الإصلاح ! و النهي عن المنكر و الوسطية..( الشيخ أبو أويس رشيد الإدريسي)
بسم الله الرحمن الرحيم
** [ الإصلاح ! ] ..
و" النهي عن المنكر " ... و ( الوسطية) ..
عند إضاعة الواجبات .. ، وهضم الحقوق .. ، وإثارة العواطف .. ، وظهور الفساد = تضطرب الأحوال .. ، و [ تتحفز نفوس للإصلاح ! ] ..
ولكن للنفوس عموما أدواء وعلل.. ، ولله تعالى سنن في كونه وشرعه ..
وفي دائرة هذا كله تتبدى المصيبة وهي أن تسيطر على ( دعاوى الإصلاح) أنظار وتصورات تخالف مراد الله الشرعي = [ أي : تخالف الحقيقة الشرعية في المضامين والأساليب والوسائل ! ] ..، هذا مع تتابع كثير من الناس على ذلك ، " فإن الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض " كما قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في رسالة ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص : 68 ) ..
ولذا فمن المهمات في دعاوى الإصلاح تحديد المرجعية الصواب التي تتمثل في الرجوع إلى الدين = [ السنة والكتاب على نهج السلف أولي الألباب ، بعيدا عن أسباب الخراب وذل التراب ! ] ..
أما الاعتماد على (مجرد) التصورات العقلية فهو عين الفساد.. ، لأن العقول وإن اهتدت إلى ما فيه ( بعض) الصلاح و الإصلاح في أمر ما ، لكنها لا تستقل بإدراك حقيقة الصلاح و في الأمور كلها ..
قال العلامة الخضر حسين - رحمه الله - : " في فطرة الإنسان قوة يعقل بها طرق الصلاح والفساد ويفقه بها الحق والباطل ، ولكن هذه القوة العاقلة لا تستقل وحدها بتمييز المعروف من المنكر ، وليس من شأنها أن تطلع على كل حقيقة ولا أن تدبر أعمال البشر على نظام لا عوج فيه فإنها - وإن بلغت في الإدراك أشدها - قد تنبو عن الحق ، ويعزب عنها وجه المصلحة ، ولا تهتدي إلى عاقبة العمل ، وربما ألقت على الحسنة نظرة عجلى فتحسبها سيئة ، وقد يتراءى لها الشر في شبه من الخير فتتلقاه بالقبول " الدعوة إلى الإصلاح ص : 19 .
ومن أصول الإصلاح : [ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ! ] ..، فهو من جملة ما دعانا الله إليه ورسوله - عليه الصلاة والسلام - ، بحيث إذا استجبنا له تحقق الصلاح ..
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ..
قال الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه عند باب : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } : " استجيبوا : أجيبوا ، لما يحييكم : (يصلحكم)! " .
فانظر - يا رعاك الله - إلى تعليق الصلاح ب (الاستجابة)! لله ورسوله - عليه الصلاة والسلام - ..
ولكن ما أحوجنا إلى ضرورة الخروج ب ( شعيرة الخيرية = الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمور العامة والخاصة بلا تشدق ولا لجاجة )!! .. وفق النمط الوسط بلا وكس ولا شطط.. ، بمبعدة عن المنهزمة الذين يعتقدون [ منهج إسقاطها = وهم المرجئة ! ] ... ، وتجنبا للمنفعلة الذين يقومون بها على [ منهج الخوارج والمعتزلة ! ] .. ، ولذا قُيد إعمال هذه الفريضة في كتب العقيدة السلفية ب " ما تقتضيه الشريعة وتوجبه 1 "! ..، وانظر في ذلك - سلمني الله وإياك سوء المسالك - ( العقيدة الواسطية)..
حيث قال شيخ الإسلام -رحمه الله - فيها ص : 25 في معرض حديثه عما عليه أهل السنة والحديث : " يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ( على ما توجبه الشريعة)! "
قال العلامة صالح آل الشيخ - حفظه الله - : " وفي قول شيخ الإسلام هنا : ( على ما توجبه الشريعة) : فيه أن من أمر ونهى دون رعاية لأحكام الشريعة في الأمر والنهي ف ( ليس على طريقة أهل السنة)! ، فأهل السنة يأمرون وينهون على ( ما توجبه الشريعة) لا على ( ما توجبه الأهواء أو الآراء) .." شرح العقيدة الواسطية 2/292.
وإذا كانت ( الوسطية) من خصائص الشريعة .. ، فيلزم من كونها كذلك : [ ملازمتها لسائر أصول الشريعة وأحكامها ! ] ..، ومن ذلك ما نحن بصدده : مصاحبتها لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. فتأمل و لا تتعجل ..
و للربط والضبط في هذا الباب إليكم هذا النص المتين لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في موضوع ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) و ( الوسطية ).. به نهتدي لفهم عموم كلامه - رحمه الله - في هذا الباب بعيدا عمن ابتلي بالانتقائية العشوائية من نصوصه (!!) ..
قال - رحمه الله - : " .. وهنا يغلط فريقان من الناس ، فريق ( يترك)! ما يجب عليه من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية ، كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في خطبته : يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية :
{ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديت} وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله - عليه الصلاة والسلام - يقول : ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه ، أوشك أن يعمهم الله بعذاب منه)
والفريق الثاني : من يريد أن يأمر وينهى ، إما بلسانه وإما بيده مطلقا ، من غير ( فقه) و ( لا حلم) و ( لا صبر) و ( لا نظر) فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح ، وما يقدر عليه وما لا يقدر ، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني : سألت عنها - أي : الآية - رسول الله - عليه الصلاة والسلام - قال : ( بل ائتمروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لا يدان لك به ، فعليك بنفسك ، ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائك أيام الصبر ، الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر ، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله) ، فيأتي بالأمر والنهي معتقدا أنه مطيع في ذلك لله ولرسوله ، وهو معتد في حدوده ، كما نصب كثير من أهل البدع والأهواء نفسه للأمر والنهي ، كالخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم ، ممن غلط فيما آتاه الله من الأمر والنهي والجهاد وغير ذلك ، و ( كان فساده أعظم من صلاحه )! .. " الفتاوي العراقية 1/ 259 - 260 .
واعلم - علمني الله وإياك - أن إحكام موضوع الوسطية كحقيقة وخصيصة شرعية يتم في أمور الشريعة عموما.. ، وفي شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خصوصا إذا قامت على ساق العدل (!) ..، بإعطاء كل مسألة من مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حقها ومستحقها فتنبه .. ف " الشرع هو العدل ، والعدل من الشرع ، ومن حكم بالعدل فقد حكم بالشرع .. فإن هذا الشرع المنزل كله عدل ليس فيه ظلم ولا جهل " الفتاوي 35/366 .
ويتفرع عن ساق العدل - لتتبدى الوسطية الشرعية ولنحققها في واقعنا وأحوالنا - جملة قواعد علمية مردها إلى أمور ثلاثة :
أولها : [ النفي والإثبات ! ] ..
فلا وسطية شرعية في الأمور إلا بالنفي والإثبات وكمثال عليها في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أقول : إنكار المنكر ديانة وجهاد وبه صلاح العباد والبلاد ..
تجاوز فيه قوم فاتخذوه ذريعة للتشهير بولاة الأمور ، وحق هذا ( النفي) شرعا لما يترتب عليه من مفاسد عظام ..
وضيع فيه قوم فسكتوا عن إنكار المنكر بشرطه وبوسائله المشروعة ، وحق هذا ( الإثبات ) ..
وصدق من قال : " منهج السلف : الاعتدال في النصيحة ، فلا يتخذون النصيحة سلما للفتنة ك ( الخوارج) ، ولا يتخذون الفتنة بابا لسد النصيحة ك ( المرجئة) " .
ثانيها : ما من مسألة من مسائل الشريعة إلا ولابد من أن [ يصحبها ما هو قرين لها ! ] لنأخذها أخذا وسطا.. ، ومن أمثلة ذلك في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. أن الأمر والنهي يجب أن يقترن معه : ( العلم) و ( الحكمة) و ( الصبر) ..
ولذا " فلا ينبغي أن يستند الأمر بالمعروف إسنادا مطلقا ، إلا لمن جمع بين : ( العلم) ، و ( الحكمة) ، و ( الصبر على أذى الناس) .." أضواء البيان للعلامة الشنقيطي - رحمه الله - 6/241 .
قال شيخ الإسلام - رحمه الله - : " فلابد من هذه الثلاثة العلم والرفق والصبر .
فالعلم قبل الأمر والنهي ، والرفق معه ، والصبر بعده .." الاستقامة 2/233 .
ثالثها : لا تتحقق الوسطية الشرعية في المسائل إلا بمراعاة [ مرتبتها التشريعية ! ] ..، ففي موضوع الأمر والنهي مثلا لابد أن نراعي مرتبة كل قضية من قضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار نسبتها في سلم الأولويات الشرعية وفق مراد الله تعالى.. ، و كذا مراعاة صورة الأمر والنهي ..كالرفق والشدة.. ، فالوسطية الشرعية فيهما تتمثل في كون : ( الرفق غذاء) و ( الشدة دواء) لا عكسه وخلافه.. ، فإعطاء الشدة أكثر من نسبتها الشرعية ووضعها في غير محلها، ومباينة صورتها المرضية = خروج عن الوسطية الشرعية في ذلك 2..
وليعلم عند هذا الحرف من الكلام أنه " لا تلازم بين الغضب لله ومحارمه وبين الغلظة والشدة في الإنكار ، فإن الغضب لله ومحارمه قائم يقوم في القلب وباعث يبعث على الإنكار ولكن هذا الإنكار مقيد باستصحاب الرفق واللين في الأصل " قواعد في فقه الاحتساب للدكتور عبد العزيز بن أحمد البداح ص : 30 بتصرف يسير .
والله المستعان ..
......................................
1 . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي على الصراط المستقيم ، وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود " الاستقامة 2'230 .
2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : " وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغير كثير من أحوال الإسلام جزع وكل وناح كما ينوح أهل المصائب ، وهو منهي عن هذا ، بل مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام ، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وأن العاقبة للتقوى وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر ، وإن وعد الله حق ، وليستغفر لذنبه ، وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار " الفتاوي 18/ 291 .
كتبه [ يومه الثلاثاء 4 جمادى الأول 1441 ھ / الموافق ل 31 ديسمبر 2019 م ] :
أبو أويس رشيد بن أحمد الإدريسي الحسني - عامله الله بلطفه الخفي وكرمه الوفي -
__________________
قال أيوب السختياني: إنك لا تُبْصِرُ خطأَ معلِّمِكَ حتى تجالسَ غيرَه، جالِسِ الناسَ. (الحلية 3/9).
قال أبو الحسن الأشعري في كتاب (( مقالات الإسلاميين)):
"ويرون [يعني أهل السنة و الجماعة ].مجانبة كل داع إلى بدعة، و التشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار، و النظر في الفقه مع التواضع و الإستكانة وحسن الخلق، وبذل المعروف، وكف الأذى، وترك الغيبة و النميمة والسعادة، وتفقد المآكل و المشارب."
عادل بن رحو بن علال القُطْبي المغربي
|