أنت غير مسجل في المنتدى. للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

             
37816 98094

العودة   {منتديات كل السلفيين} > المنابر العامة > المنبر الإسلامي العام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 04-15-2015, 12:03 PM
نجيب بن منصور المهاجر نجيب بن منصور المهاجر غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 3,045
Exclamation ]صورة (الاشتغال السلفي الفقهي) على (شاشة ما بعد السلفية) [مهم جدا]

بسم الله الرحمن الرحيم



صورة (الاشتغال السلفي الفقهي) على (شاشة ما بعد السلفية)

مشاري بن سعد الشثري

منقولا عن موقع التأصيل

(في ظلِّ عالمٍ مليءٍ بالاختلاف، والصراع، وتعارض الرغبات = فإنه ستنشأ إرادةٌ لتشويه الصور الذهنية، أو على الأقل صناعتها بصورة تتوافق مع رغبات الطرفِ صانعِ الصورة، حتى ولو لم يكن يعتقدُ أنه يُشوِّه الصورة، لكنه على الأقل يصنعها وينقلها كما يتصورها هو، وقد لا يكون تصوره هو عين الواقع)

أحمد سالم، صورة الإسلاميين على الشاشة (65)



لا أستطيع أن أكتم حماستي لاقتناء كتاب (ما بعد السلفية) لكاتبَيه أحمد سالم، وعمرو بسيوني - وفقهما الله – أول إعلانهما عنه عبر شبكات التواصل الاجتماعي، رغم اشمئزازي بدءًا من عنوانه، لكن الخطب يهون إذا ما استحضرنا أن العناوين ربما غلب على موضوعيتها عنصرُ الجذب، فلم ألتفت لذلك كثيرًا.. ولما صدر الكتاب وشرعت في مطالعته لفتني وشدني من فهرسه الفصل الرابع المعنون (قراءةٌ في الاشتغال المعرفي للسلفية)، وذلك لأن عنايتي في المقام الأول بالجوانب المعرفية تغلب نهمتي للأبحاث المتعلقة بالتأريخ للمصطلحات والتيارات، شدَّ من أزر نهمتي أن الكاتبَين ليسا أجنبيين عن السلفية، فهما من أبنائها الخبراء بمضامينها، إضافةً لاشتغالهما وعنايتهما بمختلف الجوانب المعرفية، فهذا يجعل لهذه المادة المسطورة وزنًا يفارق ما لو كان الكاتب طارئا على السلفية غير مشتغل بمعارفها.

وجدتُّني أطوي الكتاب سريعًا بغية الوصول إلى هذا الفصل، ولاسيما المبحث المتعلق بالاشتغال الفقهي عند السلفيين بحكم تخصصي، وفي الحقيقة أني في مسيري إلى مبتغاي يجتالني بعض ما أراه خللًا منهجيًّا عن سرعة المضيِّ، لكني أحرص على ألا أطيل المكث عنده بل أظلله المواضع المشكلة للرجوع إليها لاحقًا.

فما إن وصلت لمبتغاي وقد كنت أنتظر تقويمًا ونقدًا مبرهنًا أجد الكاتبَين قد تجاوزا عنصر المنهج في ضبط تحليل وتقويم الاشتغال الفقهي عند السلفيين إلى الاهتداء بإملاءاتِ الانطباعات العشوائية، سواءٌ في السيولة المعيارية، أو في قصة الحضور والغياب للأعلام والمواقف بحسب الأغراض المضمرة التي تحرِّك الدراسة ذات اليمين وذات الشمال، بوعي أو بلا وعي تبعًا لمدى سلطة فكرة تأفيل السلفية وغلبتها على مزاج النقد عند الكاتبَين.

كنت أنتظر أن أجد نقدًا ينهض بالفقه الذي يتمثَّله المنتسبون لمنهج السلف، والحال أن فيه جوانب من القصور قد تصل حدَّ الهزال أحيانًا، وهو ما لا ينازع في وجوده كثيرٌ من السلفيين، لكنَّ النقدَ المدوَّنَ في هذا الكتاب لا يزيد الأمر إلا ضياعًا حين غاب المنهج.

جاءت هذه الدراسة وهي تتغيَّا أن يخرج منها القارئ بأن السلفيَّةَ آيلةٌ للأفول بالتشظِّي المرجعي والنسقي، وهذه المقولة لو كانت نزيهةً مبرهنةً بمقدماتها لكان الملتزمون بمنهج السلف أول الفرحين بها، أو فلنقل: لفرح بها عقلاؤهم، نظرًا لكونها تمثل نظرة استشرافية لمستقبل الوجود السلفي ومركزيته، يستتبع رسمَ منهجيَّةٍ احتياطيَّةٍ تحُدُّ من هذا الأفول، ولكنَّ هذه الفكرة جاءت كثيرًا بصفتها أداةً موجَّهةً لتحريك مفاهيم البحث، ولو بدون قصدٍ من الكاتبين، ولم تكن - كما كان ينبغي - نتيجةً له، بل جاءت لتعيدَ تركيبَ السلفية في فيلمٍ جديدٍ يحمل عنوان: "مابعد السلفية"، أقرب إلى الأفلام التي درسها الباحث نفسه في كتابه الماتع "صورة الإسلاميين على الشاشة" الذي جاء الاقتباس المدون أعلاه من بين أوراقه.

هذه المقالة تتناول تحديدًا مبحث "الاشتغال الفقهي عند السلفيين" في كتاب "ما بعد السلفية"، وتحاول أن تبيِّن مضمراته، وتشرح كيف شكَّلت هذه المضمرات العرقَ النابضَ في تحليل المادة وتقويمها.

******



مدخلٌ

يبتدئ بحث بتقرير أن ابن تيمية يمثِّل (نقطة الانطلاق الصحيحة لتحليل التكوين الفقهي للسلفية المعاصرة) [310]، وينتقي البحث من جملة المحددات المنهجية في المجال الفقهي قضية الاجتهاد والتقليد والتمذهب، ويرى الكاتبان أن هذه القضية هي الأكثر حرجًا في الوسط السلفي المعاصر في المجال الفقهي.

وتسجِّل الدراسة أن البعد النظري في هذه القضايا لم يختلف القول فيه بين ابن تيمية وسائر التحققات بعده، وإنْ تفلَّت في بعضها، أما التفعيل فكان على أطوار:

أما في الاشتغال الفقهي لمشايخ الوهابية فـ (لا نجد الطابع التيمي حاضرًا، بل هو في الغالب فقه حنبلي تقليدي) [321].

وأما الشيخ محمد بن إبراهيم فـ (ظلَّ على النهج الحنبلي العملي في الاشتغال الفقهي، كما كان الوهابيون قبله) [325].

ثم الذي أتى بالجديد على الساحة العلمية والفقهية بخصوص هو (النموذج الوهابي المتأخر المتمثل في عبدالعزيز بن باز، ومحمد بن صالح العثيمين)[327] .. ولكنه مع ذلك (ظلَّ اجتهادًا في الإطار، اجتهادًا محافظًا) [344].

أما الألباني فهو (يمثل ذروة التطور السلفي في الاشتغال الفقهي الاجتهادي) [334]، وليس هو كاجتهاد الشيخين، فمع اقترابه من النموذج التيمي إلا أن اجتهاده مستند (إلى الدليل صرفًا، دون الاحتفال بالإطار الفقهي) [344].

ولا يُذكَر العلَّامة السعدي إلا بوصفه رافدًا من ضمن (روافد أمدت ابن عثيمين بهذا الاتجاه وذلك النزوع) [331].

وبعد ذلك يأتي الشيخ مقبل الوادعي بوصفه (أحد الاتجاهات الفقهية الشائعة داخل السلفية المعاصرة) [352].



هذا السداسيُّ (مشايخ الوهابية - ابن إبراهيم - ابن باز - ابن عثيمين - الألباني - الوادعي) هو ما ارتضاه الكاتبان ليكون مجسِّدًا لصورة الاشتغال الفقهي عند السلفيين ومشكلا لخارطته.

واعتمد البحث لتقويم الاشتغال السلفي هنا بمستوى وجود تفعيل النموذج التيمي، ومدى سلامته:

فأولًا يقرر البحث أن التعاطي الوهابي (يبدو أكثر تواضعًا واعترافًا بالفروق الإمكانية) [319].

والشيخ ابن إبراهيم كالوهابيين قبله في السير على النهج الحنبلي في الاشتغال الفقهي.

وابن باز يغلب عليه (الطابع المحافظ، والترجيح في إطار الأدلة القريبة) [371] وهذا التوصيف يتضمن إشارة مبطنة تشي بعدم عمق الترجيح عند ابن باز.

وابن عثيمين كان أقرب إلى المنهج التيمي (مع جودة الأدوات الفقهية) لكن ليس مطلقًا، بل (نسبيًّا) [344] وأدوات العثيمين في الفقه والأصول (أدوات جيدة) لكن ليس مطلقًا، بل (مقارنةً بأقرانه) [331]، وعن شرحه على الزاد فـ (الجودة الفقهية واضحةٌ فيه، نظرًا لتفعيله الآلة الفقهية والأصولية واللغوية في البحث) لكن ليس مطلقًا، بل (في حدود زاده منها، والذي هو أحسن من أقرانه)، وتفضيله على أقرانه - بطبيعة الحال - ليس مطلقًا، بل (من حيث الجملة) [368].

وقد طور كلٌّ من الشيخين ابنِ باز وابنِ عثيمين الاشتغال الفقهي السلفي، ولكلٍّ منهما اختيارات فقهية (ولكنها ليست بالجدة التي تعد فيها اختياراتٍ تستأهل الدرس والاعتناء) [371].

والألباني أحد (أقرب الأطياف السلفية قربًا من النموذج التيمي في الاشتغال الفقهي) لكن (مع فقر الأدوات) [344].

وهذا النموذج الثلاثي - ابن باز، العثيمين، الألباني - بأدواته المتراوحة بين الفقر والجودة النسبية و(على ما بينهم من اختلافات بينية، كان هو المشكلَ الرئيس والنموذج المحتذى للاشتغال الفقهي للسلفية المعاصرة في الأربعين عامًا الأخير، فيما نسميه حقبة الصحوة) [365].

ثم يُكرِه الكاتبان الوادعيَّ على الحضور في سياق التقويم الفقهي لاكتمال مهرجان التقزيم السلفي مع كونه (لا يحظى بوفرة من الأتباع أصلًا)[365]، وأدواتُه (لا تتعدى أنه مُحَدِّث، وعنده بعض الاشتغال في النحو) [365]، ولا يعرف السلفيُّون الوادعيَّ فقيهًا حتى ينال هذه المكانة السامقة في توصيف الاشتغال الفقهي، إلا أن الصورة التزهيدية المركبة التي تطمح إليها الدراسة لا تكتمل حتى يؤتى بالوادعي الذي يقوم فقهه على (فتاوى من صيد الخاطر) [352]، والذي (أخذ النظرية الحزمية الظاهرية مع فقر مدقع في الأدوات العلمية) [354]، ولا يقف الحد عند هذا، بل يبلغ الأثر الغريب الذي يصوِّرُه الكتاب عن الاشتغال السلفي الوادعي في المجال الفقهي وأثره على الاشتغال الفقهي عند السلفيين بأنه (يمثل قمة الراديكالية السلفية في الفقه مجاوزًا الألباني، ومنطلقًا بصورة طردية في تطوير الأخطاء السلفية في النظر الفقهي ومنهجيته إلى منتهاها، بما كان له من أثر سلبي على عموم الاتجاه السلفي في الاشتغال الفقهي) [355] .. ويتحدث البحث عن تصديره عددًا من تلاميذه في العالم الإسلامي، ويتساءل: (هل تسربت المباني الوادعية إلى الفقه السلفي لا شعوريًّا، أم أن الوادعي كان أكبر انعكاس واضح لتلك المباني الموجودة من قبل؟)[366].



هذه الصورة للاشتغال الفقهي عند السلفيين التي يلتقطها الكتاب صورةٌ قاتمةٌ مبعثرةٌ، ليس لها معيارٌ ضابطٌ يُحكِم أركانها، إلا أن يكون الاقترابَ من الأنموذج التيمي المتعلق بالقضية التي يراها الكاتبان الأكثرَ حرجًا في الوسط السلفي المعاصر في المجال الفقهي، وهي قضية الاجتهاد والتقليد والتمذهب، ومدى توفر الأدوات لبناء الأنموذج النظري وتفعيله من عدم ذلك، وهذا ما لا نراه صادقًا على تقويم هذا الاشتغال كما في الفقرة التالية.

******



السيولة المعياريَّة

السؤال الذي يُسجَّل هنا: هل هذا المعيار "الاقتراب من الأنموذج التيمي" الذي يفرضه السياق معيارٌ منضبطٌ في تقويم الاشتغال الفقهي عند السلفيين، على الأقل في السياق الذي تنحو إليه الدراسة؟

الجواب: لا.

وبيانُه أن الكاتِبَين في سياق رسم الصورة السالفة بينوا أن هناك نهضة فقهية ظهرت في السعودية (مؤخرًا) .. ونحن حين نقرأ مركَّب "النهضة الفقهية" بعد قصة التزهيد هذه، وأنه فقه تقليديٌّ تارةً، نسبيُّ الجودة تارة أخرى، يستقي ترجيحاته من الأدلة القريبة تارةً ثالثة = فنحن نترقب نهضة فقهية عالية، ولتكن على أقل تقدير تفعيلًا للنموذج التيمي على وجه مقارب للكمال، لكن جاء السياق ليبين أن هذه النهضة الفقهية تمثَّلت في [370]:

1. جهود محمد بن أحمد باجابر وعامر بهجت في إقامة الدورات المركزة المختصرة، التي لا تخرج في بحثها الفقهي عن المذهب الحنبلي.

2. جهود فؤاد الهاشمي وجماعة الملتقى الفقهي على الإنترنت في التدقيق الفقهي وإجراء الدرس الفقهي المقارن وفق الضوابط الأصولية والفقهية الكلاسيكية مع التجديد في الطرح والأسلوب، والاعتناء بالترتيب والتقسيم والتهذيب.

3. جهود عبدالعزيز الشبل في الاعتناء بتنمية الملكة في الدرس الفقهي.



وهنا يحق لنا التساؤل: هل يَجسُرُ مَن يتصدر لتحليلِ وتقويمِ تاريخٍ فقهيٍّ امتدَّ عقودًا، على تقديم نهضة فقهية بهذه الصفة، على أنقاض جهود فقهية تسلسلت في عقود؟

بحثٌ فقهيٌّ مذهبيٌّ، وإجراءٌ للدرس الفقهي المقارن مع تجديد في الأسلوب، والاعتناء بتنمية الملكة، أهذه - مع حفظ قدر الجهود المذكورة وأصحابها - تقدَّم على أنها شواهدُ نهضةٍ فقهيَّةٍ على مستوى الاشتغال الفقهي عند السلفيين؟

من البدهي أمام هذه المفارقة أن يقال بأن هذا التعاطي مع منطلقات التقويم للاشتغال الفقهي عند السلفيين، أتى بحسب مضمراتِ دراسةٍ تطمح صراحةً إلى أن تؤرخ لأفول السلفية المعاصرة، وضمور غالب اشتغالاتها المعرفية يمثل أحد الأسباب الرئيسة لذلك، وهذه الفكرة - فكرة الأفول - يلح عليها الكتاب طولًا وعرضًا، لكن لا بحسب منطلقات علمية منهجية تُقوَّم بها المشاريع المعرفية.

وصدق الكاتبان:

(الواقع يشهد بأن مجالات العلوم الإنسانية وإمكانات تفعيلها سواء لفهم الواقع أو لخدمة العلوم الدينية = تُعَدُّ من أبرز وجوه الاشتغال العلمي المهجورة عند السلفية، وقد كان لهذا الهجر والتضييع عدة آثار سلبية، أهمها: أولًا: ضحالة الرؤى التي قدمها السلفيون لواقعهم ومجتمعاتهم، سواء من ناحية الكم أو من ناحية الكيف، فالسلفيون أظهروا ضعفًا واضحًا في مستويين أساسيين من مستويات العمليات العقلية المرتبطة بالأدوات العلمية، هما: مستوى التحليل والتقويم، بالإضافة للتفسير كمقدرة أولية ...) [392]

وهذا البحثُ عن الاشتغال الفقهي عند السلفيين تحديدًا صالحٌ لأن يكون أنموذجًا لغياب تفعيل العلوم الإنسانية في خدمة العلوم الدينية تحليلًا وتقويمًا.



إذا لم يكن هذا المعيار الذي يجعل الأنموذج التيمي في قضية الاجتهاد والتقليد والتمذهب هو المعيار الصالح لتقويم الاشتغال الفقهي عند السلفيين حسب السياق الذي تفرضه الدراسة، فما المعيار الذي تقدمه إذًا، وعلى وَفقه تتنزل التطبيقات النقدية المبثوثة في ممراتها؟

في الحقيقة لا نجد الدراسة مهمومة بهذا السؤال أصلًا، فهذه الدراسة عبارة عن محاولةِ مَنهَجَةٍ لاحقةٍ لجزئيات منتقَدَةٍ سابقةٍ عليها، ومن هنا نُظِم خيط الدراسة، واتَّسم بالسيولة المعيارية، فخرج الاشتغال الفقهي السلفي لذلك في سلسلة مبتكرة من صانع الصورة شُدَّت حلقاتها لبيان حكم مقرر سلفًا، وهو أن الاشتغال الفقهي عند السلفيين اشتغالٌ متواضعٌ لا يمثل رقيًّا فقهيًّا.

ونظرًا لغياب هذا المعيار الضابط ترى الإطلاقاتِ النقديةَ موزَّعةً على الصفحات بالتساوي، بلا التفاتٍ إلى القارئ الذي لا بُدَّ وأن ينقدح في ذهنه سؤال المنهج المتبع في هذه الإطلاقات الملقاة جزافًا.

ليس بمحظور أن يتجه الكاتبان لتقويم هذا العالم أو ذاك، بل النقد والإصلاح للواقع الفقهي مطلب، ولكنه مطلبٌ علميٌّ منهجيٌّ، وليس تحكيمًا لانطباعات مرسلة، ومن هنا كان يُفتَرَضُ في دراسةٍ كهذه أن تخاطب قارئها بخطاب مبرهن، لا أن يحترف الكاتبان مهنة موظفي الجمارك بنقد كل اسم عابر في فصول الدراسة دون تقديم ورقةٍ كاشفةٍ لمسبَّبات ذلك النقد، لا سيما والكاتبان لم يُعرفا باشتغال فقهي، وهذا ليس بمشروط في تقديم النقد، ولكنه يبعثهما على ضخِّ مزيدٍ من البرهنة على مطلوبهما، خاصة وأنه متعلق بنقدٍ مباشرٍ لأعيان ومناهج.

في ضمن الإطلاقات التقويمية اللامبرهنة، يأتي الشيخ محمد المختار الشنقيطي في نظر الكاتبين على أن شرحه للزاد (يكشف عن تفقه متوسط العمق ومحافظ مذهبيًّا، وهو حالة ليست بالكثيرة في الوسط السلفي بعامة، والسعودي بخاصة، الذي تغلب عليه الدروس التقليدية، غير المعمقة في الفقه) [370].

الألباني فقير الأدوات، وأدوات العثيمين جيدة نسبيا بالنظر لأقرانه، وابن باز يرجح بالأدلة القريبة، والشنقيطي في درسه متوسط العمق، وهلمَّ جرًّا، كل هذا يأتي بلا تكلُّف عناء البرهنة.

قارئ هذه الدراسة لم يأتِ إليها ليحفظ جدولًا لضَربِ الأعلام، بل ليقف على معادلات منهجية مبرهنة للتحليل والتقويم، وهذا ما غفلت عنه هذه الدراسة في كثير من مواضعها.

هذا البحث يعاني من سيولة معيارية حادَّة، لم يُراعِ فيه الكاتبان منهجًا منضبطًا، كما لم ينظَر فيه بتمييزٍ بين مجالات العطاء الفقهي والاشتغال السلفي فيها بحثًا ودرسًا وإفتاءً، ولو كان هذا التقسيم مراعًى لكان التقويم خيرًا وأقومَ مما هو عليه، وكان هذا الغياب بطبيعة الحال مجرِّئًا لاستطالة النقد وتمدده، كما أعانت هذه السيولةُ الكاتبين على استحضار أسماء وتشريد أخرى، وسيأتي بيان ذلك.

هل البحث يدرس الاشتغال الفقهي عند السلفيين في الجانب البحثي؟

إذًا فأين مثلُ بكر أبو زيد، ودبيان الدبيان، والرسائل الجامعية المتقنة، لماذا لا نراها في صلب التقويم للاشتغال السلفي إلا بإشارات خجولة، كما في الرسائل الجامعية، أو بتغييب تام كمنجزات الشيخين بكر أبو زيد والدبيان.

هل البحث يدرس الإتقان الفقهي وامتلاك الأدوات المعرفية، بصرف النظر عن التقيد بمذهب أو عدمه، وبصرف النظر عن التأثير في الساحة السلفية من عدمها؟

إن كان: نعم، فلماذا تم الترحيل الكلي للشنقيطي - بعد التنزل جدلًا بضعف تأثيره، والتزامه بمالكيته - والترحيل الجزئي لابن إبراهيم - مع كون عطائه الفقهي لا يقتصر على الاشتغال الحنبلي كما تدعيه الدراسة -، ولم يجعل الكاتبان لهما في تقويم الاشتغال الفقهي عند السلفيين موقعًا لائقًا بوزنهما المعرفي والفقهي؟

وإن كان: لا، فما هذه النهضة الفقهية التي تتطامن لدورات مختصرة مقدمة في الفقه المذهبي ولا تلتفت لمثل العلامتين ابن إبراهيم والشنقيطي؟

سؤالاتٌ كثيرةٌ حائرةٌ أفرزتها هذه السيولة المعيارية التي طاشت بيد النقد هنا وهناك.

هذا البحث مثلًا يصوِّر ابن إبراهيم بأنه ظل على النهج الحنبلي العملي في الاشتغال الفقهي لذلك لا داعي لاستحضاره بوصفه فاعلا في الساحة الفقهية السلفية، فلا ينال من هذا التقويم سى سطرين، بينما يرى عبدالفتاح أبو غدة أن رسائل وكتابات ابن إبراهيم (تتميز بالعمق والدقة والشمول والاستدلال والجزالة التامة، وجلها في المشكلات العلمية العويصة) ويرى في فتاواه ورسائله (نماذج حية ناطقة بعمق نظره في الفقه الإسلامي) .. ومعلومٌ موقف أبي غدة من السلفية، لكنه الفرقُ بين معايرة العطاء الفقهي بالأمور الشكلية والإطارات العامة، وبين تخلُّل أعطاف الفقه واستنهاض مقوماته الصلبة في تقويم الأعلام والمواقف.



وكما تسببت السيولة المعيارية في حضور أسماء وغياب أخرى فقد تسببت في انفصام الرؤية حيال شخصية واحدة .. وهنا يأتي الطريفي في سياقين:

أما السياق الأول ففي هذا المبحث المخصص لتقويم الاشتغال الفقهي عند السلفيين يأتي الطريفي في صورة متواضعة مع العدوي والعلوان (كنماذج قريبة جدا من طريقة الألباني في التفقه، من حيث اعتماد ظواهر الأدلة وآثار الصحابة، والجرأة على مخالفة المذاهب الفقهية، ولاحظنا في الوقت الذي يبنون فيه القول المخالف للجماهير على أثر أو أثرين يغفلون عن دلالة شيوع القول الفقهي الذي يخالفونه في الطبقات الفقهية المتتالية، وما قد يكون معه من انتشار القول والعمل، على نحو قد لا تقوى تلك الآثار لمقاومته) [368].

بينما في سياق الحديث عن الفقر الرمزي لدى السلفية يذكر الكاتبان أن (الطريفي أشبه بنموذج الرمز الذي كرسه ابن باز وابن عثيمين، من حيث كونه ممثلا للاتجاه الفقهي والفكري والسياسي السلفي العام للتيار) [660].

فالطريفي يأتي لمامًا بصورة فقهية متواضعة حين تقويم الاشتغال الفقهي، ويأتي في مقام آخر أشبه بنموذج الرمز الممثل للاتجاه الفقهي العام، وذلك في مقام الحدِّ من رمزية أعلامٍ آخرين، وذلك لا يُفسَّر إلا بما قدمتُه من طغيان الأغراض المضمرة على المنطلقات المنهجية.

******



استراتيجية خط الرجعة

تجاوزًا للشخصياتِ المجمرَكَةِ وجداولِ ضرب الأعلام لننظر إلى الإطلاقات المرسلة المتعلقة بتوصيف السلفيين بعامَّةٍ في اشتغالهم الفقهي.

والكاتبان قد وضعا لهم في صدر هذه الدراسة خطَّ رجعةٍ لكلِّ نقدٍ يُسلَّط على العمومات المبثوثة فيها، وهذا إن دلَّ على شيء فعلى علمهم بطغيان التعميمات في هذه الدراسة التي لا يقوم ساقها إلا بسيلٍ من التعميمات المنفلتة ليمتلئ بها جوف القارئ.

خطُّ الرجعة هذا الذي مفاده أن صيغ التعميم لا تستلزم الاستغراق، وأن التعميمَ مجردُ إشارة إلى الكثير السائد، سواء كان مستغرقًا أو لا = لا يعفي الكاتبين من التبعة، ونصُّ ابن تيمية الذي استشهدا به نص محكَمٌ غير أن القول فيه مقيَّدٌ، وذلك بقول ابن تيمية: (من فصيح الكلام وجيده: الإطلاق والتعميم عند ظهور قصد التخصيص والتقييد) .. فإذا لم يظهر قصد التخصيص والتقييد، فليس التعميم مع إرادة عدم الاستغراق من فصيح الكلام وجيده .. خطُّ الرجعة هذا الذي أراد به الكاتبان الخروج من معرَّة التعميمات هو إلى أن يكون إدانةً للدراسة أقرب منه إلى أن يكون غطاءً حافظًا لها، هذا السلوك يوحي القارئ الفطن أن الكاتب يريد شحن القارئ بتعميمات مرسلة، ولكنه يخجل من تهمة التعميم، فكانت هذه الاستراتيجية الوقائية مناسبةً لأن تُصدَّر بها هذه الدراسة.

وأيًّا ما كان فمحل النقد على تلك الإطلاقات في تقويم المواقف الكبرى والمنهجيات المعرفية والشخصيات السلفية الفقهية دون برهنة تتلاءم مع حجم الدعوى بصرف النظر عن سلامة غلافها، كقولهم: (هذه الأدوات - العلم بالعربية، والآثار، والإجماع والخلاف - جميعها يفتقر إليها الاشتغال السلفي في الفقه) [363] .. (السلفية تبنَّت دعوةً دون امتلاك آلاتها) [357] .. (لا يبدي السلفيون مرونةً في التعامل مع الاتجاهات الاجتهادية المعاصرة في مجال المقاصد والقواعد الفقهية، وينظرون إليها بريبة باعتبار أنها مجرد ستار للتخلص من سلطة النص والخروج عن السنة إلى التمييع والتساهل، مع عدم التفريق بين ما هو كذلك من المناهج، وما هو تفقهٌ صحيح يعتمد قواعد شرعية مصلحية دل عليها الوحي، وتطبيقات الفقهاء من السلف والخلف) [359] .. (... الكتب والمتون الفقهية التي لا يفهمها أغلب السلفيين) [373] .. (إن هناك عسرا شديدا يصل إلى حد التعذر في الاطلاع السلفي على كتب الفقه المذهبية التقليدية متوسطة الصعوبة ككتب الشربيني الشافعي والموصلي الحنفي مثلًا) [375] .. كل هذه الإطلاقات تأتي مرسلة، لا يدعمها سوى استقراءات ناقصة وانطباعات ذاتية.

ومن ذلك قول الكاتبَين: (الفقه السلفي بسيط، لا يحب التفصيل ولا تعداد الحالات، يميل إلى المباشرة، والقول الواحد، وعدم التعقيد اللفظي، أو المعنوي. وقد يكون السبب في ذلك نشأته في طوره الحديث في أجواء البداوة في نجد) [375] فكيف يريد الكاتبان من القارئ أن يتلقى مثل هذا التوصيف، مع هذا التسبيب المليح الذي يربط بين بساطة الفقه السلفي وأجواء البداوة النجدية!

هذا التوصيف الصحفي للفقه السلفي بالبساطة ومجافاة التفاصيل وتعداد الحالات يجرُّ إلى قصة أخرى في هذا البحث، بعد أن تطرقنا إلى قصة السيولة المعيارية، ألا وهي:

******



قصة الحضور والغياب

ما المعيار الذي تمثَّله الكاتبان في تحضير وتغييب أعلام الفقه السلفي ومجالاته وقضاياه؟

سأقدِّم بذكر النتيجة على سرد أحداث القصة، وهي ذات النتيجة المدونة أعلاه، المتمثلة في رعاية الأغراض المضمرة لدراسةٍ تؤرِّخ لأفول السلفية، بعيدًا عن المنطلقات المنهجية في تقويم الاشتغالات المعرفية، ونظرًا لذلك تُعطى تأشيرةُ الدخول لبعض الأعلام والقضايا دون بعض.

أمَّا لماذا جرَّ التوصيف للفقه السلفي بالبساطة لهذه القصة، فلأن التساؤلَ الموجه لهذا الإطلاق: ما مجال مجافاة الفقه السلفي للتفاصيل؟

البحث يرمي تحديدًا إلى ما يتعلق ببحث النوازل والمستجدات في الفقه السلفي، (فنظرًا لتعقُّد أغلب النوازل فإن الاشتغال الفقهي السلفي يواجه صعوبات شديدة في بحثها، فهو يميل في الغالب إلى تبسيط النوازل، وإزاحة أو تعطيل المعطيات والجوانب التي لا يقدر على التعامل معها، بحيث يتمكن من إعطاء حكم مباشر صريح بسيط، لا يتسم بالتفصيل الشديد، والإدارة مع العلل) [375].

وأنا أتساءل هنا: أي "تبسيط" يعنيه الكاتبان؟

الظاهر من سياق البحث أن المقصود ليس منحصرا في الإيجاز والاتساع الخطابي، بل يتجه في المقام الأول إلى ضمور العملية الاجتهادية نفسها، فهي تفرُّ من تحمل تبعة النظر الاجتهادي في النوازل لتلقي بحكم موجز لا يراعي الأقيسة ومقاصد الشريعة ونحوها.

وهذا إن كان هو المقصودَ فهو ناتجٌ عن قصور في الاطلاع على النتاج السلفي في حقل النوازل والمستجدات، أو قصورٍ في تحقيقه، فأين هو عطاء أعلام السلفيين، السعدي، وابن عثيمين، وابن باز، وبكر أبو زيد، وغيرهم من أعضاء المجامع والمصارف في المسائل النازلة؟

العلامة السعدي مثلًا الذي أعرضت عنه الدراسة تمامًا إلا بصفته رافدًا لابن عثيمين = له من البصر بمقاصد الشريعة وقواعدها، والاطلاع على الواقع المعاصر، والنظر في المسائل المستجدة بفقه مكين، ما نال به رتبة عليَّة في الفقه، ولكن الدراسة أعرضت عنه، في مقابل استجلابها الشيخ مقبل الوادعي.

الشيخ بكر أبو زيد له أيادٍ بحثية في النوازل المعاصرة، لكنه لم يظهر في كل مباحث الاشتغال المعرفي عند السلفيين من هذا الكتاب إلا في سطر واحد، فهو حاضرٌ في مخيال الكاتبين لكن لا في مجال تخصص الرئيس الذي كتب فيه أبحاثًا، وتولى فيه مناصب عليا، بل يخرج من الكاتبين بقولهم: (كان لأحد أعلام سلفية نجد الشيخ بكر بن عبدالله أبي زيد اشتغالٌ لغويٌّ وأدبيٌّ)! [384].

يغيب الشيخ بكر بمنجزاته الفقهية وأدواته المعرفية، وتُعطى التأشيرة لبعض من له حضور فقهي سلفي متواضع ليقال عنه: (ليس هناك ما يُدلِّل على تمكنه العلمي) ويقال عن آخر: (خبرته بالنصوص الفقهية أقل جودة)، وهكذا تجد التحضير لكل شخصية تحقق احتياجات الدراسة وتوسع دائرة العينة المنتقَدَة.

وإن تعجبْ فعجبٌ هي ملاحقة الكاتبَين لآحاد الشخصيات السلفية في الشبكات العنكبوتية وإن لم تكن ذا حضور شائع في الواقع العلمي السلفي، مع إعراضٍ عن شخصيات فقهية سلفية مثل الشيخ دبيان الدبيان الذي وضع في الفقه أزيد من 30 مجلدًا، ثلاثة عشر مجلدًا في فقه الطهارة، وعشرين مجلدًا في المعاملات المالية المعاصرة، وليس الشأن في منجز الدبيان أنه منجزٌ كمِّي فحسب، بل يحضر هنا بصفته في المقام الأول نتاجا فقهيا سلفيا، فكيف يغيب هذا المنجز بمثل هذا الوزن عن دراسة تطرح نفسها بأنها تقوِّم الاشتغال الفقهي السلفي؟

مثل هذا العطاء لا يُتجاوز بحجة عدم التزام الدراسة للاستغراق، فالدبيان بمنجزاته البحثية الضخمة لا يحسن تجاوزه في الوقت الذي يستورد فيه من لا يمثل إنتاجه عشر العشر مما كتبه، ولكن الشأن أنها شخصية خارجة عن محل البحث، لكونها لا تحقق الأغراض المضمرة لهذه الدراسة الموجَّهة.

******



الرسائل الجامعية ورصاصة الرحمة

قبل أن يُسدل الكاتبان الستارَ على هذا الاشتغال الفقهي السلفي أشارا في بضعة أسطر إلى نهضة سلفية أخرى فيما يتعلق بفقه المستجدات الفقهية عمومًا وفقه المعاملات المالية خصوصًا، ولكنها أسطرٌ عابرة حُيِّدتْ عن مركز التوصيف إلى هامشه، وتهجيرُ مثل هذه المنجزات الكبرى المتمثلة في مؤسَّساتٍ وكليَّاتٍ وأبحاثٍ من خلال إشارة عابرة يُعدُّ من النقائص المركزية في هذا التقويم للاشتغال الفقهي عند السلفيين، ومثل هذا التهجير أضحى سمتًا لتقويم هذا الاشتغال.

وقد كان من المنتظر من هذه الدراسة المتصدرة لوضع الاشتغال الفقهي عند السلفيين في الميزان أن تعرف للميزان قدره، وأن تتناول بنظر منهجي الدراساتِ الفقهيَّةَ التي صدرت في موضوعات كثيرة جدًّا تغطي أبواب الفقه الإسلامي والنوازل المعاصرة، غير أن الكاتبَين أطلقا رصاصة الرحمة في ورقة ونصف على مئات إن لم تكن آلاف الرسائل الجامعية، بمثل النهجِ السالفِ وصفُه من الإرسال الخالي عن البرهنة، فهناك (الرسائل الوصفية التي تصف منهج فقيه معين، والغالب على هذه الرسائل قلة النفع والابتكار، وأقصى ما ينتفع به منها أن تجمع أقوال الفقيه أو المدرسة المعينة، وفيها الرسائل الموضوعية كبحث مسائل باب معين، كأحكام الفسق أو الكلام أو الديات أو بحث مسألة معينة من المسائل الكبيرة أو النوازل، والحقيقة إن الغالب الأعم من هذه الرسائل مجرد سرد للمصادر والأقوال والأدلة دون ابتكار ولا روح فقهية حقيقية) [377-378]، ثم يمضي الكاتبان بلا تكلُّف عناء البرهنة، كما هو معتاد.

ويشير الكاتبان إلى (أن هناك استثناءات قدم فيها الباحثون نفسًا فقهيا فريدا، وأبانوا عنه أدوات جديرة بالتقدير، سواء من جهة جدة الموضوعات المبحوثة، والتفنن في تقديمها وعرضها، أو من جهة الاقتدار والكفاءة العلمية) .. وهذا في الحقيقة يبعث على تساؤل مهم، وهو: متى كان التميز حالًا شائعةً أصلًا؟ سواء في السلفية أو في غيرها، بل في شتى الأطياف الإنسانية في مختلف المجالات المعرفية .. فالنقد بأن المتميز من الرسائل الجامعية في حكم النادر في سياق الإيجاع النقدي للاشتغال الفقهي السلفي يفترض أن الأصل هو شيوع التميز، وهذا ما لا يكون، لا في السلفية ولا في غيرها، والعبرة حينئذ ليس في النظر في الغالب، بل في وجود هذا التميز ورعايته وتعميم الإفادة منه، ثم في الحالة الفقهية بعامة بشتى تجلياتها.

ومثلُ هذا: الحطُّ من الأدوات المعرفية للسلفية مقارنةً بأدواتِ مثلِ ابن تيمية وابن حزم، فهذه مغالطةٌ لو أديرت على الكاتبين أنفسهما لاحتلَّا رقمًا متأخرًا في تقويم الأدوات المعرفية، مقارنة بالمكنة التيمية والحزمية، فلماذا يُستطال على الاشتغال الفقهي عند السلفيين عامتهم بمثل هذه المقارنات؟

كان من المنتظر أن يكون معيار النقد والمحاكمة للاشتغال الفقهي السلفي خاضعًا لاعتبارات محكَمة، تتدلى منها التطبيقات النقدية تدليًّا ممنهجًا: فقه وتصور الأقوال والمذاهب الفقهية، استثمار أصول الفقه المعتبرة في التخريج الفقهي، استعمال الجهاز المصطلحي الفقهي، دراسة النوازل والمستجدات بمنهجية جارية على طرائق الفقهاء الحرص على دقة العزو وتصور الأقوال، الأصالة في الوصول للمصادر ... هذه وغيرها لم تنل حظَّها من الصدارة النقدية في تقويم الاشتغال الفقهي.

******



أخيرًا

أردت بهذه الكتابة التعليقَ على ما رأيته من إطلاقاتٍ فطيرةٍ لم تأخذ حظها من الفحص، ولا تأيَّدت بالبرهنة، بل صيغت بعينٍ تتحسَّس المكاسر وتختزل الحقائق، مع آراء أخرى متعلقة بمسائل من الفقه والنظر أرسل الكاتبان القول فيها بلا تكلُّفِ عناء التحقيق، أعرضتُ عنها لتمثيلها تصورات جزئية حول قضايا تفصيلية، والشأن هنا في المنهجية المتحركة والأغراض الساكنة في أطراف هذا المبحث.

وأمرٌ أخيرٌ أشير إليه، وهو ما كنت أحبُّ للكاتبَين التجافي َعنه، وهو التساهل في إلقاء الجمل المعلَّبة في تقويم الأعلام، بل بلغ الحال بهما إلى إرخاء النقد وإطلاقه مع التحرز في الثناء وتقييده، حتى استُكثر على قامة فقهية بمنزلة ابن عثيمين أن يُثنى على فقهه وأدواته المعرفية بدون تقييداتٍ (نسبيًّا، من حيث الجملة، في حدود زاده).

ولم يكتف الكاتبان بنقد ما شهداه، بل أعملوا مادة القياس في النقد، وذلك حين تقييمهم لدورة فقهية لأحد الشخصيات السلفية، فلم يكتفيا بما شهدوه من عطائه الفقهي، بل اشتاقت حواس نقدهم لتشمل دورة له في شرح كشاف القناع، فقالا: (المعهود من مكنة بالي المعروفة في لقاءاته ودروسه المشاهدة تسكك في جودة تلك الدروس الفقهية بحيث تناسب عناوينها ومستويات المواد التي تتناولها، وإن كنا لم نطلع عليها) [369]، وهذا لا يفسره إلا الرغبة في الملاحقة النقدية والجمركة الماشطة لكل الأعلام الواردة في هذا المبحث.

وهذا الباب من النقد، أعني باب نقد الأعلام، يُحوِج الناقد إلى تحرٍّ وأناةٍ، مع اتزانٍ نفسيٍّ يتخلص به من نوازع الهوى وغُلَوَاء النقد، ولو كان النقد حقًّا، لا سيما إذا كان هذا التقويم متعلِّقًا بأعلام قضوا في تحصيل العلم ونشره عقودًا .. وليس هذا بحائل دون النقد، لكن ليس على هذه الشاكلة التي سبق عرضها، فهذا النهج إن لم يلحق الضرر بالقارئ فلن يفيده إلا التدرُّب على الاستطالة .. والله تعالى أعلم





مشاري بن سعد الشثري

24 - 6 - 1436 هـ
__________________
قُلْ للّذِينَ تَفَرَّقُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُم فِي العَالَمِين البَيِّنَة
إنَّ الّذِينَ سَعَوْا لِغَمْزِ قَنَاتِكُمْ وَجَدُوا قَنَاتَكُمْ لِكَسْرٍ لَيِّنَة
عُودُوا إِلَى عَهْدِ الأُخُوَّةِ وَارْجِعُوا لاَ تَحْسَبُوا عُقْبَى التَّفَرُّقِ هَيِّنَة

«محمّد العيد»
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04-15-2015, 02:59 PM
الطارق البربري الطارق البربري غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Dec 2012
المشاركات: 238
افتراضي

سلام عليكم و رحمة الله و بركاته


جزاك الله خيرا أخانا الكريم نجيب ، حقا موضوع يزيدك فهما في ما يدور على

ساحة الردود العلمية و المقارنات الفقهية من طرف بعض من ينسبون إلى العلم

و من المجازفات الغير معقولة ممن يدّعي المنهج السلفي و هو لم يُوفّق إلى

فهمه ، و جزى الله الشيخ مشاري على ردّه القويّ و المفحم وسلاسة فهمه

للسلفية ، و قد أحسن بكلامه الأخير :

اقتباس:
ومثلُ هذا: الحطُّ من الأدوات المعرفية للسلفية مقارنةً بأدواتِ مثلِ ابن تيمية وابن حزم، فهذه مغالطةٌ لو أديرت على الكاتبين أنفسهما لاحتلَّا رقمًا متأخرًا في تقويم الأدوات المعرفية، مقارنة بالمكنة التيمية والحزمية، فلماذا يُستطال على الاشتغال الفقهي عند السلفيين عامتهم بمثل هذه المقارنات؟
و زاد كلامه بالخاتمة القاصمة جزاه الله خيرا :


اقتباس:
وهذا الباب من النقد، أعني باب نقد الأعلام، يُحوِج الناقد إلى تحرٍّ وأناةٍ، مع اتزانٍ نفسيٍّ يتخلص به من نوازع الهوى وغُلَوَاء النقد، ولو كان النقد حقًّا، لا سيما إذا كان هذا التقويم متعلِّقًا بأعلام قضوا في تحصيل العلم ونشره عقودًا .. وليس هذا بحائل دون النقد، لكن ليس على هذه الشاكلة التي سبق عرضها، فهذا النهج إن لم يلحق الضرر بالقارئ فلن يفيده إلا التدرُّب على الاستطالة .. والله تعالى أعلم
جزاه الله خيرا و جزاك الله خيرا أخي "النجيب ".

و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .




.
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 04-15-2015, 06:04 PM
محمد أشرف محمد أشرف غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,267
افتراضي

حقيقة موضوع مميز

سأحاول البحث عن الكتاب لقراءته بتأمل

تحية لك أيها الفاضل
__________________
[ لا أعلم بعد النبوة شيئا أفضل من بث العلم ]

* قاله ابن المبارك *
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 04-15-2015, 07:00 PM
نجيب بن منصور المهاجر نجيب بن منصور المهاجر غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 3,045
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد أشرف مشاهدة المشاركة
حقيقة موضوع مميز

سأحاول البحث عن الكتاب لقراءته بتأمل

تحية لك أيها الفاضل
أحسن الله إليك أخي محمد ، المحزن في الأمر أن تحدث مثل هذه الطفرة المعرفية على فكر الأخ محمد سالم
__________________
قُلْ للّذِينَ تَفَرَّقُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُم فِي العَالَمِين البَيِّنَة
إنَّ الّذِينَ سَعَوْا لِغَمْزِ قَنَاتِكُمْ وَجَدُوا قَنَاتَكُمْ لِكَسْرٍ لَيِّنَة
عُودُوا إِلَى عَهْدِ الأُخُوَّةِ وَارْجِعُوا لاَ تَحْسَبُوا عُقْبَى التَّفَرُّقِ هَيِّنَة

«محمّد العيد»
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 04-16-2015, 07:33 PM
محمد أشرف محمد أشرف غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,267
افتراضي

حقيقة أخي الفاضل

لم أستبعد هذا منه فالأخ أبو فهر ـ أحمد سالم ـ

ذا طابع معرفي أدبي في إطار السلفية لكن بصيغة عقلانية غالبة .. بل متفردة ..

رجعت بي ذاكرتي ـ أيها المكرم ـ

لمقال له الْعُكُوفُ حَوْلَ كُتُبٍ بِعَيْنِهَا لَا تُجاوزُ فِي التَّدْرِيسِ ، وَحِلَقِ الْعِلْمِ ..

ينقد فيه تمحور السلفيين وغيرهم على كتب شرحت مرارا ... في كل فن ..

قال مثلا { وأنتَ اليومَ تجدُ هذِهِ الجنايةَ فِي أوساطِ التعليمِ غيرِ النظاميِّ للسلفِيينَ ، وقدْ اتخذَتْ أعتَا صورِهَا شرًّا ، وأشدَّهَا خطرًا.

ذلِكَ أنَّ الدورانَ حولَ كتبٍ بعينِهَا قديمًا كانَ يحصلُ فِي مستوياتٍ مختلفةٍ منَ الكتبِ ، والمراحلِ العلميَّةِ ، أمَّا اليومَ فالسلفِيُّونَ يدورونَ حولَ مجموعةٍ مِنَ الْكتبِ المتقارِبَةِ المستَوَى ، ولا يَعْدُونَها إلَى غيرِهَا مِمَّا هوَ أشدُّ صعوبةً ، وأكثرُ عمقًا فِي العلمِ محلِّ البحثِ.

فالكتبُ الَّتِي تُدَّرَسُ فِي الِاعْتقادِ بدايةً مِنْ «ثَلَاثَةِ الْأُصُولِ» ، وانتهَاءً بمتْنِ «الطَّحَاوِيَّةِ» كلُّهَا قريبٌّ منْ قريبٍ ، وليسَ فِيهَا مَا هُوَ بعيدُ الغورِ بحيثُ يرفعُ منْ مستَوَى طالبِ العلمِ ، ويجعلُهُ مؤهَّلًا لفهمِ مطولاتِ شيخِ الإسلامِ ، أوْ لتحرِيرِ بعضِ مشكلاتِ عقائِدِ أهلِ السُّنَّةِ فضلًا عنْ فهْمِ كتبِ أهلِ الفِرَقِ ، وَلَا أستثْنِي مِنَ الْكتبِ الْـمُدَرَّسَةِ شيئًا سِوَى «التَّدمرِيَّةَ» علَى قلةٍ ظاهرَةٍ فِي شروحِهَا ، ومَنْ يَدْرُسُهَا ويُدَرِّسُهَا.

وأصولُ الفقهِ مِنَ «الْوَرَقَاتِ» إلَى «قَوَاعِدِ الْأُصُولِ» إلَى.. إلَى.. كلُّهَا كالسابقِ لا يُستثْنَى إلَّا مَا يصنعُهُ البعضُ مِنْ تدريسِ ، وشرْحِ «رَوْضَةِ النَّاظِرِ» ، وهوَ شيءٌ يكادُ يكونُ محصورًا فِي الدراسَةِ النظامِيَّةِ ، أمَّا خارجهَا فأندرُ مِنَ النَّادِرِ فضلًا عنِ الْخللِ النَّاتِجِ مِنِ اعْتبارِ «الرَّوْضَةِ» مرحلةٌ صالحةٌ للتدريسِ بعدَ المتونِ المختصرةِ. }

فهو وصاحبه ينزعان ـ إن صح التعبير ـ للمنهج السلفي الاصلاحي العقلاني أكثر منه للطرح

التفهمي المعتاد ..

ولعك تفاجأ أنهما كانا من الداعمين والمؤيدين للثورة والخروج للميادين عهد الرئيس المصري

السابق ..

مكمن الصعوبة هو أن يقوم الباحث بمحاكمة تاريخية لفكر أو منهج مستمد من تحرك الباطن المعرفي

الواسع والمختزل لمجموعة من رموزه ..

ولعل الدافع القويم لكتابة هذا الكتاب ما وجد في بلدهم من تأييد حزب النور للرئيس السابق

والمشاركة السياسية .. مع تفاعل العنف والقتل والدمار في ديار المسلمين ..

الأمر الذي أدى عند بعض هؤلاء إلى تضخيم القضية ومحاكمتها على هذا المسار الذي توجهت فيه ..

لم أقرأ الكتاب .. لكني على شبه تأكيد أنهما سيتناولان مبحث السلفية والاصلاح وسيخضعان

أخطاء حزب النور كشماعة تعميمية على كل السلفية ...

لم أقرأ الكتاب .. كملحظ لفت نظري العنوان ..

ما بعد ..

وكأنها إنتهت ..

عجبت وهو معجب إشراك منهج رباني قائم على منهج الرسالة عبر قرون للفظة ما بعد الحداثي ..

حقيقة الاعتداد بالرأي القائم على الآنية الفكرية مزلقة تقود لمهلكة ...

فلغة الجدل العقلي تدفع أحيانا لإخضاع حياة شخصيات علمية للجدلية الفلسفية الاشراقية ..

ولو انبطح الكاتبان على قفاهما لما كادا أن يريا رأس

ابن تيمية

ولا ابن باز

ولا الألباني

ولا الوادعي .. رحم الله الجميع ..






__________________
[ لا أعلم بعد النبوة شيئا أفضل من بث العلم ]

* قاله ابن المبارك *
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 04-17-2015, 02:01 AM
عمربن محمد بدير عمربن محمد بدير غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
الدولة: الجزائر
المشاركات: 12,045
افتراضي

بوركتم أيها الأحبة:
أوافقكم الرأي و قد قلت على حائطي بأن الكتاب اشبه ما يكون بكتاب البوطي السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي ....
وقد اعترض أحد الإخوة قائلا:قرأت كلام الرجل يوم أخرجه وفيه اعتراضات مسلمة والاخرى من جنس ما ذكرت لك في منشورك السابق.
اشكالية الانتقاء في اسنجلاب الأمثلة المذكورة كمثل اهمال الشيخ الدبيان (وأنا واحد ممن إذا أراد الاطلاع على كلام أهل العلم في قضية معينة مجموعا في وضوع واحد لجأت لكتاباته، والرجل له نفس في الكتابة في الفقه المقارن وإن كان أميل للمالكية).
اعتراض الرجل على المعيار الذي قاس عليه الكاتبان المكنة الفقهية لمن ذكروهم= اعتراض في نظري غير مؤسس إذ الرجل لم يقم دليلا على رفضه القياس الى الفقه التيمي، بل كان اعتراضه على العلامات التي اعطيت لمن ذكر.
*******
ما رأيكم..
__________________
قال ابن تيمية:"و أما قول القائل ؛إنه يجب على [العامة] تقليد فلان أو فلان'فهذا لا يقوله [مسلم]#الفتاوى22_/249
قال شيخ الإسلام في أمراض القلوب وشفاؤها (ص: 21) :
(وَالْمَقْصُود أَن الْحَسَد مرض من أمراض النَّفس وَهُوَ مرض غَالب فَلَا يخلص مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيل من النَّاس وَلِهَذَا يُقَال مَا خلا جَسَد من حسد لَكِن اللَّئِيم يبديه والكريم يخفيه).
رد مع اقتباس
  #7  
قديم 04-17-2015, 09:50 AM
نجيب بن منصور المهاجر نجيب بن منصور المهاجر غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 3,045
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الطارق البربري مشاهدة المشاركة
سلام عليكم و رحمة الله و بركاته


جزاك الله خيرا أخانا الكريم نجيب ، حقا موضوع يزيدك فهما في ما يدور على

ساحة الردود العلمية و المقارنات الفقهية من طرف بعض من ينسبون إلى العلم

و من المجازفات الغير معقولة ممن يدّعي المنهج السلفي و هو لم يُوفّق إلى

فهمه ، و جزى الله الشيخ مشاري على ردّه القويّ و المفحم وسلاسة فهمه

للسلفية ، و قد أحسن بكلامه الأخير :



و زاد كلامه بالخاتمة القاصمة جزاه الله خيرا :




جزاه الله خيرا و جزاك الله خيرا أخي "النجيب ".

و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .




.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أحسن الله إليك أخي أبو عبد الرحمن
__________________
قُلْ للّذِينَ تَفَرَّقُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُم فِي العَالَمِين البَيِّنَة
إنَّ الّذِينَ سَعَوْا لِغَمْزِ قَنَاتِكُمْ وَجَدُوا قَنَاتَكُمْ لِكَسْرٍ لَيِّنَة
عُودُوا إِلَى عَهْدِ الأُخُوَّةِ وَارْجِعُوا لاَ تَحْسَبُوا عُقْبَى التَّفَرُّقِ هَيِّنَة

«محمّد العيد»
رد مع اقتباس
  #8  
قديم 04-17-2015, 07:24 PM
نجيب بن منصور المهاجر نجيب بن منصور المهاجر غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 3,045
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عمربن محمد بدير مشاهدة المشاركة
بوركتم أيها الأحبة:
أوافقكم الرأي و قد قلت على حائطي بأن الكتاب اشبه ما يكون بكتاب البوطي السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي ....
وقد اعترض أحد الإخوة قائلا:قرأت كلام الرجل يوم أخرجه وفيه اعتراضات مسلمة والاخرى من جنس ما ذكرت لك في منشورك السابق.
اشكالية الانتقاء في اسنجلاب الأمثلة المذكورة كمثل اهمال الشيخ الدبيان (وأنا واحد ممن إذا أراد الاطلاع على كلام أهل العلم في قضية معينة مجموعا في وضوع واحد لجأت لكتاباته، والرجل له نفس في الكتابة في الفقه المقارن وإن كان أميل للمالكية).
اعتراض الرجل على المعيار الذي قاس عليه الكاتبان المكنة الفقهية لمن ذكروهم= اعتراض في نظري غير مؤسس إذ الرجل لم يقم دليلا على رفضه القياس الى الفقه التيمي، بل كان اعتراضه على العلامات التي اعطيت لمن ذكر.
*******
ما رأيكم..

أولا - صاحبنا افترض أمرا - وهو عتراض الرجل على المعيار الذي قاس عليه الكاتبان المكنة الفقهية - ثم حاول محاكمة كلام الشيخ إليه مع أنّ الواضح من كلام الشيخ أنه إعترض على غياب عنصر [المنهج في ضبط تحليل وتقويم الاشتغال الفقهي عند السلفيين ] والإعتماد على [الاهتداء بإملاءاتِ الانطباعات العشوائية، سواءٌ في السيولة المعيارية، أو في قصة الحضور والغياب للأعلام والمواقف ] فالشيخ قد راعه خطورة ما ترمي إليه الدراسة وأنها لا تعدو أن تكون سيرا عشوائيا لتقرير فكرة [ تأفيل السلفية] وفق منهج عبثي يتحرك [ بحسب الأغراض المضمرة التي تحرِّك الدراسة ذات اليمين وذات الشمال، بوعي أو بلا وعي تبعًا لمدى سلطة فكرة تأفيل السلفية وغلبتها على مزاج النقد عند الكاتبَين تبعًا لمدى سلطة فكرة تأفيل السلفية وغلبتها على مزاج النقد عند الكاتبَين ]

2 - صرّح الشيخ بأنّ المعيار المعلن لهذه الدراسة [ الاقترابَ من الأنموذج التيمي ] في قضية [ الاجتهاد والتقليد والتمذهب، ومدى توفر الأدوات لبناء الأنموذج النظري وتفعيله من عدم ذلك ] هو المعيار [ الضابط الحاكم ] الوحيد الذي يلاقي قبولا لكن الصورة التي يرسمها الكاتبان [ صورةٌ قاتمةٌ مبعثرةٌ، ليس لها معيارٌ ضابطٌ يُحكِم أركانها ]
وهو ما دفعه للحكم بعدم صدقهما في اعتبار المعيار المعلن للدراسة

3 - لقد برهن الشيخ على محاولة الباحثين [ تقزيم ] المنتج الفقهي السلفي بما قدماه من أمثلة على ما اعتبراه [ نهضة فقهية ] فقال : [ وهنا يحق لنا التساؤل: هل يَجسُرُ مَن يتصدر لتحليلِ وتقويمِ تاريخٍ فقهيٍّ امتدَّ عقودًا، على تقديم نهضة فقهية بهذه الصفة، على أنقاض جهود فقهية تسلسلت في عقود؟ ]
ختاما : يظهر جليا أنّ صاحب [ الإعتراض ] لم يقرء المقال بالجدية اللازمة والعمق المطلوب والله أعلم
__________________
قُلْ للّذِينَ تَفَرَّقُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُم فِي العَالَمِين البَيِّنَة
إنَّ الّذِينَ سَعَوْا لِغَمْزِ قَنَاتِكُمْ وَجَدُوا قَنَاتَكُمْ لِكَسْرٍ لَيِّنَة
عُودُوا إِلَى عَهْدِ الأُخُوَّةِ وَارْجِعُوا لاَ تَحْسَبُوا عُقْبَى التَّفَرُّقِ هَيِّنَة

«محمّد العيد»
رد مع اقتباس
  #9  
قديم 05-03-2015, 12:13 PM
نجيب بن منصور المهاجر نجيب بن منصور المهاجر غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 3,045
افتراضي

معضلة التناقض وأزمة التقييم في الخطاب إلى ما بعد سلفي

22-04-2015 | مشاري بن سعد الشثري


المؤسفُ حقيقةً ليس متعلقًا بطبيعة هذه المراجَعة، بل في الشخصية المراجِعة، فبدلًا من تصدُّرِ أخوينا لمراجعةٍ محفوفةٍ بلغة الأخوة الحادبة والحرص على الخير والهدى ونفع المسلمين، رأيناهم يقيمون مقصلة للمتصدرين للعلم والدعوة والمشتغلين بهموم الواقع الإسلامي .. لم تأتِ سياقات الكتاب حافزةً على المراجعة بل أتت مزاحِمةً طاردةً مُذْكاةً بنار التقريع والاستهانة.

بسم الله الرحمن الرحيم



معضلة التناقض وأزمة التقييم في الخطاب إلى ما بعد سلفي



بيِّنٌ أن خطاب "ما بعد السلفية" خطابٌ تدشينيٌّ لإحدى مسارات زمنِ الأفول، زمنِ ما بعد السلفية، فالكتاب يفترض أن السلفية ستتنوع بعد تشظِّيها إلى أربع مسارات .. رابعُها مسارُ (مَن يمارس مراجعاتٍ على نفس المكون التراثي العقدي والفقهي، بالإضافة لمراجعاتٍ تتعلق بالأجوبة على الأسئلة الآنية والتحديات الواقعية)، وهذا المسار هو الذي يمثِّل حجرَ زاويةِ المسارات، فـ (الإشكال الأساسي يكمن في المراجعات التي سيجريها أصحاب المسار الرابع)، ومحلُّ الإشكال أن هذا المسار خلافًا للمسارات السابقة لا يحافظ على المكون التراثي العقدي والفقهي، بل يطرح مراجعاتٍ عليه، ولذلك (يكون هذا النمط من المراجعات مؤذنًا بميلاد تحقِّقٍ تاريخي جديد للنسق المنهجي الذي يظلل هذه التحققات) [687].

وما دام هذا الكتاب "ما بعد السلفية" قد قدَّم مراجعاتٍ على المكون السلفي التراثي العقدي والفقهي كما هو معلومٌ لكل من أدار نظره فيه، فالكاتبان يقدمان بخطابهم في هذا الكتاب مشاركةً تأسيسيةً لنمطٍ يؤذن بميلاد تحقق تاريخي جديد للسلفية، لكن هذه المراجعة لم تكن ممنهجةً بقواعدَ وتأصيلاتٍ، بل شابَها ما تشبَّعت به سوابقُها من المحاولات المناوئة للسلفية التي قدمت نظرات ناقدة للسلفية بكثير من السيولة المعيارية، والانفلات المنهجي، والانطباعات المرسلة.

المؤسفُ حقيقةً ليس متعلقًا بطبيعة هذه المراجَعة، بل في الشخصية المراجِعة، فبدلًا من تصدُّرِ أخوينا لمراجعةٍ محفوفةٍ بلغة الأخوة الحادبة والحرص على الخير والهدى ونفع المسلمين، رأيناهم يقيمون مقصلة للمتصدرين للعلم والدعوة والمشتغلين بهموم الواقع الإسلامي .. لم تأتِ سياقات الكتاب حافزةً على المراجعة بل أتت مزاحِمةً طاردةً مُذْكاةً بنار التقريع والاستهانة.

هذه الورقة تفترض ابتداءً أن كثيرًا من مباني هذا الكتاب لم يُبنَ على أساسٍ مكينٍ، بل كان محاولةَ حشدٍ لا واعيةٍ لجملةٍ من التصوُّرات الناقدة للسلفية المعاصرة، تمَّ نظمُها بأوعية لاحقة سيطرت على حدود تفكير الكاتبَين وتصوراتهما، ولم تكن الرؤية المنهجية المتزنة هي المولِّدةَ لمسارات الكتاب.

أراد الكتاب أن يقدم رؤية نقدية للسلفيَّة ففقد في طريقه كثيرًا من رساليَّته، ومنهجيَّته، وإنصافه .. وهذه الورقة تطمح أن تقدِّم لقارئها بعض سمات هذا الخطاب الما بعد سلفي من خلال جمعٍ من الشواهد المتعلقة بالكتاب والكاتبَين، لتجسِّد معضلة التناقض وأزمة التقييم التي شَرِق بها هذا الكتاب لعلَّها أن تنتزع كاتبَيه من (حالة السبات الوثوقي).





******



معضلة التناقض

لا يكاد يسلم من التناقض أحدٌ، فلماذا البحث في شواهده هنا؟

جواب ذلك أن التناقض لم يقع هاهنا بصفته حالًا عارضةً بريئةً، بل الذي أنبته رغبةٌ وثَّابةٌ في كسر عمود السلفية المعاصرة، أدَّت بالكاتبين إلى انعطافاتٍ حادَّة على مستوياتٍ من النظر جسَّدت ما يمكن تسميته بمعضلة التناقض في الخطاب المابعد سلفي .. ولهذه المعضلة تمثُّلاتٌ، وفيما يلي كشفٌ لها:



أولًا: التناقض التقييمي

وقد ابتدأتُ بهذه السمة لأن شاهدَها يقوِّي الافتراض الذي تقدمه هذه الورقة، وتبين كيف أن روح الكتاب التي سيطرت على الكاتبَين تجعل من التناقض التقييمي مقبولًا في حال وافق اتجاه الدراسة.

قصة هذه السمة أن لأبي فهر أحمد سالم مقالًا في ملتقى أهل التفسير بعنوان: "المبدعون المجددون من أهل العلم المعاصرين"، سمَّى فيه 25 عَلَمًا، رأى أن دائرة تحريرهم تتعدَّى (تحرير أفراد المسائل حتى تصل إلى تحرير شيء من مناهج البحث والنظر، إضافةً إلى ما يعكسه هذا على تحريرهم للمسائل من جدة وابتكار)، وقال: (المجددون هي سمة عندي لا يستحقها إلا من يستطيع العودة بعلمه عودة تامَّةً أو غالبةً إلى ما كان عليه الصدر الأول فالأمثل فالأمثل).

وأكثر هذه القائمة هم من أهل السنة الملتزمون بمنهج السلف .. لكن هذا لا يهمني الآن، بل الذي يهمني أنه سمى منهم:

1. محمد العثيمين: ولما طُلِب منه أن يسمي ما يراه مقدَّمًا أو كان على شرطه من كتب هؤلاء المجددين، سمى من كتب ابن عثيمين: (الشرح الممتع).

2. يعقوب الباحسين[1].

هذا كان قبل تدشين الخطاب المابعد سلفي، أما في "ما بعد السلفية" فيأتي الثناء على "الشرح الممتع" مثقَلًا بقيود واحترازات: (الجودة الفقهية واضحة في كتاب العثيمين، نظرًا لتفعيله الآلة الفقهية والأصولية واللغوية في البحث، في حدود زاده منها، والذي هو أحسن من أقرانه من حيث الجملة) [368] .. وأما اختياراته الفقهية فـ (ليست بالجدة التي تعد فيها اختياراتٍ تستأهل الدرس والاعتناء) [371].

كان العلامة ابن عثيمين بشرحه الممتع قبل هذا الكتاب مجدِّدًا، وكان في تحريره للمسائل جدة وابتكار، لكن اختياراته هنا ليست بالجدة التي تستأهل معها الاعتناء، وأما كتابه فجودته واضحة لتفعيله الآلة المعرفية في حدود زاده الذي بلغ به أن يكون من حيث الجملة أحسن من أقرانه، فأين هي قصة العودة بالعلم إلى الأمر الأول!

وأما يعقوب الباحسين فبعد أن كان في تلك المقالة مبدعًا مجددًا، يأتي في هذا الكتاب بصورة متناقضةٍ تمامًا، وذلك في سياق قول الكاتبَين حين حديثهم عن الاشتغال السلفي الأصولي: (أبرز المتخصصين المتمكنين السعوديين أو الذين في السعودية كيعقوب الباحسين وعبدالكريم النملة، لم يبذلا جهودا تجديدية حقيقية في العلم، وليسا بمحرِّرين للطريقة السلفية يعون التداخلات بين الكلام الأشعري والاعتزالي وبين أصول الفقه) [299].

يعقوب الباحسين في تلك المقالة مبدعٌ مجددٌ تعدَّى تحريره إلى شيءٍ من مناهج النظر، واستطاع العودة بعلمه عودةً تامَّةً أو غالبةً إلى ما كان عليه الصدر الأول، وهنا نراه لا يبذل جهودًا تجديديةً حقيقيةً، ولا يعي التداخلات الكلامية في المدونة الأصولية!

فانظر كيف تتحكَّم رسالة الكتاب في عامل النقد ومستواه .. وأقرب من هذا الانعطاف زمنًا انعطافٌ آخرُ محيِّرٌ في باب التقييم للاتجاهات والأشخاص ، وذلك أن الكاتب في كتابه "اختلاف الإسلاميين" قرَّر أن بين سلفية الإسكندرية وبين التيارات المسماة بالسرورية فروقًا مؤثرةًفي الرؤى والاختيارات، وإن كانت جميعًا تنتظم في إطار الحركية [63]، بينما في كتاب "ما بعد السلفية" وبعد سياق واقع حزب النور الذي مرَّ بانتكاسةٍ مُرَّةٍ يقرر الكاتب الاكتفاء بعرض تجربة حزب النور، ويذكر من أسباب ذلك (أنه نموذج كل النماذج كما يقال، فالنماذج المتنوعة للاشتغال السياسي الحركي قد مرَّ عليها هذا التيار وتقلَّب بينها، وقراءة حالته في تطوراته تعد نموذجًا لهذا التيار كله) [468] .. فانظر كيف تنطمر تلك الفروقات المؤثرة في جنب تقديم حزب النور بأطواره كمُمَثِّلٍ لشتَّى تجليات الاشتغال السياسي الحركي للسلفيين.



ثانيًا: التناقض الدلالي

صيغ التعميم - في الخطاب الما بعد سلفي - تعبِّر عن نمط سائد منتشر، وإن لم يكن مستغرقًا ولا حتى غالبًا، فلك أن تعمِّم أحكامك التقويمية على الأفراد والجماعات وإن كانت الكفَّةُ راجحةً لنقيضها، (فإن التعميم لا يساوي الاستغراق، التعميم إشارة إلى الكثير السائد، سواء كان مستغرقًا أم لا، وجلُّ ما تسمعه في نقد التعميمات = خطأ وعجمة لسانية) [14-15] .. هذا التقرير يمثل استراتيجية خطِّ رجعةٍ للكتاب، حيث إنه يتضمَّن كثيرًا من العمومات المنفلتة التي يحتاجها الكتاب في صياغة رؤيته الموجَّهة، ومع ما في هذا التقرير وإنزاله على إطلاقات الكتاب من مغالطة إلا أننا نرى الكاتبَين قد تأرجحا، ففي حين يجعلون من هذا التقرير وقاية نقدية لإطلاقاتهما، فهم لا يراعونه في التعامل مع إطلاقات غيرهما، وأنا أورد بعضَ الشواهد على ذلك:

أمَّا الشاهد الأول فقد ذكر الكاتبان أن هناك حالة ارتباك أصابت كثيرًا من الباحثين المعنيين بشأن الحركات الإسلامية حين يتناولون السلفية تناولًا مفاهيميًّا، وساقا على سبيل المثال قول أ. هاني نسيرة: (للسلفية آليات استدلالية خاصة بها، ترفض فيها القياس والاستحسان والإجماع)، ثم علَّقا بما نصه: (تأمَّلْ في هذا الكلام العجيب ودلالته شديدة الوضوح على الارتباك والخلل المعرفي الذي يسود هذه الدراسات عن السلفية) [23].

هذا التقريرُ صحيحٌ في ذاته، لكنه حسب رؤية هذا الكتاب فينبغي ألا يكون كذلك.

بيانُه أن الكاتبَين قد قرَّرا أن الشيخ الوادعي (ينكر القياس والإجماع، ليكتفي بنصوص الكتاب والسنة في الفقه والإفتاء) [251] .. هذه واحدة

وثانية: قرَّر الكاتبان أن الوادعي كان (له أثر سلبي على عموم الاتجاه السلفي في الاشتغال الفقهي) [355]، وقالا: (إن هناك تسرُّبًا وادعيًّا في اللاوعي بالذات، فإن كثيرًا من مفاهيم الوادعي حول الفقه هي مفاهيم شاعت في الأوساط السلفية) [365].

وعليه، فما دام أن التعميم يُكتفَى فيه بالكثرة وإن لم تكن مستغرقة ولا غالبة، وأن الوادعي ينكر القياس والإجماع، وأن للوادعي أثرًا سلبيًّا على عموم الاتجاه السلفي في الاشتغال الفقهي = فإن قول أ. هاني نسيرة (للسلفية آليات استدلالية خاصة بها، ترفض فيها القياس والاستحسان والإجماع) قولٌ - حسب معطيات الخطاب المابعد سلفي - صحيحٌ بامتياز.

ولعلَّ قائلًا أن يقول إن الكاتبين قصدا كثيرًا من مفاهيم الوادعي، وليس بالضرورة أن يكون من هذا الكثير رفضُ القياس والإجماع، وهنا يتولى الكاتبان مهمة الإجابة، ليقولا: (الوادعي الذي يقارن القرآن بالمتون الفقهية ... والذي ينكر القياس والإجماع وهما الدليلان قليلا الجدوى في الاشتغال الفقهي السلفي بعموم، سواء قالوا بحجيتهما أم لم يقولوا = هو في كل ذلك ممثل لاتجاه سلفي شائع، وليس حالة فردية) [366].

فلماذا يطالبنا الكاتبان بعد ذلك بتأمل هذا الكلام العجيب الدال على الارتباط والخلل المعرفي في التعاطي مع السلفية، والحال أنه منساقٌ مع أبجديات الخطاب الما بعد سلفي؟!

لكن لما كان ذاك التقرير آتيًا لتحقيق غرضٍ وظيفيٍّ لا منهجيٍّ، تُطالِعُ في جنبات الكتاب بعض حالات الارتباك في تفعيله، ومثلُ هذا التقريرات التي تمليها الأغراض الوظيفية دون رعاية للأبعاد المنهجية تُفسِدُ العلم وتجعله شَرَعًا لكلِّ طاعن، فما دام أنه يُكتفى في التعميم أن يُطلق على نمط منتشر وإن لم يكن غالبًا فيمكننا أن نرسل إطلاقات فجَّة متعلقة بالعلوم الإسلامية وأعلام المسلمين، يمكننا أن نقول مثلا: إن فقهاء المسلمين علماءُ سوء، والفقه الإسلامي فقه سطحي لا التفات له إلى العلل والمقاصد، وذلك أن وجود علماء السوء في شريحة الفقهاء وإن لم يكن كليًّا ولا غالبًا لكنه يمثل نمطًا سائدًا إذا استعرضنا التاريخ الإسلامي، وأما الفقه فكثيرٌ هم الكَتَبة في الفقه ممن تسيطر عليهم نزعةٌ ظاهريةٌ تُعرِضُ صفحًا عن توخِّي علل ومقاصد الأحكام، وهلمَّ جرًّا من أشباه هذه الإطلاقات.

وقريبٌ من هذه الممارسة الوظيفية المنفلتة نرى الكاتبَين في سياق نقدهما لتعامل السلفيين مع مرجعية فهم السلف يقرران تقريرًا سائلًا جرَّهما إليه محض المماحكة، وذلك بقولهم: (إن أول خطوات انتزاع السلفية المعاصرة من حالة السبات الوثوقي التي تعيش فيها هي أن نبين للمنتسبين لها حقيقة صلبة، وهي أن السلفي لم يحل مشكلة التنازع التأويلي للكتاب والسنة بأن يرد الناس لفهم السلف، والسبب في أن المشكلة لم تحل بذلك يعود إلى أن ضبط أقوال السلف ومقاصدهم وأحوال هذه الأقوال اتفاقًا واختلافًا ثبوتًا ودلالةً = يمر بالضرورة عبر الذات المتلقية الناظرة في كلام السلف. وبالتالي فإن أقوال السلف نفسها ستعاني نفس إشكالية التنازع التأويلي) [11] .. لمثل هذا التقرير قلتُ بأن هذه المراجعة التي يقدمها الكتاب هي من جنس سوابقها من المحاولات المناوئة للسلفية التي قدمت نظرات ناقدة للسلفية بكثير من السيولة المعيارية والانفلات المنهجي والانطباعات المرسلة، هذا التقرير من جنس التقرير القاضي بتجاوز ظواهر النصوص لكونها (تختلف عند القارئ نفسه بحسب أحواله وأطواره) [علي حرب، نقد الحقيقة: 6] .. أراد الكاتبان أن يطبَّا زكامَ خطابٍ فأحدثا به جذامَ منهج!

أما الشاهد الثاني فكان من نصيب الإمام أحمد، فقد أطلق الإمام أحمد وصف التجهم على من يقول: (لفظي بالقرآن مخلوق)، فاعترض الباحثان على ذلك، وقالا: (ورد فعل أحمد وجوابه غاية ما يمكن بعد تخطئته أن يُعتذر عنه، وأن تتم تخطئة إطلاقه للتجهم على القائلين بهذا القول دون تفصيل) [95]، ولم يكتفيا بالوقوف عند حدِّ هذا التخطئة الغافلة، بل أسرفا حتى وصفا الإمام أحمد من أجل هذا التعميم بالبغي وعدم العدل، وأن هذا البغي قاد بعد وفاته (إلى بغي واسع) [95]، وقرَّرا تحمُّلَ الإمام أحمد لمسؤولية بعض تصرفاته تجاه أهل البدع (التي أعانت بعد ذلك على تطور تيار الغلو الحنبلي في القرنين الرابع والخامس) [191].

يظن الكاتبان أن من التجرد للحق والبسالة البحثية أن تتخطى رقاب الأئمة وتأتيَ على مثل الإمام أحمد بهذه الشناعة، بل يأخذان على السلفية أنها لم تستطع (الرجوع بالتخطئة على موقف أحمد رحمه الله) [95]، وهذه المراهقة النقدية هي التي جرَّأت الكاتبَين على كثيرٍ من الخطل .. والمهم هنا أن الكاتبَين لم يتعاملا مع إطلاق الإمام أحمد حسب فلسفتهما التعميمية، بل حاكما إطلاقه واعترضا على عدم تفصيله، وتعاملا معه بما يرونه خطأً وعجمةً لسانيَّةً.

وأما الشاهد الثالث فراح ضحيته الإمام البربهاري، فقد أورد الكاتبان قول البربهاري: (إذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده، ويريد القرآن، فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة، فقم من عنده ودعه) .. ثم انتقداه بما حاصله غَلَطُ إطلاقِ هذا التوصيف من البربهاري، إذ كيف يطلقه وقد يكون الباعث على رد الأثر باعثًا صحيحًا؟ ومن ضمن ما جاء في نقدهما لهذا الإطلاق قولهم: (لم يشترط البربهاري في معيارية ذلك الأثر شرطًا، كأن يكون صحيحًا، أو مشهورًا، أو مقبولًا، أو مجمعًا عليه، أو عن الفرق بين الأثر الذي هو حديث نبوي، أو الأثر الذي هو قول صحابي، أو من بعده، أو أحمد، أو غيره من أهل الحديث) [114].

هل يُعقَل أن يريد البربهاري بمقالته تلك ما يشمل الأثر الضعيف، أو الاحتجاج بقول كل عالم مثلًا؟!

وهل انتقاده بمثل هذا إلا عجمة لسانية أفرزها سياق الحط على معمار البربهاري؟!

هنا يغيب أنَّ نقدَ التعميماتِ عجمةٌ لسانيَّةٌ، وأنَّ من فصيح الكلام وجيده الإطلاقَ والتعميمَ عند ظهور قصد التخصيص والتقييد!

واستطرادًا أقول: الخطاب الما بعد سلفي الذي يتخذ من وظيفة مؤرخ الأفكار جُنَّةً لأساليبه العجاف في التعامل مع العلماء قديمًا وحديثًا يتحدَّث عن البربهاري بسياقٍ لا يخرج به قارئ الكتاب إلا بالتقليل من شأن هذا الإمام الذي جدَّ في نصرة السنة، قارِن مجموع كلامهم عنه وطبيعة خطابهم وتناولهم لهذا الإمام بالخطاب الذي قدَّمه سلطان العميري في مقالته المنشورة على الشبكة بعنوان: "تعقبات على كتاب شرح السنة للإمام البربهاري"، حيث اتخذ من العلم والأدب عُدَّةً لكتابته النقدية لكتاب هذا الإمام، ثم ختم مقالته بتقرير أن الأخطاء التي وقعت في كتاب هذا الإمام مما يجب إنكاره وبيان خطئه، ثم قال: (ولكن هذا لا يعني اتهام الإمام البربهاري، أو القدح في عمله أو دينه، ولا يبرر لأحد أن يتطاول عليه، أو لا يلتزم بالأدب معه، وإنما غاية ما يدلُّ عليه بيان الخطأ ولزوم إظهار مخالفته لمقتضيات النصوص الشرعية، مع حفظ حقوق الإمام البربهاري، ومراعاة مكانته وقدره وجهوده) قارن هذا بخطاب يصف تقريرات البربهاري أنها (بطريقة أو بأخرى محاولة تشكيل جيتو حنبلي، ومجتمع يتسم بالنقاوة والطهورية الاعتقادية) [113].

أما الشاهد الرابع فيتعلق بتقييم الخطاب الصحوي وتصوره عن الغرب، وهنا تذهب فلسفة التعميم غير المستغرق ولا الغالب إلى الفناء، حيث يقدِّم الكاتبان نظرة نقدية للتصور الصحوي عن الغرب، ويصفانه لذلك بعدم معرفة الآخر، وإذا نظرنا في محصلة نقدهما وجدناه مجرَّد نقدٍ جافٍّ لتعميمات، فهما ينتقدان الخطاب الصحوي الذي يرى المجتمعات الغربية وضعيةً لا روحانيةً، منحلةً أخلاقيًّا، وينتقدان هذا التصور الشامل لـ (النواميس غير المضبوطة بضابط) [587]، وفي خصوص الانفلات الجنسي يعترضان على الخطاب الصحوي بأن (ذلك ليس صفة أصيلة في كل الغرب، ولا في النماذج المركزية فيه) [588].

فإذا كان الانحلال الخلقي سائدًا في المجتمع الغربي فما الذي يمنع من توصيفه بذلك، وكيف يُعترض عليه بأن هذا ليس منطبقًا على كل الغرب، وأين هي طبيعة التقييم التعميمي الما بعد سلفي من هذا النقد للخطاب الصحوي؟

لمثل هذه الشواهد قيل بأن فلسفة التعميم تلك ليست منهجية، وإنما أتت لغرضٍ وظيفيٍّ يضفي على الظلم تأويلًا، ويجرِّئه على البغي، من جنس قول الكاتبَين: (السلفي يُنزِل كل ذنب في الدين بمنزلة أعظم ذنب فيه، فالحليق والمدخن والمقصرة في حجابها، كل هؤلاء عنده من نفس جنس المنافقين والزناة والسكارى، إن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال) [600]، وهما إن تخلصَّا من هذه المهاترة الصحفية بأنهما يعنيان نمطًا سائدًا وإن لم يكن مستغرقًا ولا غالبًا، فللمعادي لأهل الإسلام أن يقول بأن المسلمين سُرَّاقٌ، قتلةٌ، وظَلَمة، وما شاء وراء ذلك، فإذا ما عُورض قال: أنا إنما أتحدث عن نمط سائد غير مستغرق ولا غالب! ولا شك أن كثيرًا من المسلمين تنطبق عليهم هذه الصفات، فكيف المخلَصُ من ذلك؟

ثم إن فلسفة التعميم هذه إذا كانت تبيح للخطاب الما بعد سلفي أن ينقد السلفية اتكاءً على كثيرٍ غير غالب، ففي المقابل ربما أتانا كاتبٌ تبجيليٌّ بذات المنهج ليمدحها اتكاءً على الكثير المقابل، وها هنا تكون صورة الواقع تبعًا لهوى الناقد، فهذه الفلسلفة التعميمية - على فرض صحتها - لا تعين على إحكام رسم صورة المشهد، بل هي أداة للانتقاء بين كَثرتين!



ثالثًا: التناقض الوظيفي

كما تناقض الخطاب الما بعد سلفي تقييميًّا، ودلاليًّا، فقد تناقض وظيفيًّا، فتارة نراه يتعامل مع المفاهيم بصفته مؤرخًا للأفكار، وثانيةً بصفته فقيهًا، وثالثةً بصفته فيلسوفًا، وأمورًا بين ذلك كثيرا.

(في هذا الكتاب نؤرخ للأفكار ونحللها) [11] .. هذا أولُ تمثُّل وظيفي للكاتبين يقرران فيه أن وظيفتهما تأريخ الأفكار وتحليلها، ويلحُّ الكاتبان على بيان وظيفتهما هذه في كثير من المواضع، فمثلًا حين تحدَّثا عن معيار الخروج من إطار السلفية المعاصرة، واستعارا من الشاطبي ضابطًا لذلك، عادا ليؤكدا للقارئ أن عملهم هذا ليس حكمًا قيميًا: (ونؤكد مرةً أخرى: هذا التصنيف معرفيٌّ وليس عقديًّا، بمعنى أن الغرض منه هو الفصل المعرفي بين السلفية المعاصرة وبين التيارات الأخرى، والذي لا بد لمؤرخ الأفكار من القيام به، وليس نفيًا لشرف النسبة لعقيدة السلف ومنهجهم عن غير السلفيين) [74] .. وحين تحدثا عن ابن تيمية وذكرا أنه يشكل فارقًا بين مرحلتين قالا: (هذا حكمٌ معرفي وموضوعي بغض النظر عن الحكم القيمي على هذا التغيير أصلًا) [157] .. وعن مدى صحة تمثل ابن تيمية لمذهب السلف يقول الكاتبان: (لن نعتني هنا بتحرير هذه القضية، فليست موضوع بحثنا، لكننا نريد هنا معالجة القدر الذي يفيد في فهم تطور السلفية، وعلاقة هذه التحققات التاريخية بالتحقق الأخير) [160].

هذه جملةُ مواضعَ بيَّن فيها الكاتبان طبيعة وظيفتهما في الكتاب، فهل التزما بها؟ للجواب عن ذلك مقامان:

الأول: أن واقع الكتاب يشهد أن الكاتبين لم يلتزما بذلك، بل تأرجحت وظيفتهما وتناقضت، فكثيرًا ما يبدي الكاتبان حكمًا قيميًّا على المفاهيم المبثوثة، بل ربما كان هذا هو الغالب، فلم التوكيد في مواضع على كون وظيفتهما تأريخ الأفكار؟ يجيب عن ذلك:

المقام الثاني - وهو المهم -: أن هذا التناقض تناقضٌ موجَّه، فالباحثان في كثيرٍ من المباحث المركزية التي تشكِّل كبرى المفاهيم السلفية يلبسان جُبَّة الباحث المؤرخ الذي لا يلتفت لنقد ما يقوله الناس، لكن في المباحث المتعلقة بعرض النتاج السلفي يتحول هذا المؤرخ البريء إلى ناقدٍ شرسٍ.

مارس الكاتبان تقويمًا عريضًا للتحقق السلفي الوهابي، وأسرفا في نقده، وجعلا من الممارسة الوهابية مرجعًا أساسيًّا من مراجع الغلو، في ذات الفصل، وفي سياق حديثهما عن التكفير بالاستغاثة بغير الله والتأسيس الوهابي لهذا التكفير يتساءل الكاتبان: (هل يمكن القطع بإثباته للسلف، وبالتالي يكون معتقدًا سلفيًّا ويُخرج المخالف فيه من السلفية؟ الجواب: ليست هذه وظيفة مؤرخ الأفكار، وإنما هذا بحث الفقيه والكلامي) [178]

وفي مدى صدقية تمثيل أهل الحديث للصحابة في أبواب التوحيد القدر يقول الكاتبان: (إذا اعتبرنا أننا في هذا الكتاب نؤرخ للأفكار ونحللها فقد انطلقنا من مسلمة أن أهل الحديث في أبواب التوحيد والقدر أصدق تمثيلًا للصحابة ومنهجهم من الأشاعرة والماتريدية، وهي مسلَّمةٌ لا يهم إن كنا نرى على المستوى الذاتي صحتها من عدمه، فنحن نسلِّم بها هنا تنزُّلًا) [11].

فاعجَبْ حين يستعرض الكاتبان آحاد الأدلة ويُعمِلان النظر في تزييفها في مسائل جزئية، ويمرَّان في قضية تمثيل أهل الحديث للصحابة، ومسألة تكفير المستغيث بغير الله تعالى مرورَ استحياءٍ منزوعَ الرساليَّة!

يبلغ التجافي عن الوظيفة التأريخية حدًّا ينص فيه الكاتبان على أن إظهار الخلل السلفي من مقاصدهما، فأين هو التجافي عن الأحكام القيمية؟!

يقول الكاتبان: (... ونقد هذه الفكرة ليس فقط يفيد من ناحية بيان الخلل الحاصل في تصور إصلاحي عند فصيل من فصائل السلفية المعاصرة، ولكنه أيضًا يظهر الخلل الحاصر في التكوين المعرفي للاتجاه السلفي، كما هي خطة هذا الفصل كله) [557] .. وحين حديثهم عن برنامج السلفية وجهاز أجوبتها قالا: (نرمي من خلال استعراضها ونقدها الكاشف عن خلل كثير من مبانيها إلى الكشف عما نعتقد أنه سيكون سببًا فيما نعتقد أنه سيكون أفولًا للسلفية المعاصرة، عن طريق فشل أجوبتها الثقافية - العلمية -، وغير الثقافية - الحركية والقتالية - ...) [432].

مؤرخ الأفكار في الخطاب الما بعد سلفي إذًا ليس مجرَّدَ ناقلٍ أمينٍ للمعلومة، بل رأيناه يعيد تركيب المشهد، وينهض لتقييم تفاصيله وجزئياته، وهذا ما حَفَز لاختبار محاولة التركيب هذه، ليكشف لنا الاختبار عن خللٍ بالغٍ على مستوى التصورات والتقييمات، خاصةً وأنَّ هذا الخطاب يتحدث عن مشهدٍ كبيرٍ جدًّا، يتمدَّدُ في بلدان كثيرة، ويعود لأزمنة ممتدة، وله أنشطة وعقول واتجاهات، كلُّ هذا يجعل أيَّ تأريخ له معرَّضًا للاختزال والانتقاء بحسب رغبات المؤرخ، وإن تظاهر بالحياد.

******



أزمة التقييم

كان لتقييم الكاتبَين عدة مظاهر توزعت بين أروقة الكتاب، لم يكن التقييم فيها منساقًا في أوعية ضابطة، ولا جاريًا على سنن المنهج، ولا العدل، بل جاء بصفته أزمةً من أزمات النظر النقدي الذي تمثَّله الخطاب الما بعد سلفي .. ولهذه الأزمة تمثلاتٌ تتعلَّق بتقييم المنجَز تارةً، وتقييم الأفراد والجماعات تارةً أخرى، وفيما يلي كشفٌ لهذه التمثُّلات:



أولًا: اختزال المنجَز

كان من المفترض أن يكون الكتاب عدلًا في تقويمه ما دام يدَّعي كاتباه أن مهمتهم فيه تأريخ الأفكار وتحليلها، فهذا يستلزم منهما اتزان النظر في جانبَي المدح والقدح .. بدهيٌّ أنه ليس بشرطٍ أن تكون الصفحات موزعة عليهما بالتساوي، بل العدل أن ينال كلُّ جانب حقَّه من النظر .. لكن واقعَ الكتاب يدعم ما تفترضه هذه الورقة من أن ما سيطر على عقل الكاتبين من انتقاص السلفية كان هو المحرِّكَ الأكبرَ لمادة خطابهم.

يُستدلُّ على ذلك بأن الكاتبَين حين اتجاههم لحقلٍ نجد عبارتهم تتسع للنقد وتضيق جدًّا عن الثناء والاعتراف بالمنجَز وإن كان جليلًا، ولذلك شواهد:

أمَّا الأول فمعلومٌ أن الاشتغال السلفي في علم الأصول شهد ضمورًا كبيرًا بين طلابه وعلمائه، وذلك مُدرَكٌ حين نرى واقع النشاط التأليفي الحر والبحث الأكاديمي والدروس العلمية، وهذا يقرُّ به السلفيون أنفسهم قبل غيرهم، بل بلغ الحال بكثيرٍ منهم إلى أن زهَّد في العلم نفسه، ولذلك أسباب عدَّة [انظر بعضها في: استدلال الأصوليين بالكتاب والسنة على القواعد الأصولية لعياض السلمي: 6]، وهذا حين يوصف فبقدرٍ من التعقُّل دون إسراف نقدي يزعم معه الكاتبان أنه (ليس هناك اهتمامٌ سلفيٌّ حقيقيٌّ بأصول الفقه، تلك الحقيقة الراسخة الأولى التي يصح معها أن نسائل العنوان نفسه سؤالًا وجوديًّا، عن مدى وجود اشتغال سلفي بأصول الفقه أساسًا؟) [289]، ودون مماحكة استعلائية تتحدث عن مثل ابن عثيمين بأن (في بعض مباحثه الفقهية ما يشي باطلاعه الأصولي إلى مستوى "روضة الناظر" لابن قدامة)! [293].

فمع ما عانته السلفية من ضعف الاهتمام بأصول الفقه، فإن ذلك لا يعني مدَّ النقد ليبلغ التساؤل حول وجود اشتغال سلفي في الأصول أصلًا، بل الشأنُ أن يُقال بأن هذا الضعف وإن كان متحققًا، لكن شواهد الواقع خلال السنوات الماضية تُرشِد إلى أن الاهتمام السلفي بعلم الأصول يتصاعد شيئًا فشيئًا، إنْ على المستوى البحثي، أو التدريسي، وكذلك النشاط الأكاديمي، شأنُه في ذلك شأن سائر العلوم التي نرى السلفية تمدُّ النظر فيها وتسعى في النهضة بها، سواء في ذلك ما كان من علوم الآلات أو الغايات.

سطحية التعامل هذه حين تعرض عن الحفر في الإشكالات المعمَّقة في التداول السلفي الأصولي، وتتجاوز السؤالات المنهجية المطروحة عن مدى فاعلية أصول الفقه في الاستثمار الفقهي، ومدى نجاعة الاستغناء بالمعالجات الفقهية عن المدونة الأصولية ما دامت تبحث غالبًا عن أصول مقدَّرة في الأذهان، وهل يمكن تجريد أصول للسلف تباين المناهج الكبرى الممثِّلة للمدارس الأصولية المشحونة بالكلاميات، هذه وغيرها من الإشكاليات لا تنال حظَّها من النظر، لأن خطة هذا الفصل هو إظهار الخلل، لا الدراسة المنهجية للإشكاليات الحقيقية عرضًا ونقدًا.

بعيدًا عن هذا، فالخطاب الما بعد سلفي يلحظ تناميًا في الاشتغال السلفي الأصولي، لكنه لا يعطي لهذا الاشتغال المتنامي سوى ثلث صفحة من أصل عشرين يقول فيها: (ثم عرفت السعودية في الربع قرن الأخير نشاطًا أصوليًّا متمثلًا في أقسام أصول الفقه في جامعاتها، والتي أنتجت أقسام الدراسات العليا فيها عددًا هائلًا من رسائل الماجستير والدكتوراه في موضوعات أصول الفقه المختلفة، مع الاشتغال بتحقيق كتب أصول الفقه الحنبلية بالدرجة الأولى) [293] ثم يمضي سريعًا، بلا إضفاءِ أثرٍ لهذا الواقع في تقويم الاشتغال السلفي.

ألم يكن الحقيقُ بدراسةٍ تتناول واقع السلفية الحالي وتنظر في عوامل أفولها أن تسلط النظر على الواقع ولا تستغرق في التاريخ؟ أليست هذه صورة عكسية حين يقوَّم الاشتغال الأصولي ويُعطى نتيجة متدنية بمعيار منقلب لا يعطي الواقع الذي تعيشه السلفية سوى إشارة عابرة؟

وقبل أن أنتقل إلى الشاهد الثاني أذكر أنه لا حاجة حين تقويم مستوى الاطلاع الأصولي للعلامة ابن عثيمين أن يُبحث في بعض مباحثه الفقهية عن بعض اختياراته الأصولية لنقف على فتحٍ جليلٍ مفاده أن في بعض أبحاثه ما يشي إلى أن مستوى اطلاعه يبلغ روضة الناظر!

فزيادةً على ما في هذا التعبير من لوثة استعلاء، فهل من رعاية المنهج واحترامه أن يُستنتج الاطلاع الأصولي لابن عثيمين من خلال كلامه في مسألة الإسبال ويتم الإعراض عن كتبه ودروسه الأصولية!

هل من المنهج أن تتم ملاحقة "نهاية المطلب" للجويني ليُنظر في مستوى اطلاعه الأصولي ويُعرَض عن "البرهان"، أو يُنظَر في ذخيرة القرافي بحثًا عن ما تناهت إليه نهمته الأصولية دون التفات بـ"نفائس المحصول"؟!

هذا الاستلقاء البحثي لو أنه قام بمراجعة كتب الشيخ: الأصول من علم الأصول، وشرحه له، وشرحه الصوتي لمعاقد الفصول، والمكتوب لمختصر التحرير، وغيرها = لخرج بنتيجةٍ أكثرَ تعقُّلًا، وقد كان أيسرَ للكاتبَين أن يطالعا فهرسَ المراجع الذي ألحقه الشيخ بكتابه الأصولي الذي ألفه للمعاهد العلمية ليجدوا أن مراجعه تضمُّ: (شرح مختصر التحرير، منهاج الوصول للبيضاوي وشرحه، شرح جمع الجوامع للمحلي مع حاشية البناني، روضة الناظر لابن قدامة مع شرحه لابن بدران، المسودة لآل تيمية).

الشاهد الثاني على اختزال المنجَز أن الكاتبَين لما عرضا للاشتغال السلفي الفقهي في 71 صفحة [310-381] اعتنيا بتأريخ هذا الاشتغال، ونفخا في نقده مع إعراضٍ شبهِ تامٍّ لمنجزاته، فالمنجَز كعادته لا يأتي في صلب المادة، بل إنما يأتي - إن أتى - استطرادًا، وهذه المرة أتت الإشادة مرتين، كلُّ مرة في نصف صفحة، ليكون مجموع المنجز صفحةً من إحدى وسبعين صفحة!

أما المرة الأولى فكانت المنجَزُ فيها غريبًا إذا ما قيس بالجهود التي سُلِّط عليها النقد، وذلك حين كان المنجَزُ عبارةً عن دورات في الفقه الحنبلي، وموضوعات إنترنتية، وبعض الدروس المحلاة باسم الملكة الفقهية، وأنا أُعرِض عنه هنا، لأنه مدحٌ بما يشبه القدح، ففاتنا إذًا من هذا المجموع نصف صفحة، وبقي النصف الآخر، وهو المتمثل في قولهم: (ونشير هنا إلى نهضة فقهية سلفية فيما يتعلق بفقه المستجدات الفقهية عموما وفقه المعاملات المالية المعاصرة خصوصا، وقد ساعدت عليها حاجة سوق المصرفية الإسلامية الخليجية للتأصيلات الشرعية، وقد برزت عدة أسماء سلفية في هذا المجال، نذكر منها [عبدالرحمن بن] صالح الأطرم، وسعد الخثلان ويوسف الشبيلي من السعودية، وعلي السالوس من مصر، والحقيقة أن المشاركة السلفية في هذا المجال تعد مشاركة مميزة وفعالة، تجاوزت كمًّا وكيفًا جهود الأزاهرة المصريين وتلامذتهم من الفقهاء المنتسبين للإخوان المسلمين، ليكون الجيل الثالث من الإنتاج الفقهي المؤثر في ساحة المستجدات الفقهية والمعاملات المصرفية = سلفيًّا بصورة ظاهرة) [377] ثم مَضَيا!

وما تقدَّم في الشاهد الأول يُساق هنا، إذ كيف والحال أن الكتاب يبحث في توصيف السلفية المعاصرة، يستغرق في مرحلة مضت، ويسلط نقده عليها، ولا يَهَب المنجَز الحاضر شيئًا.

ثم إن هذا المنجَزَ ليس منجزًا متواضعًا يُشار إليه في بضعة أسطر، فأولًا هو يرفع عن السلفية التهمة الجائرة بالعجز الفقهي التي رماها الكاتبان على السلفية والتي استظهرا أن من أسبابها نشأة هذا الفقه (في طوره الحديث في أجواء البداوة النجدية)! [375] - هذا الاستجلابُ الضامرُ لمفهوم البداوة في توصيف الفقه الإسلامي شائعٌ في المدونات الحداثية والكتابات الصحفية - ولكنه لا يكفي لرفعها عند الكاتبَين، وثانيًا فإن البحث في المعاملات المالية المعاصرة يمثِّلُ عَصَب الفقه المعاصر، حتى صارت أنظار الفقهاء فيه مناهجَ ومدارسَ، ومع ذلك لا ينال من هذا الكتاب سوى نصف صفحة، ولك أن تقلِّب النظر في علل ذلك.

أمَّا الشاهد الثالث فكان من نصيب البحث في الإصلاح الثقافي عند السلفية، فمع هذا التنامي المشاهَد في اهتمام السلفية بالإصلاح الثقافي إلا أن إظهار الخلل الحاصل في التكوين المعرفي للاتجاه السلفي يمثل (خطة هذا الفصل كله) [557]، وبالتالي فالحديث عن المنجَز ولو كان هو الواقع الحالي للسلفية ليس بذي بال، بل يأتي استطرادًا أو إشارةً، وعلى ذلك سار البحث في الإصلاح الثقافي، فقد تسلَّط هذا المبحث على التقليل من شأن الإصلاح الثقافي السلفي بعامَّة، مع تحديد عطاء محمد قطب وسفر الحوالي كعينة مجهرية، ويتمُّ الغضُّ عن المنجَز الحالي إلا بإشارة عابرة مفادها: (من الصحيح أنه نشأت مؤخرا هبة جديدة من الشباب السلفي تسعى لتجويد أدواتها المعرفية في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وحتى العلمية، بالإضافة لاطلاعها على واقع عصرها، وصاحب ذلك تأسيس العديد من مراكز الأبحاث الجديدة، ولكن الطريق ما زال طويلًا أمام هذه الجهود حتى يكون نتاجها نتاجا قادرا على مضارعة نتاج العلمانيين في تلك المجالات، ولكن الخطوة في نفسها مقبولة ومطلوبة بلا شك) [574].

أن يكون الطريق ما زال طويلًا فهذا أمرٌ لا علاقة له بالتقويم المجمل للسلفية، فالشأن أن هناك هبَّة جديدة ترتفع بهذا الإصلاح رتبة، وهذا ما يتعارض مع نزوع الكاتبَين إلى ملاحقة الخلل وجعله لوحده عنوانًا على مآل السلفية المعاصرة.



ثانيًا: إعادة تأويل المنجَز

هذه السمة تعني إعادة تأويل المنجَز القائم بما يخرجه عن أن يكون مكتسبًا سلفيًّا .. ومن شواهده أن الكاتبَين حين تحدَّثا عن الاشتغال السلفي بعلوم العربية، وبيَّنا تواضع الاشتغال السلفي بعلوم العربية بما يصل إلى حدِّ الهجر لبعضها، ذكرا أن السلفيين (يعتنون بدرجة ما بالنحو، ثم بدرجة أقلَّ بالبلاغة، ثم بدرجة أقلَّ جدًّا بالصرف) [382]، ومع كونهما لم يرفعا من شأن الاهتمام السلفي بالنحو، بل هو اهتمامٌ (بدرجة ما) فقط، إلا أن ذلك أثار حفيظة النقد لديهما، فكان أن أُعيدَ تأويلُ هذا الاهتمام ليتعلق بتجنب اللحن فقط، وعن ذلك قالا: (وربما يفسر الاهتمام بالنحو أمران: النشاط السلفي في مجال حفظ القرآن، والقراءات، وهذا يساعد على تقويم اللسان من جهة، ويدفع لدراسة النحو لتجنب اللحن من جهة أخرى .. والنشاط السلفي الدعوي الذي الدعوي الذي يقبح فيه بالخطيب أن يلحن في الخطبة كثيرًا) [382].

إذًا فالسلفيون لم يعتنوا بالنحو إلا لاشتغالهم بحفظ القرآن، والقراءات، ولئلا يزلَّ لسانُ خطيبهم فيلحن كثيرًا .. فأين هو فقه الوحي؟!

يأتي هذا التفسير في ضمن السياق التحقيري العام الذي استبطنه الكاتبان في تقويم الاشتغال السلفي بالعلوم والمعارف، فحتى هذا الذي يلهج به شيوخُ السلفية مفتتحَ دروسهم النحوية بأن الغرض الرئيس من تعلم النحو هو فهم الكتاب والسنة = لم يقنع به الكاتبان، ليستقيم لهما معمارهما النقدي للاشتغال السلفي المعرفي.

وفي صورة باردة من صور إعادة تأويل المنجز قرر الكاتبان أن السلفية المعاصرة تعيش خصومات أحمد وابن تيمية، وذكرا أن هذا مفارقٌ لما كان عليه الشأن في الأمر الأول من كون العقيدة عقيدةً يحياها الإنسان لا كما تحول الأمر منذ طبقة أحمد وإلى طبقة ابن تيمية من جعل العقيدة موضوعَ درس وسجال.

(ما بين العقيدة كحياة، والعقيدة كعلم) [97] يستفتح الكاتبان بهذه العبارة مبحثًا يبينان فيه أن العقيدة كانت عقيدةً يحياها الإنسان، فلم يكتب الصحابة رسائلَ فيها ولا عقدوا دروسًا عنها، ولا تأتي العقيدة كعلم إلا كشذرات حول سؤالات هنا وهناك، حتى أتت فتنة خلق القرآن، فـ (دفع الإمام أحمد بالسجال الكلامي إلى ذروته) [98]، ثم أتى ابن تيمية وقسَّم (الكلام والجدل إلى محمود ومذموم، وأنشأ معمارًا كلاميًّا بمنطلقات سلفية، ليكمل ما افتتحه أحمد) [99] .. وهكذا يظهر هذان الإمامان بهذه الصورة التي تبتعد بالعقيدة عن حاقِّ موضعها، ويُساق الكلام وكأن الإمام أحمد انتقل بالعقيدة لتكون محلَّ نزاع معرضًا عن أن تكون حياة يحياها الإنسان، كان الواقع العقدي حياةً فاعلةً حتى جاء الإمام أحمد ليحول بسجاله العقيدةَ من كونها حياةً فاعلة لتكون سجالًا ومجادلة، ويأتي ابن تيمية ليكمل ما افتتحه أحمد!

يتحاشى الكاتبان تقييم ذلك (وبعيدًا عن مسألة هل كانت الظروف تستدعي ذلك أم لا) [99]، ويختمان المبحث بأنه لا ينبغي أن نتعدى في خطابنا المجتمعي إلى النزاع الكلامي (إلا إن انتشرت الأهواء الكبرى بين العامة وكان ميزان الصلاح والفساد يوجب الدخول في هذا الباب، والمفاصلة المصلحية على أساسه) [100]، وهل كان صنيع الإمامين إلا ذلك؟ فلم الإعراض صفحًا عن تقييم نوعية السجال التي بلغاها، وسياق المبحث وكأنَّ نكسةً في التعاطي العقدي قد جنتها أيديهما؟!

وإيغالًا في هذا السياق الأجوف يعود الكاتبان بشائبةِ تهوينٍ من شأن غالب المنجز العقدي التيمي، وذلك بقولهما في سياق حديثهما عن ابن تيمية:(تحول الاشتغال العقدي درسًا وسجالًا حتى أصبح مركز مشروعه، وحتى كتب في ذلك ما نحسب أن لو اختصره إلى الربع لما كان ذلك تقصيرًا في البيان، ولعل ما حكي من أنه ندم في آخر عمره على اشتغاله بغير القرآن يرجع لهذا الباب) [99]، فهذا الندم التيمي يتم تأويلُه وصرفُه من سياقه العفوي ليكون واقعًا على ثلاثة أرباع المنجَز العقدي!

كان ابن تيمية واعيًا بوزن عطائه العقدي، الذي كان يناقش فيه أعتى الفرق العقدية في زمنه، ويلبِّي فيه حاجات أهل زمانه ويجيب على السؤالات الواردة عليه من أمصار المسلمين، تدمر وواسط وغيرها، ولم تكن مؤلفاته العقدية رسالةً جامعيةً حشاها صاحبها بالمتطلبات الأكاديمية حتى يرى الخطابُ الما بعد سلفي أن ثلاثة أرباعه مما يُندَم على الاشتغال بمثله!

هذا، ومن العجب أن يَصدُرَ النقد بمثل هذا ويُـمَدَّ ليجعلَ أصلُه خطابَ الإمام أحمد مرورًا بابن تيمية وانتهاءً بالسلفية المعاصرة، من العجب أن يصدر ممن كتب (اختلاف الإسلاميين، الدرس العقدي العاصر، ما بعد السلفية)، ولكأنَّ هذه المنجزات تُقدِّم رؤيةً إيمانيَّةً تجعل من عقيدة الإنسان حياةً يحياها يلتئم فيها العقل والقلب والحس الوجداني!

فبدلًا من الدَّأب على ما يعيد الناس إلى الدين الأول، يأتي مثل هذا الخطاب بهذه السمات ليزيد من دائرة الجدل، ويطيل طريق الإصلاح، فأين تلك (الأوزان النسبية) التي لم يكن من الصواب في نظر الكاتبين أن تُعطيها السلفية المعاصرة لـ (خصومات أحمد وابن تيمية) [99]؟



ثالثًا: الإعراض عن المنجز

المنجَز بعد التسليم بوجوده إما أن يُختزَلَ القول فيه، أو يُعاد تأويله بما يخرجه عن كونه منجَزًا، وثالث الطرق أن يتم الإعراض عنه كأن لم يكن، ولا يسلم من هذا إلا القليل.

وثمة شواهد على هذا الإعراض:

منها: إعراض الكاتبين التام عن الاشتغال السلفي النوعي في حقل الدراسات القرآنية الذي امتدَّ أثره على مستوى الأبحاث، والرسائل الأكاديمية، والدروس العلمية، والندوات والمؤتمرات المحلية والعالمية، وهذا الإعراض مع هذه النهضة العلمية التي يشهدها هذا الحقل المعرفي على مستوى الأفراد والمؤسسات يعسر تفسيره بغير ضمور النزاهة النقدية التي تمثَّلها الكتاب.

ومن شواهده في جانب الإصلاح الثقافي: وقوفُ الكاتبين عند محمد قطب وسفر الحوالي مع الإعراض عن النتاج السلفي الثقافي الآتي بعد ذلك على مستوى الأفراد والمؤسسات، وكان الوجهُ أن يُعتنى باليوم السلفي دون الاستغراق في أمسِه، اكتفى الكاتبان بإشارةٍ عجلى لهبة بحثية لمراكز سلفية، وقد تقدم ذكر ذلك، وأما الأفراد فأعرض الكاتبان عن شخصيات محورية في العطاء الثقافي المعاصر، ولعل أجلى مثال لذلك يتمثَّل في الإعراض عن إبراهيم السكران، الذي يمثِّل نقلةً نوعيَّةً لطبيعة الخطاب السلفي المعاصر ومستوى عطائه في الحقل الفكري والثقافي، كما نلحظه في كتابه "التأويل الحداثي للتراث"، وغيره من الكتب والأبحاث والمقالات، لكنَّ هذا المنجَزَ النوعيَّ لا يحظى بحضورٍ يوازي تأثيره حين تقييم الإصلاح الثقافي عند السلفيين.

ومن شواهد الإعراض ما يتعلق بقصة الحضور والغياب للأعلام والمواقف بحسب الأغراض المضمرة التي تحرِّك الدراسة ذات اليمين وذات الشمال، بوعي أو بلا وعي تبعًا لمدى سلطة فكرة تأفيل السلفية وغلبتها على مزاج النقد عند الكاتبَين، القصة التي سبق تفصيل أحداثها في مقالة (الاشتغال السلفي الفقهي على شاشة ما بعد السلفية).



رابعًا: النقد الانطباعي

كثيرًا ما يأتي النقد في الخطاب الما بعد سلفي انطباعيًا غير متدثرٍ بمنهج، مضمَّخًا بنبرة استعلاء غير محمودة ممن يتصدَّى لعملية الإصلاح الدينيِّ عامَّةً، والسلفيِّ خاصةً.

طلبةُ العلم السلفيين في نظر الكاتبَين (يتسمون بالفقر الكامل في علوم الآلة والفقه المتني القديم) [647]، والكتب والمتون الفقهية (لا يفهمها أغلب السلفيين) [373] .. وهناك عسر شديد (يصل إلى حد التعذر في الاطلاع السلفي على كتب الفقه المذهبية التقليدية متوسطة الصعوبة ككتب الشربيني الشافعي والموصلي الحنفي مثلًا) [375] والعلم بالعربية، والآثار، والإجماع والخلاف (جميعها يفتقر إليها الاشتغال السلفي في الفقه) [363]، و(السلفية تبنَّت دعوةً دون امتلاك آلاتها) [357]، وإذا كان مقبل الوادعي قد أخذ النظرية الحزمية الظاهرية مع فقر مدقع من الأدوات العلمية، فهذا (قريبٌ من إشكالية السلفية النسقية عمومًا مع ابن تيمية) [354] بما يعني أن السلفيين قد أخذوا النظر التيمي مع فقر مدقع في الأدوات .. هكذا يأتي النقد مرسلًا انطباعيًّا في الخطاب الما بعد سلفي.

وعن فهم ابن تيمية، فقد سئل عمرو بسيوني أحد مؤلفَي الكتاب في صفحته ببرنامج "الآسك" عن أبرز من يراه من المشايخ المعاصرين ضبطًا لكلام ابن تيمية، وفهمًا له، وتطبيقًا لأصوله، فأجاب: (الغفيص، والحوالي، وعبدالباسط الغريب، وسلطان العميري، وأحمد سالم، والفقير)، وهذا الجواب أستحضره هنا لا إقرارًا به، ولا مزاحمةً له، ولكن ليُستعان به على تحليل طبيعة الكاتب الذي كان من وصفه ووصف صاحبه للسلفيين ما سُقته، والعلم أرزاق.

وعلى مستوى الأعيان نجد أحكامًا تقويميَّةً مرسلةً لمستوى الألباني، وابن عثيمين، وابن باز، وغيرهم .. فابن باز يغلب عليه الترجيح (في إطار الأدلة القريبة) [371] وهو إنما (يملك أدوات علمية معقولة فقط، بحيث تدخله في زمرة الفقهاء) [473]، وابن عثيمين يتسم بجودة الأدوات الفقهية (نسبيًّا) [344] (مقارنةً بأقرانه) [331]، واختياراته هو وابن باز (ليست بالجدة التي تعد فيها اختياراتٍ تستأهل الدرس والاعتناء) [371].

والألباني أحد (أقرب الأطياف السلفية قربًا من النموذج التيمي في الاشتغال الفقهي) لكن (مع فقر الأدوات) [344].

وليس محلُّ البحث هنا في حسم مادة نقد الأعلام، لكن على أن تكون لتلك التقييمات اعتباراتٌ منهجيَّةٌ ترشِّد من مادة النقد المودعة في هذا الكتاب، تحترم العلم وتحفظ للموضوعية قدرها، لا بمثل هذه الصورة المجتزأة التي تقوم على ساق الانطباعية.

وهذا الأسلوب النقدي المتواضع يلقي في أرض قارئه بذور الاستهانة والاستطالة، التي لا تقف عند حد المعاصرين، بل يمدُّها لو شاء إلى أهل العلم المتقدمين، فربما طالعنا في قابل الأيام من ينظر نظرًا أحاديًّا يتخذ من الاختزال في النقد والتقويم منهجًا، فيقول بأن ابن قدامة في المغني مجرَّدُ جامعٍ لأقوال الفقهاء مع موازناتٍ عجلى حسب العلل القريبة والآثار المبذولة بلا عرضها على مشرحة النقد الحديثي، وصاحب الشرح الكبير مجرد منسقٍ فنيٍّ للمغني، ومشروع النووي في المجموع مشروعٌ خديج فزيادةً على عدم كماله فإن لا نرى فيه مناقشات عالية بل هو جارٍ مع نهاية الجويني وبيان العمراني مع أقوال الشاشي وابن سريج، وذكره لأقوال المذاهب الأخرى ليس بمحقَّق، وابن عبدالبر محدث يروي الآثار ويجمعها في الاستذكار على الموضوعات ويفرقها في التمهيد على الأسانيد، وابن تيمية ليس له بناء فقهي يشدُّ أولُه آخرَه، بل هي فتاوى مفرقة جمعت على غير قانون ثابت، مع تحريرات هنا وهناك، ومجموعة أقاويل تنقل بلا استدلال في كتب تلاميذه ... وهكذا إلى آخر ما يمليه منهج الاختزال النقدي من فساد لهيبة العلم وذائقة المتعلم.



خامسًا: البغي

وللبغي في خطاب ما بعد السلفية صورٌ وشواهد، فمنها:

الحكم على الفقه السلفي بالعجز، لكن لا بمجرد الحكم بذلك يكون الخطاب بغيًا، بل بالتركيب الآتي:

استفاض الكاتبان في بيان موقف السلفية من المشاركة السياسية والدخول في العملية البرلمانية، وذكرا أن مناطات القول السلفي بحرمة المشاركة (تجسيدٌ للخلل الفقهي السلفي الذي سبق الكلام وله، المفتقر للتحليل والتفصيل، المائل إلى البساطة والتسطيح، قليل التفعيل للنظر المصلحي) [413].

وإذا سرنا مع الكاتبَين لنقف على حقيقة هذا العجز، نجدهم قد ذكروا أن السلفية كان لها اتجاهان، مبيحٌ ورافضٌ، أما المبيح فخارجٌ من هذا العجز المدَّعى، لأن سبب التوصيف بالعجز ضمور المناطات المحرمة، فها هنا خرجت شريحة عريضةٌ من معرَّة العجز هنا .. يبقى النظر في الاتجاه الرافض للمشاركة، ونجد الباحثين يقرران أن لهذا الاتجاه طريقين في تقرير هذا المنع، الطريق الأول بناؤه على المصلحة، والكاتبان يرونه قولا فقهيا سائغا، والطريق الثاني التحريم المطلق لعلل ذاتية، والمناطات المذكورة هي: أنها تستلزم التلبس بالكفر (وهذا التعليل يجري على قواعد بعض السلفيين النجديين، ومقبل الوادعي الذي له كلام كثير في هذا، ثم الجهاديين بصفة أخص) [414]، والمناط الثاني أنها تستلزم مفاسد أخرى كالتحزب ومجالسة الكافرين. قالا: (وهذا المعنى مشترك عند كثير من رموز السلفية العلمية، بل هو الغالب حتى على رموزها كابن باز وابن عثيمين والألباني وغيرهم، وهذا فضلا عن المدخلية الذين يعدون الحزبية من أكثر وأوكد البدع انتشارا بين الدعاة)[422] .. ثم ساقا أقوالًا لابن باز وابن عثيمين وغيرهما على حرمة الانتماء للأحزاب، مع أن تلك النقول تخلو عن ربط هذا بالمشاركة السياسية، بل هي نقول تبحث مسألة منفكة عن الدخول في العملية البرلمانية، بل إن ابن باز وابن عثيمين ممن يرى جوازها، لكن هكذا قُدِّر للسياق أن يكون!

وعن استلزامه مجالسة الكافرين فهذا يقرره الجهاديون.

على ما مضى، فإن ما نفخ فيه الكاتبين من عجز فقهي إنما يتمثل في أحد قولَي السلفية .. بل في مناطٍ لأحد قولَي السلفية، لا يقول به إلا ندرة منهم، فلمَ البغي على الفقه السلفي حين يذكر الكاتبان أن هذا هذا التقرير (يأتي بمثابة التطبيق العملي لذلك التكوين العلمي حين يتم تشغيله في مواجهة الإشكالات الواقعية والتحديات الآنية بما ينتج علبة الأدوية السلفية: برنامج السلفية وجهاز أجوبتها، التي نرمي من خلال استعراضها ونقدها الكاشف عن خلل كثير من مبانيها إلى الكشف عما نعتقد أنه سيكون سببًا فيما نعتقد أنه سيكون أفولًا للسلفية المعاصرة عن طريق فشل أجوبتها الثقافية -العلمية-، وغير الثقافية -الحركية والقتالية- في تحقيق الفعالية في مواجهة الواقع وجذب الجمهور) [432].

ومن شواهد البغي المؤلمة التي لم نكن نتلقاها إلا من بنادق الحداثيين قولُ الكاتبين: (إن كلَّ حسابات التيار الإسلامي - التي يسميها تقليلًا للشر - هي حساباتٌ ماديَّةٌ) [506]، فهذه كلِّيَّةٌ جائرةٌ لم يُراع فيها القيام بموجب الحق من القول بالعدل والشهادة بالقسط واتقاء بخس الناس أشياءَهم، طَعَنا في حسابات الإسلاميين بما لا يجدر أن يصدر عن رجل يبغي للناس صلاحًا وهدًى.

لاذَ الكاتبان بالصمت في مواقفَ سياسيةٍ كثيرةٍ في لحظاتٍ حسَّاسةٍ مرَّت بها مصر أيام الربيع العربي لحسابات مصلحية شرعية قدَّراها، فهل يرضيان بأن يقال لهما بأن هذه مجرد حسابات مادية يبحثون بها عن مصالحهم الشخصية؟

وهل يرضيان أن يقال لهما: أنتما شجعان في التشنيع على العلماء والدعاة الناشطين في العمل الإسلامي الذين لا حول لهم ولا قوة، وتسكتون عمن بيده الأغلال؟

فإن كانا يأنفان من سماع مثل هذا، والحال أنها حساباتٌ في مواقف جزئية، فكيف تبغي ألسنتهم زاعمةً أن كلَّ حسابات التيار الإسلامي التي يسميها تقليلًا للشر حسابات مادِّية؟

أليست هذه الاتهامات الجائرة مما يتلظَّى لها الفؤاد، ويندى لها الجبين؟!

******



(ما نرجوه هو ما نؤكده دائمًا، وهو الانفتاح الواعي على المجتمع، ونشر الدين العام، والحق المحكم المؤثر في عمل الناس، مع الاشتغال بتطوير الأدوات والأسس المعرفية، وبذل أقصى الجهد لمعرفة الدين الأول لذي بعث الله به نبيَّه صلى الله عليه وسلم، واللسان الذي أبان به الوحيُ عن هذا الدين الأول، والصبر على كل ذلك، وترك الاستطالة بالحق أو بالباطل) [691].

الخطاب الما بعد سلفي للأسف لا يسعفُ بتحقيق هذا الرجاء، فبدل أن يستحث السلفية المعاصرة لتقويمِ خطابها والرقيِّ بمعارفها، أتى بخطابٍ كان من سمته ما تقدَّم تفصيله في هذه الورقة، وإذا كان هذا الخطاب التدشينيُّ يبتدئ مسيره بهذا الحُطام المنهجي، فعلى أيِّ حالٍ يريد الكاتبان من جمهرة السلفيين أن يتلقَّوه؟

النقد أيًّا كانت رتبته ثقيلٌ على النفوس، لكنه إذا سيق مساق العلم والعدل، وحفظ منازل الناس، والتجرد من حظوظ النفس، فإن النفوس تتقبله وتتهادى إليه أسماعها.

كنَّا نريد أن يكون هذا الخطاب لبنةً في طريق الإصلاح لخطاب السلفية المعاصرة فكان أحدَ بوائقها، جاء مشوِّهًا للصورة ولم نَرَه يقدِّم قراءةً أمينةً لها، يتحدَّث عن خطابٍ امتدَّ عقودًا واتَّسع ليشمل رقعةً واسعةً من هذا العالم بخطابٍ متواضعِ الأدوات يتَّخذُ من وحي خاطره منبرًا لإطلاق الأحكام والتقييمات.

ومع ذلك، ستظلُّ السلفية المعاصرة ترقُب قراءةً متأنيةً لخطابها، حسنةَ التصوُّر لمشهدها، حافظةً لـمُنجَزها، ومقوِّمةً لـمُعوَجِّها .. قراءةً رساليَّةً تقوم بالقسط وتشهد لله ولو على نفسها .. قراءةً تُعنى بالتصحيح، وتجادل بالحجة والبرهان، وتُصلِحُ بما يجمع النفوس ويؤلف بين القلوب ويسعى حقًّا في العودة بالناس إلى الدين الأول .. قراءةً لايحيد بها عن سبيل إصلاحها اشتغالٌ بإلقاء الأوصاف على الناس، والتقليل من شأنهم، والتزهيد بمنجزاتهم .. قراءةً لا يمنعها هيبةُ أحدٍ أن تقولَ بحقٍّ إذا رأته أو شهدته، بمداد العدل ولسان الحكمة، (ومن يُؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيرًا كثيرًا).





مشاري بن سعد الشثري

2 - 7 - 1436 ه





يُنظرُ أصل الموضوع، مع المشاركة الثالثة والعشرين، ويمكن الوقوف على المقالة في أرشيف ملتقى أهل التفسير بالمكتبة الشاملة.
__________________
قُلْ للّذِينَ تَفَرَّقُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُم فِي العَالَمِين البَيِّنَة
إنَّ الّذِينَ سَعَوْا لِغَمْزِ قَنَاتِكُمْ وَجَدُوا قَنَاتَكُمْ لِكَسْرٍ لَيِّنَة
عُودُوا إِلَى عَهْدِ الأُخُوَّةِ وَارْجِعُوا لاَ تَحْسَبُوا عُقْبَى التَّفَرُّقِ هَيِّنَة

«محمّد العيد»
رد مع اقتباس
  #10  
قديم 05-04-2015, 12:16 PM
محمد أشرف محمد أشرف غير متواجد حالياً
عضو مميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
المشاركات: 1,267
افتراضي

حياك الله أخي

شكر الله لك جهودك في تنوير الإخوة بانحراف هذا الكتاب السيئ ..

بارك الله فيك

لقد بدأ الأخ الطيباوي بمناقشة الكتاب وقد وصل لثلاث حلقات ..

وفي رأيي هي من أحسن التقويمات ... فجزاه الله خيرا

وهنا جامع الردود على الكتاب
..


http://sunnahway.net/node/2671
__________________
[ لا أعلم بعد النبوة شيئا أفضل من بث العلم ]

* قاله ابن المبارك *
رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:25 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.