قال الله -عز وجل-: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى . وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا . هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا . وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا} [الكهف: 13-16].
قال الشيخ خالد إسماعيل –حفظه الله-:
هنا فائدة مهمَّة في هذه الآيات تتعلق بواقعِنا المعاصِر.
يقول ابن كثير –رحمهُ الله-في هذه الآيات، لما ذَكر فرار هؤلاء إلى الكهف-، قال: "وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس؛ أن يفرَّ العبدُ خوفًا على دينِه، كما جاء في الحديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: "يوشكُ أن يكون خيرُ مال أحدِكم غنمًا يَتبعُ بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفرُّ بدينِه من الفتن" رواه البخاري".
قال: "ففي هذه الحال تُشرعُ العزلة عن الناس ولا تُشرعُ فيما عداها لما يفوت بها من تركِ الجماعات والجُمع".
فمما ابتُلي به كثيرٌ من الناس في أيَّامنا هذه في بلاد إسلاميَّة كثيرة: فتنة القتل والهرج، وهذه فتنة أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي من علامات الساعة.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بين يدي الساعة الهرْج"، قالوا: وما الهرج؟ قال: "القتل. إنه ليس بِقتلكم المشرِكين؛ ولكن قتل بعضكم بعضًا، حتى يقتل الرجلُ جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمَّه، ويقتل ابن عمِّه"، قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ؟! قال:"إنه لتُنزع عقول أهل ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيءٍ وليسوا على شيء".
قال أبو موسى: والذي نفسي بيده؛ ما أجدُ لي ولكم منها مخرجًا إن أدركتني وإيَّاكم إلا أن نخرج منها كما دخلنا فيها، ولم نُصب منها دمًا ولا مالًا.
بالاعتزال!
وهذا هو الواقع! يقتل أحدُهم أخاه وعمَّه وابن عمه!
وتأمَّل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحسب أكثرهم أنهم على شيء"؛ لأن الفتنة –أيها الإخوة- إذا أقبلت تتزيَّن للناس في مباديها حتى تُغريَهم بِملابساتِها في الظاهر، ثم يتورَّطون فيها إذا دخلوا فيها، فيحسبون أنهم على شيء "يحسب أكثرهم أنهم على شيء، وليسوا على شيء"!
مِن أكبر أسباب فتنة الهرج والقتل في بلاد المسلمين: عدم الالتزامِ بدِين الله –تعالى- ومنهج الله –تعالى- الذي رضيَهُ لعبادِه، وخاصة في قضيَّة التَّعامُ مع وُلاةِ الأمر، فيحصل الخروج على وليِّ الأمر في مظاهرات، ثم تقع الفتنة!
يُبتلى الناس –مثلًا- بحاكم ظالم مُعانِد، فيقع الصِّدام؛ تُسفَك الدماء، تُنتهك الأعراض، تُضيَّع الخيرات، يُرفع الأمن، ويضعف الدِّين، ويكون في هذا خدمة لأعداءِ الدِّين!
هل هذا منهجٌ شرَعَه الله في كتابه؟!
هل هذا منهج شرعَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سُنَّته؟!
النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مكَّة بقي ثلاث عشرة سَنة يدعو إلى توحيد الله، ما استخدم أسلوب القوَّة، وما جاهد في سبيل الله إلا لما هاجر إلى المدينة...
... ليس من الحكمة، ولا من العقل، ولا مِن الشرع أن يقوم ويعاند ويُصر أما طاغية يملك قوة كبيرة! ما الفائدة؟! يُقتَل أهل الخير وأهل الدِّين، ويُقتل العامة، ثم؛ لا شيء!!...
فهذا -أبدًا- ليس طريقًا للإصلاح.
والنبي صلى الله عليه وسلم بيَّن هذا الأمر أتمَّ بيان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سيُولَّى عليكم أثَرة"، قال: "فاصبِروا حتى تلقوني على الحوض".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسمعْ وأطِع للأمير، وإن ضُرب ظهرُك وأُخذ مالك؛ فاسمعْ وأطع".
ليس هذا ذُلًّا؛ وإنما هو مراعاة للمصالح الكبرى، وهو نظر إلى مآلات الأمور وعواقبها؛ حتى يُحفظ الأمن، وبذلك يُقام دينُ الله -تعالى-.
مهما اشتد الحال على بعض الناس في بلاد مُسلمة؛ فبالتمسك بالدِّين والدعوة إلى الله -تعالى-مع مرور السنوات-؛ ينصلح الناس.
كان في بعض تلك البلاد -مثلًا- النقاب غير ظاهر، بعد مرور سنوات؛ ظهر النقاب، ظهر الالتزام بالسُّنة، وهكذا يومًا بعد يوم تظهر السُّنة -بإذن الله-، ما دام أهلُ الخير وأهل العلم يجتهدون في الدعوة إلى الله.
هذا هو المنهج الشرعي {إنَّ اللهَ لا يُغيِّرُ ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسِهم}.
ولا يمكن -أيها الإخوة- أن تتغيَّر دولة ويتغيَّر مجتمع في يوم وليلة.
مسألة التغيير ما ترجع إلى تغيير الحاكِم، الناسُ كلهم راعٍ وكلهم مسؤول عن رعيَّته، فإذا انصلح هذا، وانصلح هذا؛ يتغير المجتمع تلقائيًّا من نفسه، وهذا الحاكم إنما هو مِن أنفسهم، فإذا انتشر الخير وانتشر الصلاح؛ قلَّت المعاصي؛ فيظهر نُور السُّنة ونور الطاعة في المجتمع؛ بذلك يُغير اللهُ -تعالى- الحال ويصلح الحال.
أما أن يحيد الناسُ عن الأسلوب الشرعي الذي رضيه الله لهم، ويبحثون عن أساليب بدعيَّة وأساليب توافق الأهواء الفاسدة، وراجعة إلى أهواء وجهالات، وهي من المناهج المنحرفة المعروفة -منهج الخوارج-؛ فهذا يورِث الشِّقاق والفتنة الكبيرة في بلاد المسلمين.
وكما قال ابن تيميَّة: ما عرف قوم -قط- خرجوا على ولي أمرهم فآلَ أمرهم إلى صلاح.
أبدًا؛ على مرور التاريخ!
فلا بُد للمسلم أن يَعرف حقيقة هذا الأمر؛ أن هذا ليس بأسلوب شرعي.
ونسأل الله -تعالى- أن يجمعَ كلمة المسلمين على الحق، وأن يرفع راية الدِّين في كل مكان..