أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
40433 86507

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > منبر العقيدة و التوحيد

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-02-2011, 09:42 PM
أبو العباس أبو العباس غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 790
افتراضي نقض دعاوى المتشبثين بكلام الشيخ ابن عثيمين لتكفير (أعيان المشرعين) -من المسلمين-

نقض دعاوى المتشبثين بكلام الشيخ ابن عثيمين
لتكفير (أعيان المشرعين) -من المسلمين- .

كثيرا ما طرق أسماعنا , أو مرَّ على ناظرينا مقالة مفادها : أن الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- ممن يتبنى رأيا موافقا للجماعات التكفيرية في مسألة الحكم على المشرعين المعينين بالكفر المخرج من الملة ؛ ثم بعد ذلك :
- منهم من يقول أنه تراجع عن هذا القول ؛ كما هو قول بعض إخواننا السلفيين .
- ومنهم من يقول أنه لم يغيره ؛ ثم هؤلاء :
- منهم من يعتبره موافقا لغلاة التكفير من ناحية التأصيل النظري ؛ كما زعم صاحب كتاب (أقوال الأئمة والدعاة في بيان ردة من بدل شريعة الرحمن) .
- ومنهم من اعتبر أن من قال بقول الشيخ ابن عثيمين في هذه المسألة فهو (تكفيري خارجي) , كما زعمه بعض (غلاة التجريح) .

قلت : وقبل الكلام في تبيان الراجح مما تقدم –أو غيره- لا بد لنا من تحرير كلام الشيخ ابن عثيمين ؛ لمعرفة مراده وأصوله فيه , وضوابطه التي اعتمدها في ثنايا كلامه ؛ وبيان أصوله التي انطلق منها , لخلوص بمعرفة الجواب , ولهذا فقد جعلت هذا المبحث في محاور خمسة هي :

المحور الأول : معرفة حقيقة اختيار الشيخ ابن عثيمين في المسالة من خلال جمع أقواله .
المحور الثاني : تأصيل اختيار الشيخ ابن عثيمين في هذه المسألة .
المحور الثالث : بيان خطأ الشيخ ابن عثمين في إطلاقاته .
المحور الرابع : أوجه مفارقة قول الشيخ ابن عثمين لقول (غلاة التكفير) في هذه المسألة .
المحور الخامس : شبهة ونقضها , في الرد على غلاة التكفير المتشبثين بكون المسألة اجتهادية لتكفير عموم المسلمين .

فأقول وبالله التوفيق :

المحور الأول :معرفة حقيقة اختيار الشيخ ابن عثيمين في المسالة من خلال جمع أقواله , وذلك من خلال جمع أقواله –رحمه الله- , في مسألة تشريع القوانين مما يتشبث بها من يكفر أعيان المشرعين -من المسلمين- ؛ وقد وقفنا على التالي من أقواله :

1- قرر الشيخ –رحمه الله- في شرحه على كتاب التوحيد (2\326) فقال : "أما بالنسبة لمن وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله ، فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين ، فهو كافر ؛ لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه الخير للعباد والبلاد من شريعة الله ، وعندما نقول بأنه كافر ؛ فنعني بذلك أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر".

2- وقال –أيضا- رحمه الله- في شرحه على الثلاثة الأصول ضمن مجموع الفتاوى (6\161) وفي (2\144-145) –أيضا- : "من لم يحكم بما أَنزل الله استخفافا به، أو احتقارا له، أو اعتقادا أن غيره أصلح منه، وأنفع للخلق أو مثله فهو كافر كفرا مخرجا عن الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجا يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية، والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه".

3- وقال –كذلك- في نفس المصدر (6\162) : "وهناك فرق بين المسائل التي تعتبر تشريعا عاما والمسألة المعينة التي يحكم فيها القاضي بغير ما أنزل الله لأن المسائل التي تعتبر تشريعا عاما لا يتأتى فيها التقسيم السابق، وإنما هي من القسم الأول فقط لأن هذا المشرع تشريعا يخالف الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد كما سبقت الإشارة إليه".

4- وقال –في نفس المصدر –أيضا- (2\144-145) جوابا عن السؤال التالي : "وسئل: هل هناك فرق في المسألة المعينة التي يحكم فيها القاضي بغير ما أنزل الله وبين المسائل التي تعتبر تشريعًا عامًا؟
فأجاب بقوله : نعم هناك فرق فإن المسائل التي تعتبر تشريعًا عامًا لا يتأتى فيها التقسيم السابق وإنما هي من القسم الأول فقط ؛ لأن هذا المشرع تشريعًا يخالف الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد كما سبقت الإشارة إليه".

5- وقال في أشرطة لقاء الباب المفتوح (ش\87) : "إذا جاءنا رجل ورفع الحكم الشرعي وأحل بدله قوانين تخالف ما أنزل الله على رسوله، فهذا لا شك أنه مستحل؛ لأنه رفع الحكم نهائياً ووضع قانوناً من وضعه أو من وضع من هو أسوأ حالاً منه، فهذا كافر؛ لأن رفعه للأحكام الشرعية ووضع القوانين بدلها يعني أنه استحل ذلك".

6- وقال الشيخ –رحمه الله- كما في كتاب (التحذير من فتنة التكفير) (ص\73)- معلقا على كلام للشيخ الألباني –يأتي لاحقا- : "لكنّا (قد) نخالفه في مسألة أنَّه لا يحكم بكفرهم إلاّ إذا اعتقد حِلَّ ذلك! هذه المسألة تحتاج إلى نظر لأنّنا نقول: من حكم بحكم الله وهو يعتقد أنَّ حكم غير الله أولى، فهو كافر - وإنْ حكم بحكم الله - وكفره كفر عقيدة، لكن كلامنا على العمل. وفي (ظني)، أنَّه لا يمكن لأحدٍ أنْ يُطبق قانوناً مخالفاً للشرع، يحكم فيه عباد الله إلاّ وهو يستحله ويعتقد أنَّه خير من القانون الشرعي، فهو كافر، هذا هو الظاهر وإلاّ فما الذي حمله على ذلك؟".

قلت : إن كلام الشيخ في النقولات السابقة عنه تدور كلها حول عقيدة صحيحة , وهي أن العلة في تكفير من شرّع قوانين مخالفة للشرع هي اعتقاده الفاسد فيما شرّعه لا مجرد تشريعه ؛ ولهذا فهو :
في النقل الأول قال : "فهو كافر لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه الخير للعباد والبلاد من شريعة الله"
وفي النقل الثاني قال : "فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية، والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه".
وفي التقل الثالث قال : " لأن هذا المشرع تشريعا يخالف الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد كما سبقت الإشارة إليه".
وفي النقل الرابع قال : " لأن هذا المشرع تشريعًا يخالف الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد كما سبقت الإشارة إليه".
وفي النقل الخامس قال : "لأن رفعه للأحكام الشرعية ووضع القوانين بدلها يعني أنه استحل ذلك" .
وفي النقل السادس قال : " لا يمكن لأحدٍ أنْ يُطبق قانوناً مخالفاً للشرع، يحكم فيه عباد الله إلاّ وهو يستحله ويعتقد أنَّه خير من القانون الشرعي، فهو كافر، هذا هو الظاهر وإلاّ فما حمله على ذلك ".

قلت : ومناط التكفير –هذا- (الاعتقاد الفاسد في صلاحية شرع الله) مما قد أجمع أهل العلم من أهل السنة والجماعة على القول به في هذه المسألة , والشيخ ابن عثيمين –بحمد الله- موافق لهم في قولهم : أن الحاكم إذا اعتقد أن ما شرعه من القوانين أو حكم به أصلح من الإسلام وأنفع للعباد فإنه يكفر بهذا الاعتقاد لا بفعله وحكمه بغير ما أنزل الله .

أقول : ومما يؤكد موافقة الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- لما عليه أئمة أهل السنة والجماعة في هذا الباب أنه قد صرّح في موطن آخر أن الحاكم المشرّع للقوانين إن كان معتقده سليما في أحكام الشرع فإن تشريعه للقوانين لا يكون موجبا لكفره ؛ لأن التشريع بذاته ليس كفرا أكبر- , كما في فتواه المسجلة مع الشيخ أبي الحسن المأربي –وفقه الله- حيث قال : "وإذا كان يعلم الشرع ولكنه حكم بهذا أو شرع هذا وجعله دستورا يمشي الناس عليه يعتقد انه ظالما في ذلك وان الحق فيما جاء به الكتاب والسنة فأننا لا نستطيع أن نكفر هذا".

وقد ظن بعض إخواننا –وفقهم الله- أن هذه الفتوى من الشيخ ابن عثيمين عدَّت تراجعا منه عن أقواله السابقة ؛ وهذا خطأ من ثلاثة أوجه :
الأول : إن كلام الشيخ –رحمه الله- في فتواه هذه كان في حق الحاكم الذي كان معتقده سليما في (شرع الله ودينه) لكن دفعه إلى تشريع القوانين ضعف إيمانه , بينما كلامه في أقواله السابقة كان في الحاكم ذي المعتقد الفاسد في (شرع الله وأحكامه) ؛ وفرق كبير بين الصورتين.

الثاني : إن في فتوى الشيخ العثيمين اللاحقة –هذه-نفسها- إشارة إلى أن ثمة مانع يمنع من تكفير المشرع للقوانين المعتقد لرجحان مصلحتها على مصلحة الاحكام الشرعية ؛ وذلك في قوله : " وأما إذا كان يشرع حكما عاما تمشي عليه الأمة يرى أن ذلك من المصلحة وقد لبس عليه فيه فلا يكفر أيضا لأن كثيرا من الحكام عندهم جهل في علم الشريعة ويتصل بهم من لا يعرف الحكم الشرعي وهم يرونه عالما كبيرا فيحصل بذلك المخالف".
وهذا القول منه بمثابة تأكيد لمضامين أقواله السابقة من أن الحاكم أو المشرع ذي المعتقد الفاسد في أحكام الشرع يكفر لفساد معتقده , لكن يمنع من الحكم بتكفير عينه عدم استكمال شروط التكفير وانتفاء موانعه –وسيأتي- .

الثالث : لقد جاء في نص السؤال التالي : "ومع العلم أن كثيرا من الشباب ينقلون عن فضيلتكم أنكم تقولون أن من فعل ذلك يكون كافرا" ؛ فهو توجيه مباشر من السائل تجاه الشيخ يستعلم منه عن حقيقة ما نسب إليه ؛ فإن كان ثمة تراجع صريح من الشيخ لوجد في الجواب ؛ لكن لمّا عدم الجواب من ذلك ؛ دل على إقرار الشيخ لما نسب إليه , مع توضيحه بالتفصيل ؛ وهذا الذي كان بذكر الحالتين المتقدمتين .


المحور الثاني : تأصيل اجتهاد الشيخ –رحمه الله- في قوله السابق في مسألة الوقف من المسلمين المشرعين للقوانين .
إن الشيخ –رحمه الله- قد بنى قوله السابق على ثلاثة أمور : (معنى الاستحلال , وضابطه , وكيف يستدل عليه) , ولبيان ذلك نقول :

الأمر الأول : يرى الشيخ –رحمه الله- أن الاستحلال على نوعين : استحلال عملي , واستحلال عقدي بالقلب ؛ فقال في شرحه لحديث [ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف] في باب اللباس من كتاب بلوغ المرام :"والاستحلال نوعان :
النوع الأول : اعتقاد أنها حلال .
والثاني : استعمالها استعمال المستحل لها وإن اعتقد أنها حرام وكلاهما فيه الإثم العظيم".
- ويرى –رحمه الله- أن النوع الأول من الاستحلال (الاستحلال العقدي) موجب لتكفير صاحبه ؛ بخلاف الثاني الذي لا يوجب ذلك ؛ كما قال في الشرح الممتع (10/220) : "لأن قوله: [يستحلون] يدل على أنها حرام.
وهل الاستحلال هنا اعتقاد أنها حلال، أو ممارستها كممارسة الحلال؟!
الجواب الثاني : لأن اعتقاد أنها حلال قد يخرج من الإسلام، إذا اعتقد أن الخمر حلال وهو في أمة الإسلام قد عاش وفهم ذلك كان مرتدا، لكن المراد يستحلونها أي يفعلونها فعل المستحل لها فلا ينكرونها ولا يدعونها".

الأمر الثاني : يرى الشيخ –رحمه الله- أن ضابط الاستحلال الموجب للتكفير ؛ يختلف باختلاف نوع الاستحلال :
أ- فأما ضابط الاستحلال العقدي الموجب للتكفير ؛ فهو : الاعتقاد بحل المحرم بعد علم المعتقِدِ بالتحريم ؛ فهذا يكفر المتلبس به .
ب- وأما الاستحلال الفعلي :
1- فإن كان المستَحَلُ مما يكفِّر ؛ فمستحله –بفعله له- كافر مرتد ؛ سواء اعتقد حله أو لم يعتقد .
2- وإن كان المستَحَلُ مما لا يكفِّر ؛ فمستحله –بفعله له- مسلم آثم , ويكفر إن اعتقد حله .
فضابط تكفير المستحل هو باعتقاده حليته –بعد إقامة الحجة- .
فضابط تكفير المستحل لفعل –بارتكابه له-لا باعتقاده- هو أن يكون الفعل موجبا للتكفير بنفسه .
وهذا التأصيل مأخوذ من جواب الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- على السؤال التالي ضمن سلسلة لقاءات الباب المفتوح (ش\50) : "السؤال : فضيلة الشيخ! ما هو ضابط الاستحلال الذي يكفر به العبد؟
الجواب :
الاستحلال: هو أن يعتقد حِلَّ ما حرمه الله.
وأما الاستحلال الفعلي فينظر: إن كان هذا الاستحلال مما يكفِّر فهو كافر مرتد، فمثلاً لو أن الإنسان تعامل بالربا، ولا يعتقد أنه حلال لكنه يصر عليه، فإنه لا يكفر؛ لأنه لا يستحله.
ولكن لو قال: إن الربا حلال، ويعني بذلك الربا الذي حرمه الله فإنه يكفر؛ لأنه مكذب لله ورسوله .
الاستحلال إذاً: استحلال فعلي واستحلال عقدي بقلبه.
فالاستحلال الفعلي: ينظر فيه للفعل نفسه، هل يكفر أم لا؟
ومعلوم أن أكل الربا لا يكفر به الإنسان، لكنه من كبائر الذنوب .
أما لو سجد لصنم فهذا يكفر لماذا؟ لأن الفعل يكفر؛ هذا هو الضابط .
ولكن لابد من شرط آخر وهو: ألا يكون هذا المستحل معذوراً بجهله، فإن كان معذوراً بجهله فإنه لا يكفر، مثل أن يكون إنسان حديث عهد بالإسلام لا يدري أن الخمر حرام، فإن هذا وإن استحله فإنه لا يكفر، حتى يعلم أنه حرام؛ فإذا أصر بعد تعليمه صار كافراً.

الأمر الثالث : وأما ضابط الحكم بالاستحلال –عند الشيخ ابن عثيمن- ؛ فمرده إلى أمرين :

الأول : أن يصرح المعين –بلسانه- أنه مستحل لما يعلم أن الله سبحانه حرمه ؛ كما قال في جوابه شرحه على صحيح مسلم \ كتاب الجهاد والسير \ الشريط التاسع في الدقيقة (7:40) , جوابا على السؤال التالي : "السؤال : بالنسبة للاستحلال؛ إذا أقدم شخصٌ على أي معصية من المعاصي؛ سواء من الكبائر أو غيرها، وأصر عليها ؛ هل بمجرد عمله وإصراره يُحْكَمُ عليه بأنه استحل هذا الشيء؟!.
أم أن الاستحلال عمل قلبي لا يظهر إلا أن يتفوه به الشخص؟!.
الجواب : أيه نعم ؛ الثاني هو الحق ؛ لأن كثيرًا مِن الناس يصرون على المعاصي، ويعتقدون أنها حرام؛ لكن يقولون : عجزنا أن نَفْتَكَّ منها، وتجده إذا فعل المعصية يستغفر الله منها؛ بل إن بعض الناس ينذر نذرًا مُغَلَّظًا ألاَّ يفعل هذه المعصية ولكنه يعجز ؛ لابد أنه هذا .
والاستحلال لا يشترط له أن يكون الدليل قاطعا ؛ بل لو قال القائل : نعم هذا الحديث قاله الرسول (صلى الله عليه وسلم) , وصرح بانه حرام ؛ لكن أرى أنه حلال ؛ فإنه يكفر ؛ حتى وإن كان من اخبار الآحاد ؛ ما دام يعتقد أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قاله ؛ ولكنه يقول : لا ؛ أنا أرى أنه حلال ؛ فهو كافر".

الثاني : أن تكون القرائن من ظاهر حاله دالة على استحلاله الموجب لتكفيره ؛ وقد اعتمد الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- على هذا الضابط في الحكم بتكفير بعض صور الإصرار على مواقعة (الخمور , والزنا), كذلك فعل في مسألة (التشريع العام) .
- فأما مسألة المجاهرة بالزنا ؛ فقد قال في شرح رياض الصالحين (1\116) –طبعة دار الوطن-: "هناك قسم ثالث فاسق مارد ماجن يتحدث بالزنا افتخارا والعياذ بالله يقول إنه سافر إلى البلد الفلاني وإلى البلد الفلاني وفجر وفعل وزنى بعدة نساء وما أشبه ذلك يفتخر بهذا هذا يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل لأن الذي يفتخر بالزنا مقتضى حاله أنه استحل الزنا والعياذ بالله ومن استحل الزنا فهو كافر .
ويوجد بعض الناس الفسقة يفعل ذلك , الذين أصيب المسلمون بالمصائب من أجلهم ومن أجل أفعالهم .
يوجد من يتبجح بهذا الأمر إذا سافر إلى بلد معروف بالفسق والمجون مثل بانكوك وغيرها من البلاد الخبيثة التي كلها زنى ولواط وخمر وغير ذلك رجع إلى أصحابه يتبجح بما فعل .
هذا كما قلت يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل لأن من استحل الزنا أو غيره من المحرمات الظاهرة المجمع عليها فإنه يكفر".
- وأما مسالة منح التراخيص لمحلات بيع الخمور ؛ فقد قال –رحمه الله- في شرحه على كتاب السياسة الشرعية لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص\315) : "مع الأسف يا إخواني أنه سمعنا –والله أعلم- أنه يوجد في بعض البلاد الإسلامية أن الخمر يشرب علنا ... , هؤلاء الذين يفعلون ذلك هل يقال: إنهم مستحلون له أو غير مستحلين؟ , الجواب: مستحلين له لا شك , كيف يرخص له هذا الترخيص العام وفي الأسواق ويعطي رخصة إلا وأنه يرى أنه حلال ؟ لو رأى أنه حرام لم يفعل".
- وأما في مسألة التشريع العام ؛ فقد كان كلامه –رحمه الله- واضحا جدا –لما تقدم ضربه من أمثلة- ؛ بل وقد جاء بعض كلامه دالا على أنه يُعرَفُ الاستحلال القلبي -في هذه المسألة- إذا ((رفع الحكم الشرعي وأحل بدله قوانين تخالف ما أنزل الله على رسوله)) ؛ فقال كما في لقاء الباب المفتوح (ش\85) جوابا على السؤال التالي : "السؤال: فضيلة الشيخ، يقول أكثر أهل العلم: إن الحاكم بغير ما أنزل الله إذا كان لا يستحل الحكم بغير ما أنزل الله، ويعلم أن حكم الله خير من حكم غيره فهو لا يكفر إلا بشرط الاستحلال ؛ فما هو الدليل على أنه لا يكفر إلا أن يكون مستحلاً لذلك؟ وإذا كان الاستحلال لا يكون إلا في القلب باعتقاد الشيء حله من حرامه فكيف لنا أن نعرف أن هذا مستحل أو غير ذلك؟ جزاكم الله خيراً!.
الجواب: ...... ؛ فمثلاً: إذا جاءنا رجل ورفع الحكم الشرعي وأحل بدله قوانين تخالف ما أنزل الله على رسوله، فهذا لا شك أنه مستحل؛ لأنه رفع الحكم نهائياً ووضع قانوناً من وضعه أو من وضع من هو أسوأ حالاً منه، فهذا كافر؛ لأن رفعه للأحكام الشرعية ووضع القوانين بدلها يعني أنه استحل ذلك .... .
لكن في الأمور الدنيوية ربما يتجاسر ويضع قوانين مخالفة للشرع، فهذا من حيث هو كفر لا شك فيه ؛ لأن هذا رفع الحكم الشرعي واستبدل به غيره، ولكن لا بد أن نقيم عليه الحجة".
بل هو –رحمه الله- قدصرح بمخالفته لقول الشيخ الألباني في أنه "لا يجوز أن نكفر العصاة المتلبسين بشيء من المعاصي لمجرد ارتكابهم لها، واستحلالهم إياها عملياً، إلا إذا ظهر - يقيناً - لنا منهم - يقيناً - ما يكشف لنا عما في قرارة نفوسهم أنهم لا يُحَرّمُون ما حرم الله ورسوله اعتقاداً؛ فإذا عرفنا أنهم وقعوا في هذه المخالفة القلبية حكمنا حينئذ بأنهم كفروا كفر ردة.
أما إذا لم نعلم ذلك فلا سبيل لنا إلى الحكم بكفرهم؛ لأننا نخشى أن نقع تحت وعيد قوله عليه الصلاة والسلام: [إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما]".
وقال –رحمه الله- كما في كتاب (التحذير من فتنة التكفير) : ".... ولكننا قد نخالفه في مسألة أنه لا يحكم بكفرهم إلا إذا اعتقدوا حل ذلك ، هذه المسألة تحتاج إلى نظر لأننا نقول من اعتقد حل ذلك ، حتى لو حكم بحكم الله - وهو يعتقد أن حكم غير الله أولى - فهو كافر كفر عقيدة ، لكن كلامنا على العمل ، وفي ظني أنه لا يمكن لأحد أن يطبق قانونا مخالفا للشرع يحكم فيه بعباد الله إلا وهو يستحله ويعتقد أنه خير من قانون الشرع هذا هو الظاهر ن وإلا فما الذي حمله على ذلك؟...".

قلت : ومستند الشيخ –رحمه الله- في الاستدلال بفساد الظاهر على فساد الباطن بالكلية إنما هو أصل علمي شرعي سلفي وهو أصل (ضرورة التلازم بين الظاهر والباطن) ؛ فهو قد استدل –كما هو من ظاهر كلامه- بما قام من فساد ظواهر حال المشرعين للأحكام والقوانين على فساد معتقداتهم الباطنة ؛ فقال –مثلا- : " لا يمكن لأحدٍ أنْ يُطبق قانوناً مخالفاً للشرع، يحكم فيه عباد الله إلاّ وهو يستحله ويعتقد أنَّه خير من القانون الشرعي، فهو كافر، هذا هو الظاهر وإلاّ فما حمله على ذلك".
قلت : وهذا الاستدلال منه –رحمه الله- اجتهادي محض لا نصَّ عليه من كتاب أو سنة أو اجماع منعقد , لكنه مبني على أصل شرعي صحيح وقد وقع مثله لبعض الصحابة , حيث استدلوا بظاهر حال البعض على فساد بواطنهم بل كفرهم , كما قرر هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (27\522-524) : "أن شعب الإيمان قد تتلازم عند القوة ولا تتلازم عند الضعف ؛ فإذا قوي ما فى القلب من التصديق والمعرفة والمحبة لله ورسوله أوجب بغض أعداء الله كما قال تعالى {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما إتخذوهم أولياء} , وقال {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} , وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة فتكون ذنبا ينقص به إيمانه ولا يكون به كافرا كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبى وأنزل الله فيه {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة} .
وكما حصل لسعد بن عبادة لما إنتصر لإبن أبي فى قصة الافك فقال لسعد بن معاذ (كذبت والله لا تقتله ولا تقدر على قتله) , قالت عائشة : (وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن إحتملته الحمية) .
ولهذه الشبهة سمى عمر حاطبا منافقا فقال : (دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ؛ فقال : إنه شهد بدرا) ؛ فكان عمر متأولا فى تسميته منافقا للشبهة التى فعلها .
وكذلك قول أسيد بن حضير لسعد بن عبادة : (كذبت لعمر الله لنقتلنه إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين) هو من هذا الباب .
وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدخشم : (منافق) , وإن كان قال ذلك لما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين .
ولهذا لم يكن المتهمون بالنفاق نوعا واحدا بل فيهم : المنافق المحض , وفيهم من فيه إيمان ونفاق , وفيهم من إيمانه غالب وفيه شعبة من النفاق , وكان كثير ذنوبهم بحسب ظهور الإيمان , ولما قوى الإيمان وظهر الإيمان وقوته عام تبوك صاروا يعاتبون من النفاق على ما لم يكونوا يعاتبون عليه قبل ذلك .
ومن هذا الباب ما يروى عن الحسن البصري ونحوه من السلف أنهم : (سموا الفساق منافقين) ؛ فجعل أهل المقالات هذا قولا مخالفا للجمهور إذا حكوا تنازع الناس فى الفاسق الملى هل هو : كافر , أو فاسق ليس معه ايمان , أو مؤمن كامل الايمان , أو مؤمن بما معه من الايمان فاسق بما معه من الفسق , أو منافق , والحسن -رحمه الله تعالى- لم يقل ما خرج به عن الجماعة لكن سماه منافقا على الوجه الذي ذكرناه" .
ومما يؤكد أن هذا الحكم (وهو الاستدلال بفساد الظاهر –أحيانا- على فساد الباطن بالكلية) ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (4\330-333) : "هب أن واحدا من الصحابة عائشة أو غيرها قال في ذلك على وجه الغضب إنكاره بعض ما ينكر ؛ فليس قوله حجة , ولا يقدح ذلك لا في إيمان القائل ولا المقول له , بل قد يكون كلاهما وليا لله تعالى من أهل الجنة , ويظن أحدهما جواز قتل الاخر , بل يظن كفره وهو مخطىء في هذا الظن , كما ثبت في الصحيحين عن علي وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة ... [وفيها] قال عمر (رضي الله عنه) : (دعني أضرب عنق هذا المنافق) ... .
فإن عثمان وعليا وطلحة والزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب ابن أبي بلتعة وكان حاطب مسيئا إلى مماليكه وكان ذنبه في مكاتبة المشركين وإعانتهم على النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه أعظم من الذنوب التي تضاف إلى هؤلاء , ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله وكذب من قل إنه يدخل النار لأنه شهد بدرا والحديبية وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر , ومع هذا فقد قال عمر رضي الله عنه دعني أضرب عنق هذا المنافق فسماه منافقا واستحل قتله ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ولا في كونه من أهل الجنة ... .
وقد قال أسيد بن حضير لسعد بن عبادة : (إنك منافق تجادل عن المنافقين) , وهذا مؤمن ولي لله من أهل الجنة وذاك مؤمن ولي الله من أهل الجنة ؛ فدل على أن الرجل قد يكفر اخر بالتأويل ولا يكون واحد منهما كافرا ...".

بل وهذا الإمام الألباني يصرح بها مدوية أن من (يُعلن بمعصيته ويتفاخر بها ويورط ناس حولها هل هو مستحل قلبيا أو لا؟) , (لا يجوز أن يصير خلافا عقديا) , (ولا يجوز أن يقال لمن كفر بعلة الاستحلال أنه يكفر مرتكب الكبيرة) , وذلك حينما قال له بعض السائلين : "السائل : توجد مواقف للطلبة والأتباع، وتوجد مواقف أو بعض الكلمات للقادة ، مثلاً: سلمان العودة في شريط له بعنوان: (جلسة على الرصيف). ومعي نسخة وفيها المقطع الذي سأذكره الآن..
فقال الشيخ الألباني: وين النسخة؟
فقال: موجودة عندي في الشنطة , ثم شغل الشريط وفيه كلام لسلمان العودة في شريط (جلسة على الرصيف) ويقول فيه: ((وأخبث وأعظم من ذلك أن بعضهم إذا سمع زملاؤه يقولون هكذا، فإنه ربما افتعل واختلق شيئاً لم يحدث، وبدأ يجاريهم فيما يقولون، فقال: أنا لي علاقات محرمة، وأنا لي صداقات، وأن لي أسفار ، وأنا فعلت وأنا وأنا....وبدأ يسرد قصص مكذوبة عن بعض المعاصي لم تقع، فهذا - والعياذ بالله- أيضاً يتشبع بالمعصية ، لا شك أنه ليس أعظم إثماً ممن فعلها وجاهر بها، لكنه إثمه أيضاً عظيم..وبعضهم يتعدى به المجاهرة إلى أن يُسجّل المعصية على شريط، ربما سجل بعضهم كما فعل بعض المغنين، ولا كرامة لهم لأنهم مرتدون بفعلهم هذا أن يسجل أغنية، كيف أنه غرر بفتاة، وجرها إلى المنزل، وارتكب معها الفاحشة..ويذكر كيف وكيف، وكيف... يذكر تفاصيل كثيرة، ويجعل هذا في شريط يُسمع عند بعض السفهاء وبعض الفساق!! هذه ردة عن الإسلام.. هذا مخلد والعياذ بالله في نار جهنم إلا أن يتوب! لماذا؟ لأنه لايؤمن بقول الله- عز وجل-:{ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً}.))إ.هـ كلام سلمان العودة.
فعلق الشيخ –رحمه الله- قائلا- : "كلامه في محاضرة والمحاضرة يتحمس فيها الإنسان، ويعظ ويبالغ في الوعظ ووو......إلى آخره. هذا من جهة..
من جهة أخرى: هذ ا حُكم على شخص أو أشخاص معيّنين، انطلاقاً من عقيدة صحيحة، وهو الذي يستحل المحرم، يستحله قلبياً ، فهذا ما فيه خلاف بين السلفيين، بل والحنفيين أيضاً، بأنه يكون كفره كفر ردة، أليس كذلك؟
هذا هو الذي نحن نسأل، هل هناك خلاف في مثل هذه القضية كعقيدة؟.
أما تطبيق الحكم المترتب من وراء هذه العقيدة على زيد من الناس، قد يختلف، أنا وأنت قد نختلف، أنا وأبو مالك قد نختلف.. يا ترى هذا الذي يُعلن بمعصيته ويتفاخر بهاويورط ناس حولها وووو إلى آخره , هذا مستحل قلبياً أو لا ؟
أنا قد أقول: لا ، وأنت قد تقول: بلى.. , أو بالعكس أنا أقولك: بلى ، وأنت قد تقول: لا..
هذا ما بيجوز أن نجعل بيننا وبينك خلافاً عقدياً، كما يقولون اليوم، لأنا نحن في الأصل- كما بحثنا معك- متفقون أن هناك كفر ردة: كفر عملي وكفر اعتقادي. فهذه الصورة ما يجوز إنا نجعلها سبب خلاف بينا وبينهم في العقيدة- وهذا رأيي-.
أنا أقول: المسألة يا أخي ليست بهالسهولة، ما يجوز نقول الرجل هذا الذي تكلم هذا الكلام وحمله على ذلك غيرته الإسلامية إنه هذا يكفّر مرتكب الكبيرة".
http://www.kulalsalafiyeen.com/vb/sh...ad.php?t=13572
قلت :
1- وفي صنيع بعض الصحابة كـ(عمر بن الخطاب , وأسيد بن حضير) .
2- وما سيأتي من اختلاف الصحابة –رضي الله عنهم- حول الموقف من مانعي الزكاة المقاتلين عليها.
3- وقول شيخ الإسلام ابن تيمية –المتقدم- .
4- وتصريح الشيخ الألباني الأخير .
5- ومثله تماما قول الشيخ ابن باز في مناظرته المشهورة في مسألة (تحكيم القوانين) ؛ حيث قال عقب مناقشة محتدة حول الاستدلال على استحلال الحاكم لتحكيم القوانين الوضعية بإصراره وقتاله دون تحكيم الشرع : "البحث هذا ما يمنع البحث الآخر ، البحث هذا ، كل واحد يجتهد في البحث ، قد يجد ما يطمئن له قلبه ، لأنها مسائل خطيرة ، ماهي بسهلة مسائل مهمة.
السائل : ترون أن هذه المسألة - سماحتكم - يعني اجتهادية ؟
الشيخ ابن باز : والله أنا هذا الذي اعتقده من النصوص ؛ يعني من كلام أهل العلم فيما يتعلق في الفرق بين أهل السنة والخوارج والمعتزلة ، خصوصا الخوارج ، أن فعل المعصية ليس بكفر إلا إذا استحله أو دافع عن دونها بالقتال".
http://fatwa1.com/anti-erhab/Hakmeh/monaqshah.html
أقول : فيما تقدم دلالة واضحة وصريحة على أن بعض السلف ومن تبعهم من بعض أهل العلم السلفيين يرون : أن للمجتهد الذي يملك أهلية الاجتهاد والنظر في تحقيق المناط أن يستدل بظاهر أحوال البعض للحكم بفساد باطنهم ؛ فالمسألة –من هذه الحيثية- اجتهادية محضة .
بل ولا أدل على كونها اجتهادية اختلاف أهل العلم السلفيين فيها ؛ فهي ليست من مسائل النص أو الإجماع لتعلقها بتحقيق المناط ؛ لا بالمناط -فهو مجمع عليه- !!

وفي هذه النقولات رد واضح وصريح على من افترى على بعض مشايخ الدعوة السلفية ذوي الأصول السنية المتينة –في هذا الباب- أنهم يقولون بقول الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة ؛ لأنهم اجتهدوا في بعض صور الإصرار على ارتكاب الكبيرة فحكموا على فاعليها بانهم كفار لاستحلالهم لا لمجرد فعلهم الكبيرة .
وسيأتي إيضاح الفرق بين قول أئمة السنة هؤلاء , وبين قول غلاة التكفير ؛ فلا تستعجل .

المحور الثالث : خطأ الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- في إطلاقاته السابقه .
وكما خطأ أهل العلم عمر بن الخطاب , وأسيد بن حضير –رضي الله عنهما- في نحو هذه المسألة ؛ فكذلك أخطأ الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- في بعض إطلاقاته المتقدمة -فيها- , كما وقد أخطأ –كذلك- الشيخ محمد بن إبراهيم في رسالته (تحكيم القوانين) , كما صرح بذلك الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- في مناقشته المشهورة في (تحكيم القوانين) ؛ حيث قال جوابا عن التساؤل التالي : "السائل : سماحة الشيخ ؛ الشيخ محمد -الله يرحمه- ابن إبراهيم في رسالته ؛ ذكر أن الدول التي تحكم بالقانون دول كفرية يجب الهجرة منها ؟.
فقال الإمام ابن باز : لظهور الشر لظهور الكفر والمعاصي .
السائل : الذين يحكمون بالقانون ؟.
فقال الإمام ابن باز : شفت رسالته -الله يغفر له- بل يرى ظاهرهم الكفر ، لأن وضعهم للقوانين دليل على رضى واستحلال ، هذا ظاهر رسالته -رحمه الله- ، لكن أنا عندي فيها توقف ، أنه ما يكفي هذا حتى يعرف أنه استحله ، أما مجرد أنه حكم بغير ما أنزل الله أو أمر بذلك ما يكفر بذلك مثل الذي أمر بالحكم على فلان أو قتل فلان ما يكفر بذلك حتى يستحله ، الحجاج بن يوسف ما يكفر بذلك ولو قتل ما قتل حتى يستحل ، لأن لهم شبهة ، وعبد الملك بن مروان ، ومعاوية وغيرهم ، مايكفرون بهذا لعدم الاستحلال ، وقتل النفوس أعظم من الزنا وأعظم من الحكم بالرشوة".
قلت : ويستدل بجملة أوجه على خطأ اجتهاد الشيخ ابن عثيمين في بعض إطلاقاته السابقة , ومِن قبله الشيخ محمد بن إبراهيم , وغيرِهما من أئمة الدعوة السلفية ؛ ولا أبعد لو قلت : وكذلك خطأ إطلاق –لا اختيار- الشيخ ابن باز –رحمه الله- في مناقشته المشار إليها آنفا حيق قال : "إذا دافع عن الحكم بغير ما أنزل الله , وقال : ما أرجع فهو دفاع المستحل ، يكون كافرا -إذا وقع- إذا وقع كفروا ، إذا وقع قيل لهم أحكموا بما أنزل الله وإلا قاتلناكم وأبوا يكفرون ، هذا الظن فيهم".
ومن ذلك :
الوجه الأول : إن الكفر لعلة فساد الباطن باستحلال الحكم بغير ما أنزل الله أو باعتقاد مماثلته له أو تفصيله عليه ؛ إنما هو من قبيل الكفر الاعتقادي الباطن الذي ينفى عن المتلبس به أصل الايمان مع بقاء حكم الاسلام ثابتا له في الدنيا –مع أنه كافر في الحقيقة- كالمنافقين ؛ وليس من قبيل الكفر الظاهر الذي ينفي عن المتلبس به أحكام الاسلام.
ولم يقم في ظاهره ما يوجب الحكم عليه بالكفر لأجله , فلا يقال هوكافر وإن كان في الباطن كافرا , بل وإن ظهرت عليه إمارات الكفر البطن , كما قال شيخ الاسلام في مجموع الفتاوى 7\620) : "ما يستقر فى القلب من إيمان ونفاق لابد أن يظهر موجبه فى القول والعمل كما قال بعض السلف (ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه) وقد قال تعالى فى حق المنافقين {ولونشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفهم فى لحن القول} .
فإذا أظهر المنافق من ترك الواجبات وفعل المحرمات ما يستحق عليه العقوبة عوقب على الظاهر ولا يعاقب على ما يعلم من باطنه بلا حجة ظاهرة , ولهذا كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يعلم من المنافقين من عرفه الله بهم وكانوا يحلفون له وهم كاذبون , كان يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم الى الله , واساس النفاق الذي بنى عليه وان المنافق لابد أن تختلف سريرته وعلانيته وظاهره وباطنه ولهذا يصفهم الله فى كتابه بالكذب كما يصف المؤمنين بالصدق قال تعالى {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} وقال {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} وأمثال هذا كثير وقال تعالى {إنما المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله أولئك هم الصادقون} وقال {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب الى قوله أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} , وبالجملة فأصل هذه المسائل ان تعلم أن الكفر نوعان كفر ظاهر , وكفر نفاق , فإذا تكلم فى أحكام الآخرة كان حكم المنافق حكم الكفار , وأما فى أحكام الدنيا فقد تجري على المنافق أحكام المسلمين".
ولا بد من اعتبار نوع الكفر في كثير من المسائل التي عدها أهل العلم من نواقض الاسلام , إذ أفضى عدم إعتبار نوع الكفر الى جملة مفاسد منها تنزيل أثار الحكم على المعين بالكفر الظاهر على من كان كفره كفرا باطنا , وكما وضح شيخ الاسلام في مجموع الفتاوى (7\472) هذا بقوله : "فهذا اصل ينبغي معرفته فإنه مهم فى هذا الباب فإن كثيرا ممن تكلم فى مسائل الايمان والكفر -لتكفير أهل الأهواء- لم يلحظوا هذا الباب ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة والاجماع المعلوم بل هومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ومن تدبر هذا علم أن كثيرا من اهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمنا مخطئا جاهلا ضالا عن بعض ما جاء به الرسول وقد يكون منافقا زنديقا يظهر خلاف ما يبطن".
وقال –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (7\616-617) : "فإذا كان العبد يفعل بعض المأمورات ويترك بعضها كان معه من الايمان بحسب ما فعله والايمان يزيد وينقص ويجتمع فى العبد إيمان ونفاق كما ثبت عنه فى الصحيح [أنه قال أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر].
وبهذا تزول الشبهة فى هذا الباب فإن كثيرا من الناس بل أكثرهم فى كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس ولا هم تاركيها بالجملة بل يصلون أحيانا ويدعون أحيانا فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق وتجري عليم أحكام الاسلام الظاهرة فى المواريث ونحوها من الأحكام فإن هذه الاحكام إذا جرت على المنافق المحض كإبن أبي وأمثاله من المنافقين فلأن تجري على هؤلاء أولى وأحرى .
وبيان هذا الموضع مما يزيل الشبهة ؛ فإن كثيرا من الفقهاء يظن أن من قيل هوكافر ؛ فإنه يجب أن تجري عليه أحكام المرتد ردة ظاهرة فلا يرث ولا يورث ولا يناكح حتى أجروا هذه الأحكام على من كفروه بالتأويل من أهل البدع وليس الأمر كذلك ؛ فإنه قد ثبت أن الناس كانوا ثلاثة أصناف : مؤمن , وكافر مظهر للكفر , ومنافق مظهر للإسلام مبطن للكفر , وكان فى المنافقين من يعلمه الناس بعلامات ودلالات , بل من لا يشكون فى نفاقه , ومن نزل القرآن ببيان نفاقه كابن أبى وأمثاله , ومع هذا فلما مات هؤلاء ورثهم ورثتهم المسلمون , وكان إذا مات لهم ميت آتوهم ميراثه وكانت تعصم دماؤهم حتى تقوم السنة الشرعية على أحدهم بما يوجب عقوبته".
وقال –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (7\410-413) : "الإيمان الظاهر الذى تجرى عليه الأحكام فى الدنيا لا يستلزم الإيمان فى الباطن الذى يكون صاحبه من اهل السعادة فى الآخرة فان المنافقين الذين قالوا آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين هم فى الظاهر مؤمنون يصلون مع الناس ويصومون ويحجون ويغزون والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم كما كان المنافقون على عهد رسول الله ولم يحكم النبى  فى المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر لا فى مناكحتهم ولا موارثتهم ولا نحوذلك بل لما مات عبد الله بن أبى بن سلول وهومن اشهر الناس بالنفاق ورثه ابنه عبدالله وهومن خيار المؤمنين وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون واذا مات لأحدهم وارث ورثوه مع المسلمين .
وقد تنازع الفقهاء فى المنافق الزنديق الذى يكتم زندقته هل يرث ويورث على قولين والصحيح أنه يرث ويورث وإن علم فى الباطن أنه منافق كما كان الصحابة على عهد النبى  لأن الميراث مبناه على الموالاة الظاهرة لا على المحبة التى فى القلوب فإنه لوعلق بذلك لم تمكن معرفته والحكمة اذا كانت خفية أومنتشرة علق الحكم بمظنتها وهوما أظهره من موالاة المسلمين فقول النبى [لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم] لم يدخل فيه المنافقون وان كانوا فى الآخرة فى الدرك الأسفل من النار بل كانوا يورثون ويرثون وكذلك كانوا فى الحقوق والحدود كسائر المسلمين وقد أخبر الله عنهم أنهم يصلون ويزكون ومع هذا لم يقبل ذلك منهم فقال {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلاوهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} وقال {إن المنافقين يخادعون الله وهوخادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا} , وفى صحيح مسلم عن النبى  قال [تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرنى شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا] وكانوا يخرجون مع النبي فى المغازي كما خرج إبن أبى فى غزوة بنى المصطلق وقال فيها {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} وفى الصحيحين عن زيد بن أرقم قال [خرجنا مع النبى فى سفر اصاب الناس فيها شدة فقال عبدالله بن أبى لأصحابه لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فأتيت النبى فأخبرته فأرسل الى عبدالله بن ابى فسأله فإجتهد يمينه ما فعل وقالوا كذب زيد يا رسول الله فوقع فى نفسى مما قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقى فى {إذا جاءك المنافقون} فدعاهم النبى ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم] وفى غزوة تبوك استنفرهم النبى كما إستنفر غيرهم فخرج بعضهم معه وبعضهم تخلفوا وكان فى الذين خرجوا معه من هم بقتله فى الطريق هموا بحل حزام ناقته ليقع فى واد هناك فجاءه الوحى فأسر الى حذيفة أسماءهم ولذلك يقال هوصاحب السر الذى لا يعلمه غيره كما ثبت ذلك فى الصحيح ومع هذا ففى الظاهر تجرى عليهم أحكام أهل الإيمان.
وبهذا يظهر الجواب عن شبهات كثيرة تورد فى هذا المقام فإن كثيرا من المتأخرين ما بقى فى المظهرين للإسلام عندهم إلا عدل أوفاسق وأعرضوا عن حكم المنافقين والمنافقون ما زالوا ولا يزالون الى يوم القيامة والنفاق شعب كثيرة وقد كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم ففى الصحيحين عن النبى قال [آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان] وفى لفظ مسلم [وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم] وفى الصحيحين عن عبدالله بن عمروعن النبى  أنه قال [أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه شعبة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا ائتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر], وكان النبى  أولا يصلى عليهم ويستغفر لهم حتى نهاه الله عن ذلك فقال {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} وقال {استغفر لهم اولا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} فلم يكن يصلى عليهم ولا يستغفر لهم ولكن دماؤهم وأموالهم معصومة لا يستحل منهم ما يستحله من الكفار الذين لا يظهرون أنهم مؤمنون بل يظهرون الكفر دون الإيمان فإنه قال [أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله] ولما قال لأسامة بن زيد [اقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قال إنما قالها تعوذا قال هلا شققت عن قلبه] , وقال [إنى لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا اشق بطونهم] , وكان إذا استؤذن فى قتل رجل يقول [أليس يصلى أليس يتشهد فإذا قيل له أنه منافق قال ذاك] , فكان حكمه فى دمائهم وأموالهم كحكمه فى دماء غيرهم لا يستحل منها شيئا إلا بامر ظاهر مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم".
وفائدة معرفة نوع الكفر هو عدم الحكم بكفر معين قام في حقه موجب الكفر الباطن , بل لا يحكم بكفر المعين هذا إلا بما اظهره من كفر كما يقول شيخ الاسلام في مجموع الفتاوى (7\620) : "فإذا أظهر المنافق من ترك الواجبات وفعل المحرمات ما يستحق عليه العقوبة عوقب على الظاهر ولا يعاقب على ما يعلم من باطنه بلا حجة ظاهرة ولهذا كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يعلم من المنافقين من عرفه الله بهم وكانوا يحلفون له وهم كاذبون وكان يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم الى الله".
وقال –أيضا- في مجموع الفتاوى (23\229) : "أن النبى ما يعاقب المنافقين على الأمور الباطنة وانما يعاقبهم على ما يظهر منهم من ترك واجب أوفعل محرم" .
وقال كذلك في مجموع الفتاوى (24\175) : "وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولا أوعملا وأما من أظهر لنا خيرا فإنا نقبل علانيته ونكل سريرته إلى الله تعالى فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبى (صلى الله عليه وسلم) يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله لما جاءوا إليه عام تبوك يحلفون ويعتذرون".
وقال في مجموع الفتاوى (7\412-413) : "فلم يكن يصلى عليهم ولا يستغفر لهم ولكن دماؤهم وأموالهم معصومة لا يستحل منهم ما يستحله من الكفار الذين لا يظهرون أنهم مؤمنون بل يظهرون الكفر دون الإيمان فإنه قال [أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله] ولما قال لأسامة بن زيد [اقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله قال إنما قالها تعوذا قال هلا شققت عن قلبه] وقال [إنى لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا اشق بطونهم] وكان إذا استؤذن فى قتل رجل يقول [أليس يصلى أليس يتشهد فإذا قيل له أنه منافق قال ذاك], فكان حكمه فى دمائهم وأموالهم كحكمه فى دماء غيرهم لا يستحل منها شيئا إلا بامر ظاهر مع أنه كان يعلم نفاق كثير منهم".
فالقول بتكفير المشرعين للقوانين لعلة الاستحلال ؛ إنما هو من قبيل التكفير الباطن لا الظاهر ؛ فيكونون –فيما لو ثبت ذلك في حق المعين منهم- بمنزلة المنافقين الذين لهم أحكام الإسلام في الدنيا –ولو ظهرت آثار نفاقهم على جوارحهم- ؛ وأما في الآخرة فهم كفار خالدون مخلدون في نار جهنم والعياذ بالله ؛ فالحكم بتكفيرهم الكفر الظاهر ومعاملتهم معاملة الكفار أو المرتدين خطأ محض لما تقدم من نقولات بينات عن شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- .
ولهذا فإطلاق الشيخ ابن عثيمين لكفر المشرع للقوانين لعلة الاستحلال ؛ يصح إن كان المراد منه الكفر الباطن مع إبقاء حكم الإسلام له في الظاهر والتعبير عنه بالنفاق , ووصف المتلبس به (بالمنافق) لا (الكافر) هو (المتعين) ؛ ولا يقبل منه لو أراد به الكفر الظاهر .

الوجه الثاني : إن مبنى احتهاد الشيخ –رحمه الله- قائم بصورة عامة على مسألة التلازم ؛ ومعلوم أن لازم المذهب ليس بمذهب , ولازم القول ليس بقول , ولازم الفعل كذلك , ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة عدم التكفير بلازم المذهب كما قال شيخ الاسلام في مجموع الفتاوى (20\217) : "الصواب أن مذهب الانسان ليس بمذهب له -إذا لم يلتزمه- ؛ فانه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته اليه كذبا عليه , بل ذلك يدل على فساد قوله وتناقضه فى المقال غير التزامه اللوازم التى يظهر أنها من قبل الكفر والمحال مما هو اكثر فالذين قالوا بأقوال يلزمها أقوال يعلم أنه لا يلتزمها لكن لم يعلم أنها تلزمه ولو كان لازم المذهب مذهبا للزم تكفير كل من قال عن الاستواء او غيره من الصفات انه مجاز ليس بحقيقة فإن لازم هذا القول يقتضى أن لايكون شئ من أسمائه أو صفاته حقيقه".
وقد زاد الشيخ محمد بن صالح العثيمين في القواعد المثلى (14-15) هذا الاصل وضوحا فقال : "وأما اللازم من قول أحدٍ سوى قول الله ورسوله، فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يذكر للقائل ويلتزم به، مثل أن يقول من ينفي الصفات الفعلية لمن يثبتها: يلزم من إثباتك الصفات الفعلية لله – عز وجل – أن يكون من أفعاله ما هو حادث. فيقول المثبت: نعم، وأنا ألتزم بذلك فإن الله تعالى لم يزل ولا يزال فعالاً لما يريد ولا نفاد لأقواله وأفعاله كما قال تعالى {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} وقال {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وحدوث آحاد فعله تعالى لا يستلزم نقصاً في حقه.
الحال الثانية: أن يذكر له ويمنع اللازم بينه وبين قوله، مثل أن يقول النافي للصفات لمن يثبتها: يلزم من إثباتك أن يكون الله تعالى مشابهاً للخلق في صفاته. فيقول المثبت: لا يلزم ذلك، لأن صفات الخالق مضافة إليه لم تذكر مطلقة حتى يمكن ما ألزمت به، وعلى هذا فتكون مختصة به لائقة به، كما أنك أيها النافي للصفات تثبت لله تعالى ذاتاً وتمنع أن يكون مشابهاً للخلق في ذاته، فأي فرق بين الذات والصفات؟!.وحكم اللازم في هاتين الحالتين ظاهر.
الحال الثالثة: أن يكون اللازم مسكوتاً عنه، فلا يذكر بالتزام ولا منع، فحكمه في هذه الحال ألا ينسب إلى القائل، لأنه يحتمل لو ذكر له أن يلتزم به أو يمنع التلازم، ويحتمل لو ذكر له فتبين له لزومه وبطلانه أن يرجع عن قوله؛ لأن فساد اللازم يدل على فساد الملزوم , ولورود هذين الاحتمالين لا يمكن الحكم بأن لازم القول قول.
فإن قيل: إذا كان هذا اللازم لازماً من قوله، لزم أن يكون قولاً له، لأن ذلك هو الأصل، لاسيما مع قرب التلازم.
قلنا: هذا مدفوع بأن الإنسان بشر، وله حالات نفسية وخارجية توجب الذهول عن اللازم، فقد يغفل، أو يسهو، أو ينغلق فكره، أو يقول القول في مضايق المناظرات من غير تفكير في لوازمه، ونحو ذلك".

بل هذا الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-نفسه- وضح ان تشريع القوانين لا يستلزم منه دائما وأبدا الاستحلال ؛ بل قد يكون بدافع آخر كالمداهنة مثلا فقال –رحمه الله- كما في (التحذير من فتنة التكفير) : "وفي ظني أنه لا يمكن لأحد أن يطبق قانوناً مخالفاً للشرع يحكم فيه في عباد الله إلا وهو يستحله ويعتقد أنه خير من القانون الشرعي، فهو كافر، هذا هو الظاهر، وإلا فما الذي حمله على ذلك ؟
قد يكون الذي حمله على ذلك خوفاً من أناس آخرين أقوى منه إذا لم يطبقه، فيكون مداهناً لهم، فحينئذ نقول: إن هذا كالمداهن في بقية المعاصي".
فالقطع بأن تشريع القوانين مرده للاستحلال القلبي لها فقط دون سائر الاحتمالات متضمن لتعطيل غيره من الدوافع بغير بينة بل بمحض التقول .

الوجه الثالث : أن مبنى هذا الاجتهاد منه –رحمه الله- إنما هو قائم على مسألة التلازم بين شعب الإيمان الظاهرة والباطنة ؛ وهذا التلازم قد يظهر أثره في حال قوته , وقد لا يظهر بسبب إما ضعف الإيمان أو انتفائه ؛ كما قال شيخ الاسلام في مجموع الفتاوى (7\644) : "فأصل الإيمان فى القلب وهو قول القلب وعمله وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد وما كان فى القلب فلابد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح واذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه" .
وقال -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (7\234) مؤكدا على أن عدم حصول اللازم قد يكون بسبب ضعف الملزوم لا بسبب انتفائه : "فإن قوة المسبب دل على قوة السبب وهذه الأمور نشأت عن العلم فالعلم بالمحبوب يستلزم طلبه والعلم بالمخوف يستلزم الهرب منه فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم".
فجعل تخلف الملزوم راجع إلى انتفاء اللازم فقط ؛ محض تقول ؛ والقطع بأحد الأمرين (انتفاء الإيمان أو ضعف الإيمان) دون الاخر لغير قرينة موجبة لذلك الترجيح لا يصح , وبخاصة إذا رجح إحتمال إنتفاء الايمان لانه معارض للاصل الثابت بيقين وهو وجود الايمان في قلب مدعي الاسلام ؛ ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل عنه بالشك والظن والتخمين ؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (12\ 466) : "من ثبت إسلامه بيقين لم يزُل ذلك عنه بالشك".
ولهذا قال الشيخ عبد العزيز بن باز في مناظرته الشهيرة حول مسألة تحكيم القوانين -مبينا أن التكفير الظاهر لا يكون بلازم القول أو الحكم- : " السائل : مالم يستحلوا نعم . إنما هم يرون أن هناك فرقا بين من يفعل المعصية فنحكم بأنه مسلم فاسق أو ناقص الإيمان ، وبين من يجعل المعصية قانونا ملزما للناس ، لأنه - يقولون - لا يتصور من كونه أبعد الشريعة مثلا وأقصاها وجعل بدلها قانونا ملزما - ولو قال إنه لا يستحله - لا يتصور إلا أنه إما أنه يستحله أو يرى أنه أفضل للناس أوما أشبه ذلك ، وأنه يفارق الذي حكم في قضية خاصة لقرابة أو لرشوة ؟
الشيخ ابن باز : بس قاعدة ، قاعدة : لا زم الحكم ليس بحكم ، لا زم الحكم ليس بحكم ، قد يقال في الذي حكم لهواه أو لقريبه : أنه مستحل يلزمه ذلك وليش يسأل ، ماهو بلازم الحكم حكم ، هذا فيما بينه وبين الله".
بل الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- يشير إلى هذا –أيضا- كما في فتواه المسجلة مع الشيخ أبي الحسن المأربي –وفقه الله- حيث قال : "وإذا كان يعلم الشرع ولكنه حكم بهذا أو شرع هذا وجعله دستورا يمشي الناس عليه يعتقد انه ظالما في ذلك وان الحق فيما جاء به الكتاب والسنة فإننا لا نستطيع أن نكفر هذا".
فقد يشرع الحاكم قوانين يستبدل بها أحكام الشرع لضعف إيمانه مع اعتقاده أنه ظالم في ذلك وان الحق فيما جاء به الكتاب والسنة ؛ فهذا لا يكفر –على صريح قول الشيخ ابن عثيمين- .

الوجه الرابع : اختلف أهل العلم في مسألة الممتنع عن شريعة من شرائع الإسلام وقاتل على امتناعه -بما يدل على إصراره على ما امتنع عن فعله- على قولين تبعا لاختلاف الصحابة فيها , ذلك أن منهم :
- من جعل الطائفة الممتنعة عن الزكاة بمنزلة المرتدين وهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ومن وافقه من الصحابة .
- ومنهم من جعلهم بمنزلة البغاة من أهل الإسلام وهم عمر بن الخطاب ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم , وفي هذا المعنى يقول أبن قدامة -رحمه الله- في المغني (2\435-436) حاكيا اختلاف الصحابة في هذه المسألة : " فأما ان كان مانع الزكاة خارجا عن قبضة الإمام قاتله لأن الصحابة رضي الله عنهم قاتلوا مانعيها , وقال : أبو بكر الصديق رضي الله عنه (لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه الى رسول الله رضي الله عنه لقاتلتهم عليه) ؛ فأن ظفر به وبماله أخذها من غير زيادة ولم تصب ذريته لأن الجناية من غيرهم ولأن المانع لا يسيء فذريته أولى.
وأن ظفر به دون ماله دعاه الى أدائها وأستتابه ثلاثا , فأن تاب وأدى وإلا قتل ولم يحكم بكفره.
وعن أحمد ما يدل على أنه كفر بقتاله عليها , فروى الميموني عنه (إذا منعوا الزكاة كما منعوا أبا بكر وقاتلوا عليها لم يورثوا ولم يصل عليهم) .
قال : عبد الله بن مسعود (ما تارك الزكاة بمسلم) ووجه ذلك ما روي (أن أبا بكر رضي الله عنه لما قاتلهم وعضتهم الحرب, قالوا نؤديها , قال : لا أقبلها حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) , ولم ينقل انكار ذلك عن أحد من الصحابة فدل على كفرهم.
ووجه الأول : أن عمر وغيره من الصحابة أمتنعوا عن القتال في بدء الأمر , ولو اعتقدوا كفرهم لما توقفوا عنه , ثم أتفقوا على القتال وبقي الكفر على أصل النفي , ولأن الزكاة فرع من فروع الدين ؛ فلم يكفر تاركه بمجرد تركه كالحج".
ويؤيد ما ذكره أبن قدامة رحمه الله على ان الصحابة أتفقوا على القتال دون التكفير ما قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري (12\279-280) : "وليس في فعل الصديق حجة لما ذكر , وانما فيه قتال من منع الزكاة , والذين تمسكوا بأصل الإسلام ومنعوا الزكاة بالشبهة التي ذكروها لم يحكم عليهم بالكفر قبل إقامة الحجة , وقد اختلف الصحابة فيهم -بعد الغلبة عليهم- هل تغنم أموالهم وتسبى ذراريهم كالكفار ؟ أو لا كالبغاة ؟
فرأى أبو بكر الأول وعمل به وناظره عمر في ذلك -كما سيأتي بيانه في كتاب الاحكام إن شاء الله تعالى- .
وذهب [عمر] إلى الثاني ووافقه غيره في خلافته على ذلك , واستقر الإجماع عليه في حق من جحد شيئا من الفرائض بشبهة ؛ فيطالب بالرجوع ؛ فان نصب القتال قوتل وأقيمت عليه الحجة فان رجع والا عومل معاملة الكافر حينئذ .
ويقال : أن أصبغ من المالكية استقر على القول الأول فعد من ندرة المخالف .
وقال القاضي عياض يستفاد من هذه القصة : ان الحاكم إذا أداه اجتهاده في أمر لا نص فيه إلى شيء تجب طاعته فيه , ولو اعتقد بعض المجتهدين خلافه ؛ فان صار ذلك المجتهد المعتقد خلافه حاكما وجب عليه العمل بما اداه إليه اجتهاده وتسوغ له مخالفة الذي قبله في ذلك لأن عمر أطاع أبا بكر فيما رأى من حق مانعي الزكاة مع اعتقاده خلافه ثم عمل في خلافته بما اداه إليه اجتهاده ووافقه أهل عصره من الصحابة وغيرهم وهذا مما ينبه عليه في الاحجاج بالإجماع السكوتي فيشترط في الاحتجاج به انتفاء موانع الإنكار وهذا منها".
وقال الحافظ ابن عبد البر في التمهيد (4\231-234) : " أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه استحل دماء مانعي الزكاة وقال : (والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) ؛ فقاتلهم على ذلك في جمهور الصحابة , وأراق دمائهم لمنعهم الزكاة وأبائهم من أدائها ؛ فمن أمتنع عن الصلاة وأبى من إقامتها كان الأحرى بذلك , ألا ترى أن أبا بكر شبه الزكاة بالصلاة , ومعلوم أنهم كانوا مقرين بالإسلام والشهادة , يوضح ذلك قول عمر لأبي بكر : (كيف نقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم [أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله , فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم لا يحقها وحسابهم على الله] , فقال : أبو بكر : هذا من حقها , والله سلوني عناقا أو عقالا مما كانوا يعطون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لقاتلتهم على ذلك) , ولو كفر القوم لقال : ابو بكر قد تركوا لا اله الا الله وصاروا مشركين , وقد قالوا لأبي بكر بعد الأسار : (ما كفرنا بعد إيماننا , ولكن شححنا على أموالنا) , وذلك بين في شعرهم , قال : شاعرهم:
الا فاصبحينا قبل ثائرة الفجر لعل منايانا قريب وما ندري
احطنا رسول الله ما بيننا فيا عجب ما بال ملك أبي بكر
فإن الذي سألوكم فمنعتهم لكالقمر أو أشهى اليهم من التمر
فرأى أبو بكر في عامة الصحابة ومعه عمر قتالهم , وبعث خالد بن الوليد وغيره الى قتال من أرتد, هذا كله احتج به الشافعي رحمه الله وقال : ففي هذا دلالة على أن من أمتنع مما فرض الله عليه كان على الإمام أخذه وقتاله عليه , وأن أتى ذلك على نفسه .
وأما توريث ورثتهم أموالهم فلأن عمر بن الخطاب لما ولي رد على ورثة مانعي الزكاة كل ما وجد من أموالهم بين أيدي الناس , وكان أبو بكر سباهم كما سبى أهل الردة وخالفه في ذلك عمر لصلاتهم وتوحيدهم ورد الى ورثتهم أموالهم في جماعة الصحابة ولم ينكر ذلك عليه أحد .
وقال : أهل السير : ان عمر لما ولي أرسل الى النسوة اللاتي كان المسلمون حازوهن وخيرهن ان يمكثن عند من هن عنده بتزويج وصداق , أو يرجعن الى أهليهن بالفداء فأخترن ان يمكثن عند من مكثن عندهم بتزويج وصداق .
قال : وكان الصداق الذي جعل لمن أختار أهله عشرة أواق لكل أمرأة , والأوقية اربعون درهما , فأحتج الشافعي بفعل عمر هذا في جماعة الصحابة أيضا من غير نكير .
وروى سفيان بن عبينه عن عمرو بن دينار عن محمد بن طلحة بن يزيد قال : قال : عمر بن الخطاب : (لأن أكون سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ثلاث أحب ألي من حمر النعيم , الخليفة من بعده , وعن قوم أقروا بالزكاة ولم يؤدوها يحل لنا قتالهم , وعن الكلالة) .
وروى حماد بن زيد بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن أبن عباس قال : (قواعد الدين ثلاثة , شهادة ان لا اله الا الله , والصلاة , وصوم رمضان) , ثم قال : ابن عباس (تجده كثير المال ولا يزكي فلا يقال : لذلك كفر ولا يحل دمه)".
فها انت ترى كيف ان الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في تكفير مانعي الزكاة مع الأتفاق على وجوب قتالهم .
لا بل ان الحافظ ابن حجر رحمه الله يحكي ان الأجماع استقر على قول عمر بن الخطاب في عدم التكفير مع أنهم كانوا مصرين على كبيرة ترك الزكاة حتى قاتلوا عليها .

الوجه الخامس : قوله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ}.
وأصل الإصرار : الثبات على الشيء , وهو –كما قال ابن حزم في الفصل (4\44)- "لا يكون الا على ما قد فعله المرء بعد تماد عليه أن يفعله".
ولهذا قال القرطبي (4\211) : "الاصرار هو العزم بالقلب على الامر وترك الاقلاع عنه".
وقد جاء ذم المصرين على الذنب وتهديهم بالوعيد من حديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) [ارحموا ترحموا و اغفروا يغفر الله لكم وويل لأقماع القول وويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا و هم يعلمون] .
هذان النصان في أهل الاسلام بلا خلاف ؛ فالإصرار على الكبيرة حتى الموت ليس كفرا بنفسه وهذا مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة , كما قال النووي في شرحه على مسلم (1\217) : "وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة ؛ فهو فى مشيئة الله تعالى فان شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولا ... , وان شاء عذبه القدر الذى يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله الجنة ؛ فلا يخلد فى النار أحد مات على التوحيد , ولو عمل من المعاصى ما عمل ؛ كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل , هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق فى هذه المسألة , وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة واجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة , وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعى".
وبوب البخاري في صحيحه (1\19) بابا قال فيه (ما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى{ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون}) .
وقد أوضح مقصود البخاري الحافظ ابن رجب في شرحه على الصحيح (فتح الباري) حيث قال : "وقول البخاري بعد ذلك : (وما يحذر من الإصرار عل النفاق والعصيان من غير توبة لقول الله تعالى {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون}): فمراده أن الإصرار على المعاصي وشعب النفاق من غير توبة يخشى منها أن يعاقب صاحبها بسلب الإيمان بالكلية وبالوصول إلى النفاق الخالص وإلى سوء الخاتمة ، نعوذ بالله من ذلك ، كما يقال : إن المعاصي بريد الكفر .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ويل لأقماع القول ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون] .
وأقماع القول : الذين آذانهم كالقمع يدخل فيه سماع الحق من جانب ويخرج من جانب آخر لا يستقر فيه" .
فهذا تصريح من الإمام البخاري بفهم الحافظ ابن رجب أن الإصرا على الكبيرة ليس كفرا بنفسه ؛ لكن يخشى أن يؤدي بصاحبه إلى النفاق الأكبير –والعياذ بالله- ؛ وهو يتماشى مع عقيدة أهل السنة والجماعة التي حكاها الإمام النووي وانعقد عليها الإجماع .
فثبت بالنص والإجماع خطأ من جعل الإصرار على الكبيرة ومنها (تشريع القوانين) لازما لثبوت فساد اعتقاد القلب مطلقا .

المحور الرابع : أوجه الفرق بين مقالة الشيخ ابن عثيمين في مسألة (تشريع القوانين) , ومقالة غلاة التكفير , ورده –رحمه الله- لمقالاتهم .
كررنا مرارا أن الكلمة الواحدة يقولها اثنان : أحدهما يخرجها على أصل سني معتبر , والثاني يخرجها على أصل خلفي مبتدع ؛ فمثلا مسألة المنع من ذكر الأئمة والدعاء لهم على المنابر ؛ يشترك بالقول بها السلفي والخارجي ؛ فأما السلفي فيخرجها على أصل إتباع السنة بعدم ذكرهم في خطبة الجمعة , وكما درج عليه صنيع السلف , وأفتى بمقتضاه أهل العلم , لا على أصل الخوارج بتكفير الحكام وتجويز الخروج عليهم , فاشتراك النتيجة لا يستلزم مطلقا اشتراك الدافع والمسبب , ورحم الله ابن القيم حيث قال في مدارج السالكين (3/520-521) : "والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل، وسيرته، ومذهبه، وما يدعو إليه ، ويناظر عليه ", فالتسوية بين الأصلين محض الظلم أو الجهل .
وكذلك الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- فهو وإن كانت بعض أقواله قد قال بجنسها بعض غلاة التكفير ؛ إلا أنه ثمة فرق كبير بين حقيقة قول الشيخ ابن عثيمين , وحقيقة قول هؤلاء الغلاة , وبيان ذلك بأوجه :
الوجه الأول : إن الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- يرى أن علة الكفر في مسألة (تشريع القوانين) هي الاستحلال القلبي لا ذات التشريع –كما تقدم حكاية أقواله آنفا- , بينما يرى غلاة التكفير أن علة التكفير في هذه المسألة هي ذات التشريع -لا الاستحلال القلبي- كما قال أبو قتادة الفلسطيني في كتابه (الجهاد والاجتهاد) : "وقد أجمع الأوائل من أئمّتنا على أن مطلق التّشريع على خلاف الشّريعة هو كفر وردّة".
ففرق بين قول الشيخ ابن عثيمين الذي بناه على الأصل السلفي المتقدم , وبين قول غلاة التكفير الذين بنوه على أصل الخوارج في تكفير من حكم بغير ما أنزل الله .
وقد صرّح بهذا الفرق بين المقالتين الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- ؛ فقال في مناقشته الشهيرة حول الحكم بغير ما أنزل الله : "فاسق وظالم وكافر هذا إذا كان مستحلا له أو يرى أنه ماهو مناسب أو يرى الحكم بغيره أولى ، المقصود أنه محمول على المستحل أو الذي يرى بعد ذا أنه فوق الاستحلال يراه أحسن من حكم الله ، أما إذا كان حكم بغير ما أنزل الله لهواه يكون عاصيا مثل من زنا لهواه لا لاستحلال ، عق والديه للهوى ، قتل للهوى يكون عاصيا ، أما إذا قتل مستحلا ، عصى والديه مستحلا لعقوقهما ، زنا مستحلا : كفر ، وبهذا نخرج عن الخوارج ، نباين الخوارج يكون بيننا وبين الخوارج حينئذ متسع وإلا وقعنا فيما وقعت فيه الخوارج ، وهو الذي شبه على الخوارج هذا ، الاطلاقات هذه .
السائل : يعني المسألة قد تكون مشكلة عند كثير من الأخوان فلا بأس لو أخذنا بعض الوقت .
الشيخ ابن باز : لا ، مهمة مهمة ، عظيمة .
السائل : ذكرتم مسألة تكفير العاصي وفاعل الكبيرة ، هذا ليس موضع خلاف .
الشيخ ابن باز : لا ، ما هي المسألة مسألة الخوارج ، هو علة الخوارج ، الاطلاقات هذه , تركوا المقيدات وأخذوا المطلقات وكفروا الناس ، وقال فيهم النبي يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون إليه" .
فتأمل كيف اعتبر الشيخ ابن باز لمناط الحكم للتفريق بين قول أهل السنة والجماعة , وبين قول الخوارج في مسالة تكفير من حكم بغير ما أنزل الله .

الوجه الثاني : إن الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- يرى أن الدافع لتشريع القوانين مرده إما إلى الاستحلال , أو إلى ضعف الإيمان كما تقدم حكاية قوله ؛ بينما غلاة التكفير يرون أن التشريع معناه الاستحلال فقط , كما قاله أبو قتادة الفلسطيني في كتابه (الجهاد والاجتهاد) : " المشرّع على خلاف شريعة الرحمن هو كافرٌ ومرتد، ولو اشترطنا في حقّه الاستحلال، فإن تشريعه هو استحلال لذلك".
فشتان بين تأصيل الشيخ ابن عثيمين وعمله بقاعدة التلازم , وبين تأصيل غلاة التكفير .

الوجه الثالث : إن كلام الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- بخصوص هذه المسألة (التشريع العام) إنما هو داخل في باب التأصيل والكلام في الفاعل المطلق , لا في باب التنزيل والكلام في الفاعل المعين ؛ ولهذا فهو –نفسه-رحمه الله- أنكر على من تشبث بتقريره السابق للخروج بنتيجة مفادها تكفير أعيان الحكام المشرعين ؛ فقال –رحمه الله- كما في (فتاوى العلماء الأكابر) جوابا على السؤال التالي :
"السائل: فتكمِلة لمسألة الشباب الآن - يا شيخ! - مثلاً في مناطق كثيرة، ليست كل المناطق، لكن في مناطق كثيرة لا زالوا يخوضون في مسألة هي كبيرة عليهم، يعني مسائل - مثلاً يا شيخ! - التكفير، التشريع العام، والتكفير العيني، هذه المسائل - يا شيخ! - قد يأخذون الفتوى منكم، ثمَّ يُطبِّقونها على الحاكم، هكذا تطبيقاً يعني ...
الشيخ: عملهم هذا غير صحيح.
السائل: نعم! ثمَّ لَمَّا نقول له: يا أخي ما قالها الشيخ ابن عثيمين، يقول لك: لكن الشيخ ابن عثيمين - مثلاً - في كتبِه قال: التشريع العام: مَن حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر بدون تفصيل، والآن عندنا هذا الحاكم لا يحكم بما أنزل الله، فهو كافر، فهِمتَ المسألة يا شيخ؟
الشيخ: فهِمنا، أقول - بارك الله فيكم -: الحكم على المسألة بالحكم الذي ينطبق عليها غيرُ الحكم على شخصٍ معيَّن.
فالمهمُّ يجب على طلبة العلم أن يعرفوا الفرقَ بين الحكم على المسألة من حيث هي مسألة، وبين الحكم على الحاكم بها؛ لأنَّ الحاكمَ المعيَّن قد يكون عنده من علماء السوء مَن يُلبِّس عليه الأمورَ، وغالبُ حُكام المسلمين اليوم ليس عندهم علمٌ بالشرع، فيأتيهم فلانٌ يُموِّه عليهم، وفلانٌ يُموِّه عليهم".
بيما يرى (غلاة التكفير) أن سائر حكام الزمان كفّار خارجون من دين الله ؛ كما قال أبو محمد المقدسي في كتابه (تبصير العقلاء) : "وحكام الزمان وطواغيت العصر ... قد خرجوا من دين الله من أبواب شتّى، منها التشريع وفقاً للدساتير والقوانين الوضعية، ومنها التحاكم إلى الطواغيت المحليّة والإقليميّة والدوليّة..".

الوجه الرابع : إن الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- يرى اعتبار موانع التكفير قبل الحكم بتكفير المعين من المشرعين ؛ فقال –رحمه الله- في تتمة جوابه المتقدم معتبرا لمانع الجهل : "فالمهمُّ يجب على طلبة العلم أن يعرفوا الفرقَ بين الحكم على المسألة من حيث هي مسألة، وبين الحكم على الحاكم بها؛ لأنَّ الحاكمَ المعيَّن قد يكون عنده من علماء السوء مَن يُلبِّس عليه الأمورَ، وغالبُ حُكام المسلمين اليوم ليس عندهم علمٌ بالشرع، فيأتيهم فلانٌ يُموِّه عليهم، وفلانٌ يُموِّه عليهم، ألَم ترَ إلى أنَّ بعضَ علماء المسلمين المعتبرين قال: جميع مسائل الحياة ليس للشرع فيها تدخُّل! واشتبه عليهم الأمر بقوله : [أنتم أعلم بأمور دنياكم]! قال هذا رجالٌ نشهدُ لهم بالصلاح، ولكن تلبَّس عليهم، وهم لو تأمَّلوا الأمرَ لوجدوا أنَّ هذه بالنسبةِ للمصانع والصنعة وما أشبه ذلك؛ لأنَّ الرسولَ تكلَّم عن تأبير النخل، وهم أعلم به؛ لأنَّه  أتى من مكَّة، ما فيها نخل ولا شيء، ولا يعرفه، فلمَّا رأى هؤلاء يصعدون إلى [النخل] ويأتون بلقاحه، ثمَّ يُؤبِّرون النخلةَ ويلقِّحونها، فيكون فيه تعب وعمل، قال: [ما أظنُّ ذلك يُغني شيئاً] ؛ فتركوه سنة، ففسدت النخلة، فأتوا إليه، فقالوا: يا رسول الله! فسد التمر! قال: [أنتم أعلم بأمور دنياكم ] ، ليس بأحكام دنياكم، لكن بأمور دنياكم، ثم الناس يُلبِّسون الآن، ألَم تروا بعض العلماء في بلاد ما أباحوا الرِّبا الاستثماريِّ؟ وقالوا: المُحرَّم الربا الاستغلالي، وشبهتُه قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}!
الحاكم إذا كان جاهلاً بأحكام الشريعة، وجاءه مثلُ هذا العالِم، أليس يُضلُّه؟
السائل: يُضِلُّه.
الشيخ: فلذلك لا نحكم على الحُكَّام بالكفر إذا فعلوا ما يَكفُر به الإنسانُ حتى نُقيم عليه الحُجَّة".
* وقال –رحمه الله- كما في (التحذير من فتنة التكفير) معتبرا لمانع الخوف : "وفي ظني أنه لا يمكن لأحد أن يطبق قانوناً مخالفاً للشرع يحكم فيه في عباد الله إلا وهو يستحله ويعتقد أنه خير من القانون الشرعي، فهو كافر، هذا هو الظاهر، وإلا فما الذي حمله على ذلك ؟
قد يكون الذي حمله على ذلك خوفاً من أناس آخرين أقوى منه إذا لم يطبقه، فيكون مداهناً لهم، فحينئذ نقول: إن هذا كالمداهن في بقية المعاصي".
* وقال –أيضا- مبينا مانع التغرير في مجموع الفتاوى (10\742) :"أما بالنسبة لمن وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله ، فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين ، فهو كافر ؛ لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه الخير للعباد والبلاد من شريعة الله ، وعندما نقول بأنه كافر ؛ فنعني بذلك أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر .
ولكن قد يكون الواضع له معذورا ، مثل أن يغرر به ، كأن يقال : إن هذا لا يخالف الإسلام ، أو هذا من المصالح المرسلة ، أو هذا مما رده الإسلام إلى الناس" .
وقال مبينا أثر مانعي الظن أو الغلبة في عدم تكفير المشرع –كما في (التحذير من فتنة التكفير) جوابا على السؤال التالي- : "السؤال : هناك شبهة عند كثير من الشباب هي التي استحكمت في عقولهم، وأثارت عندهم مسألة الخروج، وهي:
أن هؤلاء الحكام المبدلون وضعوا قوانين وضعية من عندهم، ولم يحكموا بما أنزل الله فحكم هؤلاء الشباب بردتهم وكفرهم، وبنوا على ذلك: أن هؤلاء ما داموا كفاراً فيجب قتالهم، ولا ينظر إلى حالة ضعفهم لأن حالة الضعف قد نسخت، كما يقولون بآية السيف!!! (الآية 5 –
التوبة) فما عاد هناك مجال للعمل بمرحلة الاستضعاف، التي كان المسلمون عليها في مكة !!.
فأجاب فضيلته عن هذه الشبهة فقال:
لا بد أن نعلم أولاً هل انطبق عليهم وصف الردة أم لا ؟
وهذا يحتاج إلى معرفة الأدلة الدالة على أن هذا القول أو الفعل ردة، ثم تطبيقها على شخص بعينه، وهل له شبهة أم لا ؟
يعني: قد يكون النص قد دل على أن هذا الفعل كفر، وهذا القول كفر، لكن هناك مانع يمنع من تطبيق حكم الكفر على هذا الشخص المعين.
والموانع كثيرة، منها: الظن – وهو جهل – ومنها: الغلبة.
فالرجل الذي قال لأهله: إذا مت فحرقوني واسحقوني في اليم، فإن الله لو قدر عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحد من العالمين؛ – والحديث أخرجه البخاري، ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه – هذا الرجل ظاهر عقيدته الكفر والشك في قدرة الله، لكن الله لما جمعه وخاطبه قال: يارب إني خشيت منك أو كلمة نحوها، فغفر له، فصار هذا الفعل منه تأويلاً. (أي غير مقصود له، ولا مُراد منه).
ومثل ذلك الرجل الذي غلبه الفرح، وأخذ بناقته قائلاً: اللهم أنت عبدي وأنا ربك!! أخرجه البخاري، ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه – كلمة كفر، لكن هذا القائل يكفر؛ لأنه مغلوب عليه، فمن شدة الفرح أخطأ، أراد أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، فقال اللهم أنت عبدي وأنا ربك!.
والمكره يكره على الكفر فيقول كلمة الكفر، أو يفعل فعل الكفر، ولكن لا يكفر بنص القرآن؛ لأنه غير مريد، وغير مختار.
وهؤلاء الحكام، نحن نعرف أنهم في المسائل الشخصية –كالنكاح والفرائض وما أشبهها– يحكمون بما دل عليه القرآن على اختلاف المذاهب".
بينما غلاة التكفير يرون أن اعتبار هذه الموانع من قبيل الترقيع للطواغيت والاعتذار لهم والمجادلة عنهم ؛ وحسبك بكتاب أبي بصير الطرطوسي (الانتصار لأهل التوحيد والرد على من جادل عن الطواغيت) والذي ألفه ردا على اختيارات الشيخ الألباني –رحمه الله- في مسالة التكفير بعامة , وتكفير حكام المسلمين بخاصة .

الوجه لخامس : يرى الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- أنه لا يحكم بكفر المشرع للقوانين إلا بعد إقامة الحجة الشرعية عليه , والتحقق من انتفاء موانع التكفير ؛ كما قال –رحمه الله- في فتواه لأهل الجزائر كما جاء في كتاب (فتاوى العلماء الأكابر) : "الشيخ: فهِمنا، أقول - بارك الله فيكم -: الحكم على المسألة بالحكم الذي ينطبق عليها غيرُ الحكم على شخصٍ معيَّن.
فالمهمُّ يجب على طلبة العلم أن يعرفوا الفرقَ بين الحكم على المسألة من حيث هي مسألة، وبين الحكم على الحاكم بها؛ لأنَّ الحاكمَ المعيَّن قد يكون عنده من علماء السوء مَن يُلبِّس عليه الأمورَ، وغالبُ حُكام المسلمين اليوم ليس عندهم علمٌ بالشرع، فيأتيهم فلانٌ يُموِّه عليهم، وفلانٌ يُموِّه عليهم، ألَم ترَ إلى أنَّ بعضَ علماء المسلمين المعتبرين قال: جميع مسائل الحياة ليس للشرع فيها تدخُّل! واشتبه عليهم الأمر بقوله - صلى الله عليه وسلم - : [أنتم أعلم بأمور دنياكم]! قال هذا رجالٌ نشهدُ لهم بالصلاح، ولكن تلبَّس عليهم، وهم لو تأمَّلوا الأمرَ لوجدوا أنَّ هذه بالنسبةِ للمصانع والصنعة وما أشبه ذلك؛ لأنَّ الرسولَ تكلَّم عن تأبير النخل، وهم أعلم به؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - أتى من مكَّة، ما فيها نخل ولا شيء، ولا يعرفه، فلمَّا رأى هؤلاء يصعدون إلى [النخل] ويأتون بلقاحه، ثمَّ يُؤبِّرون النخلةَ ويلقِّحونها، فيكون فيه تعب وعمل، قال: [ما أظنُّ ذلك يُغني شيئاً] ؛ فتركوه سنة، ففسدت النخلة، فأتوا إليه، فقالوا: يا رسول الله! فسد التمر! قال: [أنتم أعلم بأمور دنياكم]؛ ليس بأحكام دنياكم، لكن بأمور دنياكم، ثم الناس يُلبِّسون الآن، ألَم تروا بعض العلماء في بلاد ما أباحوا الرِّبا الاستثماريِّ؟ وقالوا: المُحرَّم الربا الاستغلالي، وشبهتُه قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}!.
الحاكم إذا كان جاهلاً بأحكام الشريعة، وجاءه مثلُ هذا العالِم، أليس يُضلُّه؟
السائل: يُضِلُّه.
الشيخ: فلذلك لا نحكم على الحُكَّام بالكفر إذا فعلوا ما يَكفُر به الإنسانُ حتى نُقيم عليه الحُجَّة.
السائل: مَن الذي يُقيم الحُجَّة يا شيخ؟
الشيخ: ما دُمنا ما أقمنا عليهم الحُجَّة لا نحكم بكفرهم".
* وقال –أيضا- في مجموع الفتاوى والرسائل (6\162) : "وهناك فرق بين المسائل التي تعتبر تشريعا عاما والمسألة المعينة التي يحكم فيها القاضي بغير ما أنزل الله لأن المسائل التي تعتبر تشريعا عاما لا يتأتى فيها التقسيم السابق، وإنما هي من القسم الأول فقط لأن هذا المشرع تشريعا يخالف الإسلام إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد كما سبقت الإشارة إليه.
وهذه المسألة أعني مسألة الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل الكبرى التي ابتلي بها حكام هذا الزمان فعلى المرء أن لا يتسرع في الحكم عليهم بما لا يستحقونه حتى يتبين له الحق لأن المسألة خطيرة -نسأل الله تعالى أن يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وبطانتهم- كما أن على المرء الذي آتاه الله العلم أن يبينه لهؤلاء الحكام لتقوم الحجة عليهم وتتبين المحجة فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، ولا يحقرن نفسه عن بيانه ولا يهابن أحدا فيه فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين".
* وقال –كذلك- في لقاءات الباب المفتوح (ش\87) : "إذا جاءنا رجل ورفع الحكم الشرعي وأحل بدله قوانين تخالف ما أنزل الله على رسوله، فهذا لا شك أنه مستحل؛ لأنه رفع الحكم نهائياً ووضع قانوناً من وضعه أو من وضع من هو أسوأ حالاً منه، فهذا كافر؛ لأن رفعه للأحكام الشرعية ووضع القوانين بدلها يعني أنه استحل ذلك.
لكن يبقى عنه: هل نكفر هذا الرجل بعينه، أو ننظر حتى تقوم عليه الحجة؟ لأنه قد يشتبه عليه مسائل الأمور الدنيوية من مسائل الأمور العقدية أو التعبدية، ولهذا تجده يحترم العبادة ولم يغير فيها، فلا يقول مثلاً: إن صلاة الظهر تأتي والناس في العمل نؤجلها إلى العصر، أو صلاة العشاء تأتي والناس محتاجون إلى النوم والعشاء نقدمها إلى المغرب مثلاً، يحترم هذا، لكن في الأمور الدنيوية ربما يتجاسر ويضع قوانين مخالفة للشرع، فهذا من حيث هو كفر لا شك فيه؛ لأن هذا رفع الحكم الشرعي واستبدل به غيره، ولكن لا بد أن نقيم عليه الحجة، وننظر لماذا فعلت ذلك؟ قد يلبس عليه بعض العلماء الذين هم علماء دولة، ويحرفون الكلم عن مواضعه من أجل إرضاء الحاكم،.... ؛ فيكون هذا جاهلاً، لكن إذا أقمنا عليه الحجة وقلنا: هذا غلط، وهذا خطأ وتحريف من هذا العالم الذي غرك، ثم أصر على ما هو عليه؛ حينئذ نحكم بكفره ولا نبالي".
بينما (غلاة التكفير) يرون أن حالة (تشريع القواني) أو (الحكم بالقوانين الوضعية) لا يجب للحكم بكفر المتلبس بها أن تقام عليه الحجة ؛ كما قال أبو بصير الطرطوسي في كتابه (الانتصار لأهل التوحيد) متعقبا اشتراط الشيخ الألباني –رحمه الله- لإقامة الحجة قبل تكفير الحاكم الواقع في موجب التكفير : "لماذا دائماً تقحمون إقامة الحجة كجملة اعتراضية، تمنع أحكام الله من أن تأخذ طريقها إلى رؤوس الكفر والنفاق والفتنة؟! ...إن شرطكم هذا باطل ومرفوض لا محل له في الشرع وهو ممن ديدن ودندنة أهل الأرجاء الذين عرفوا بورعهم البارد في عدم تكفير الكافر!".

الوجه السادس : يرى الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- أن مسألة تكفير أعيان الحكام المشرعين للقوانين , من الأمور الخطيرة , والمسائل الدقيقة التي لا يمكن أن يحكم فيها بوجه عام ؛ بل الحكم في هذه المسألة لا يمكن إلا على كل قضية بعينها بتأن وتمهل فقال -رحمه الله- في لقاء الباب المفتوح (ش\78) : "هذه المسألة يا أخي! مسألة ليست هينة، ولا يمكن أن يحكم فيها بوجه عام، لأنه لو حكم فيها بوجه عام أو أفتي فيها بوجه عام فهمها بعض الناس على غير المقصود، فإذا خالف الحاكم شيئاً يعتقده هذا الرجل أنه هو شرع الله قال: إنه كافر، وهذا مثل ما يوجد الآن في الجماعات التي تكفر ولاة الأمور وتقول: لأنهم حكموا بغير ما أنزل الله، وهم لم يمحصوا المسألة، فلذلك أنا أرى أن سد الباب في هذه المسألة أولى، لئلا يفهمها الناس على غير مراد المفتي ولئلا يتخذها الإنسان وسيلة إلى القيام على الحكام في بلادهم، وهذه مسألة كبيرة كما تعرف، وقد تكلم العلماء رحمهم الله على هذه المسألة عند تفسير الآيات التي في سورة المائدة، فبإمكانك أن ترجع إلى ما قاله العلماء في هذا".
وقال الشيخ ايضا في فتاوى الحرم المدني (ش\35) جوابا عن السؤال التالي : "السؤال : هل كل من بدل الشرع وتحاكم إلى القوانين الوضعية كافر؟
الجواب: الواقع أن هذه المسألة دقيقة ولا يمكن أن نفتي بها فتوى عامة في مثل هذا المجلس؛ لأنه ربما يفهمها بعض الناس على غير الصواب، ثم يذهب يكفر كل إنسان حتى وإن لم يكن كافراً، وحينئذٍ تقوم الفتن بين الناس، ويكون التكفير سهلاً على المرء حتى لو أن القاضي مع التزامه بحكم الشرع حكم في مسألة ما بخلاف الشرع قال: هذا حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر مباح الدم والمال لا يصير هذا، هذه مسألة لا يمكن الفتوى فيها على سبيل العموم في مثل هذا المجلس؛ لأن الناس أحياناً يفهمون الجواب خطأً، فنستميح السائل العذر في عدم الفتوى فيها".
وقال –كذلك- في لقاء الباب المفتوح (ش\1) جوابا على السؤال : "السؤال: هل يعتبر الذين لا يحكِّمون القرآن والسنة ويحكِّمون القوانين الفرنسية أو الإنجليزية كفاراً؟
الجواب: هذا يحتاج إلى النظر إلى السبب الذي حملهم على هذا، وهل أحدٌ غرَّهم ممن يدعي العلم، وقال: إن هذا لا يخالف الشرع، أم ماذا؟! فالحكم في هذه المسألة لا يمكن إلا على كل قضية بعينها".
وقال –كذلك- في فتاوى العقيدة (ص\228) : "وهذه المسألة أعني مسألة الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل الكبرى التي ابتلي بها حكام هذا الزمان فعلى المرء أن لا يتسرع في الحكم عليهم بما لا يستحقونه حتى يتبين له الحق لأن المسألة خطيرة -نسأل الله-تعالى-أن يصلح للمسلمين ولاة أمورهم وبطانتهم -كما أن على المرء الذي آتاه الله العلم أن يبينه لهؤلاء الحكام لتقوم الحجة عليهم وتبين المحجة ، فيهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، ولا يحقرن نفسه عن بيانه ، ولا يهابن أحداً فيه فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين".
وأما (غلاة التكفير) فلهم رأي آخر ألا وهو أن جميع الحكام هم بأعيانهم –كفار مرتدون- من غير حاجة لتمهل وتأن وتوقي وتثبت وإقامة حجة والحكم على كل قضيةب؛ كما قال أيمن الظواهري في كتابه (الحصاد المر) : " أن الحكام الحاكمين لبلاد المسلمين بغير ماأنزل الله بالقوانين الوضعية هم كفار مرتدون يجب الخروج عليهم وجهادهم وخلعهم ونصب حاكم مسلم".
وقال أبو بصير الطرطوسي في أجوبته المنشورة في موقعه جوابا على السؤال المرقم (58) : "الذي يمكننا قوله، وهذا الذي تطمئن إليه النفس: أن أغلب حكام المسلمين وبخاصة منهم حكام بلادنا .. هم كفار مرتدون بأعيانهم، وقولي بأعيانهم؛ أي يمكنك أن تحكم عليهم بالكفر والردة بأسمائهم وأشخاصهم .. ولا يجوز التردد أو التوقف في ذلك !".

الوجه السابع : يرى الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- عدم جدوى الكلام العام في مسألة تكفير الحكام المشرعين للقوانين , وأن الكلام فيها مع عوام الناس مفسدته أرجح من مصلحته ؛فقال –رحمه الله- في جوابه على سؤال أبي الحسن المأربي : " وما ذكره من جهة التكفير فهي مسألة كبيرة عظيمة ولا ينبغي إطلاق القول فيها إلا مع طالب علم يفهم , ويعرف الكلمات بمعانيها ويعرف العواقب التي تترتب على القول بالتكفير أو عدمه ، اما عامة الناس فإن إطلاق القول بالتكفير أو عدمه في مثل هذه الأمور يحصل فيه مفاسد والذي أرى أولا أن لا يشتغل الشباب في هذه المسألة وهل الحاكم كافر أو غير كافر وهل يجوز أن نخرج عليه أو لا يجوز ، على الشباب أن يهتموا بعباداتهم التي أوجبها الله عليهم أو ندبهم أليها وأن يتركوا ما نهاهم الله عنه كراهتا أو تحريما وان يحرصوا على التالف بينهم والاتفاق وان يعلموا أن الخلاف في مسائل الدين والعلم قد جرا في عهد الصحابة رضي الله عنهم ولكنه لم يودي إلى والفرقة و إنما القلوب واحدة والمنهج واحد".
وقال –رحمه الله- مؤيدا لكلام للشيخ الألباني –رحمه الله- كما في (التحذير من فتنة التكفير) : " هؤلاء الذين يحكمون على الولاة المسلمين بأنهم كفار ماذا يستفيدون إذا حكموا بكفرهم ؟ أيستطيعون إزالتهم ؟ لا يستطيعون، وإذا كان اليهود قد احتلوا فلسطين قبل نحو خمسين عاماً، ومع ذلك ما استطاعت الأمة الإسلامية كلها عربها وعجمها أن يزيحوها عن مكانها، فكيف نذهب ونسلط ألسنتنا على ولاة يحكموننا ؟ ونعلم أننا لا نستطيع إزالتهم، وأنه سوف تراق دماء وتستباح أموال، وربما أعراض أيضاً، ولن نصل إلى نتيجة.
إذاً ما الفائدة ؟ حتى لو كان الإنسان يعتقد فيما بينه وبين ربه أن من هؤلاء الحكام من هو كافر كفراً مخرجاً عن الملة حقاً، فما الفائدة من إعلانه وإشاعته إلا إثارة الفتن ؟ كلام الشيخ الألباني هذا جيد جداً".
بينما يرى (غلاة التكفير) أن الكلام في هذه المسألة من جنس الكلام في التوحيد الذي جاءت به الرسل ؛ وأن الكلام في التوحيد لا يتم من من خلال الكلام في هذه المسألة التي يصفونها بـ (شرك القصور) ؛ كما قال أبو محمد المقدسي في كتابه (تبصير العقلاء) : "هل بتصفية السُنّة مما علق بها من الحديث الضعيف والبدع والمحدثات، هل بهذا وحده، يُغيّر شرك العصر العظيم وباطل الطواغيت الوخيم ويُحقق التوحيد ؟؟ , أم لابدَّ أنْ يضمَّ إلى ذلك الشيء الكثير..!!؟.
ومن ذلك التبصّر بهذا الواقع الشركي، ومعرفة أركانه.. ومن ثم استنباط الحكم الشرعي الصحيح فيه والكف عن مقايسته على واقع وأحوال الحكام المسلمين في أزمنة الخلافة والفتوحات!! , ومن ثم تحذير النّاس من هذا الشرك الصراح والكفر البواح والسعي الجاد لإخراجهم من عبادة العباد، إلى عبادة الله رب العباد، بتحقيق توحيد الله في العبادة والطاعة والتشريع ...
وبمعنى آخر لن تؤتي التصفية ... ثمارها حتى تكون تصفية على كافة الأصعدة ؛لا تصفية محصورة في تمييز صحيح الحديث من ضعيفه ، دون تميّز أولياء الرحمن عن أولياء الشيطان ، ودون تحقيق التوحيد بكافة أنواعه والبراءة من الشرك والتنديد ، أوتصفية محجرة على محاربة بدع الصوفية وشرك القبور دون شرك القوانين والقصور".

الوجه الثامن : إن الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- يرى حرمة الخروج وهو الثمرة العملية المترتبة على القول بتكفير الحكام المشرعين للقوانين ؛ فقال –رحمه الله- في لقاء الباب المفتوح (ش\51) جوابا على السؤال التالي :"السؤال: هناك قضية تثار الآن حول ما يناط للتشريع العام فيما يحكم به الحكام، ويستدل أصحاب هذا الرأي بفتواكم حفظكم الله في المجموع الثمين بأن هذا الكفر وأنه واضح؛ لأنه تبديل لشرع الله، كذلك ينسب هذا إلى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله. فالسؤال هنا: هل ترد موانع التكفير أو ما اشترطه أهل السنة والجماعة في إقامة الحجة على من حكم بغير ما أنزل الله تشريعاً عاماً؟
الجواب: كل إنسان فعل مكفراً فلا بد ألا يوجد فيه مانع التكفير، ولهذا جاء في الحديث الصحيح لما سألوه هل ننابذ الحكام؟ قال: [إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان] فلا بد من الكفر الصريح المعروف الذي لا يحتمل التأويل، فإن كان يحتمل التأويل فإنه لا يكفر صاحبه وإن قلنا إنه كفر.
فيفرق بين القول والقائل، وبين الفعل والفاعل، قد تكون الفعلة فسقاً ولا يفسق الفاعل لوجود مانع يمنع من تفسيقه، وقد تكون كفراً ولا يكفر الفاعل لوجود ما يمنع من تكفيره، وما ضر الأمة الإسلامية في خروج الخوارج إلا هذا التأويل، فالخوارج كانوا مع علي بن أبي طالب على جيش أهل الشام ، فلما حصلت المصالحة بين علي بن أبي طالب وأهل الشام خرجت الخوارج الذين كانوا معه عليه حتى قاتلهم وقتلهم والحمد لله، لكن الشاهد أنهم قالوا: حكمت بغير ما أنزل الله؛ لأنك حكمت البشر، فخرجوا عليه. فالتأويل الفاسد هو بلاء الأمة؛ فقد يكون الشيء غير كفرٍ فيعتقدها هذا الإنسان أنه كفر بواح فيخرج، وقد يكون الشيء كفراً لكن الفاعل ليس بكافر لوجود مانع يمنع من تكفيره، فيعتقد هذا الخارج أنه لا عذر له فيخرج. ولهذا يجب على الإنسان التحرز من التسرع في تكفير الناس أو تفسيق الناس، ربما يفعل الإنسان فعلاً فسقاً لا إشكال فيه، لكنه لا يدري، فإذا قلت: يا أخي! هذا حرام. قال: جزاك الله خيراً. وانتهى عنه. إذاً: كيف أحكم على إنسان بأنه فاسق دون أن تقوم عليه الحجة؟ فهؤلاء الذي تشير إليهم من حكام العرب والمسلمين قد يكونون معذورين لم تتبين لهم الحجة، أو بينت لهم وجاءهم من يلبس عليهم ويشبه عليهم. فلا بد من التأني في الأمر.
ثم على فرض أننا رأينا كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، وكلمة (رأينا) شرط، و[كفراً] شرط، و[بواحاً] شرط، و(عندنا فيه من الله برهان) شرط.. أربعة شروط:
فنقول: [أن تروا] أي: تعلموا يقيناً احترازاً من الشائعات التي لا حقيقة لها.
وكلمة [كفراً] احترازاً من الفسق، يعني: لو كان الحاكم فاسقاً فاجراً لكن لم يصل إلى حد الكفر فإنه لا يجوز الخروج عليه.
الثالث: [بواحاً] أي: صريحاً لا يتحمل التأويل، وقيل البواح: المعلن.
والرابع: (عندكم فيه من الله برهان) يعني: ليس صريحاً في أنفسنا فقط، بل نحن مستندون على دليل واضح قاطع.
هذه الشروط الأربعة شرط لجواز الخروج، لكن يبقى عندنا شرط خامس لوجوب الخروج وهو: هل يجب علينا إذا جاز لنا أن نخرج على الحاكم؟ هل يجب علينا أن نخرج؟ ينظر للمصلحة، إن كنا قادرين على إزالته فحينئذٍ نخرج، وإذا كنا غير قادرين فلا نخرج، لأن جميع الواجبات الشرعية مشروطة بالقدرة والاستطاعة. ثم إذا خرجنا فقد يترتب على خروجنا مفسدة أكبر وأعظم مما لو بقي هذا الرجل على ما هو عليه، لأننا خرجنا ثم ظهرت العزة له، صرنا أذلة أكثر، وتمادى في طغيانه وكفره أكثر، فهذه المسائل تحتاج إلى تعقل، وأن يقترن الشرع بالعقل، وأن تبعد العاطفة في هذه الأمور، فنحن محتاجون للعاطفة لأجل تحمسنا، ومحتاجون للعقل والشرع حتى لا ننساق وراء العاطفة التي تؤدي إلى الهلاك".
وقال –رحمه الله- جوابا على سؤال أبي الحسن المأربي له : "ثم هذه المسائل لا يعني أننا إذا كفرنا أحدا فإنه يجب الخروج عليه لأن الخروج يترتب عليه مفاسد عظيمة اكبر من السكوت ولا نستطيع الآن أن نضرب أمثالا فيما وقع في الأمة العربية وغير العربية و إنما إذا تحققنا جواز الخروج عليه شرعا فإنه لابد من استعداد وقوة تكون مثل قوة الحاكم أو اعظم و أما أن يخرج الناس عليه بالسكاكين والرماح ومعه القنابل والدبابات وما أشبه هذا فأن هذا من السفه بلا شك وهو مخالف للشريعة".
وقال في لقاء الباب المفتوح (ش\120) –أيضا- : "والرسول (عليه الصلاة والسلام) لم يجز منابذة الولاة إلا إذا رأينا كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، فنحن لا نعلم ما في قلب ولي الأمر، وتعرف أن الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله يصرحون لكنهم يعتذرون بأعذار غير صحيحة, وإلا فهم يصرحون, يقولون: نعم نحن نقول هذا ونقول هذا القانون ونعلم أنه يخالف الشرع لكنهم يأتون بأشياء يتأولونها, لكن أولئك المنافقين في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يصرحون يصدون ويعرضون لكن دون أن يقولوا: لا نقبل".
وقال –كما في (التحذير من فتنة التكفير) : "وأما تمام الإشكال المطروح فيقال فيه: إذا كان الله تعالى بعد أن فرض القتال قد قال:} إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قومٌ لا يفقهون { (65- الأنفال). فكم هؤلاء ؟! واحدٌ بعشرة.
ثم قال:} الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين {.
وقد قال بعض العلماء: إن ذلك في، وقت الضعف، والحكم يدور مع علته، فبعد أن أوجب الله عليهم مصابرة العشرة قال: } الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً {.
ثم نقول: إن عندنا نصوصاً محكمة تبين هذا الأمر، وتوضحه؛ منها قوله تعالى} لا يكلف الله نفساً إلا وسعها {؛ فالله سبحانه لا يكلف نفساً إلا وسعها وقدرتها، والله سبحانه يقول – أيضا} فاتقوا الله ما استطعتم { .
فلو فرضنا – بحسب الشروط والضوابط التي ذكرها العلماء الأجلاَّء – أن الخروج المشار إليه على هذا الحاكم واجب، فإنه لا يجب علينا ونحن لا نستطيع إزاحته، فالأمر واضح … ولكنه الهوى يهوي بصاحبه".
بينما يرى (غلاة التكفير) أن هذا الخروج هو تحقيق عملي للتوحيد , وبراءة من الشرك والتنديد ؛ كما قال أيمن الظواهري في الحصاد المر : "وإذا كان دينك يحتم عليك مهاجمة اليهود أفلا يحتم عليك جهاد الحكام المرتدين الحاكمين بغير ماأنزل الله".
ويقول عبد القادر عبد العزيز في كتاب العمدة في إعداد العدة : " وإن من أعظم واجبات الطائفة المنصورة في هذا الزمان هو جهاد الحكام المرتدين المبدلين لشرع الله الذين يحكمون المسلمين بالقوانين الوضعية الكفرية" .
ويقول أبو محمد المقدسي في كتابه (الرسالة الثلاثينية) : "الموحدين إنما خرجوا على كفار ومرتدين، ولم يخرجوا على أئمة عدل من المسلمين والمؤمنين؛ فخروجهم إذن طاعة محضة، لأنه تحقيق عملي للتوحيد وبراءة من الشرك والتنديد".

المحور الخامس : شبهة ونقضها .
يذهب بعض أهل الأهواء إلى التذرع بكون مسألة (تحقيق المناط) في هذه القضية من الأمور الاجتهادية ؛ للتوسع في تكفير أعيان عباد الله بدعوى أنه اجتهد فاستدل بفساد حالهم الظاهر على أنهم كفار مستحلون لما حرم الله ؛ ولنقض هذه الشبهة نقول :
أولا : إن الكفر لو كان لازما مطلقا في مسألتنا هذه (الاستدلال بفساد الظاهر على القطع بفساد الباطن) فهو –بالاتفاق- من قبيل الكفر الباطن الموجب للنفاق الأكبر الباطن , لا للكفر الأكبر الظاهر , ومن كان كفره باطنا لا ظاهرا ؛ فيعامل معاملة المنافقين ؛ فتكون له أحكام الإسلام في الدنيا دون الآخرة –كما تقدم في المحور الثاني- , ومن أحكام المنافقين في الدنيا : تحريم تكفيرهم حالهم كحال غيرهم من المسلمين .
فمن كفّر معينا التكفير الظاهر ؛ بناء على اجتهاده في القطع بكفره الباطن ؛ فقد خالف هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه وسائر السلف في معاملة المنافقين ؛ بل في معاملته (صلى الله عليه وسلم) لمن كان يقطع بكفرهم الباطن ونفاقهم مثل أبي بن سلول , إذ "لم يحكم النبي  فى المنافقين بحكم الكفار المظهرين للكفر لا فى مناكحتهم ولا موارثتهم ولا نحوذلك بل لما مات عبد الله بن أبى بن سلول وهومن اشهر الناس بالنفاق ورثه ابنه عبدالله وهومن خيار المؤمنين وكذلك سائر من كان يموت منهم يرثه ورثته المؤمنون واذا مات لأحدهم وارث ورثوه مع المسلمين" –كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية-فيما نقلناه عنه آنفا-.
فالاجتهاد إنما يكون للحكم بتكفيرهم الباطن لا الظاهر ؛ ومن حمله على التكفير الظاهر فقد كان اجتهاده مخالفا لهدي النبي (صلى الله عليه وسلم) فلا اعتبار له .

ثانيا : إن تكفير المعينين من المسلمين الواقعين في موجب الكفر الظاهر لا يصار إليه إلا بعد إقامة الحجة وإزالة موانع التكفير ؛ بل قد اتفقت كلمة أهل العلم على أن المسائل الخفية الموجبة للتكفير الظاهر لا يقال بكفر المتلبس بها إلا بعد إقامة الحجة ؛ فكيف بمثل هذه المسالة الدقيقة التي لا تعلق للكفر الظاهر بها –أصلا- ؛ بل مناطها (قلبي بحت) ؛ ثم مع ذلك يُحكَمُ على المتلبس بها أنه كافر عينا الكفر الظاهر من غير إقامة لحجة أو تحقق من انتفاء موانع التكفير؟!!.
فالاجتهاد في تكفير المعين في مسألتنا هذه من غير اعتبار لضوابط التكفير ؛ مخالف لمذهب جماهير العلماء إن لم نقل لإجماع العلماء –بل حتى (غلاة التكفير) يشترطون إقامة الحجة لتكفير من وقع في موجب الكفر الظاهر إن كان هذا الموجب من الأمور الدقيقة .
فتكفير اعيان المسلمين في مثل هذه الحالة الدقيقة الخفية الكفر الظاهر من غير اعتبار لإقامة حجة أو إزالة شبهة و أو التحقق من انتفاء باقي الموانع ؛ اجتهاد فاسد معارض لتأصيلات أهل العلم المعتبرين ؛ بل ولتنظيرات (غلاة التكفير) أنفسهم –لا تطبيقاتهم وصنيعهم- .

ثالثا : إن كون المسألة اجتهادية ؛ معناه : لا يتولى الكلام فيها إلا من له أهلية الاجتهاد في الدين لا كل من هب ودب ممن لا يمتلك تلك الأهلية ؛ فأمر تكفير المعين كما قال شيخنا فتحي بن عبد الله الموصلي في كتابه (التبيان في تأصيل مسائل الكفر والايمان) (ص\-224) "التكفير حكم شرعي , لا يتكلم فيه إلا من يحسن الكلام في الاحكام الشرعية ومسائلها الكبار : [إذ] تترتب على التكفير أحكام كثيرة وآثار خطيرة من إباحة المال وسفك الدماء والحكم بالخلود في النار , لذلك لا ينبغي لكل أحد أن يتكلم فيه إلا من فقه أحكام الشريعة ومسائلها الكبار , فكلما عظم المقصود عظمت وسائله وعظم الكلام فيه .
ولا بد للمتكلم أن يحيط علما بهذا الباب فيحسن النفريق بين سبب الحكم وأدلته , وبين وقوعه وإنطباقه على حقيقة الامر , عالما بأوجه تحقيق المناط في هذه المسألة الدقيقة مع مراعاة عوارض الحكم وموانعه , ويجب أيضا العلم بمراتب الادلة وموجباتها من اليقين أوالظن الغالب أوالمرجوح ووما هومن باب إستصحاب الاصل بحيث لا يزول إلا بدليل قطعي يزيل الشك والريب وكذلك العلم بمواطن الاحتياط في التكفير أوالتوقف عنه .
وقبل هذا أوذاك معرفة أوجه إندراج المسائل وتبويبها وهل هي من موارد النزاع , وما يتعلق بها من أحكام ولوازم ومتعلقات , ثم الدراية بأوجه إقامة الحجة الرسالية إجمالا وتفصيلا , وأحوال المكلفين في خطاب التكليف , والاعذار التي تلحق به :تارة من جهة المكلف وتارة من جهة تبليغ الخطاب , وتارة من جهة تعلق الخطاب بأحكام الديار ونحوذلك من المسائل العقدية والاصولية والفقهية التي يجب أم يستحضرها المتكلم في مسائل التكفير لا سيما عند تكفير المعين , يقول شيخ الاسلام –رحمه الله- في "بغية المرتاد" (ص345) : ((التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدماء والحكم بالخلود في النار فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية فتارة يدرك بيقين وتارة يدرك بظن غالب وتارة يتردد فيه ومهما حصل تردد فالتوقف عن التكفير أولى , والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل))".
ولما كان الأمر بهذه الصعوبة كانت أحكام تكفير المعينين الواقعين في الكفر الظاهر مردها للعلماء المجتهدين أو للقضاة الشرعيين ؛ كما قرر هذا جمهرة أهل العلم السلفيين , ومنهم :
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز كما في مجموع فتاوى إبن باز (1\437-438) : "قرأت سؤالك الذي يتضمن أن زوجة نسبت لزوجها أنه يسب الدين والرب.. إلخ.
والجواب: سب الدين والرب جل وعلا كل ذلك من أعظم أنواع الكفر بإجماع أهل العلم، أما ما يتعلق بثبوته من الرجل والحكم عليه بمقتضاه والتفريق بينه وبين زوجته فهذا يرجع فيه إلى المحكمة".
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله- كما في مدارك النظر (ص\400) مبينا شروط الخروج على حكام الجزائر : "العلم بكفرهم، والعلماء هم الذين يقدّرونه، وأنا لا أَقْدر على أن أحكم على حكوماتكم؛ لأنّني لا أعرفها، وفي الحديث السابق: [عندكم فيه من الله برهان]".
وقال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ –حفظه الله- كما في لقاء مجلة "الشرق الاوسط" مع فضيلة المفتي العام العدد (8180) بتاريخ (21\4\2001) : "التكفير والتفسيق والتبديع والتضليل كل هذه أحكام شرعية لها آثارها العملية في ديننا , والمرجع فيها لأهل العلم الراسخين الموثوقين , وليس لكل من الناس التصدي لهذا الامر فإنه خطير ومزلة قدم فالواجب على المسلمين عموما كف ألسنتهم وعدم الخوض في هذا المرتع الوخيم , وأن يترك هذا لأهل العلم الراسخين".
وقال الشيخ صالح بن فوزان كما في مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري (ص\50-51) : "ليس من حق كل أحد أن يطلق التكفير أوأن يتكلم بالتكفير على الجماعات أوعلى الافراد , فمن يرتكب ناقضا من نواقض الاسلام فإنه يحكم بكفره , ونواقض الاسلام معروفة أعظمها الشرك بالله عز وجل وإدعاء علم الغيب والحكم بغير ما أنزل الله قال تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فالتكفير خطير لا يجوز لكل أحد أن يتفوه به في حق غيره , إنما هذا من صلاحيات أهل العلم الراسخين في العلم الذين يعرفون الاسلام ويعرفون نواقض الاسلام , ويعرفون الاحوال ويدرسون واقع الناس والمجتمعات فهم أهل الحكم بالتكفير وغيره , أما الجهال وأما أفراد الناس وأنصاف المتعلمين فهؤلاء ليس من حقهم إطلاق التكفير على الاشخاص أوعلى الجماعات أوعلى الدول لانهم غير مؤهلين لهذا الحكم" .
وقال –حفظه الله- أيضا- في مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري (ص\49) : "الحكم بالرِّدَّة والخروج من الدِّين من صلاحيَّات أهل العلم الرَّاسخين في العلم، وهم القضاة في المحاكم الشرعيَّة؛ كغيرها من القضايا، وليس من حق كل أحد، أومن حقِّ أنصاف المتعلِّمين، أوالمنتسبين إلى العلم، والذين ينقصُهم الفقه في الدِّين، ليس من صلاحيَّاتهم أن يحكُموا بالرِّدَّة؛ لأن هذا يلزم منه الفساد، وقد يحكمون على المسلم بالرِّدَّة، وهوليس كذلك، وتفكيرُ المسلم الذي لم يرتكب ناقضًا من نواقض الإسلام فيه خطورة عظيمة، ومن قال لأخيه‏:‏ يا كافر‏!‏ أو‏:‏ يا فاسق‏!‏ وهوليس كذلك؛ فإنَّ هذا الكلام يعود على قائله؛ فالذين يحكمون بالرِّدَّة هم القضاة الشرعيُّون، والذين ينفِّذون هذا الحكم هم ولاة أمور المسلمين، وما عدا هذا؛ فهو فوضى وشرٌّ‏".
وأما صنيع أنصاف المتعلمين ؛ بل قل الجهلة المتهورين فهذا –منهم- افتئات على العلم وأهله ؛ موجب لذمهم لا مدحهم واعتبار أقوالهم .

رابعا : إن كون المسألة اجتهادية ليس معناه أن كل (مجتهد –لا مدع متعالم-) يتبنى ما يهوى بناء على نظر قاصر ؛ أو ردة فعل عاثر , بل المتعين على المجتهد أن يتبنى ما يترجح عنده بعد البحث والنظر , في المسألة وأدلتها , ودفع معارضاتها ؛ وإلا كان المجتهد غير مستكمل لمقومات إصدار الحكم وتبنيه , وبالتالي يكون حكمه من قبيل اتباع الظن المرجوح الموجب للذم لا ثبوت الأجر , كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في مجموع الفتاوى (20\213-214) : "وانما تنزلنا هذا التنزيل لانه قد يقال إن نظر هذا قاصر وليس اجتهاده قائما فى هذه المسألة لضعف آلة الاجتهاد فى حقه , أما اذا قدر على الاجتهاد التام الذي يعتقد معه أن القول الآخر ليس معه ما يدفع به النص ؛ فهذا يجب عليه اتباع النصوص , وان لم يفعل كان متبعا للظن وما تهوى الانفس , وكان من أكبر العصاة لله ولرسوله .
بخلاف من يقول : قد يكون للقول الآخر حجة راجحة على هذا النص وأنا لا أعلمها ؛ فهذا يقال له : قد قال الله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} وقال النبى (صلى الله عليه وسلم) [إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم] , والذي تستطيعه من العلم والفقه فى هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك , ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص معارضا راجحا كان حكمك في ذلك حكم المجتهد المستقل اذا تغير اجتهاده .
وانتقال الانسان من قول الى قول لأجل ما تبين له من الحق هو محمود فيه ؛ بخلاف إصراره على قولا لا حجة معه عليه , وترك القول الذي وضحت حجته أو الانتقال عن قول الى قول لمجرد عادة واتباع هوى فهذا مذموم".
وقال –أيضا-رحمه الله- في مجموع الفتاوى (29\43-44) : "أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله وإن لم يكن مطابقا ؛ لكن اعتقادا ليس بيقيني كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل وإن كانا في الباطن قد أخطآ أو كذبا وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر ، فيعتقد ما دل عليه ذلك وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا . فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد وإن كان قد يكون غير مطابق وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط . فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين مع قصده للحق واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة : عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا ؛ بخلاف أصحاب الأهواء . فإنهم { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزما لا يقبل النقيض مع عدم العلم بجزمه ، فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطنا ولا ظاهرا , ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به ، فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه فكانوا ظالمين شبيها بالمغضوب عليهم أو جاهلين شبيها بالضالين . فالمجتهد الاجتهاد العلمي المحض ليس له غرض سوى الحق . وقد سلك طريقه . وأما متبع الهوى المحض : فهو من يعلم الحق ويعاند عنه . وثم قسم آخر - وهو غالب الناس - وهو أن يكون له هوى فيه شبهة فتجتمع الشهوة والشبهة …؛ فالمجتهد المحض مغفور له ومأجور . وصاحب الهوى المحض مستوجب للعذاب . وأما المجتهد الاجتهاد المركب من شبهة وهوى : فهو مسيء" .
فتبني المجتهد –على فرض كونه كذلك- لرأي واحد في قضايا عينية متعددة ؛ من غير انشغال بتحقيق المناط في كلٍّ منها , ودفع ما قد يعارض به حكمه فيها , فضلا عن الاشتغال بدفع ممانعات التكفير , أو إقامة الحجج ؛ هو علامة على اتباع المجتهد –المزعوم- لهواه ؛ بغيا على العباد , لا تحريه الحق بغية رحمة الخلق .

خامسا : إن الخطأ في الاجتهاد –من المؤهل للاجتهاد- يكون مغتفرا –مع سلامة أصوله- , إلّا إن تكرر بحيث يكون علامة على وجود إنحراف في الأصل ؛ فحينئذ يكون الخطأ موجبا للذم ؛ فكثرة الأخطاء في الجزئيات الفرعية في باب الحكم على المعينين بدعوى الاجتهاد السائغ قد تؤول أو تدل عل وجود انحراف في أصل هذا الموضوع لدى الحاكم سواء في باب التكفير أو التفيسق أو التبديع .
قال الشاطبي –رحمه الله- في الاعتصام (2\200-201) : "أن هذه الفرق إنما تصير فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كل في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا في جزئي من الجئزئيات إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببه التفرق شيعا وإنما ينشا التفرق عند وقوع المخالفة في الامور الكلية لان الكليات نص من الجزئيات غير قليل وشاذها في الغالب أن لا يختص بمحل دون محل ولا بباب دون باب , واعتبر ذلك بمسألة التحسين العقلى فإن المخالفة فيها انشأت بين المخالفين خلافا في فروع لا تنحصر ما بين فروع عقائد وفروع أعمال .
ويجرى مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة كما تصير القاعدة الكلية معارضة ايضا .
وأما الجزئي فبخلاف ذلك بل يعد وقوع ذلك من المبتدع له كالزلة والفلتة -وإن كانت زلة العالم مما يهدم الدين-".
فكثرة إطلاق مثل هذه الأحكام الخاطئة في التكفير والتفسيق والتبديع ؛ بدعوى الاجتهاد السائغ قد تدل مجموعها على وجود انحراف في الأصول –فليتنبه- .
ولهذا قال الشيخ الألباني –رحمه الله- في حق (سفر الحوالي) ومن معه , والذي يصرح بعدم تبنيه لتكفير مرتكب الكبيرة ؛ لكنه في كتابه ظاهرة الإرجاء يحوم حول التكفير ببعض الكبائر , ويتشبث بخاصة بمسألة التلازم بين الظاهر والباطن ؛ فقال : "كان عندي أنا رأي صدر مني يوماً منذ نحو أكثر من ثلاثين سنة حينما كنت في الجامعة , وسئلت في مجلس حافل عن رأيي في جماعة التبليغ ؛ فقلت يومئذ : صوفية عصرية ، فالآن خطر في بالي أن أقول بالنسبة لهؤلاء الجماعة الذين خرجوا في العصر الحاضر وخالفوا السلف ، أقول هنا تجاوباً مع كلمة الحافظ الذهبي : وخالفوا السلف في كثير من مناهجهم، بدا لي أن أسميهم : (خارجية عصرية) ، فهذا يشبه الخروج الآن فيما –يعني-نقرأ من كلامهم، لأنهم -في الواقع- كلامهم ينحو منحى الخوارج في تكفير مرتكب الكبائر، لكنهم –و لعل هذا- ما أدري أن أقول : غفلة منهم , أو مكر منهم!!
وهذا أقوله أيضاً من باب {ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} , ما أدري لا يصرحون بأن كل كبيرة هي مكفرة! لكنهم يدندنون حول بعض الكبائر , و يسكتون أو يمرون على الكبائر الأخرى! و لذلك فأنا لا أرى أن نطلق القول ونقول فيهم : إنهم خوارج -إلا من بعض الجوانب- وهذا من العدل الذي أمرنا به".
مع أن الشيخ الألباني –نفسه- كان قد دفع تهمة (موافقة الخوارج بالتكفير بالكبيرة) عن سلمان العودة ؛ وخرّج كلامه على الأصل السلفي –المتقدم- .
ففرق –كما قرر الشاطبي- بين من يخطيء في الاجتهاد مرة ؛ فلا ينقض أصله بهذا الخطأ الواحد أو الاثنين , وبين من يتكرر من الخطأ في الاجتهاد في نفس المسألة في حالات كثيرة ؛ فعند ذلك يكون خطأه المتكرر علامة على انحراف أصله , ولهذا حكم الشيخ الألباني على طروحاتهم التي يدورون فيها حول (التكفير بارتكاب الكبيرة –وإن لم يصرحوا-) بكونها (خارجية عصرية) ؛ لا تراجعا من الشيخ الألباني عن تأصيله السابق –فهو حق- ؛ ولكن إنطلاقا من الأصل الذي قرره الشاطبي –رحمه الله- .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه , وسلم تسليما كثيرا .


تم الفراغ من كتابة هذا المقال بتاريخ 14\1\2010 , ولم أر من المصلحة نشره إلا اليوم , ردا على تخرصات (جماعات التكفير) , وبيانا لجهل من يتقول على الشيخ ابن عثيمين من (جماعة التبديع والهجر) !!


__________________

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرد على البكري (2\705) :
"فغير الرسول -صلى الله وعليه وسلم- إذا عبر بعبارة موهمة مقرونة بما يزيل الإيهام كان هذا سائغا باتفاق أهل الإسلام .
وأيضا : فالوهم إذا كان لسوء فهم المستمع لا لتفريط المتكلمين لم يكن على المتكلم بذلك بأس ولا يشترط في العلماء إذا تكلموا في العلم أن لا يتوهم متوهم من ألفاظهم خلاف مرادهم؛ بل ما زال الناس يتوهمون من أقوال الناس خلاف مرادهم ولا يقدح ذلك في المتكلمين بالحق
".
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 10-02-2011, 10:10 PM
يزن الكلوب يزن الكلوب غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Nov 2010
الدولة: المملكة الأردنية الهاشمية
المشاركات: 129
افتراضي

بارك الله فيك شيخنا ابو العباس لا فض الله فوك واسال الله ان يثيبك خيرا على ما كتبت فلقد فندت شبهة خطيرة يجب ان تبين وتوضح خاصة انهامنتشرة وتنشر بين شبابنا وفقك الله لكل حق وخير وهدى
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 10-02-2011, 11:11 PM
أبوالأشبال الجنيدي الأثري أبوالأشبال الجنيدي الأثري غير متواجد حالياً
مشرف
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 3,472
افتراضي

مسدد موفق أبا العباس ..
زادك الله توفيقا .
__________________

دَعْوَتُنَا دَعْوَةُ أَدِلَّةٍ وَنُصُوصٍ وليْسَت دَعْوَةَ أسْمَاءٍ وَشُخُوصٍ .

دَعْوَتُنَا دَعْوَةُ ثَوَابِتٍ وَأصَالَةٍ وليْسَت دَعْوَةَ حَمَاسَةٍ بجَهَالِةٍ .

دَعْوَتُنَا دَعْوَةُ أُخُوَّةٍ صَادِقَةٍ وليْسَت دَعْوَةَ حِزْبٍيَّة مَاحِقَة ٍ .

وَالحَقُّ مَقْبُولٌ مِنْ كُلِّ أحَدٍ والبَاطِلُ مَردُودٌ على كُلِّ أحَدٍ .
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 10-03-2011, 01:38 AM
خالد الجزائري خالد الجزائري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 225
افتراضي

مقال متين متماسك
أحطتَ بكل جوانب المسألة
أقول بدون مبالغة أنه من أحسن ما قرأت في هذا الباب
جزاك الله الخيرات والخيرات وبارك فيك
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 10-03-2011, 01:55 AM
أبو الأزهر السلفي أبو الأزهر السلفي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 2,172
افتراضي

بحوث في القمة .. اللهم بارك!

أوصي شيخنا أبا الحارث الحلبي, وتلميذه النجيب أبا العباس العراقي بطباعة هذا البحث القيِّم بعد تصحيح جملة يسيرة من الأخطاء المطبعية التي وقعت فيه, وجزاكم الله خيرا ..
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 10-03-2011, 04:39 AM
الموصلي الأثري الموصلي الأثري غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Jul 2009
المشاركات: 11
افتراضي

أقـــــول .......



بارك الله في أناملُ ـــــــــ قد خَطّت بأقلامِــــــها الدُرر

وجُزيتَ خَيراً ابا العباس ـــــــــ ماتعاقب الشــمسَ والقَمَر

وللَّهِ درُ من قال :


نَصَحْتَ وقُلْتَ حقَّاً ـــــــــ وجِئتَ إِليَّ بالدُّرَرِ الجِيـــــــــــــــــــــــــــادِ

جَزَاك الله عَنّا كُلَّ خَيْرٍ ـــــــــ وزادَكَ مِنْ هُداهُ بِخَيْـــــــــــــــــر زَادِ

سَيْبقَى في الحَياة أَخُو وَفاءٍ ـــــــــ يُمْحَّصُ بَيْنَ أحداثٍ شِــــــــــدادِ

ويَبْقَى في الحياة رِجَالُ غدر ـــــــــ وأَهْلُ خَديِعة وحُشودُ عــــــــادِ

ليُبْلَى بَعضُهُمْ حقّاً ببعضٍ ـــــــــ ويُعْلَمَ كلُّ مخْفِيٍّ وبــــــــــــــــــــادِ

فيُوْخَذَ خائِنٌ حيناً ويُمْلَى ـــــــــ لهُ حِيناً ليَهْلِكَ بالتمــــــــــــــــــادي

وتمضِيَ سُنّةٌ للهِ فِينَا ـــــــــ وَحكمةُ خالِقٍ وسَبيلُ هـــــــــــــــــــادِ

ونُطْوَى بَعْدُ في ظُلماتِ قَبْرٍ ـــــــــ لنُنْشَر للحِسَابِ وللمَعَــــــــــــادِ

ليومٍ تُفصَل الأَحكامُ فِيه ـــــــــ وتَعظُمُ فيْه أَهْوالُ التَّنَــــــــــــادي

فينْعَم بالجِنانِ أخو وَفاءٍ ـــــــــ ويُلْقَى خَائــــــــــــــنٌ في قَعْرِ وادِ


أَخي حُسْنُ الوَفاءِ صَفَاءُ دِيْنٍ ـــــــــ جَمالُ في الحياةِ وطِيــــبُ زَادِ
__________________
(العلم : قال الله -تعالى- , قال رسوله -صلى الله عليه وسلم- , قال الصحابة -رضي الله عنهم-)
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 10-03-2011, 09:36 AM
ابو الزبير ابو الزبير غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 196
افتراضي

وفقك الله
مقال رائع حقاَ. يكشف اللبس ويوضح الأمور
أرجو أن يطبع
__________________
أبو عبد الرحمن الحيالي
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 10-03-2011, 11:44 AM
أبومعاذ الحضرمي الأثري أبومعاذ الحضرمي الأثري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Mar 2009
الدولة: اليمن
المشاركات: 1,139
افتراضي

جزاك الله خيراً وبارك فيك شيخنا الفاضل
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 10-05-2011, 06:32 PM
ابو الزبيرالموصلي ابو الزبيرالموصلي غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2010
الدولة: العراق الموصل
المشاركات: 734
افتراضي

جزاك الله خير ونفعنا الله بك
__________________
«شعار أهل السنة:
اتباعُهم السلفَ الصالحَ، وتركَهم كلّ ما هو مبتدَع ومُحدَث»
قال الشيخ الحلبي معلّقاً
-«رؤية واقعية في المناهج الدعوية»(ص23)- :
«وهذا كلام عظيم يجب تأمله وفهمه، ودرايته وحفظه»
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 10-05-2011, 10:56 PM
عبد الله بن مسلم عبد الله بن مسلم غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
المشاركات: 5,131
افتراضي

جزاك الله خيراً و بارك الله فيك!
__________________
قال سفيان الثوري (ت161هـ): "استوصوا بأهل السنة خيرًا؛ فإنهم غرباء"
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:22 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.