » [ جزء من حديث رواه مسلم، برقم: ٢٥٧٧ ].
" وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأَصْلَ فِي التَّقْوَى وَالفُجُورِ هِيَ القُلُوبُ، فَإِذَا بَرَّ القَلْبُ واتَّقَى بَرَّتِ الجَوَارِحُ، وَإِذَا فَجَرَ القَلْبُ فَجَرَتِ الجَوَارِحُ " [ جامع العلومِ والحكمِ: ٢١٦ ].
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشَيرٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ: « ... أَلا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ » [جزء من حديث متفق عليه ].
فَإِنْ كَانَ القَلْبُ صَالِحًا لَيْسَ فِيهِ إِلَّا إِرَادَةُ الله وَإِرَادَةُ مَا يُرِيدُهُ، لَمْ تَنْبَعِثِ الجَوَارِحُ إِلَّا فِيمَا يُرِيدُهُ الله، فَسَارَعَتْ إِلَى مَا فِيهِ رِضَاهُ، وَكَفَّتْ عَمَّا يَكْرَهُهُ. فَصَلُحَ اللِّسَانُ صِدْقًا وَقَوْلًا سَدِيدًا ثَابِتًا وَحِكْمَةً نَافِعَةً، وَصَلُحَتِ العَيْنُ اعْتِبَارًا وَغَضًّا عَنِ المَحَارِمِ. وَصَلُحَتِ الأُذُنُ اسْتِمَاعًا لِلنَّصِيحَةِ وَالقَوْلِ النَّافِعِ، وَمَا يَنْفَعُ العَبْدَ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ. وَصَلُحَ الفَرْجُ عِفَّةً وحِفْظًا.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ » [ رواه أحمد: ٣ / ١٩٨ ، وحسنه الألباني رحمه الله فِي «صحيح الترغيب والترهيب، برقم: ٢٥٥٤ ].
فَأَصْلُ الاسْتِقَامَةِ: " اسْتِقَامَةُ القَلْبِ عَلَى التَّوْحِيدِ. فَمَتَى اسْتَقَامَ القَلْبُ عَلَى مَعْرِفَةِ الله، وَعَلَى خَشْيَتِهِ، وَإِجْلَالِهِ، وَمَهَابَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ، وَرَجَائِهِ، وَدُعَائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ، اسْتَقَامَتِ الجَوَارِحُ كُلُّهَا " [ جامع العلوم والحكم: ١ / ٥١١ - ٥١٢ ].
" والمراد باستقامة إيمانه: استقامةُ أعمال جوارحه، فإنَّ أعمالَ الجوارحِ لا تستقيمُ إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب: أنْ يكونَ ممتلئاً مِنْ محبَّةِ الله، ومحبَّة طاعته، وكراهة معصيته ". [ جامع العلوم والحكم، تحقيق: ماهر الفحل: ٢٢٠ ].
ومن إخلاص القلب لله أن يتجرد العبد في عمله عن كل مقصود سوى الله عز وجل، فلا يجعل في قلبه شيئا لأحد من الخلق، حتى لو كان نفسه التي بين جنبيه، فإنَّ كثير ممن يعمل تكون له في نفسه كبوة، ويقدم من العمل ما تهواه نفسه، وليس ما يأمره به الشرع، ومن المثلة على ذلك تجد بعض الناس لا يتصدَّق إلا بالدينار الممزق التالف، فيبحث في جيوبه عله يجد دينارا او ربعا ممزقا فيعطيه للفقير، اعلموا رحمكم الله أن هذه الصدقة منهي عنها ولا تتحص بها التقوى، قال الله جل وعلا: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [ آل عمران: ٩٢ ].
لذلك كان السلف رضي الله عنهم يتصدقون بالجيد وما تحبه أنفسهم وإن أخرجوا دينارا وليس كالدينار اليوم بل هو مثقال من ذهب عطروه، وجملوه لأنهم يبتغون بذلك وجه الله وأخلصوا قلوبهم لله جل وعلا..

وأما الصدقة بالرديء والشيء البسيط التافه فهذا ما نهى الله عز وجل عنه، فقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ البقرة: ٢٦٧ ].

فهذا نداء رباني للذين آمنوا أن ينفقوا بالزكوات والصدقات من طيبات وجياد ما كسبوا من المال ومما وجياد ما أخرج الله لكم من الأرض من الحبوب والثمار ولا تيمموا، أي: تقصدوا الخبيث مما كسبتم وهو هنا معناه: الرديء فتنفقونــه في الزكاة والصدقة، والحال أنكم لستم بآخذي هذا الرديء لو أعطي لكم في حقوقكم إلا أن تغمضوا فيه بالتساهل وغض البصر فكيف تؤدون منه حق الله، { واعلموا أن الله غني حميد } أي: غني عن صدقتكم وغني عن زكاتكم وغني عن نفقاتكم، وهو حميد، أي: محمود على كل حال.
فهذا طاعة وقربة وهذا طاعة وقربة، وذاك قيد بمكان مخصوص ووقت مخصوص والاستطاعة، والبذل والعطاء مطلوب في كل وقت، ومأمور به في كل حال.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: " من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الذي عرفه من عجز عن المبيت بمزدلفة فليبت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه من لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف فليقم لله بحق الرجاء والخوف من لم يقدر على نحر هديه بمنا فليذبح هواه هنا وقد بلغ المنا من لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد فليقصد رب البيت فإنه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد نفحت في هذه الأيام نفحة من نفحات الأنس من رياض القدس على كل قلب أجاب إلى ما دُعِي يا همم العارفين بغير الله لا تقنعي يا عزائم الناسكين لجمع أنساك السالكين اجمعي لحب مولاك أفردي وبين خوفه ورجائه اقرني وبذكره تمتعي.
يا أسرار المحبين بكعبة الحب طوفي واركعي وبين صفاء الصفا ومروة المروى اسعي واسرعي وفي عرفات الغرفات قفي وتضرعي ثم إلى مزدلفة الزلفى فادفعي ثم إلى منى نيل المنَى فارجعي فإذا قرب القرابين فقربي الأرواح ولا تمنعي لقد وضح الطريق ولكن قل السالك على التحقيق وكثر المدعي ". [ لطائف المعارف ٢٨٧ – ٢٨٨ ].
وهنا يتبين من عمل لله ممن عمل لنفسه، واعلموا أن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم. ولذلك قال بعض السلف: " كم من رجل بأرض خراسان أقرب إلى هذا البيت ممن يطوف به " ؟! [ قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، محمد بن علي بن عطية الحارثي، أبو طالب المكي ، ( المتوفى: 386هـ ): ٢ / ٢٠٣ ، وإحياء علوم الدين: ١ /٢٤٣ ].
وجاء في الحديث القدسي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه » [ صحيح مسلم: ٤ / ٢٢٨٩، رقم الحديث: ٢٩٨٥ ].
فليس الأمر بالكثرة، كما يتوهم بعضهم، وليس الأجر على قدر المشقة كما يزعم الصوفية، بل الأمر بإخلاص القلب لله عز وجل، والأجر على قدر المنفعة.
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللَّهُمَّ إنا نسْأَلُكَ قلوباً سَليمةً، وَألسناً صَادِقةً، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّه إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ، اللَّهُمَّ إِنا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، وَمِنْ قلوبٍ لا تخْشَعُ، وَمِنْ نفوسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا..
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الكفر والكافرين الشرك والمشركين والظلم والظالمين والبدعة والمبتدعين، وانصر يا ربنا بفضلك ونصرك من نصر الدين، وأخذل بقدرتك وقوتك وعدلك من خذله يا رب العالمين.. اللهم لا تدع لنا في جمعنا هذا ولا لأحد من المسلمين ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا مريضا إلا شفيته وعافيته ولا غائبا إلا بالخير والعافية إلى أهله رددته وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين فتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ..
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
اخلاص القلب وسلامته

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:24 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.