فلما جاء زماننا هذا بشِع الأمر و قَبُح، فإنّ الناس قد هجروا أدبَ دينهم، و مروءة أسلاف
"مما يُستخرج به الضّحكُ أن يٌحدّثَك المُحدِّث أو الكاتب بشيء سخيف لا يُعقَل، و هو يُبدي لك الجدَّ كل الجد فيما يُحدِّث أو يكتب. و لكنه عندئذ لا يريد إلا إضحاكَك. فإذا جاء امرؤٌ يفعل ذلك و هو لا يريد إلا الجدّ، لأنه قد بنى حديثَه عليه عند نفسِه و عند سامعه أو قارئه، فهذا هو المضحك المحزنُ معا.
و لكن من العجيب أن يكون هذا السّمت الأخير، هو سمتُ أكثر الذين يكتبون اليوم في تاريخ الإسلام. و من البلوى أن يأتي هذا في زمن أصبحنا فيه و أصبح الناس، و كلّ حرف مكتوب يُعدّ عندهم كأنه تنزيلٌ يتلقّونه بالثقة و التسليم لا يكاد امرؤ منهم ينظر في مأتاه من أين أتَى، و لا في منتهاه إلى أين ينتهي. فإذا اجتمع إلى هذه البلوى بلوى الهوى المخلوط بالغلوّ، خرج الأمرُ كلّه من الضحك و الحزن، إلى الهلاك المطبق الذي يغتال العقولَ و النفوس جميعا.
... و قبل أن أفضي إلى الأمثلة التي تبين عن الفساد و الضلال، أحبّ أن يعلم من لم يكن يعلم، أنّ أسلافَنا رضي الله عنهم و غفر لهم، منذ ألّفُوا كتبَهم ، وضعُوا لها قواعِدَ يعرفها أهلُ هذا العلم، و يجهلها من جنحَ عن أصولهم و عمى عليه طريقُهم, فهم منذ بدأوا يكتبون أسّسوا كتبَهم على إسنادِ الأخبار إلى رواتِها، و بَرئوا من عهدة الرواية بهذا الإسناد، و لم يبالوا بعد ذلك أن يكون الخبرُ صحيحاً أو ضعيفًا أو زائدا أو ناقصاً أو موضوعاً مكذوباً، لأنهم كانوا يعلمون حالَ الرواة و منازلهم من الصدق و الكذب، و من الوَرع و الاستخفاف، و من الأمانة و الهوى. و كأنهم أرادوا بهذا أنْ يجعلوا كتبَهم في التاريخ و غير التاريخ سجِلا لما قد قيل في زمانِهم وما قبل زمانهم، و ما كان يقوله قومٌ، و ما كان يقوله آخرون، مهما تعارضَ القولان أو اختلفا أو تناقضا, و تركوا للعلماء تمييزَ الحق من الباطل، و الصدق من الكذب، على أساسِهم المشهور، وهو معرفة الرجال الذي رووا هذه الأخبار أو تكذّبوها. هذا الطبري مثلا يقول في فاتحة كتابه في التاريخ:"فما يكن في كتابي هذا من خبرٍ ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعُه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً صحيحاً، و لا معنى في الحقيقة، فليعلمْ أنه لم يُؤت في ذلك من قِبلنا، و إنما أتِي من بعض ناقليه إلينا، و إنما أدّينا ذلك على نحو ما أدّي إلينا". و من عرف كتابَه و كتب القوم، عرف يقيناً صدقَ ما يقول، فإنه يأتي بالخبر لا يصِحّ أبدا، و بالخبر الصحيح الذي لا شك فيه، و لا يعرض لهما بتصديق أو تكذيب، ثم تراه في موضع آخر قد احتاج إلى البيان عن حالِ هذين الخبرَين ، فعندئذ يُميِّز لك ما هو صحيح عنده و ما هو باطل من هذين الخبرين. فهو كما قال، إنما يؤدي إلى الناس ما أدِّي إليه. و كان الناسُ على عهدهم أهلَ دين و تقوى، لا يستحل امرؤ منهم-إلا من ضلّ- أن يحتجَّ في دين الله، و لا في تاريخ الناس و الحكم عليهم، بخبر لا يدري أصَدَقَ قائلُه فيما روى أم كذب. ثم جاء من بعدهم قومٌ خلطوا عامةَ الأخبار بلا إسنادٍ إلى رواتِها، فاجتمع الغثُّ و السمين و الصحيح و السقيم، و الصادق و المكذوب. و لكن لم يزل دين الناس يعصمهم من شرّ هذا الخلط المُضلّ، فأمسكوا ألسنتهم عن الخوض في المطاعن و المثالب بلا بينة و لا حجة. فلما جاء زماننا هذا بشِع الأمر و قَبُح، فإنّ الناس قد هجروا أدبَ دينهم، و مروءة أسلافِهم، و علمَ كتبهم، و اقتحموا بالجهالة على الظنون المردية، و استخفّهم الهوى حتى أخذوا الباطلَ و عارضوا به الحقّ بلا تمحيص و لا رواية و لا فهم. وشابهوا زمنَ هذه الحضارة الغالبة عليهم، فاجترأوا و تهوّروا و استغلظوا معاني و ألفاظاً يتقاذفونها في ألسنتهم و كتُبهم، و قد نفى الشيطان من قلوبِهم كل معاني الوَرَع و مخافةَ العذاب يوم القيامة، حتى قذفوا بالغيب من مكانٍ بعيد.."
---------------
"ألسنة المفترين" لمحمود محمد شاكر,مجلة المسلمون. العدد 4 سنة 1952 _نقلتُه من كتاب"جمهرة مقالات الأستاذ شاكر" لتلميذه عادل سليمان جمال.
|