أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
96284 89305

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > المنبر الإسلامي العام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-21-2009, 03:20 PM
عمربن محمد بدير عمربن محمد بدير غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 12,045
افتراضي موقف أهل السنة من حديث الآحاد..للحمادي مقال قديم ..

موقف أهل السنة من حديث الآحاد

للحمادي


ظهرت أخيراً ملزمة لشيخنا ربيع بن هادي حفظه الله بعنوان ( موقف أبي الحسن من حديث الآحاد ) وهي من أغرب ما طلع علينا، فإنه من المعلوم عند طلبة العلم ، بل صغار طلبة العلم الذين درسوا علم الحديث أو أصول الفقه أن ما يفيده حديث الآحاد من علم أو ظن مسألة خلافية، لا يبني عليها تبديع أو تفسيق أو ولاء وبراء ، و أخذ الشيخ ربيع في بيان مذهب أبي الحسن، وحمَّله ما لا يحتمل، فصار الناس هنا يلمزون الشيخ أبا الحسن حفظه الله ، بأنه يقول بقول المعتزلة وأهل الأهواء، فأحببنا أن ندفع عنه هذه التهمة الباطلة كما فعلنا في ملازمنا السابقة، وأحببنا أيضاً أن نبين ما يفيده حديث الآحاد عند أهل السنة ، أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية لما يحبه ويرضا.

قال الشيخ ربيع حفظه الله : ( ... فأفيد طلاب الحق من طلاب العلم بأني قد وقفت لأبي الحسن مصطفى بن إسماعيل المصري المأربي هداه الله للحق وللالتزام بمنهج السلف الصالح على كلام لا يرضاه أهل لسنة السابقين واللاحقين في خبر الآحاد، حيث خالف فيه ما عليه أهل الحديث قاطبة، وما عليه أهل السنة المحضة، بل خالف جماهير العلماء من السلف والخلف ولي عليه مآخذ سأسوقها مجملة ثم أفصلها ثم أسوق الأدلة على بطلان ما ذهب إليه هو وسلفه من المعتزلة والروافض ومن انخدع بمنهح هذه الطوائف من الفقهاء مع الأسف. )

أقول : إن هذا الكلام الذي زعم الشيخ ربيع حفظه الله أن أهل السنة السابقين واللاحقين لا يرضونه هو قول أبي الحسن بأن خبر الآحاد يفيد الظن، وقبل الجواب عن ما ذكره الشيخ ربيع حفظه الله لا بُدَّ من التعريف بالمتواتر والآحاد وما يفيده كلٌ منهما من كلام أهل العلم وبخاصة أهل السنة ثم، نرجع إلى كلام الشيخ ربيع للنظر فيه.

أولاً المتواتر : وهو ما رواه عدد كثير أحالت العادة توافقهم وتواطئهم على الكذب، رووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء، وكان مستند انتهاؤهم الحس.
فائدته : ويفيد المتواتر العلم اليقيني بلا خلاف يعرف بين من يعتبر خلافهم، في إفادته العلم، واختلفوا في إفادته للعلم هل هو ضروري أم نظري. رجح الحافظ ابن حجر الأول

ثانياً حديث الآحاد : وهو ما تخلف عنه أحد شروط المتواتر.
فائدته : اختلف أهل العلم فيما يفيده حديث الآحاد على ثلاثة أقوال :
الأول : أنه يفيد العلم، وهو مذهب الظاهرية ورواية عن أحمد ورواية عن مالك رواها عنه ابن خويز منداد واختارها، واحتج هؤلاء بحجج ستأتي أثناء الكلام على ما ذكره الشيخ ربيع في ملزمته.

الثاني : أنه يفيد الظن مطلقاً، أي سواء احتفت به القرائن أم لا، قاله بعض المتكلمين وتبعهم عليه بعض الفقهاء والأصوليين، وهذا هو مذهب المعتزلة. واحتجوا بأنك لو سألت عن أعدل الرواة وأضبطهم، أيجوز عليه الخطأ، لقلت نعم، فيقال لك، قطعك بصحة خبره مع تجويزك عليه الخطأ والوهم لا معنى له.

الثالث : أنه يفيد العلم متى احتفت به القرائن الدالة على صدقه، ومتى تجرد من القرائن أفاد الظن، قال الإمام الشنقيطي في ( المذكرة ) ص103 : « ومثال ما احتفت به القرائن إخبار رجل بموت ولده المشرف على الموت مع قرينة البكاء وإحضار الكفن والنعش. ومن أمثلته أيضاً أحاديث الشيخين لأن القرائن دالة على صدقها لجلالتهما في هذا الشأن وتقدمهما في تمييز الصحيح على غيرهما وتلقي العلماء لكتابهما بالقبول وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق كما قاله غير واحد واختار هذا القول أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى، وحمل بعضهم الرواية عن أحمد على ما قامت القرائن على صدقه خاصة دون غيره » انتهى، أقول وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن في ( إتحاف النبيل )، وغيره، وأوهم الشيخ ربيع هدانا الله وإياه أن أبا الحسن يقول بالمذهب الثاني، وهو أن الآحاد لا يفيد سوى الظن احتفت به القرائن أم لا، وسبب إيهامه ذلك أنه جعل المعتزلة هم سلف الشيخ أبي الحسن في ذلك، والمعتزلة يقولون بإفادة خبر الآحاد الظن احتفت به القرائن أم لا. فجَعْلُهُم سلفاً للشيح أبي الحسن يوهم أنه يقول بقولهم، وليس كذلك بل يقول بقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما نسبه إليه الشنقيطي فيما تقدم معك، وكان الأولى بالشيخ ربيع حينئذٍ أن يجعل شيخ الإسلام ابن تيمية سلفاً لأبي الحسن لا المعتزلة، وقد كان من آثار هذه النسبة الخاطئة والتي أخذ الشيخ ربيع يرددها في ملزمته، ما أشرنا إليه سابقاً من اتهام بعض الجهال لأبي الحسن ـ ويلزمهم أن يسحبوا هذه التهمة إلى من قال بقوله ـ بأنه معتزلي أو يقول بقول المعتزلة.

وبعد هذا البيان نعود إلى كلام الشيخ ربيع.

قول الشيخ ربيع : ( وقفت لأبي الحسن مصطفى بن إسماعيل المصري ... على كلام لا يرضاه أهل السنة السابقين واللاحقين في خبر الآحاد، حيث خالف فيه ما عليه أهل الحديث قاطبة، وما عليه أهل السنة المحضة، بل خالف جماهير العلماء من السلف والخلف ... إلخ ) أقول في كلامه هذا أمور :

أولها : أن أبا الحسن خالف أهل السنة وأهل الحديث وجمهور العلماء في قوله بإفادة الآحاد للظن.

وثانيها : أن الشيخ ربيع ادعى إجماع أهل الحديث قاطبة على خلاف قول أبي الحسن في حديث الآحاد.

وثالثها : أن أبا الحسن خالف مع أهل السنة جمهور أهل العلم بقوله، وهذا يشعر أنه يريد أهل العلم من غير أهل السنة.

ورابعها : أن سلف أبي الحسن في قوله هم : المعتزلة والروافض ومن انخدع بقولهم من الفقهاء.

أقول : الكلام على المسألة الأولى وهي مخالفة أبي الحسن لأهل السنة والحديث في هذه المسألة مبني على بيان مذهب أهل الحديث أولاً في حديث الآحاد ، وثانياً بيان مذهب أبي الحسن فيه. أما الأول فقد تقدم معك عن الشنقيطي أن مذهب شيخ الإسلام أن حديث الآحاد يفيد الظن إلا إذا احتفت به القرائن، وقد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة) 7/516 بذلك

فقال : « و خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن » هذا نص كلام ابن تيمية في ( المنهاج ) في الجزء والصفحة المذكورين. وقال رحمه الله في (مجموع الفتاوي) 6/175 : « واخبار الآحاد مقبولة اذا نقلها العدول، وهى توجب العمل، واخبار التواطىء توجب العلم والعمل» فجعل رحمه الله آحاديث الآحاد تفيد العمل دون العلم والمتواطئ يفيدهما جميعاً .

وقال الإمام ابن الصلاح رحمه الله ص26 : « ومتى قالوا : هذا حديث صحيح فمعناه أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة. وليس من شرطه أن يكون مقطوعاً به في نفس الأمر؛ إذ منه ما ينفرد بروايته عدد واحد، وليس من الأخبار التي أحمعت الأمة على تلقيها بالقبول .. » إلى آخر ما قال رحمه الله، وقال ص43 ـ 44 عند كلامه على مراتب الصحيح : « وأعلاها الأول وهو الذي يقول فيه أهل الحديث كثيراً : صحيح متفق عليه. ... وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته، والعلم اليقيني النظري واقع به خلافاً لقول من نفى ذلك محتجاً بأنه لا يفيد في أصله إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ وقد كنت أميل إلى هذا وأحسبه قوياً، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولاً هو الصحيح لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ ... » إلى آخر كلامه، وفيه أن أحاديث الشيخين تفيد اليقين لوجود الإجماع المعصوم من الخطأ على صحتها، وعليه إن لم يكن هناك إجماع انتفت العلة التي من أجلها حكمنا لأحاديث الشيخين بإفادتها العلم كما ذكره هو فيما سبق عنه.

وقد ترجم الإمام الذهبي ابن الصلاح في (السير) 23/142 فقال : « قلت كان ذا جلالة عجيبة ووقار وهيبة وفصاحة وعلم نافع وكان متين الديانة سلفي الجملة صحيح النحلة كافا عن الخوض في مزلات الأقدام مؤمنا بالله وبما جاء عن الله من أسمائه ونعوته حسن البزة وافر الحرمة معظما عند السلطان » ونحو ذلك في تذكرة الحفاظ. وقال ابن السمعاني في (قواطع الأدلة) 1/332 : « وأما أخبار السنن والديانات فاعلم أن خبر الواحد فيها قد يوجب العلم فى مواضع » وذكر من المواضع ما إذا تلقت الأمة خبر الآحاد بالقبول فقال 1/333 : « ومنها خبر الواحد الذى تلقته الأمة بالقبول وعملوا به لأجله فيقطع بصدقه وسواء فى ذلك عمل الكل به أو عمل البعض وتأوله البعض » ومع هذا كرر في غير موضع من كتابه إفادة خبر الآحاد للظن، هذا والسمعاني من أهل الحديث قال الإمام الذهبي في ترجمته في ( سير أعلام النبلاء ) 19/116 : « صنف كتاب الاصطلام وكتاب البرهان وله الأمالي في الحديث تعصب لأهل الحديث والسنة والجماعة وكان شوكة في أعين المخالفين وحجة لأهل السنة »

وبه قال ابن قدامة المقدسي في ( روضة الناظر ) وجعله رواية عن أحمد رحمه الله. وقال الإمام الشوكاني رحمه الله في ( الإرشاد ) ص194 : « القسم الثاني : الآحاد وهو خبرٌ لا يفيد بنفسه العلم سواءٌ كان لا يفيده أصلاً أو يفيدُه بالقرائن الخارجة عنه » وقال ص198 : « واعلم أن الخلاف الذي ذكرناه في أول هذا البحث من إفادة خبر الآحاد الظنَّ أو العلْمَ مقيَّد بما إذا كان خبرُ واحدٍ لم ينضمَّ إليه ما يقوِّيه ، وأما إذا انضم إليه ما يقويه أو كان مشهوراً أو مستفيضاُ فلا يجري فيه الخلافُ المذكور، ولا نزاع في أن خبر الواحد إذا وقع الإجماعُ على العمل بمقتضاه فإنه يفيد العلمَ لأنَّ الإجماع صيَّره من المعلوم صدقُه، وهكذا خبرُ الواحد إذا تلقَّته الأمة بالقبول فكانوا بين عامل به ومتأول له، ومن هذا القسم أحاديث صحيحي البخاري ومسلم فإنَّ الأمةَ تلقَّت ما فيهما بالقبول ومن لم يعمَلْ بالبعض من ذلك فقد أوَّله والتأويلُ فرعُ القبولِ. والبحث مقرَّر بأدلته في غير هذا الموضع » انتهى كلامه رحمه الله. وأختم بكلمة عظيمة للشيخ الألباني رحمه الله في الشريط الأول من ( الدرر في مسائل المصطلح ) في الوجه الثاني ونصه :

« قال الشيخ أبو الحسن : شيخنا مسألة أخبار الآحاد وما يدور بين طلبة العلم في هذه المسألة ، فمن قائل بأن أخبار الآحاد خارج الصحيحين ولا تحفها قرينة تدل على ... يقولون هذه تفيد العلم اليقيني وآخرون يقولون: تفيد غلبة الظن، فما الذي ترجح عندكم في هذا الباب ؟
أجاب الشيخ الألباني : لا شك أن حديث الآحاد بغض النظر عن القرائن تفيد غلبة الظن ، هذا ما ينبغي أن يشك فيه إنسان ، هذا نعرفه بالتجربة لأننا نحن حينما نقول هذا حيث صحيح الإسناد . فقد يتبين لنا شخصياً بأننا كنا مخطئين، وأنا أعتقد أن كون الإنسان من أهل العلم سواء كان من المتقدمين أو المتأخرين يجري عليه ما يجري على الآخرين من أهل العلم سواء كان من المتقدمين أو المتأخرين. ـ ما يجري على الآخرين يعني الخطأ ـ فإذا روى ثقة ما حديثاً ما ، هذا لازمه أن الحديث صحيح، لكن من حكم بناء على رواية هذا الثقة على الحديث بأنه صحيح، فهو بشر فممكن أن يخطئ، سواء خطأه من الحاكم على هذا الإسناد بالصحة، أو كان الخطأ أن هذا الثقة الذي تمسك بثقته أنه هو كان الواهم في روايته للحديث، المهم أنا أتعجب حقيقةً من بعض الأفاضل، سواءاً كانوا من المتقدمين أو المتأخرين حينما يطلقون أن حديث الآحاد يعني الصحيح من الثقة يفيد القطع. هذا خطأ واضح جداً، أما إذا حفت به القرائن، فحينئذٍ تدرس هذه القرائن وتعطى لكل دراسة نتيجتها »

ومذهب أبي الحسن رحمه الله هو ما صرح به في ( إتحاف النبيل ) ص25 ـ 26 من الطبعة الأولى ـ لم يتسنى لي الرجوع إلى الطبعة الجديدة ـ حيث قال : « وخبر الآحاد هل يفيد اليقين؟ مثلوا لذلك بأحاديث الصحيحين والتي حفتها قرائن كثيرة مثل علو قدر الشيخين ورسوخ قدمهما في هذا الفن وتلقي الأمة للكتابين بالقبول ... إلخ ما ذكره العلماء في ذلك، فمنهم من جزم بإفادتها العلم اليقيني النظري ومنهم من خالف، وعندي أن في ذلك تفصيلاُ ... فمن أحاديث الشيخين وإن كان آحاداً ما يقطع السامع له بصحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما لا يبلغ هذه المنزلة، وذلك راجع إلى قرائن أخرى تحف بعض آحاد الصحيحين خلاف ما سبق ذكره من القرائن،... وليس هناك ما يمنع من إفادة خبر الواحد اليقين إذا حفته قرائن .. » وقد تسنى لي أخيراً عندما تشرفنا بزيارة الشيخ أبي الحسن لعدن سؤالَه عن حديث الآحاد الذي تلقته الأمة بالقبول هل يفيد العلم ؟ فأجاب بأنه يفيد العلم بلا شك. هذا هو مذهب أبي الحسن الذي وافق فيه من تقدم ذكرهم من أهل السنة .

أما النقطة الثانية : وهو ادعاؤه إجماع أهل الحديث وعامة أهل السنة على أن حديث الآحاد يفيد العلم، فإنه اعتمد فيه على ما نقله الحافظ ابن كثير عن شيخ الإسلام ابن تيمية في (مختصر علوم الحديث) حيث قال الحافظ ص34 : « ... ثم وقفت بعد هذا على كلام لشيخنا العلامة ابن تيمية مضمونه: أنه نقل القطع بالحديث الذي تلقته الأمة بالقبول عن جماعات من الأئمة : منهم القاضي عبد الوهاب المالكي والشيخ أبو حامد الإسفرائيني والقاضي أبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية، وابن حامد ، وأبو يعلى الفراء، وأبو الخطاب ، وابن الزاغُوني، وأمثالهم من الحنابلة، وشمس الأئمة السرخسي من الحنفية.

قال : وهو مذهب أكثر أهل الكلام من الأشعرية وغيرهم : كأبي إسحاق اٌسفرائيني وابن فورك ، قال وهو مذهب أهل الحديث قاطبة ومذهب الذسلف عامة » وكان هذا عند الكلام على إفادة الحديث الذي تلقته الأمة بالقبول للعلم، فظن الشيح ربيع أن هذا الكلام في حديث الآحاد مطلقاً، وليس كذلك لأمور، منها ما قدمناه عن شيخ الإسلام أن حديث الآحاد الذي لم تحتف به القرائن يفيد الظن. ومنها أنه صرح بأنه يفيد اليقين لتقي الأمة له بالقبول، وعليه لو لم تتلقاه الأمة بالقبول فلا يفيد العلم، لأن الحكم دائر مع العلة، أي الحكم عليها بأنها تفيد العلم يثبت بثبوت علته وهي تلقي الأمة لها بالقبول وينتفي بانتفائها وهذا واضح. ومنها : أن من نقل عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية هذا المذهب كلهم يقولون بأن حديث الآحاد الذي لم تتلقاه الأمة بالقبول ولا احتفت به قرائن دالة على صدقه يفيد الظن، بل بعض من ذكرهم ابن تيمية يرون أن حديث الآحاد لا يفيد العلم وإن احتفت به القرائن، ولا يفيد العلم إلا إن تلقته الأمة بالقبول كأبي إسحاق الشيرازي رحمه الله ، كما في (التبصرة) ص298 وما بعدها و(اللمع) ص72.

كما أن الأشاعرة كما هو معروف لا يحتجون بحديث الآحاد في العقائد لأنه يفيد الظن عندهم. فلو أراد شيخ الإسلام ما فهمه الشيخ ربيع من أن حديث الآحاد يفيد العلم مطلقاً لكان نسبة ذلك إلى من ذَكَرَهم كذب عليهم لأنهم لا يقولون به. فعلم أن مراد شيخ الإسلام هو أن حديث الآحاد يفيد العلم إذا تلقته الأمة بالقبول. فإن لم تجمع الأمة على قبوله ولم يحتف بالقرائن فهو يفيد الظن. وهو ما ذهب إليه الشيخ أبو الحسن حفظه الله كما قدمناه عنه في (إتحاف النبيل) .

أما النقطة الثالثة : فقد تبين لك مما نقلنا أن أبا الحسن لم يخالف أهل السنة لا السابقين منهم ولا اللاحقين. وأكثر أهل العلم على قوله، ولم يوافق المعتزلة ومن ذكرهم الشيخ ربيع في قولهم في أحاديث الآحاد فإن المعتزلة تقول بأن حديث الآحاد يفيد الظن سواءاً احتفت به القرائن أم لا كما صرح به إمام المعتزلة في زمانه أبو الحسين البصري في ( المعتمد) 2/92، ولا نعلم أحداً من المعتزلة قال بأن الآحاد يفيد العلم إذا اقترنت به قرينة إلا النظام كما حكاه عنه صاحب ( المعتمد ) في نفس الجزء والصفحة.

وأبو الحسن يقول بإفادة خبر الآحاد للعلم متى اقترنت به قرينه تفيد ذلك. فجعل هؤلاء هم سلف أبي الحسن من خطأ عظيم.
أما النقطة الرابعة : فمما لا شك فيه أن الشيخ لا يجهل مذهب جميع من ذكرنا ، وكان الأولى به حفظه الله أن يجعل هؤلاء الذين ذكرناهم من أهل السنة هم سلف الشيخ أبي الحسن، لا الخوارج والروافض، أيرضى الشيخ لنفسه أن يقال فيه : أنه أتى بقولٍ سلفه فيه الظاهرية ؟! إن كان لا يرضاه فلِمَ رضي للشيخ أبي الحسن ماهو أنكر، ثم مَنْ هم هؤلاء الفقهاء المخدوعين الذين تابعوا المعتزلة والخوارج والروافض، أهم شيخ الإسلام ومن ذكرنا من أهل العلم. إن أي وصف يوصف به أبو الحسن بسبب مذهبه في حديث الآحاد ينسحب على من قدمنا ذكرهم من أهل العلم.

ثم ذكر الشيخ مآخذه على أبي الحسن فقال : ( أولاً : أنه ذكر الحجج أو الشبه على الأصح لمن يقول بأن خبر الواحد يفيد الظن من الطوائف المذكورة آنفاً ولم يذكر حجج أهل الحديث ومن وافقهم الذين يقولون إن خبر الواحد العدل الضابط المتلقى بالقبول تصديقاً به وعملاً بموجبه يفيد العلم ويوجب العمل.)

أقول : كان بإمكان الشيخ أن يعبر بقوله : ( أولاً : ذكر الحجج أو الشبه على قوله ولم يذكر حجج من خالفه ). ولكن الشيخ ربيع عدل عن هذه العبارة وأمثالها إلى ما ترى للتشنيع على الشيخ أبي الحسن بموافقته لأهل الأهواء ومخالفته لأهل السنة ، وقد قدمنا لك مذهب أهل السنة وموافقة أبي الحسن له. ثم هل يلزم كل من قال بقول أن يذكر حجته وحجة من خالفه ؟!
وقد أوهم الشيخ ربيع بهذه النقطة أن الشيخ أبا الحسن لا يقول بأن حديث الآحاد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً به وعملاً بموجبه يفيد العلم. وبأنه يقول فقط بقول الخوارج والمعتزلة والروافض. وهذا باطل فقد قدمنا لك أن أبا الحسن يقول بأن حديث الآحاد الذي احتفت به القرائن الدالة على صدقه يفيد العلم. ومن أعظم القرائن الدالة على صدق الخبر تلقي الأمة له بالقبول تصديقاً وعملاً. فكيف لا يقول أبو الحسن بإفادته اليقين حينئذٍ .

ثم قال : ( لقد وقف على قول ابن حزم إن خبر الواحد بشروطه السابقة يفيد العلم ويوجب العمل، واطلع على أدلته وحججه الكثيرة والقوية. ثم نقل عن ابن حزم أنه قال : « إن خبر الواحد يوجب العمل » وأهمل قوله بأنه يفيد العلم كما أهمل حججه ولا أستبعد أنه اطلع على قول ابن تيمية بأن خبر الآحاد يفيد العلم وحججه على ذلك.)

أقول مراد الشيخ ربيع بقوله بشروطه السابقة، الشروط التي ذكرها في النقطة الأولى، ومنها تلقي الأمة لها بالقبول تصديقاً وعملاً، ونسبة هذا الشرط إلى ابن حزم خطأ ، فإن ابن حزم يقول بإفادة خبر الآحاد لليقين إذا صح سنده وإن لم تتلقاه الأمة بالقبول، ونص عبارته في (الإحكام) : « إن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل معاً » أما إهمال الشيخ أبي الحسن لقول ابن حزم بأن حديث الآحاد يفيد العلم، فذلك لأن أبا الحسن لا يقول بهذا الإطلاق. ولا يلزمه ذكر ما لا يقول به. وقول الشيخ ربيع : ( ولا أستبعد أنه اطلع على قول ابن تيمية بأن خبر الآحاد يفيد العلم وحججه على ذلك.)

أقول : القول بأن ابن تيمية يقول بأن خبر الآحاد يفيد العلم هكذا مطلقاً كما فعل الشيخ ربيع خطأ وقد قدمنا لك مذهب ابن تيمية في أخبار الآحاد وما تفيده. وابن تيمية لم يقل بما ذكره عنه الشيخ ربيع فضلاً عن أن يكون احتج له. وكأن الشيخ لم يراجع كلام ابن تيمية بنفسه وإنما نُقِل له ، فلهذا وقع في الخطأ ، وقد وقع للشيخ ربيع مثل هذا في ملزمته ( الكر على الخيانة والمكر ) حين ذكر أن ابن حزم وابن القيم لم يذكرا معاوية في المفتين من الصحابة، مع أن كليهما ذكره في آخر الطبقة المتوسطة من مفتي الصحابة، وهذا يجعلنا نظن أن الشيخ لا يرجع إلى المصادر بنفسه، فإنا لا نظن أن الشيخ ممن يفوته مثل هذا وبخاصة أنه يبني عليه القدح فيمن خالفه، تارة بأنه من أهل الأهواء أو متابع لهم ومدافع عنهم أو ممن يدافع عن التافهين وغير ذلك مما لا يجوز إلا بعد التحري، والله أعلم.

ثم قال الشيخ : ( وهذا غش منه وتلبيس على طلاب العلم فقد يعتقدون هذا القول الباطل الذي بين بطلانه بالحجج القوية كل من ابن تيمية وابن حزم وابن القيم ....) إلى آخر كلامه في هذه النقطة.

أقول : إن الشيخ أبا الحسن ذكر قول ابن حزم : « إن خبر الواحد يوجب العمل » عندما كان يتكلم عن حكم العمل بخبر الآحاد، بعد أن انتهى من الكلام فيما يفيده، وقول ابن حزم أن حديث الآحاد يفيد العلم ، لا علاقة له بما كان الشيخ أبو الحسن بصدد بيانه، لذا لم يذكره. أما أن طالب العلم قد يلتبس عليه الأمر فيظن أن هذا القول الباطل إلى آخر ما ذكره الشيخ ربيع، فإن طالب العلم هذا الذي قد يلتبس عليه كلام أبي الحسن، قد رفعت عنه التكاليف، فلا يشتغل بطلب العلم، فإن من شرط التكليف العقل ومن فقده حتى صار كلام أبي الحسن هذا موهماً عنده فقد ارتفع عنه التكليف، أو كان من البلادة بمكان لا يليق معه الإشتغال بطلب العلم. والله أعلم

وقول الشيخ ربيع : ( الذي بين بطلانه بالحجج القوية كل من ابن تيمية وابن حزم وابن القيم ....)
أقول : إن ضم ابن تيمية مع ابن حزم وابن القيم يوهم أنه يقول بقولهما، وليس كذلك، وقد قدمنا عنه قوله : « و خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن » ( المنهاج ) 7/516 ولذا لم يذكر الشيخ له حجة واحدة في ملزمته.


قال الشيخ ربيع : ( ثالثاً : وجَّه أبو الحسن إلى أهل السنة إلزامات ظنها حججاً دامغة وظنها نصراً لباطله وباطل سلفه، سوف يراها القارئ الفطن. )

أقول : أشهد لله أن ما قاله أبو الحسن وسلفه الصالح الذين قدمنا ذكرهم، ليس هو الباطل، ولا أشهد أن من خالفهم على الباطل، فإن المسألة خلافية لا تحتمل كل هذا، ولعله أن تخرج علينا ملزمة غداً تتهم أبا الحسن بأنه يقول بقبول مرسل الصحابي، وتجعل هذه المسألة من مسائل الولاء والبراء، ويجعل المخالفين مع قلتهم هم الجمهور، ومن خالفهم هم أهل الأهواء، أو يتهم بأنه يقول بأن الإجماع حجة، أو يقول بالقياس أو يقول بأنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله إلا للأمة مجتمعة أو بأن النار لا تفنى أو غير ذلك، اللهم سلم سلم. اللهم سلم سلم.

أما حجج أبي الحسن والحجج التي سيأتي بها الشيخ ربيع فإني لا أعرج عليها، ومن شاء النظر فيها فليراجعها في مظانها ـ إلا بعض حجج ابن حزم فإني سأتكلم عليها لحاجة في نفسي ـ فليس غرضي إثبات أن ما قاله أبو الحسن وسلفه المذكورين آنفاً : ابن تيمية والسمعاني والشوكاني والألباني وغيرهم، هو الصواب. وإنما الغرض إثبات أن أهل السنة على خلاف ما زعم الشيخ ربيع ، وأن المسألة خلافية، ولا تحتمل هذه التهم التي ذكرها في ملزمته، نسأل الله التوفيق للجميع.
ولو تتبعت كل ما ذكرها شيخنا ربيع في ملزمته لطالت فوق ما أريد، فإن للشيخ حفظه الله في ملزمته أخطاء كثيرة غريبة، لعل غيري يتفرغ لها.

قال الشيخ ربيع : ( يرى القارئ أن السؤال إلى أبي الحسن كان عن المتواتر وعن شروطه ... إلخ، فكان ينبغي أن يكتفي بالإجابة عن هذا السؤال ولكن لحاجة في نفسه قفز إلى الحديث عن خبر الآحاد، ليتحدث عنه على طريقة أهل الأهواء زاعماً أنه قصد إتمام الفائدة للسائل، وما يدري أنه أضر بالسائل وبغيره، فليته سكت فإن في سكوته هنا السلامة لنفسه ولغيره.)

أقول : ليت الشيخ ربيع سكت عن هذه المسألة الخلافية، لكان في سكوته السلامة له ولغيره. أما الشيخ أبو الحسن فقد أبان عن مراده. وتحقق التمام الذي أراده حفظه الله.

قال الشيح ربيع : ( ونقول له : إذا كنت أنت وسلفك لا تقطعون بصحة نسبة أحاديث الآحاد الصحيحة الي تلقتها الأمة بالقبول تصديقاً بها وعملاً بموجبها، فإن أهل الحديث قاطبة وجماهير المسلمين يقطعون ويجزمون بصحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمرين :
الأول : أنه لا ينطق عن الهوى قال تعالى : « وما ينطق عن الهوى إن هوى إلا وحي يوحى »
الثاني : استناداً إلى قول الله تعالى : « إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون » )

أقول : إن الشيخ ربيع يكرر كثيراً قوله : ( الذي تلقته الأمة بالقبول ) ولا أدري أيشترط في الحديث الذي يفيد العلم أن يكون مما تلقته الأمة بالقبول، أما أنه لا يشترطه ، بل كل حديث صح سنده بنقل العدل عن العدل يفيد العلم سواء تلقته الأمة بالقبول أم لا. فإن كان الأول فهو قول أبي الحسن وابن تيمية من قبله والجمهور بل هو مذهب أهل الحديث قاطبة كما نقله عنهم ابن تيمية، وإن أراد الثاني كما هو مذهب الظاهرية ورواية عن أحمد ومالك ومذهب ابن القيم فليس هذا هو مذهب أهل الحديث قاطبة ولا هو مذهب جماهير المسلمين. بل الأمر على خلاف ذلك كما تقدم معك.

أما قوله : ( فإن أهل الحديث قاطبة وجماهير المسلمين يقطعون ويجزمون بصحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمرين ) يشعر أن كل واحد من الأمرين دال على المراد بانفراده ، وليس كذلك. فإن قوله تعالى : « وما ينطق عن الهوى إن هوى إلا وحي يوحى » يدل على أن ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي لا غير. وليس فيها أن الآحاد يفيد العلم. وقوله تعالى : « إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون » يدل على أن الذكر محفوظ لا غير، وليس فيها أن حديث الآحاد يفيد العلم. وإنما الدلالة في مجموع الآيتين لذا استدل بهما ابن حزم مجتمعتين مع غيرهما وجعل الآيات أمراً واحداً لا أمرين.

قال ابن حزم رحمه الله : « قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم « وما ينطق عن لهوى ثم إن هو إلا وحي يوحى » وقال تعالى آمرا لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول : « أتبع إلا ما يوحى إلي » وقال تعالى : « إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون » وقال تعالى : « لتبين للناس ما نزل إليهم » فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك.

ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يحرف منه شيء أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذبا وضمانه خائسا وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل فوجب أن الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ بتولي الله تعالى حفظه مبلغ كما هو إلى كل من طلبه مما يأتي أبدا إلى انقضاء الدنيا قال تعالى : « لأنذركم به ومن بلغ » فإذ ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين، ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطا لا يتميز عن أحد من الناس بيقين، إذ لو جاز ذلك لكان الذر غير محفوظ ولكان قول الله تعالى : « إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون » كذبا ووعدا مخلفا وهذا لا يقوله مسلم » أنتهى كلامه.

وتوضيحاً لكلامه رحمه الله نقول : إن ابن حزم جعل هذه الآيات مقدمات لها نتائج ، وذلك كالتالي :
المقدمة الأولى : أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي منزل من عند الله دليله قوله تعالى : « وما ينطق عن الهوى ثم إن هو إلا وحي يوحى » وقوله تعالى : « لتبين للناس ما نزل إليهم ». المقدمة الثانية : أن كل وحي هو ذِكْر ودليله الإجماع الذي نقله عن أهل اللغة والشريعة. والنتيجة : أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر.

ونتيجة هذا القياس وهو أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر : مقدمة أولى للقياس الثاني. والمقدمة الثانية : أن الله تكفل بحفظ الذكر ودليل هذه المقدمة قوله تعالى : « إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون » ونتيجة هذا القياس: أن الذكر ـ الذي هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ محفوظ ، وما تكفل الله بحفظه فهو محفوظ بيقين.

وخطأ ابن حزم ليس في كون الذكر محفوظاً بيقين، فإن هذا متفق عليه سواء قالنا بأن الآحاد يفيد الظن أم اليقين، إنما الخطأ في جعل حديث الآحاد ذكر بيقين. بيانه أن نقول : سلمنا أن الذكر محفوظ بيقين، فما الدليل على أن رواية العدل الذي يجوز عليه الخطأ عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الذكر بيقين؟ فإن جاء دليل يقيني يفيد أن حديث العدل عن مثله هو ذكرٌ بيقين، سلمنا بأنه داخل في قوله تعالى : « إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون » وأنه محفوظ بيقين. وإن لم يأتِ دليل يقيني على أنه محفوظ بيقين لم يكن داخلاً في هذه الآية. والله أعلم.

واعتراض آخر: وهو أنا لو سلمنا بأن خبر الآحاد ذكر بيقين، لم نسلم بأن كلام رجال الجرح والتعديل من الذكر، وعليه فيجوز فيه الخطأ والوهم وغير ذلك، وعليه فيجوز أن يخطئ المعدل فيعدل الضعيف، وتصحيح الحديث بناء على أقوال أهل الجرح والتعديل المحتملة للخطأ والصواب حكم ظني، وما صححناه ظناً لا نستفيد منه يقيناً.

واعتراض ثالث : وهو أن حفظ الله للذكر هل المراد به ، حفظه في نفس الأمر أم عند كل إنسان ؟ بمعنى ، هل حِفْظُ الِله للذكر هو بشكل لا يعلمه إلا هو ومن شاء من عباده، أم أن كل عالم محدث يعلم أن هذا الحديث من الصحيح الذي تكفل الله بحفظه؟ الثاني باطل ، فإن العلماء لا يزالون مختلفين في التصحيح والتضعيف. فلو كان كل عالم يعلم الصحيح المحفوظ من غيره لما اختلفوا. والأول لا يفيد اليقين فما يدري العالم الذي صحح حديثاً ما أنه أصاب في تصحيحه يقيناً وأنه من الذكر المحفوظ، أم أخطأ في تصحيحه وأنه ضيعف وليس من الذكر المحفوظ.

واعتراض آخر : لو سلمنا بجميع ما ذكر ، وأن حديث الآحاد يفيد العلم، فهل يستفيد اليقين المجتهد الذي حكم على حديث الآحاد بالصحة فقط، أم المجحتهد والمقلد له في التصحيح ممن لا علم له بالحديث كما هو حال كثير من الفقهاء وطلبة العلم وعوام الناس؟ إن قال بالأول ، فقد زعم أن الحديث لا يفيد العلم إلا عند الأقل من الناس. وهم أهل العلم بالحديث فقط.

وكل من عداهم ممن لا يستفيد تصحيح الحديث اجتهاداً، كالفقهاء والأصوليين والنجويين، والمفسرين ـ إلا من عرف منهم علم الحديث وبلغ فيه مرتبة الاحتهاد ـ فإن حديث الآحاد لا يفيد عندهم إلا الظن. ثم نسأل : هل عالم الحديث يستفيد العلم من كل حديث حكم بصحته أم لا؟ إن قال : نعم يستفيد ذلك. فقد حكم عليه بالعصمة في تصحيحه للأحاديث لما علم من أن العلم هو معرفة الشيء على ماهو عليه في الواقع، وكل محدث علم يقيناً ثبوت ما صححه عن رسول الله فقد طابق علمه الواقع عند من زعم أنه يستفيد العلم من كل حديث صححه. وهذا باطل. وإن قال : لا، لا يستفيد المحدث العلم من كل حديث صححه.

سألناه : وما الفرق بين ما أفاده العلم وما لم يفده العلم ؟ إن قال : إن ما أفاده العلم إنما أفاده ذلك لاقترانه بقرائن تدل على صدقه. قلنا له : رجعت عن قولك إلى قول أبي الحسن والجمهور القائلين بأن حديث الآحاد قد يفيد العلم إذا اقترنت به القرائن. وإن قال : لا فََرْقَ بينهما وأنما استفاد العلم من أحدهما دون الآخر لغير سبب أفاده ذلك. كان هذا مكابرة منه. هذا فيمن قال بأن المحدث المجتهد في تصحيح الأحاديث وتضعيفها هو وحده من يستفيد العلم من حديث الآحاد الذي حكم هو بصحته اجتهاداً.

أما إن قال : أن المجتهد في تصحيح الأحاديث ومن قلده في ذلك كليهما يستفيد العلم من حديث الآحاد. قلنا له : أولاً كيف يستفيد العلم عن طريق التقليد وهو جهل بإجماع العلماء؟ وإجازة الوصول إلى العلم عن طريق الجهل لم يقل به أحد من العقلاء، فضلاً عن عقلاء المسلمين، بل فضلاً عن علمائهم. ونقول له : أرأيت إن اختلف علماء الحديث في تصحيح حديث وتضعيفه، فكيف يستفيد المقلد العلم؟ إن قال إنما يستفيد العلم من الأحاديث التي اتفق العلماء على تصحيحها دون ما اختلفوا في تصحيحه وتضعيفه. قلنا له : رجعت إلى قول أبي الحسن والجمهور القائلين بأن حديث الأحاد الذي اتفقت الأمة على قبوله تصديقاً وعملاً يفيد اليقين دون ما لم يتفقوا عليه، مع عدم اقترانه بقرائن دالة على صدقه. ويلزمه غير ذلك ولكن نكتفي بهذا.

واعتراض آخر : أن الإستدلال بقوله تعالى « إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون » كما تقدم عن ابن حزم رحمه الله لا يشمل كل أحاديث الآحاد. فالأحاديث التي تكلمت عن صفاته الخَلْقية، و أفعاله الجبلية، ليست من الذكر الذي وعد الله بحفظه، وعليه فإن الأحاديث التي تفيد اليقين هي الأحاديث القولية والفعلية التي أريد بها التشريع فقط. بل إن بعض هذه الأحاديث غير داخلة في دلالة الآية المذكورة كقوله صلى الله عليه وسلم حين ترك صلاة التراويح جماعة « خشيت أن تفرض عليكم » فإن هذا منه اجتهاداً وقد صرح صلى الله عليه وسلم أن هذا الفعل منه لم يكن بوحي ، بل خشيته صلى الله عليه وسلم أن تفرض صلاة التراويح جماعة على أمته، بأبي هو وأمي ما كان أرحمه بنا. وهذا مع أن الحديث أفاد تشريعاً.

واحتج ابن حزم وغيره بآيات أخرى على أن حديث الآحاد يفيد اليقين، وذلك أن الله تعالى أمرنا باتباع خبر الآحاد، ونهانا عن اتباع الظن، فعلم أن خبر الآحاد يفيد العلم، لأنه لو لم يفده لكنا منهيين عن اتباعه.

وقد أجاب عن هذا كثيرون بأجوبة أخصرها ما ذكره الغزالي في ( المستصفى ) 1/142 ط دار إحياء التراث العربي : « وأما العمل بخبر الواحد فمعلوم الوجوب بدليل قاطع أوجب العمل عند ظن الصدق، والظن حاصل قطعاً، ... ووجوب العمل عنده معلوم قطعاً... » يعني أن وجوب العمل بخبر الآحاد المفيد للظن معلوم بدليل يقيني، فمن عمل بالآحاد فإنما عمل باليقين الذي أوجب عليه العمل به، وهو واضح إن شاء الله .

هذا أقوى ما استدل به القائلون بأن خبر الآحاد يفيد العلم اليقيني وإن لم تحتف به القرائن، وقد بينا لك ضعفها، والصواب ما ذهب إليه أبو الحسن والجمهور من أن حديث الآحاد يفيد الظن، وقد يفيد العلم إذا احتفت به قرينة تدل على صدقه ، كتلقي الأمة له بالقبول، كجمهور أحاديث الصحيحين، دع هذا التحقيق نصب عينيك، فإنه مفيد.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
__________________
قال ابن تيمية:"و أما قول القائل ؛إنه يجب على [العامة] تقليد فلان أو فلان'فهذا لا يقوله [مسلم]#الفتاوى22_/249
قال شيخ الإسلام في أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 21) :
(وَالْمَقْصُود أَن الْحَسَد مرض من أمراض النَّفس وَهُوَ مرض غَالب فَلَا يخلص مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيل من النَّاس وَلِهَذَا يُقَال مَا خلا جَسَد من حسد لَكِن اللَّئِيم يبديه والكريم يخفيه).
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:48 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.