اللِّقـاء الثَّاني والثَّلاثون (*)
(11 رمضان 1441 هـ)
1. السُّؤال:
إذا وجد لشيخِ الإسلام ابن تيميَّة ترجيحان مُتعارِضان أحدُهما في «المجموع» [مجموع الفتاوى]، والآخَر في كتاب «الاختِيارات الفقهيَّة»؛ فأيُّهما يُقدَّم؟
الجواب:
ابتداءً: العلماء قد يكون عندهم أكثر مِن قول في بعضِ المسائل -يَرجع إلى قول، أو يَرجع عن قول-؛ هذا شيءٌ مَعروف وشيءٌ مشهور -وللهِ الحمد-؛ فحينئذٍ نقول: قد لا يكون هذا من باب التَّعارض الفقهي؛ وإنَّما من باب الرُّجوع عن قَول إلى قول.
لكن: إذا لم يتبيَّن لنا ذلك؛ قد يكون -هنالك- قرائن.
في الغالب: ما اختاره شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في كتاب «الاختيارات» أرجح مِن غيره؛ لأنَّ «الاختِيارات» كأنَّها نقاوة فِقه شيخ الإسلام وعِلمه -رحمه الله-تعالى-، وكيف.. إذا عَرَفنا أنه طُبع -قريبًا- عدَّة رسائل ماجستير ودكتوراه في اختِيارات ابن تيميَّة -رحمهُ الله-لعلها وصلت إلى اثني عشر مجلدًا-، في دراسات موسَّعة لـ«الاختِيارات» التي طُبعت في مجلَّد صغير.
2. السُّؤال:
إذا سمحت الدَّولة بافتتاح المساجد ولكن يُشترَط أن الصَّلاة عن بُعد: ماذا نفعل؟ وما هي أفضل: الصَّلاة عن بُعد، أو إغلاق المساجد؟
الجواب:
اليوم أحد الإخوة لفت النَّظر إلى شيء وقفتُ عنده -بِصراحة-.
نحن -ابتداءً- في هذا الظَّرف مع المباعدة؛ لكن المباعدة التي تكون يعني نحو شِبر -مثلًا-.
أمَّا: متر؟ ما الدَّاعي لها؟!
إذا وُجد لكلِّ واحد سجادة صلاة ووضع الكمامة ولبس القفاز ومعه مصحفه؛ فماذا يَلزم من مسافة المتر -أو الأكثر-أحيانًا-؟!
لكن: إذا هذا صار فرضًا: إمَّا أن تُفتح المساجد بهذه الشُّروط، أو تُغلَق بِغير هذه الشُّروط؛ نقول: لا؛ تُفتَح، ونحن مضطرُّون نأتي المساجد بهذه الشُّروط، فرق بين حالة الاختِيار وحالة الاضطِرار.
3. السُّؤال:
إذا نسي تبييت النِّيَّة: ماذا يترتَّب على ذلك؟
الجواب:
موضوع تبييت النِّيَّة شَرحناه -كثيرًا-، وقلنا: كلُّ مَن لا يُريدُ الفِطْرَ غدًا؛ فهو صائم.
فإنسان قال: (واللهِ؛ أنا اليوم مريض أريد أن أفطر غدًا) هذا لو صام غدًا؛ صيامُه باطِل.
لكنْ: إذا أنَّه لم يفعلْ ذلك وكان عازِمًا على الصِّيام مِن أوَّل يوم -ولله الحمد- هو في إيمان، وفي معرفة، وفي عزمٍ على الصِّيام، فتَجَدُّد النِّيَّة تِلقائي -كما يُقال- إلا لِمَن قطع النِّيَّة بسبب سفرٍ -مثلًا- يُريده، أو مرض طرأ عليه -وما أشبه ذلك-.
4. السُّؤال:
مَن لم يتسحَّر هل عليه شيء؟
الجواب:
ليس عليه شيء، ولا نستطيع أن نوجبَ السحور، وإن كانت أدلَّة الوجوب أقوى؛ لكن: لم نعلم من العلماء المتقدمين في القرون الأولى مَن قال بذلك؛ فنحن مع الاستحباب والتَّوكيد عليه.
لكن: لا شكَّ أنَّ مَن لم يتسحَّر قد فوَّت على نفسه أجرًا كبيرًا.
والله الموفق.
5. السُّؤال:
أنا مُصاب بالوسواس ومُبتلى بِسَلسِ البول: هل يَسيرُ سَلَس البول يُعفَى عنه إذا أصاب الملابسَ التي يريد الصَّلاة فيها؟ أفتونا مأجورين.
الجواب:
يا صاحب الوسواس: بعد أن تقضيَ حاجتك -وتَستنجي-؛ انضَحْ في موضِع ملابسك الدَّاخليَّة، ولا عليك ما وراء ذلك، وإيَّاك والوسوسة! وصلِّ وتوضَّأ لكل فريضة إذا دخل وقتُها.
أما أن تكونَ غارقًا في الوسوسة، وأن تكون مُخادِعًا نفسَك في هذه الوسوسة، وغارقًا في أوهامك؛ فلا!
احذر.. احذر..!
الوسوسةُ سُمٌّ قاتل، وبلاء عظيم.. اقطع الوسوسة!
جاء رجلٌ إلى الإمام أحمد قال: يا إمام! إنَّ بي وَسواسًا؟
ماذا قال له الإمام؟
قال: (اُلْهُ عنه)! يعني: تناساهُ، ولا تلتفتْ له -في قليل، أو كثير-.
6. السُّؤال:
هل يُشرع القنوت في صلاة التَّراويح مِن أول ليلة؟ ومتى يتم رفع اليدين لدعاء القنوت؟
الجواب:
القنوت مِن أول ليلة من رمضان، ورفع اليدين في القنوت كلِّه -مِن ألِفِه إلى يائه-، هذان أمران.
الأمر الثَّالث: أن نقول بأنَّ المنقول عن السَّلف أنَّهم بعد النِّصف مِن رمضان كانوا يَدْعُون للمسلمين، ويَدعون على الكافرين.
لكن هذا الدُّعاء الزَّائد على القنوت المأثور: لا يجوز أن يكون سببًا في تطويل الزَّائد أكثر مِن المزيد عليه؛ فليَكن مثله.
لكن الذي نراه -اليوم-كما نبهتُ في بعض الفتاوى- أكثر مِن ذلك بِكثير!
7. السُّؤال:
ما حكمُ استعمال العطورات -بِجميع أنواعها-؛ كالبَخور والعود والعطورات الجديدة البخاخة؟
الجواب:
إذا قصدتَّ في غير الصِّيام؛ فالأمر واسع، وإذا قصدتَّ في الصِّيام؛ فنقول: استعمالُها -كلِّها- جائزٌ، ولا ينقُض الصِّيام إلَّا البَخُور إذا وجَّهتَه إلى نفسِكَ.
فالبَخورُ بكثافتِه له جرم، وأفتى بذلك الشّيخ محمَّد بن إبراهيم -وغيرُه من أهل العلم-؛ بخلاف ما لو كان البَخورُ في مكان بعيدٍ وفقط يغيّر رائحة الجوّ.. غير ما يَحدث في مجالس إخواننا في السُّعوديَّة والكويت والخليج يَضع البَخورَ على أنفِه ويَستنشقه بطريقة..؛ لا شكَّ أن هذا مُفطِّر.
وفي الحقيقة: لَمّا كنا نَذهب إلى السعودية والكويت -وهُم أهل كرم وأهل جُود- كانوا عندما يُقدِّمون لي هذا الْبَخور بهذه الطَّريقة، واللهِ؛ أكاد أختنق! لكن -طبعًا- هُم لا يُريدون إلا الإكرام ولا يريدون إلَّا ما وُفِّقوا إليه من الجود -جزاهم الله خيرًا-، وإكرام الضَّيف؛ لكن النَّاس تَتَبَعُ العادات؛ لم نعتَد على هذا في بلادِنا وفي بيوتِنا.
8. السُّؤال:
هل ثبت مِن فضل للشَّخص الذي يموت في هذا الشّهر، وأن ذلك يدلُّ على صلاح الميت؟
الجواب:
لا أستحضر دليلًا على ذلك؛ لكن -بشكل عام- الموت في الأيَّام الفاضلة والأيَّام الطَّيِّبة خاصَّة إذا كان على عمل صالح وختم اللهُ له بعمل صالح؛ فهذا من المبشِّرات، ونرجو اللهَ له الخيرات.
أمَّا أنَّه يوجد دليل خاصٌّ؛ فأنا في حدود ما أتذكر -هذه السَّاعة- لا يوجد دليل خاص على ذلك.
9. السُّؤال:
إذا نام شخص قبل الإفطار ولم يَستيقظ إلا في صباح اليوم الثَّاني: فهل عليه أن يواصِل صومَه، أو يُفطر؟
الجواب:
كيف يُفطر وقد دخل عليه يومٌ آخَر!؟
هنالك قضيَّة أخرى؛ وهي قضية النِّيَّة: هل هو عنده نيَّة مُبيَّتة مُستمرة، أم أنّه عنده شيء يَقطع النِّيَّة؟
مُجرَّد نومِه؛ هذا -إن شاء الله- لا بأس به إذا كان عزمُه مُتجدِّدًا للصِّيام في شهر الصِّيام.
أمَّا: نام قبل المغرب واستيقظ بعد الفجر؛ نقول له: أفطِر ...! قد دخل يومٌ آخَر، والصِّيام تجدِّد، والواجب تأكَّد..؛ فهذا غير مستقيم.
والله -تعالى- أعلى وأعلم.
10. السُّؤال:
في خلع الأسنان ربما أدَّى إلى ابتلاع شيء من دمِ نفسِه؛ ما حُكمه؟
الجواب:
حكمُه: لا شيءَ عليه؛ إلَّا إذا تعمَّد، ولا أظنُّ أن عاقلًا يتعمَّد أن يبتلع الدَّمَ، أو يبتلع -حتى- المضمضمة، لا يمكن هذا التَّعمُّد بالنِّسبة لمسلم عاقلٍ فاهِمٍ؛ هذا غير موجود.
لكن سأفرض صورة -ولو خياليَّة-نوعًا-ما-: لو فعَل ذلك؛ فإنه يُفطِر: إذا تَعمَّد.
11. السُّؤال:
ما حُكمُ تَذوُّق المرأة عند الطَّبخ للطَّعام بِطرفِ لِسانها؛ لمعرفة ما يَنقصه من المكوِّنات والملح والبهارات -وما أشبه-؟
الجواب:
ورد في البخاري -وهذا يبدو اختيار الإمام البخاري-: أنَّه لا بأس أن تَذوّق المرأة الطَّعام عن عدد من السَّلف؛ فلا بأس في ذلك.
لكن الذَّوق في طرف اللِّسان، لا يُبتلع -بداهة-بِطبيعة الحال-.
لكنْ نقول -فقط- في طرف اللِّسان، وسُبحان الخلَّاق العظيم! طرف اللِّسان هو الذي فيه حواسُّ الذَّوقِ، وكلّ جزء من اللِّسان فيه: شيء للحموضة.. شيء للحلاوة.. شيء للمرارة.. سُبحان الخلَّاق العظيم! وهذا صُنع الله -سُبحانه في علاه-.
12. السُّؤال:
ما حُكم مَن أصابها الحيض -وهي صائمة- قبل الإفطار -بِفترة بسيطة-؟
الجواب:
حتى نَضبط السُّؤال نقول: (قبل الغروب).
لو قبل الغروب بدقيقةٍ واحدة جاءها الحيض؛ فسد صومُها.
لو بِساعة.. ساعتين.. ثلاث ساعات..؛ فَسَد صومُها، ويجب أن تُعيد هذا اليوم.
وليست آثمة؛ لأنَّ حيضها ليس بيدِها.
فتُعيد هذا اليوم، و-إن شاء الله- يتقبَّله الله -عزَّ وجلَّ-.
13. السُّؤال:
هل للمسافر في رمضان أن يُفطر في بيتِه [قبل السَّفر]، أم لا بُدَّ مِن قطع مسافة؟
الجواب:
هنالك حديث في «سُنن التِّرمذي»: أنَّ النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- أفطَرَ في بيتِه قبلَ السَّفَرِ.
ولشيخِنا الشَّيخ الألبانيّ -رحمه الله- رسالة صغيرة بِعنوان: «تصحيح حديث إفطار الصَّائم قبل سفره».
فهذه -أيضًا- من باب رُخَص، وكما قال النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام-..: «إنَّ اللهَ يحبُّ أنْ تؤتَى رُخَصُهُ كما يحبُّ أنْ تؤتَى عزائمُهُ» وفي لفظ آخر: «إنَّ اللهَ يحبُّ أنْ تؤتَى رُخَصُهُ كما يكرَهُ أنْ تؤتَى معصِيتُه».
14. السُّؤال:
بالنِّسبة لتأخيرِ السحور: كما تعلَم أنَّ أذان الفجر في هذا الزَّمان -في أغلب، أو بعض الدُّول- يكون قبل ثبوت الوقت الشّرعي، وقد قرأنا في كتاب «تبصير الأنام بفضائل الصِّيام»: أنَّ -هنالك- آثارًا عن الصَّحابة أنَّهم كانوا يتسحَّرون حتى يتضح الفجر وينتشر في الطرق والأزقة، وأنت تعلم ذلك ...إلخ؛ لأنَّ بعض النَّاس يأكل ويشرب بعد أذان الفجر؛ لأنَّه يعتقد أن وقتَ الفجر لم يَخرج بعد؟
الجواب:
إخواني الكرام هذه الأثار نحن نعرفها -كما ذكر السَّائل مِن باب حُسن الظَّنِّ-جزاه الله خيرًا-.
النَّص القرآني واضح: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾.
وأمَّا آثار الصَّحابة فتُحمَل على هذا، ولا تُحمَل على مُناقضتِه أو المزيدِ عليه، وبخاصَّة أن الصَّحابة -رضي الله-تعالى-عنهم- يَذكُرون ما يعيشُه كلّ واحد منهم؛ فقد يجتهد واحد منهم فيَظنُّ أنَّ الفجر هكذا -هذه صفتُه-.
لكن الصَّواب الذي يجب أن يكون هو المهيمن: هو النَّص القرآنيّ ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾.
أمَّا أكثر من ذلك: قرب دخول الشَّمس، وانتشار الفجر في الطُّرقات؛ هذا غير صحيح.
الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- أخبرنا أن الفجر فجران: الفجر الصَّادق، والفجر الكاذب.
الفجر الصَّادق: هو الذي يَنتشر في الأفق، فمَعَ أوَّل ظهورِه في الأفق يَقف الإنسان؛ لأنَّ هذا هو الخيط الأبيض الذي يتميَّز عن الخيط الأسود.
15. السُّؤال:
امرأة كبر سنُّها وتغيَّر عقلُها فماتت عليها وعليه صيام رمضانَين، وكانت لا تَعلم رمضان من غيره -بسبب التغيُّر-: فهل يُطعِم عنها ابنُها، أو يصوم عنها؟
الجواب:
لا يصوم عنها.
يقول ابن عباس -رضي الله عنه-: «لا يَصومنَّ أحدٌ عن أحدٍ، ولا يُصلِّين أحدٌ عن أحد».
قد يقول قائل: وحديث: «مَن مات وعليه صوم صام عنه وليُّه»؟
أرجحُ الأقوال: أنَّ هذا صوم النَّذر وليس صوم رمضان.
أمَّا المرأة العجوز أو الشّيخ الفاني؛ فَنَقول كما قال الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ عن كل يوم يطعَمُ مسكينٌ في ذلك.
والله -تعالى- أعلى وأعلم.
انتهى اللِّقـاء الثَّاني والثَّلاثون
___________
(*) اللِّقاء في جُزأين، الأوَّل قصير به تقطُّع كثير، والثاني هو الذي به الأسئلة والأجوبة.