أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا
120799 | 137606 |
#1
|
|||
|
|||
قتل المدنيين والتذرع به لذم المجاهدين
مِن سُننِ اللهِ في إرسالِه رسُلَه أَنه كان يرسلُهم بالحججِ والبراهين، ولم يرسِلْهم بالجيوشِ الجرارة، والله يعلمُ ما سيترتبُ على ذلك من حصول التعذيبِ والتقتيل للفئةِ المؤمنةِ المستضعفةِ، وما يحصل لهم من الابتلاء في مواجهةِ قوى الكفر والطغيان، كما قال تعالى:
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} وكما في حديث البخاريِّ وغيرِه أَنّ النبيَّ، صلى اللهُ عليه وسلم، قال: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ، أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ). وغير ذلك من النصوص. يقول الله تعالى: {ذَلكَ وَلو يشاءُ اللهُ لانْتَصرَ مِنهُم ولكنْ ليَبلوَ بَعْضَكُم بِبَعضٍ والذينَ قُتِلوا في سَبيلِ اللهِ فَلَن يُضيعَ أًعْمالهَم}. فسيحصل القتالُ مع الكفار، والقتلُ وابتلاءُ بعضِنا ببعضٍ، ومن قُتل في سبيل الله فلن يضيعَ اللهُ أَجرَه. وعلى هذا: فلا يلزم من الفعلِ المأذونِ به شرعا أَلا يترتبَ عليه إيذاءٌ وإيلامٌ وتقتيلٌ وابتلاء؛ لأَنَّ الابتلاءَ أَمرٌ مقصودٌ للشارع؛ فلذلك لا يَصِحُّ شرعا أَن يُلامَ ويُخَطَّأَ مَن سلك سبيلاً مشروعا في الدفاعِ عن دينه أَو أَرضِه وماله، إن ترتب على فعلِه مَكارهُ وخسائرُ وابتلاءات. وجهادُ الدفع مأذون به شرعا، فهو واجبٌ إجماعا، قال ابنُ تيمية: وأما إن هجم العدوُّ فلا يبقى للخلافِ وجهٌ؛ فإن دفعَ ضررِهم عن الدين والنفس والحرمةِ واجبٌ إجماعا. روى النسائي من حديثِ قابوسِ بنِ مُخارقٍ عن أبيه قال: جاء رجلٌ إِلى النبيِّ، صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجلُ يأْتيني فيريدُ مالي؟ قال: ذَكِّرْه بالله. قال: فإن لم يَذَّكَرْ؟ قال: فاستعِنْ عليه مَن حولك من المسلمين. قال: فإن لم يكن حولي أَحدٌ من المسلمين؟ قال: فاسْتِعنْ عليه بالسلطان. قال: فإِن نأَى السلطانُ عني. قال: قاتِلْ دونَ مالِك حتى تكونَ من شهداء الآخرةِ، أو تمنعَ مالَكَ. ففي هذا الحديث: النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، قَدَّر أَنّ هذا الرجلَ ربما يُقتلُ، ولا يوجدُ له مُعينٌ من سلطانٍ أَو مسلمين حولَه، وربما كان الصائل عليه أكثرَ عددا وأشدَّ منه قوة، وعليه فالمُعتدي سينفردُ بمالِه وأَهلِه إذا قتلَه، ومع هذا لم يشترطْ عليه النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَضمن سلامةَ أَهلِه من بعدِه إذا أراد أن يدفعَ عدوَّه بمفردِه وتعرض للقتل؛ وذلك لأَنّ قتالَ الدفعِ يحتاج إِلى سرعة التصرفِ بحسب الموقف والإمكانات، وهذا لا يُسعفُ المرءَ إلى اتخاذ التدابير والاحتياطات الكافية. قال ابنُ تيميةَ: فالعدو الصائلُ الذي يُفسدُ الدينَ والدنيا، لا شيءَ أَوجبُ بعد الإيمانِ مِن دفعِه، فلا يُشترطُ له شرطٌ، بل يُدفعُ بحسب الإمكان، وقد نصَّ على ذلك العلماءُ أصحابُنا وغيرُهم، فيجب التفريقُ بين دفعِ الصائل الظالم الكافرِ وبين طلبِه في بلادِه. في قصةِ موسى معَ فرعونَ ما كان مع موسى إلا الآياتُ الدالةُ على صدقِهِ التي سيواجهَ فيها بطشَ فرعونَ وجنده، وبعدما ظهرت حجةُ موسى، عليه السلام، كان الأَمرُ كما قال الله سبحانه، في سورة الأعراف: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} وفي سورة طه: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} فكان ظهورُ الحجةِ الخاليةِ عن السلاحِ والجيوشِ سببًا لزيادةِ بطشِ فرعون، وتوعدِّه بقتلِ الأبناء الذين لا شأنَ لهم. فكان جوابُ موسى لقومه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} فقال قومُ موسى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} فأَجابَهُم: {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} إِذن: فلم يكُن في شكواهم مما تَسبَّبَتُه مواجهةُ فرعونَ بالحجج والبراهين، وليس مع هذه المواجهةِ سلاحٌ، لم يكن في تلك الشكوى حجةً لهم، رغم ضعفِهم وقلةِ عددِهم، وشدَّةِ بطشِ عدوِّهم، وتوعدِّه بقتل أبنائهم؛ وذلك لأَنَّ هذا كلَّه كان مُتَرتِّبا على أَمرٍ مأذونٍ به شرعا. وفي قصة الغلام والساحر، كان فعلُ الغلام، وهو التضحيةُ بنفسِه؛ لأجل أن يؤمنَ الناسُ، عندما دلَّ الملكَ الكافرَ على السبيل الوحيدِ لقتلِه، فكانت هذه التضحيةُ سببا لكسر حاجز الخوف في قلوب الناس من الطاغيةِ المدعي الألوهيةَ الذي خَدَّ لهم الأخاديد وأضرم فيها النيران لصدهم عن الإيمان، فآمن الناسُ واقتحموا النارَ، ورضوا بالتضحية في سبيل الله، رغم أنهم حديثي عهد بإيمان، وأنطق الله الرضيعَ عندما تقاعست أُمُّه عن اقتحام النار، فقال لها: يا أمّه اصبري؛ فإنك على الحق. فكانت هذه القصةُ غايةً في العبر لكل أهلِ ابتلاءٍ بالطغاةِ عبرَ الدهور. وقع في القرن الماضي ما يُسمى بالاستعمار الغربي لكثيرٍ من الدول العربية، وقد تَصدّى لهذا الاستعمارِ الشعوبُ الإسلاميةُ، وقامت الثوراتُ ضدَّ المستعمر الكافر، وترتب على ذلك الملايينُ من القتلى، وكثيرٌ من الدمار والتعذيب، ولم نسمع من علماء تلك الفترةِ من يَذمُّ هذه الثوراتِ، بل ما كان منهم إلا التأييدُ لها والثناءُ عليها. بل توارثنا منذ صغرنا الفخرَ بهذه الثورات، وتعلمناه في مدارسنا، فمن يَنسى ثورةَ ليبيا وشهيدَها عمرَ المختار، وثورةَ الجزائر ثورةَ المليون شهيد، وثورات أهل فلسطين منذ الاحتلال البريطاني غنية عن التعريف. وقد أرى المسلمون في هذه الثورات الكفارَ عزةَ المسلم الرافضِ للخنوع والخضوع للمحتل، وساهمت هذه الثورات في إبقاء روحِ الجهاد في النفوس يتوارثونها جيلا بعد جيل، رغم ما أصاب الأمةَ من ضعف وهوان، وبُعدٍ عن الدين؛ وليعلمَ أعداؤها أنها لم تمت، وأن بقيةَ الحياةِ التي فيها لا بدَّ ان تنهضَ بها يوما .وتقومَ من جديد، وليبقى الخوف والرعب من أمة الإسلام مزروعا في قلوب الكافرين، وإن كانت لهم الغلبة حينا من الدهر، بدل أن يَرَوا من كلِّ الأمةِ مجتمعةً استسلاما وخنوعا وذلا، فأبقى اللهُ في هذه الأُمةِ مَن يقوم بهذا الواجب. ثم جاءت أحداثُ غزةَ فبدأنا نسمعُ أصواتا غريبةً، ممن هم محسوبون على الدِّينِ والعلم، ينعتون المقاومةَ في غزةَ بأقبح الأوصاف، وكأَنهم هم الوحيدون في التاريخِ الذين لا يحقُّ لهم مقاومةُ المحتل المعتدي الكافر، وقد قام بتأييدهم عامةُ أهل الإسلام على اختلاف أَطيافهم وأوطانهم، إلا هذه الفئةَ العجيبةَ الغريبةَ من المسلمين، التي لا نكاد نرى لها أيَّ إنكارٍ على اليهود، وكأنهم قومٌ مظلومون، فلا نرى فرحا بما يحصل من قتلٍ لهم، مع أَنهم يقولون: اللهم اضربْ الظالمين بالظالمين! ولكنهم يشمَتون فقط بما يحصل للمسلمين، الظالمين في تصورهم، ويُظهرون أَخطاءَهم، ولا يُظهرون بشاعةَ اليهود، ولا يُظهرون فرحا بأَيِّ إصابةٍ أو قتلٍ أو مصيبةٍ تنزلُ بهم، مع أَنّ المفروضَ أَنهم في تصورهم أَشدُّ ظلما! ومن المآخذ التي ينكرونها على حماس بأَنّه كان عليها أَنْ تنتظرَ حتى تملكَ السلاحَ المكافئَ للعدو حتى لا يتسبَّبوا في قتلِ المدنيين، فهل حقا لو ملكت المقاومةُ السلاحَ المكافئَ لعدوِّها هل هذا سيمنعُ من قتل المدنيين؟ الجواب: لا يلزم، بل الغالبُ على الحروبِ المعاصرة أن الدمارَ والقتل يَعُمُّ المدنيين والمقاتلين، وأَكبرُ مثالٍ: الحروبُ العالميةُ؛ كانت فيها الأَسلحةُ متكافئةً، ومع هذا، كانت المدنُ والقرى تُقصفُ وتُبادُ بالكامل. ثم ما الذي سيمنع اليهود ومَن وراءَهم مِن قوى البطشِ والكفرِ الداعمةِ له، ما الذي سيمنعهم من استخدامِ الأَسلحةِ النووية لو أَن المقاومةَ في غزةَ ملكت الأَسلحةَ الثقيلةَ من الدبابات والطائرات ونحوها؟ وما خَبرُ هيروشيما وناجازاكي عنا ببعيد. أم عليهم أن يبقوا صامتين خانعين مستسلمين حتى يملكوا السلاحَ الذري، والهيدروجيني، والجرثومي؟ واللهُ، عز وجل، ما كلَّفنا في إِعدادِ السلاح إلا ما استطعنا، ولم يشترطْ علينا مكافئةَ العدوِّ في سلاحِه، أو حتى أن نقاربَه. والآيةُ التي يحفظها الجميع: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ}. والبعضُ يستدل على تخطئةِ المقاومةِ في غزة بقولِه، تعالى، في سورة الفتح، والتي نزلت بسببِ صلح الحديبة: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} يستدلون بأن وجودَ فئةٍ مؤمنةٍ قليلةٍ بين الكفار في مكةَ يخفون إسلامَهم، فمنع اللهُ القتالَ حتى لا تصيبَ هذه الفئةَ سيوفُ المؤمنين بغير علم، فتصيبَهم بذلك معرةٌ، فكيف بمن يتسبب بقتل المدنيين بعلم؟ أولا: كل معركةٍ لها ظروفُها وأسبابها التي تختلف عن غيرها باختلاف الأحوال والأزمانِ، فليس كلُّ فعلٍ في إِحداها يصلح قياسُ أُخرى عليه. ثانيا: مَنْعُ القتال يومَ الحديبيةِ؛ حتى لا تُقتلَ هذه الفئةُ المؤمنةُ، ليس هو السببَ الوحيدَ الذي منع الله من أَجلِه القتالَ، وقدَّرَ الصلحَ، إنما كانت مصالحُ كبيرةٌ حدثت بسبب الصلح، ما كانت لتكون لو وقع القتال وقتَها؛ حيث كان للصلح من الآثار العظيمةِ على الإسلام والمسلمين ما كان سببا في ظهور الإسلام والتمهيد لفتح مكةَ الميسر، وقد سمى الله صلحَ الحديبيةِ فتحا، أي: نصرا؛ لِما ترتب عليه من دخول كثير من المشركين في الإسلام، وغيرُ ذلك من المكاسب. أما معنى (المَعَرَّة) فقال المفسرون إن معنى (المَعَرَّة) هو الكفارة. قال الطبري: وإنما المعنى: فتُصيبَكم من قِبَلِهم مَعرَّةٌ تُعَرُّون بها، يلزمُكم من أَجلِها كفارةُ قتلِ الخطأ؛ وذلك عِتقُ رقبةٍ مؤمنة، من أطاق ذلك، ومن لم يُطِقْ فصيام شهرين. ونقل عن ابن إسحق أنه قال: فأَما إِثمٌ فلم يَخْشَهُ عليهم. ثم قال: ولكنه حالَ بينكم وبين ذلك {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} لِيُدخلَ اللَّهُ في الإِسلامِ مِن أَهلِ مكةَ مَن يشاءُ قبلَ أَن تدخلوها. اهـ. وكذلك هذا التعليل كان فيه تَطييبٌ لقلوبِ الصحابةِ لِما حصل لهم من غضبٍ وحَنقٍ بسبب بنود الصلح التي في ظاهرها أنها غيرُ منصفةٍ للمسلمين، وفيها إجحاف لهم، فكرهوا الرجوعَ دون عمرةٍ، أو قتالِ الذين صدوهم عن البيت. ثم إنه لا يصلح أن يكونَ وجودُ مسلمين في ديارِ الكفر سببا لمنعِ القتال مطلقا؛ لأنه لا يكاد يخلو بلدٌ من بلدان الكفرِ من وجود المسلمين بينهم. فالمسألة تقديرٌ للمصالح والمفاسد، ورجحانُ بعضِها على بعض، ولو كانت مصلحةُ القتالِ يومَ الحديبيةِ راجحةً لَمَا فُوِّتَتْ هذه المصلحةُ لأَجلِ مفسدةٍ متوقعةٍ أَقلَّ منها. ومثلُها مسألةُ تَتَرُّسِ الكفارِ بالمسلمين، فقد أَجاز الفقهاءُ مهاجمةَ العدوِّ في هذه الحالةِ، ولو أدى ذلك إلى قتلِ هؤلاء المسلمين الذين تترَّس بهم العدوُّ، إذا كانت المصلحةُ في هذا راجحةً. وتقديرُ المصالح والمفاسدِ تختلفُ فيه الأنظارُ، والمُقدِّرُ لها هم أَهلُها المنشغلون بمقارعةِ العدوِّ طوال سني حياتهم، وليس من يُنَظِّرُ من وراء الشاشات، المنشغلَ بأَعراضِ المسلمين يُنَظِّرُ عليهم وليس له لا في العيرِ ولا في النفير. فأهلُها إِن أَخطأوا لا تثريبَ عليهم، فليس كلُّ مجتهدٍ مصيبا، أما غيرهم فما شأنهم؟ والبعض يستدل على تخظئةِ المقاومةِ في غزةَ بما قاله ابنُ تيميةَ في "منهاج السنة النبوية": فلا رأْيَ أَعظمُ ذَمًّا من رأيٍ أُريقَ به دمُ أُلوفٍ مؤلفةٍ من المسلمين، ولم يحصلْ بقتلِهم مصلحةٌ للمسلمين، لا في دينهم ولا في دنياهم، بل نقص الخيرُ عما كان، وزاد الشر على ما كان. اهـ. هكذا يوردون كلامَه منزوعا من سياقه، وهذا الكلام قاله في معرِضِ ردِّه على الرافضيِّ ابنِ المطهّر الحلّي؛ الذي عاب على عمرَ، رضي الله عنه، بأنه يقول بالرأيِ والحَدْسِ، فرد عليه شيخُ الإِسلام بأَنَّ عمرَ لم يختصَّ بالقول بالرأيِ وحدَه دون سائر الصحابة، وبيَّن بأن رأيَ عليٍّ في صفين والجمل ترتب عليه عظائمُ الأمور؛ من سفك الدماء، والتنازع الذي وقع في الأمة. فقال رحمه الله: القولُ بالرأيِ لم يختصَّ به عمرُ، رضي الله عنه، بل عليٌّ كان من أقولِهم بالرأيِ، وكذلك أبو بكر وعثمان وزيد وابن مسعود وغيرُهم من الصحابة، رضي الله عنهم، كانوا يقولون بالرأي، وكان رأيُ عليٍّ في دماءِ أَهلٍ القبلةِ ونحوِه، من الأُمور العظائِم؛ كما في سنن أَبي داود وغيره عن الحسن عن قيس بن عباد قال: (قلتُ لعليٍّ: أَخبرِنا عن مسيرِك هذا؛ أَعَهْدٌ عهدَه إليك رسولُ الله، صلى الله عليه وسلم، أَم رأيٌ رأيتَه؟ قال: ما عهدَ النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، إليَّ شيئا، ولكنه رأيٌ رأيتُه). وهذا أمرٌ ثابت. أهـ. وبهذا يتبيَّنُ أنَّ ابنَ تيميةَ قال هذا الكلامَ من باب الإلزامِ لذاك الرافضيِّ؛ فإن كان الرافضيُّ يذمُّ رأيَ عمرَ، فرأيُ عليٍّ أَولى بالذمِّ؛ لِما ترتبَّ عليه من تلك الدماء. ثم إن ابنَ تيميةَ قال قبل كلامِه هذا: ومعلومٌ أَنَّ الرأيَ إِن لم يكنْ مذموما فلا لومَ على من قال به، وإٍن كان مَذمومًا فلا رأيَ أعظمُ ذمًّا .. إلخ. إذن: هناك رأيٌ مذمومٌ ورأيٌ غيرُ مذموم عند ابن تيمية، فغيرُ المذموم لا يلامُ قائلُه، بخلاف المذموم، والاعتبارُ بالذمِّ وعدمِه هو باعتبار موافقتِه للشرع أو بمخالفتِه له، وليس باعتبار ما ترتب عليه، والشرعُ قد أَذن في دفعِ الصائل دون شرطٍ، إنما بحسب الإمكان كما سبق ذِكرُ الإجماع على ذلك، فكيف يكون جهادُ الدفع رأيا مذموما؟ وأختم بقول الشيخ الألباني، رحمه الله، فيما قاله من وجوب نصرة العراق لما اجتمعت عليه قوى الكفر، قال: لذلك فالناس اليوم تفكيرُهم ضيقٌ جدا حينما يفكرون بشرط رفع الراية الإسلامية لدفع، مثلا، اعتداء هؤلاء الكفار الذين اجتمعوا من كل جانب وصوب للاعتداء على بلاد المسلمين، وهي العراق. فهنا يجب على الدول الإسلامية أن ينصروا الشعبَ العراقيَّ المعتدَى عليه من الكفار، وأن لا يفكروا أن هذا الشعبَ هل دولتُه ترفع رايةَ الإسلام أم لا؛ لأننا في هذه الحالةِ نريد أن ننقذ الشعبَ المسلمَ من سيطرة ذلك الكافرِ، فهنا يجب على المسلمين أن ينفروا كافة.
__________________
. (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَخُونُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤا۟ أَمَـٰنَـٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ) |
#2
|
|||
|
|||
ويحتجون على تخطئة المقاومةِ في غزةَ بما رواه مسلمٌ عن حذيفةَ بنِ اليمان، رضي الله عنه، لما طلب منه النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، يومَ الأحزاب أن يأتيَه بخبر القوم، فقال له: (اذهب فأتني بخبرِ القوم ولا تَذْعَرْهُم عليَّ).
ويوردون كلامَ النووي على الحديث في شرحه على صحيح مسلم، حيث قال: قوله صلى الله عليه وسلم: (اذهب فأتني بخبر القوم ولا تَذْعَرْهُم عليَّ) معناه: لا تُفزِعْهم عليَّ ولا تُحرِّكْهم عليَّ، وقيل معناه: ولا تُنَفّرهم، وهو قريبٌ من المعنى الأول. وإلى هنا ينتهي النقلُ عن النووي، ويُبترُ كلامُه؛ لِيُفهمَ منه ما أرادوه من معنى الحديث، لا ما أراده النووي من شرحه للحديث. أما تتمةُ كلامِ النووي المبتورِ والذي يُفهم منه معنى الحديث كما بيَّنه النووي فهو قوله: (والمراد: لا تُحَرِّكْهم عليك؛ فإنهم إن أخذوك كان ذلك ضررا عليَّ؛ لأنك رسولي وصاحبي). والذي قاله النووي هو التأويل المتعينُ للحديث؛ وذلك لأن كفارَ قريشٍ هم قدموا، أصلا، للقضاءِ على المسلمين، وهذه غايتُهم التي جمعوا لها الجموعَ، وعزموا عليها، فالأمر لا يحتاجُ تصرفا من بعضِ الصحابةِ ليُهيّجَهم على المسلمين، إنما صدَّهم الخندقُ عن ذلك. وكانت لهم محاولاتٌ عديدةٌ لاقتحام الخندق، حتى تمكن بعضُ فرسانهم من ذلك، إلا أن المسلمين تصدَّوا لهم. وكذلك حصل بينهم تراشقٌ بالنبل، وأصيب سعدُ بن معاذ، رضي الله عنه، وغيرُه. فالقصدُ: لا يصلحُ أن يكونَ معنى قولِ النبي، صلى الله عليه وسلم، لحذيفةَ: (لا تَذعرهم عليّ): لا تُهَيِّجهم لقتالنا؛ لأن كلَّ أسبابِ القتال ومهيجاتِه ودوافعَه قائمةٌ أصلا.
__________________
. (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَخُونُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤا۟ أَمَـٰنَـٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ) |
#3
|
|||
|
|||
.
ومن عجائبِ ما يحتجون به على تخطئةِ المجاهدين في غزةَ ما روي عن أنسٍ، رضي الله عنه، أن عمرَ بن الخطاب، رضي الله عنه، سأله: إذا حاصرتم المدينةَ كيف تصنعون؟ قال: نبعث الرجلَ إلى المدينةِ، ونصنع له هَنةً من جلود. قال: أرأيت إن رُمي بحجر؟ قال: إذا يُقتل. قال عمر: فلا تفعلوا؛فوالذي نفسي بيده ما يَسُرني أن تفتحوا مدينةً فيها أربعةُ آلاف مقاتلٍ بتضييع رجل مسلم. وفي روايةٍ: قال: كيف تصنعون إذا حاصرتم حصونَ العدو؟ قال: نحاصرهم، ثم نبعث رجالا فيحفرون أساسَه. قال: أرأيت إن رُمي رجلٌ بحجر فأصابه أيقتلُه؟ قال: نعم قال: ما أُحب أن تفتحوا حِصنا فيه أربعةُ آلاف مقاتلٍ بدم رجل من المسلمين يُقتل ضَياعا. وفي أخرى: قال: كيف تصنعون بالحصون؟ قلت: ندنو منها. قال: فإذا رمي بحجر؟ قلنا: يرضح صاحبَه الذي يصيبه. قال: ما أحب أن تفتح قريةٌ فيها ألف بضياع رجل مسلم. وردا على هذا الاستدلال: أولا: كلام عمرَ، رضي الله عنه، إنما كان في جهادِ الطلب، وليس في جهاد الدفع، ولا يصلح قياسُ أحدِهما على الآخر؛ لاختلاف أحكامِهما. ثانيا: غايةُ ما في كلام عمرَ هو الكراهةُ لذلك، وهذا واضحٌ من قوله: (ما يَسُرُّني، ما أُحب) ومثلُ هذا الكلامِ لا يُفهمُ منه التحريمُ؛ ولهذا لما أورد الإمامُ الشافعي هذا الأثرَ في كتاب "الأم" قال على إِثره: ما قال عمرُ بنُ الخطاب، من هذا، احتياطٌ وحسنُ نظرٍ للمسلمين. وإني استحبُّ للإمام ولجميع العمال وللناس كلِّهم أن لا يكونوا متعرضين لمثل هذا، ولا لغيره، مما الأغلبُ عليه منه التلفُ، وليس هذا بِمُحرَّمٍ على مَن تَعرَّضه. ثالثا: زمنُ عمرَ هو زمنُ الفتوحاتِ وقدَّم فيه المسلمون الكثيرَ من الشهداء، فهل الذين يستدلون بهذا الأثر يفهمون أن عمرَ كان يريد انتصاراتٍ وفتوحاتٍ دونَ دماءٍ ولا شهداء؟ وهل يقولُ بهذا عاقلٌ؟ وكلامُ عمرَ، رضي الله عنه، هو بلا شك محمولٌ على أن عمرَ لا يريد أن يكونَ الفتحُ بتضييع دمِ مسلمٍ إن أمكن الفتحُ دون إراقةِ هذا الدَّمِ بأفعالٍ يمكنُ الاستغناءُ عنها. وهذا واضحٌ لمن تأمل الأثرَ بطرقه. وقد روى الطبريُّ بإسناده عن المغيرةَ، قال: بعث عمرُ جيشًا فحاصروا أَهلَ حِصنٍ، وتقدم رجلٌ من بَجِيلةَ، فقاتل، فقُتِل، فأكثر الناسُ فيه؛ يقولون: ألقى بيده إلى التهلكةِ! قال: فبلغ ذلك عمرَ بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال: كذبوا، أليس الله، عز وجل، يقول: {وَمِن الناسِ مَن يَشري نفسَه ابتغاءَ مَرضاتِ اللهِ واللهُ رءوفٌ بالعبادِ}. وروى مثلَه عن أبي هريرةَ.
__________________
. (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَخُونُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤا۟ أَمَـٰنَـٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ) |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|